الموسوعة الفقهية

الفصلُ الثامن: قبْضُ الوقْفِ وحيازتُه


يَلزَمُ الوقْفُ بمُجرَّدِ اللَّفظِ، ولا يُشترَطُ قبْضُه، وهو مَذهبُ الشافعيَّةِ [646] ((روضة الطالبين)) للنووي (5/375)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/383)، ويُنظر: ((الحاوي)) للماوَرْدي (7/514). ، والحنابلةِ [647] ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (2/425)، ((كشاف القِناع)) للبُهُوتي (4/292)، ((مطالب أولي النُّهى)) للرُّحَيْباني (4/366). ، والمُفْتَى به عندَ الحنفيَّةِ [648] وهو قولُ أبي يوسفَ مِن الحنفيَّةِ، وعليه الفتوى عندَهم. ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (3/326)، ((البحر الرائق)) لابن نُجَيْم (5/212). ، وحكاهُ ابنُ حجَرٍ عن الجُمهورِ [649] ((فتح الباري)) لابن حجر (5/384). ، وهو اختيارُ البُخاريِّ [650] قال البخاريُّ في صحيحه: (بابٌ إذا وقَف شيئًا قبْلَ أن يَدفَعَه إلى غَيرِه فهو جائزٌ؛ لأنَّ عُمرَ رضي الله عنه أَوْقَفَ، وقال: «لا جُناحَ على مَن وَلِيَه أن يأكُلَ، ولم يَخُصَّ إنْ وَلِيَه عُمَرُ أو غيرُه»، قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأبي طَلْحةَ: «أرى أن تَجعَلَها في الأقرَبينَ»، فقال: أفعَلُ، فقَسَمها في أقارِبِه وبَني عمِّه). ((صحيح البخاري)) (4/7). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/384). ، وابنِ القيِّمِ [651] قال ابنُ القيِّم: (النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا أشار على عُمرَ بوَقفِ أرضِه، لم يقُلْ له: لا يصِحُّ ذلك حتَّى تُخرِجَها عن يدِكَ ولا تَلي نظَرَها، وأيُّ غرَضٍ للشارِعِ في ذلك؟ وأيُّ مصلحةِ للواقفِ أو للموقوفِ عليه؟ بل المصلحةُ خِلافُ ذلك؛ لأنَّه أخبَرُ بمالِه، وأقْوَمُ بعمارتِه ومصالحِه وحِفْظِه مِنَ الغريبِ الذي ليست خِبرتُه وشَفَقتُه كخِبرةٍ صاحِبِه وشَفقتِه، ويَكفي في صحَّةِ الوقفِ إخراجُه عن ملكِه، وثُبوتُ نظَرِه ويدِه عليه كثُبوتِ نظَرِ الأجنبيِّ ويَدِه، ولا سيَّما إن كان متبرِّعًا، فأيُّ مصلحةٍ في أن يُقالَ له: لا يصِحُّ وقْفُك حتى تَجعلَه في يدِ مَن لَسْتَ على ثقةٍ مِن حفْظِه والقيامِ بمصالحِه وإخراجِ نظرِك عنه؟). ((إعلام الموقعين)) (3/412). ،والشَّوكانيِّ [652] قال الشَّوكانيُّ: (الحقُّ أنَّ الوقفَ مِن القُرُباتِ التي لا يجوزُ نقْضُها بعْدَ فِعلِها؛ لا للواقفِ،ولا لغيرِه، وقد حُكِيَ في البحرِ عن محمَّدٍ وابنِ أبي ليلى أنَّ الوقفَ لا يَنفُذُ إلَّا بعْدَ القبضِ، وإلَّا فلِلْواقِفِ الرجوعُ؛ لأنَّه صدَقةٌ، ومِن شرْطِها القبضُ، ويُجابُ بأنَّه بعْدَ التَّحبيسِ قد تَعذَّرَ الرجوعُ، وإلحاقُه بالصَّدقةِ إلحاقٌ مع الفارقِ). ((نيل الأوطار)) (6/31). ، وابنِ عُثيمين [653] قال ابنُ عُثيمين: (قوله: «والوقفُ عقدٌ لازِمٌ لا يَجوزُ فسْخُه»، يعني: ثابتًا لا يمكِنُ تَغييرُه، ولا يجوزُ فسْخُه؛ لأنَّه ممَّا أُخرِجَ لله تعالى، فلا يَجوزُ أن يَرجِعَ فيه، كالصدَقةِ، فمِن حينِ أن يقولَ الرجُلُ: وقفْتُ بَيتي، أو وقفْتُ سيَّارتي، أو وقفْتُ كِتابي؛ فإنَّه يَلزَمُ، وليس فيه خِيارُ مَجلِسٍ، بخِلافِ الوصيَّةِ). ((الشرح الممتع)) (11/57). وقال: (لا يُشترَطُ إخراجُ الوقفِ عن يدِ الواقفِ، فلو وقَف البيتَ وبقِيَت يدُه عليه، فالوقفُ يَخرُجُ عن ملكِه وإن لم يَخرُجْ عن يدِه؛ ولهذا لو أنَّ إنسانًا وضَع دراهمَ في جَيبِه على أنَّها صدَقةٌ، ثمَّ بَدا له ألَّا يتصدَّق، فهذا يَجوزُ ولا بأسَ به، فهي ما دامت في يَدِك إنْ شئتَ أمضَيْتَها، وإنْ شِئتَ ردَدْتَها، لكنَّ الوقفَ إذا وُقِفَ نَفَذَ، ولو كان تحتَ سيطرتِه وتحتَ يَدِه). ((الشرح الممتع)) (11/32).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن السُّنة
عنِ ابنِ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((أصاب عُمرُ بخَيْبَرَ أرْضًا، فأتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أصبتُ أرضًا لم أُصِبْ مالًا قطُّ أنفَسَ منه، فكيفَ تأْمُرني به؟ قال: إنْ شِئتَ حبَّسْت أصْلَها، وتصدَّقْتَ بها )) [654] أخرجه البخاري (2772) واللفظُ له، ومسلم (1632).
أوَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَأمُرْ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنه إلَّا أنْ يَحبِسَ أصلَها، ويُسبِّلَ ثمرتَها، فلو كان إخراجُ الوقْفِ مِن يَدِه شرْطًا، لَذَكَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك له؛ فكان تقريرُه لذلك دالًّا على صِحَّةِ الوقْفِ وإنْ لم يَقبِضْه الموقوفُ عليه [655] ((الأم)) للشافعي (4/55)، ((فتح الباري)) لابن حجر (5/384).
في قولِه: ((حبَّستَ أصْلَها)) دليلٌ على أنَّ اللَّفظَ يَقتضي الوقْفَ؛ لأنَّه حقيقةُ الحبْسِ [656] ((المغني)) لابن قُدامة (6/3)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (2/425).
ثانيًا: لأنَّه تبرُّعٌ يُمنَعُ بسَببِه البَيعُ والهِبةُ [657] ((المبدِع)) لبرهان الدِّين ابن مُفلِح (5/184)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (2/425).
ثالثًا: لأنَّه يَلزَمُ بالوصيَّةِ ويَزولُ ملْكُه بها، فإذا نجَّزَه لَزِمَه مِن غيرِ حُكْمٍ، كالعتقِ [658] ((المبدِع)) لبرهان الدِّين ابن مُفلِح (5/185).
رابعًا: أنَّ الوقْفَ شَبيهٌ بالعِتقِ؛ لاشتِراكِهما في أنَّهما تَمليكٌ لله تَعالى، فيَنفُذُ بالقولِ المجرَّدِ عن القبضِ [659] ((فتح الباري)) لابن حجر (5/384).

انظر أيضا: