الموسوعة الفقهية

الفرعُ الثَّاني: هِبةُ المَدينِ (المُفلِسِ) قبْلَ الحَجرِ عليه


اختلَفَ العُلماءُ في حُكمِ هِبةِ المَدينِ (المُفلِسِ) قبْلَ الحَجرِ عليه؛ على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: هِبةُ المَدينِ (المُفلِسِ) قبْلَ الحَجرِ عليه جائزةٌ، وتَنفُذُ للمَوهوبِ، وهو مَذهبُ الجُمهورِ: الحَنفيَّةِ [102] ((مختصر اختلاف العلماء)) للطَّحاوي (5/215)، ((الفتاوى الهندية)) (5/56). ، والشَّافعيَّةِ [103] ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/49). ويُنظر: ((الحاوي)) للماوَرْدي (6/337)، ((التهذيب في فقه الإمام الشافعي)) للبَغَوي (4/100). ، والحَنابِلةِ [104] ((الإقناع)) للحَجَّاوي (2/210)، ((كشَّاف القِناع)) للبُهُوتي (3/423). ، وقَولٌ عندَ المالِكيَّةِ إذا كان الدَّينُ مُؤجَّلًا [105] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدَّرْدِير)) (3/261). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك [106] قال ابنُ قُدامةَ: (ما فَعَلَه المفلِسُ قبْلَ حجْرِ الحاكمِ عليه، مِن بيعٍ، أو هِبةٍ، أو إقرارٍ، أو قَضاءِ بعضِ الغُرماءِ، أو غيرِ ذلك؛ فهو جائزٌ نافذٌ، وبهذا قال أبو حَنيفةَ، ومالكٌ، والشافعيُّ، ولا نَعلَمُ أحدًا خالَفَهم). ((المغني)) (4/329).
وذلك للآتي:
أولًا: لأنَّ الهِبةَ خَرَجَت مِن مالِكٍ جائزِ التَّصرُّفِ [107] ((كشَّاف القِناع)) للبُهُوتي (3/423).
ثانيًا: لأنَّه رشيدٌ غيرُ مَحجورٍ عليه؛ فتصِحُّ تَصرُّفاتُه، ومنها الهِبةُ [108] ((المغني)) لابن قُدامة (4/329).
القَولُ الثَّاني: هِبةُ المَدينِ (المُفلِسِ) قبْلَ الحجرِ عليه غيرُ نافِذةٍ، وهو مذهبُ المالِكيَّةِ [109] ((الكافي)) لابن عبد البر (2/829)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدَّرْدِير)) (3/261). ، ورِوايةٌ عندَ الحَنابِلةِ [110] ((المبدع)) لبرهان الدِّين ابن مُفلِح (4/193)، ((الفروع)) لابن مُفلِح (6/464). ، وهو اختِيارُ ابنِ تَيميَّةَ [111] ((المبدع)) لبرهان الدِّين ابن مُفلِح (4/193)، ((الفروع)) لابن مُفلِح (6/464). ، وابنِ القيِّمِ [112] قال ابنُ القيِّمِ: (إنِ استغْرَقَت الدُّيونُ مالَه لم يصِحَّ تبرُّعُه بما يضُرُّ بأربابِ الدُّيونِ، سواءٌ حجَرَ عليه الحاكمُ، أو لم يَحجُرْ عليه، هذا مذهبُ مالكٍ، واختيارُ شَيخِنا، وعندَ الثلاثةِ: يصِحُّ تصرُّفُه في مالِه قبْلَ الحجْرِ بأنواعِ التصرُّفِ، والصحيحُ هو القولُ الأوَّلُ). ((إعلام الموقعين)) (4/7). ؛ وذلك لأنَّ حقَّ الغرماءِ قد تعلَّقَ بمالِه، كالمريضِ مَرَضَ الموتِ لمَّا تعلَّق حقُّ الوَرثةِ بمالِه، مَنَعَه الشَّارِعُ مِنَ التَّبرُّعِ بما زاد على الثُّلُثِ؛ فالشَّريعةُ جاءت بحِفظِ حُقوقِ أربابِها بكلِّ طريقٍ، وسدِّ الطُّرُقِ المُفضِيةِ إلى إضاعَتِها [113] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/7).
المطلَبُ الثَّامنُ: هِبةُ مالِ الغَيرِ دونَ وِلايةٍ أو توكيلٍ [114] ويُطلِق عليه الفقهاء: (هِبة الفُضولي).
تَصِحُّ هِبةُ مالِ الغَيرِ دونَ وِلايةٍ أو تَوكيلٍ إذا أجازَها المالِكُ [115] وأمَّا إذا لم يُجِزْها المالكُ فلا تصِحُّ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (4/103)، ((الشرح الكبير للدَّرْدِير وحاشية الدسوقي)) (4/98)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/15)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (2/9). ، وهو مَذهبُ الحَنفيَّةِ [116] ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (4/103)، ((البحر الرائق)) لابن نُجَيْم (6/164). ، وبعضِ المالِكيَّةِ [117] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدَّرْدِير)) (4/98). ، والشَّافعيِّ في القديمِ [118] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 95)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/15). ، ورِوايةٌ عندَ الحَنابِلةِ [119] ((المغني)) لابن قُدامة (5/205). ، وهو اختِيارُ ابنِ تَيميَّةَ [120] قال ابنُ تَيميَّةَ: (وهو أنَّه إذا تصرَّفَ بغيرِ أمْرِه كان فُضوليًّا، فيكونُ المعقودُ مَوقوفًا، وهذا إحدى الرِّوايتينِ عن أحمدَ، وقولُ أكثرِ العلماءِ، وهي التي ذكَرَها الخِرَقيُّ في «مختصره»: أنَّ بَيعَ الفُضوليِّ وشِراهُ ليس باطلًا، بل مَوقوفًا؛ فإنْ باع أو اشْتَرى بعَينِ المالِ فهو مَوقوفٌ، وإنِ اشتَرى في الذِّمةِ فهو مَوقوفٌ، فإنْ أجازَهُ المشْترَى له، وإلَّا لَزِمَ المشتري، وأمَّا القاضي وأتْباعُه فاخْتاروا أنْ تَصرُّفَه مَردودٌ إلَّا إذا اشْتَرى في الذِّمةِ، والذي ذكَرَه الخِرَقيُّ أصحُّ). ((جامع المسائل)) (ص: 215). ، وابنِ عُثَيمينَ [121] قال ابن عُثيمين: («التَّصرُّف الفُضوليُّ» بمعنى أنَّ الإنسانَ يَتصرَّفُ لغَيرِه بغيرِ إذنِه، فهل يَبطُلُ هذا التصرُّفُ مُطلقًا، أو يَتوقَّفُ على إذْن ورِضا الغَيرِ؟ هذه المسألةُ فيها خلافٌ بين أهلِ العلمِ، والراجحُ: أنَّه يُجزِئَ إذا رضِيَ الغَيرُ). ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) (6/164).
الأدلَّةُ مِن السُّنةِ:
1- عن أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((وَكَّلني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحِفظِ زكاةِ رمضانَ، فأتاني آتٍ، فجَعَل يَحثو مِنَ الطَّعامِ، فأخَذتُه، وقلتُ: واللهِ لَأرفعنَّك إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: إنِّي مُحتاجٌ، وعلَيَّ عِيالٌ، ولي حاجةٌ شديدةٌ. قال: فخَلَّيتُ عنه فأصبَحتُ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أبا هُريرةَ، ما فَعَل أسيرُك البارِحةَ؟ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، شَكَا حاجةً شديدةً وعيالًا، فرَحِمتُه، فخلَّيتُ سبيلَه... )) [122] أخرجه البخاري (2311).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أجازَ هذا التَّصرُّفَ مِن أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه وجَعَله مُجزِئًا، مع أنَّ المَأخوذَ منه زكاةٌ، وأبو هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه وكيلٌ في الحفظِ لا وَكيلٌ في التَّصرُّفِ [123] ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (6/165).
2- عن عُرْوةَ البارِقيِّ رضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أعطاهُ دينارًا يَشتَري به شاةً، فاشتَرى له به شاتَينِ، فباعَ إحداهُما بدينارٍ وجاءه بدينارٍ وشاةٍ، فدعا له بالبَركةِ في بَيعِه. وكان لوِ اشتَرى التُّرابَ لَرَبِحَ فيه )) [124] أخرجه البخاري (3642).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجازَ تَصرُّفَ عُروةَ رضِيَ اللهُ عنه في شِراءِ الشَّاتَينِ، ثمَّ بَيعِ إحداهُما وإبقاءِ الأُخرى [125] ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/403) بتصرف. ، وتُقاسُ الهِبةُ على البَيعِ.

انظر أيضا: