الموسوعة الفقهية

الفرع الثاني: هِبةُ السَّكرانِ الذي أَدخَلَ على نَفْسِه السُّكْرَ باختِيارِه 


اختلَفَ العُلماءُ في هِبةِ السَّكرانِ الذي أَدخَلَ على نَفسِه السُّكْرَ باختِيارِه؛ على قَولَينِ:
القولُ الأوَّلُ: تَصِحُّ هِبةُ السَّكرانِ الذي أَدخَلَ على نَفْسِه السُّكْرَ باختِيارِه، وهو مَذهبُ الجُمهورِ [55] الجمهورُ يَرَوَنْ صِحَّةَ تصرُّفاتِ السَّكرانِ الذي أدخَلَ على نفْسِه السُّكرَ باختيارِه، ومِن ذلك الهِبةُ. : الحَنفيَّةِ [56] ((الفتاوى الهندية)) (5/415)، ((حاشية ابن عابدين)) (3/239، 240). ، والشَّافعيَّةِ [57] ((المجموع)) للنووي (9/155)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/219). ويُنظر: ((الغُرر البهية)) لزكريا الأنصاري (4/246). ، والحَنابِلةِ [58] ((كشَّاف القِناع)) للبُهُوتي (5/234)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (3/75).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ الصَّحابةَ جَعَلوه كالصَّاحي في الحدِّ بالقَذفِ [59] ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (٣/٧٥).
ثانيًا: لأنَّه فرَّطَ بإزالةِ عَقلِه فيما يُدخِلُ فيه ضَررًا على غيرِه، فأُلزِمَ بتَفريطِه؛ عُقوبةً له [60] ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (٣/٧٥).
القَولُ الثَّاني: لا تَصِحُّ هِبةُ السَّكرانِ، وهو مَذهبُ المالِكيَّةِ [61] ((شرح الزُّرْقاني على مختصر خليل)) (7/172)، ((الشرح الكبير للدَّرْدِير وحاشية الدسوقي)) (4/98) و(3/397). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخَرَشي (7/103). ، ورِوايةٌ عن أحمدَ [62] ((الإنصاف)) للمَرْداوي (8/321). ، وهو اختِيارُ ابنِ حَزمٍ [63] قال ابنُ حزْمٍ: (بُرهانُ ذلك قولُ الله تعالى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] ؛ فبيَّن اللهُ تعالى أنَّ السَّكرانَ لا يَعلَمُ ما يقولُ، فمَن لم يَعلَمْ ما يقولُ فهو سَكرانُ، ومَن عَلِمَ ما يقولُ فليس بسَكرانَ، ومَن خلَّط فأتى بما يَعقِلُ وما لا يَعقِلُ فهو سكرانُ؛ لأنَّه لا يَعلَمُ ما يقولُ، ومَن أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه لا يَدري ما يقولُ، فلا يحِلُّ أن يُلزَمَ شَيئًا مِن الأحكامِ؛ لا طلاقًا، ولا غيرَه؛ لأنه غيرُ مُخاطَبٍ؛ إذ ليس مِن ذَوي الألبابِ). ((المحلى)) (9/472). ، وابنِ تَيميَّةَ [64] قال ابنُ تَيميَّةَ -في حديثِه عن عدَمِ صحَّةِ تصرُّفاتِ السَّكرانِ-: (... جميعُ الأقوالِ والعقودِ مَشروطةٌ بوُجودِ التَّمييزِ والعقلِ؛ فمَن لا تَمييزَ له ولا عقْلَ، ليس لكلامِه في الشَّرعِ اعتبارٌ أصلًا... كلُّ لفظٍ بغيرِ قصْدٍ مِن المتكلِّمِ -لسَهْوٍ وسبْقِ لِسانٍ وعدَمِ عقْلٍ- فإنَّه لا يَترتَّبُ عليه حُكْمٌ). ((مجموع الفتاوى)) (33/107). ، وابنِ القيِّمِ [65] قال ابنُ القيِّمِ: (الصَّحيحُ أنَّه لا عِبرةَ بأقوالِه؛ مِن طَلاقٍ، ولا عِتاقٍ، ولا بَيعٍ، ولا هِبةٍ، ولا وقْفٍ، ولا إسلامٍ، ولا رِدَّةٍ، ولا إقرارٍ). ((إعلام الموقعين)) (5/454). ، وابنِ عُثَيمينَ [66] قال ابنُ عُثيمينَ: (الصَّحيحُ أنَّ السَّكرانَ لا يُؤاخَذُ بأقوالِه؛ فلا يقَعُ عِتقُه، ولا طلاقُه، ولا وقْفُه، ولا إقرارُه). ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) (14/22).
الأدِلَّةُ:
أولًا: مِنَ الكتابِ
قَولُه تَعالَى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
بيَّن اللهُ سُبحانَه وتعالى في الآيةِ أنَّ السَّكرانَ لا يَعلَمُ ما يقولُ، فلم يُرتِّبْ على كلامِه حُكمًا حتَّى يَكونَ عالِمًا بما يقولُ؛ لأنَّه غيرُ مُخاطَبٍ [67] ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (9/472)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/516).
ثانيًا: مِن السُّنةِ
1- عن علِيٍّ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((إنَّه كانت لي شارِفٌ [68] الشارف: المُسِنَّةُ مِن النُّوقِ. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطَّابي (3/26). مِن نَصيبي منَ المَغنَمِ يومَ بدرٍ... فوَثَب حَمزةُ إلى السَّيفِ فأجَبَّ أسنِمَتَهُما، وبَقَرَ خَواصِرَهُما، وأخَذَ مِن أكبادِهِما، قال علِيٌّ: فانطلَقتُ حتَّى أدخُلَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعندَه زَيدُ بنُ حارِثةَ، وعَرَف النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي لَقيتُ، فقال: ما لَك؟ قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما رأيتُ كاليَومِ؛ عدَا حمزةُ على ناقَتَيَّ، فأجَبَّ أسنِمَتَهُما، وبَقَرَ خواصِرَهُما، وها هو ذا في بَيتٍ معه شَرْبٌ، فدَعا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ برِدائه فارتَدَى، ثمَّ انطَلَق يَمشي، واتَّبعتُه أنا وزَيدُ بنُ حارِثةَ، حتَّى جاءَ البيتَ الذي فيه حمْزةُ، فاستَأذَنَ عليه، فأُذِن له، فطَفِقَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَلومُ حَمزةَ فيما فَعَلَ، فإذا حمْزةُ ثَمِلٌ، مُحمرَّةٌ عَيناهُ، فنَظَر حمْزةُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ صَعَّد النَّظَر فنَظَر إلى رُكبتِه، ثم صعَّد النَّظرَ فنَظَر إلى وَجْهِه، ثمَّ قال حمْزةُ: وهل أنتُم إلَّا عَبِيدٌ لأبي! فعَرَفَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه ثَمِلٌ، فنَكَص رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على عَقِبَيه القَهقَرَى، فخَرَج وخَرَجنا معه )) [69] أخرجه البخاري (4003) واللفظُ له، ومسلم (1979).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يُؤاخِذْ حمْزةَ بتَصرُّفاتِه حالَ سُكرِه؛ فدلَّ على أنَّها غيرُ مُعتبَرةٍ شرعًا [70] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (5/454)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/391).
2- عن عُمرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه، قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرئٍ ما نوَى )) [71] أخرجه البخاري (1) واللفظُ له، ومسلم (1907).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ كلَّ لفظٍ بغيرِ قصْدٍ منَ المُتكلِّمِ وعدَمِ عقلٍ لا يَترتَّبُ عليه حُكمٌ [72] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (33/107).
ثالثًا: قياسًا على مَن زالَ عقلُه بدَواءٍ ونَحوِه؛ فالسَّكرانُ لا قَصْدَ له، فهو أَولى بعَدمِ المُؤاخَذةِ [73] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (5/454).
رابعًا: أنَّ عِبادةَ السَّكرانِ -كالصلاةِ- لا تَصِحُّ بالنَّصِّ والإجماعِ، وكلُّ مَن بَطَلَت عِبادَتُه لعَدمِ عَقلِه؛ فبُطلانُ عُقودِه أَولى وأحرى [74] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (33/107).
خامسًا: أنَّ جميعَ الأقوالِ والعُقودِ مَشروطةٌ بوُجودِ التَّمييزِ والعَقلِ، فمَن لا تَميِيزَ له ولا عَقْلَ ليس لكلامِه في الشَّرعِ اعتبارٌ أصلًا [75] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (33/107).

انظر أيضا: