الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الثَّاني: بَيْعُ السَّكْرانِ


الفَرعُ الأوَّلُ: بَيْعُ السَّكْرانِ المَعذورِ بسُكْرِه
لا يَصِحُّ بَيْعُ السَّكْراِن المَعذورِ بسُكْرِه كَمَن شَرِبَ المُسكِرَ جاهِلًا بحقيقتِه المُسكِرةِ، أو أُكرِهَ على شُربِه. ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّةِ ((حاشية ابن عابدين)) (3/239، 240)، ((الفتاوى الهندية)) (5/415). ، والمالِكيَّةِ عند المالِكيَّةِ: لا يَصِحُّ بَيعُ السَّكرانِ مُطلَقًا. ((مواهب الجليل)) للحطاب (5/308)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/366). ، والشَّافِعيَّةِ ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/219)، ((نهاية المحتاج)) للرَّملي (5/55). ، والحَنابِلة عند الحَنابِلةِ: لا يَصِحُّ بَيعُ السَّكرانِ مُطلَقًا. ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/346)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/151). ؛ وذلك لأنَّه كالمجنونِ ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/366)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/219).
الفَرعُ الثَّاني: بَيْعُ مِن أدخَلَ على نَفسِه السُّكْرَ باختيارِه
لا يَصِحُّ بَيعُ مَن أدخَلَ على نَفسِه السُّكْرَ باختيارِه، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/31، 32)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/366) و (3/397). ، والحَنابِلة ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/346)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/151)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/10). ، ووَجْهٌ للشَّافِعيَّةِ ((المجموع)) للنووي (9/155). ، وهو قَوْلُ ابْنِ حَزمٍ قال ابنُ حزم: (لا يجوزُ بَيعُ مَن لا يعقِلُ لسُكرٍ، أو جنونٍ، ولا يلزَمُهما) ((المحلى)) (7/507). ، واختاره ابنُ تَيمِيَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (أنَّ عِبادَتَه [أي: السَّكرانِ] كالصَّلاةِ، لا تَصِحُّ بالنَّصِّ والإجماعِ؛ فإنَّ الله نَهَى عَن قُربِ الصَّلاةِ مَعَ السُّكرِ حَتَّى يَعلَمَ ما يَقولُه، واتَّفَقَ النَّاسُ على هَذا... ومَعلومٌ أنَّ صَلاتَه إنَّما لَم تَصِحَّ؛ لِأنَّه لَم يَعلَم ما يَقولُ، كما دَلَّ عليه القُرآنُ، فنَقولُ: كُلُّ مَن بَطَلَت عِبادَتُه لِعَدَمِ عَقلِه، فبُطلانُ عُقودِه أَولَى وأحرَى كالنَّائِمِ والمَجنونِ ونَحوِهما) ((الفتاوى الكبرى)) (4/204). وقال: (تَنازَعوا في عُقودِ السَّكْرانِ كطَلاقِه، وفي أفعالِه المُحَرَّمةِ كالقَتلِ والزِّنا؛ هَل يُجرَى مَجرَى العاقِلِ أو مَجرَى المَجنونِ، أو يُفَرَّقُ بَينَ أقوالِه وأفعالِه وبَينَ بَعضِ ذلك وبَعضٍ؟ على عِدَّةِ أقوالٍ مَعروفةٍ. والَّذي تَدُلُّ عليه النُّصوصُ والأصولُ وأقوالُ الصَّحابةِ: أنَّ أقوالَه هَدرٌ -كالمَجنونِ- لا يَقَعُ بها طَلاقٌ ولا غَيرُه) ((مجموع الفتاوى)) (14/115). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القيِّمِ (الصَّحيحُ أنَّه لا عِبرةَ بأقوالِه [أي: السَّكرانِ] مِن طلاقٍ ولا عِتاقٍ، ولا بَيعٍ ولا هِبةٍ ولا وَقْفٍ، ولا إسلامٍ ولا رِدَّةٍ ولا إقرارٍ). ((إعلام الموقعين)) (5/454). ، وابنُ عُثَيمين قال ابنُ عُثَيمين: (القَولُ الرَّاجِحُ في السَّكْرانِ أنَّ جَميعَ أقوالِه غَيرُ مُعتَبَرةٍ لا عُقودُه ولا فُسوقُه، كُلُّ شَيءٍ مِن أقوالِه غَيرُ مُعتَبَرٍ؛ فلَو أنَّ السَّكْرانَ قال: نِسائي طَوالِقُ، وعَبيدي أحرارٌ، وعَقاراتي أوقافٌ، فإنَّه لا يَنفُذُ شَيءٌ مِن ذلك؛ لِأنَّه غَيرُ عاقِلٍ لا يَدري ما يَقولُ، كما قال تَعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] ) ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (5/409).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قَولُه تعالى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
بيَّن اللهُ سُبْحانَه وتَعالى في الآيةِ أنَّ السَّكرانَ لا يَعلَمُ ما يقولُ، فلم يُرتِّبْ على كلامِه حُكْمًا حتى يكونَ عالِمًا بما يقولُ؛ لأنَّه غيرُ مخاطَبٍ ((المحلى)) لابن حزم (9/472).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
قَولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرئٍ ما نَوى )) أخرجه البخاري (1) واللَّفظُ له، ومسلم (1907) مِن حَديثِ عمر رَضِيَ اللهُ عنه.
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ كلَّ لفظٍ بغيرِ قصْدٍ مِن المتكلِّمِ وعدَمِ عقْلٍ لا يَترتَّبُ عليه حُكْمٌ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (33/107).
ثالِثًا: لأنَّ السَّكْرانَ زائِلُ العَقلِ، أشبَهَ المَجنونَ والنَّائِمَ، ومَن زالَ عَقلُه بدَواءٍ ونَحوِه ((المغني)) لابن قدامة (7/279)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيِّم (5/454).
رابعًا: لأنَّ السَّكْرانَ مَفقودُ الإرادةِ، أشبَهَ المُكرَهَ ((المغني)) لابن قدامة (7/279).
خامسًا: لأنَّ البَيعَ قَولٌ يُعتَبَرُ لهُ الرِّضا، فلَم يَصِحَّ مِن غَيرِ رَشيدٍ كالإقرارِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/151).
سادسًا: أنَّ جميعَ الأقوالِ والعُقودِ مَشروطةٌ بوُجودِ التَّمييزِ والعقْلِ، فمَن لا تَمييزَ له ولا عقْلَ، ليس لكلامِه في الشَّرعِ اعتِبارٌ أصلًا ((المغني)) لابن قدامة (7/279، 280)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (33/107).
سابعًا: لأنَّ العَقلَ شَرْطٌ للتَّكليفِ؛ إذ هو عِبارةٌ عنِ الخِطَابِ بأمرٍ أو نَهيٍ، ولا يَتَوَجَّهُ ذلك إلى مَن لا يَفهَمُه، ولا فرقَ بَينَ زَوالِ الشَّرطِ بمَعصيةٍ أو غَيرِها؛ بدَليلِ أنَّ مَن كَسرَ ساقَيه جازَ لهُ أن يُصَلِّيَ قاعِدًا، ولَو ضَرَبَتِ المَرأةُ بَطنَها فنُفِسَت، سَقَطَت عنها الصَّلاةُ، ولَو ضَربَ رَأسَه فجُنَّ سَقَطَ التَّكليفُ ((المغني)) لابن قدامة (7/279، 280).
ثامنا: أنَّ عِبادةَ السَّكْرانِ كالصَّلاةِ لا تَصِحُّ بالنَّصِّ والإجماعِ، وكُلُّ مَن بَطَلَت عِبادَتُهُ لعَدَمِ عَقلِه فبُطلانُ عُقودِه أَولى وأَحرى ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (33/107).

انظر أيضا: