الموسوعة الفقهية

المطلَبُ الثاني: وقْفُ السَّكرانِ الذي أدخَلَ على نفْسِه السُّكرَ باختيارِه


اختَلَف العُلماءُ في وقْفِ السَّكرانِ الذي أدخَلَ على نفْسِه السُّكرَ باختيارِه؛ على قَولينِ:
القولُ الأولُ: يصِحُّ وقْفُ السَّكرانِ الذي أدخَلَ على نفْسِه السُّكرَ باختيارِه، وهو مَذهبُ الجُمهورِ [176] الجمهورُ يَرَون صحَّةَ تصرُّفاتِ السَّكرانِ الذي أدخَل على نفْسِه السُّكرَ باختيارِه، ومِن ذلك الوقْفُ. : الحنفيَّةِ [177] ((الفتاوى الهندية)) (5/415)، ((حاشية ابن عابدين)) (3/239، 240). ، والشافعيَّةِ [178] ((المجموع)) للنووي (9/155)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/219). ويُنظر: ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (4/246). ، والحنابلةِ [179] ((كشاف القِناع)) للبُهُوتي (5/234)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (3/75).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ الصحابةَ جعَلوه كالصاحي في الحدِّ بالقذْفِ [180] ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (٣/٧٥).
ثانيًا: لأنَّه فرَّطَ بإزالةِ عقْلِه فيما يُدخِلُ فيه ضرَرًا على غَيرِه، فأُلزِمَ حكْمَ تَفريطِه؛ عقوبةً له [181]((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (٣/٧٥).
القولُ الثاني: لا يصِحُّ وقْفُ السَّكرانِ مُطلَقًا، وهو المشهورُ مِن مَذهبِ المالكيَّةِ [182]((مواهب الجليل)) للحطَّاب (6/31، 32)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/397). ، وروايةٌ عن أحمدَ [183] ((الإنصاف)) للمَرْداوي (8/321). ، وهو اختيارُ ابنِ حزْمٍ [184] قال ابنُ حزمٍ -في حديثِه عن عدَم صِحَّةِ تصرُّفاتِ السَّكرانِ-: (بُرهانُ ذلك: قولُ اللهِ تعالى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] ؛ فبيَّنَ الله تعالى أنَّ السَّكرانَ لا يَعلَمُ ما يقولُ، فمَن لم يَعلَمْ ما يقولُ فهو سَكرانُ، ومَن عَلِم ما يقولُ فليس بسَكرانَ، ومَن خلَط فأتَى بما يُعقَلُ وما لا يُعقَلُ فهو سَكرانُ؛ لأنَّه لا يَعلَمُ ما يقولُ. ومَن أخبَر اللهُ تعالى أنَّه لا يَدري ما يقولُ فلا يحِلُّ أن يُلزَمَ شَيئًا مِنَ الأحكامِ؛ لا طلاقًا، ولا غَيْرَه؛ لأنَّه غيرُ مخاطَبٍ؛ إذ ليس مِن ذَوي الألبابِ). ((المحلى)) (9/472). ، وابنِ تَيميَّةَ [185] قال ابنُ تيميَّةَ -في حديثِه عن عدَمِ صِحَّةِ تصرُّفاتِ السَّكرانِ-: (... جميع الأقوالِ والعقودِ مَشروطةٌ بوجودِ التَّمييزِ والعقلِ، فمَن لا تمْييزَ له ولا عقْلَ ليس لكلامِه في الشَّرعِ اعتبارٌ أصلًا... كلُّ لفظٍ بغيرِ قصْدٍ مِنَ المتكلِّمِ -لسهْوٍ، وسبْقِ لسانٍ، وعدَمِ عقْلٍ- فإنَّه لا يَترتَّبُ عليهحُكْمٌ). ((مجموع الفتاوى)) (33/107). ، وابنِ القيِّمِ [186] قال ابنُ القيِّمِ -في حديثِه عن عدَمِ صِحَّةِ تصرُّفاتِ السَّكرانِ-: (الصحيحُ أنَّه لا عِبرةَ بأقوالِه مِن طلاقٍ، ولا عَتاقٍ، ولا بَيعٍ، ولا هِبَةٍ، ولا وَقْفٍ، ولا إسلامٍ، ولا رِدَّةٍ، ولا إقرارٍ). ((إعلام الموقعين)) (5/454). ، وابنِ عُثَيمين [187] قال ابنُ عُثيمين: (الصَّحيحُ أنَّ السَّكرانَ لا يُؤاخَذُ بأقوالِه؛ فلا يقَعُ عِتقُه، ولا طلاقُه، ولا وقْفُه، ولا إقرارُه). ((الشرح الممتع)) (14/22).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن الكتابِ
قولُه تَعالى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ[النساء: 43]
وَجهُ الدَّلالةِ:
بيَّن اللهُ سُبحانه وتَعالى في الآيةِ أنَّ السَّكرانَ لا يَعلَمُ ما يقولُ، فلم يُرتِّبْ على كلامِه حكْمًا حتى يكونَ عالمًا بما يقولُ؛ لأنَّه غيرُ مخاطَبٍ [188] ((المحلَّى)) لابن حزم (9/472)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيِّم (4/516).
ثانيًا: مِن السُّنة
قَولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرئٍ ما نَوى )) [189] أخرجه البخاري (1) واللفظُ له، ومسلم (1907).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ كلَّ لفظٍ بغيرِ قصْدٍ مِن المتكلِّمِ وعدَمِ عقْلٍ لا يَترتَّبُ عليه حكْمٌ [190] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (33/107).
ثالثًا: قياسًا على مَن زال عقْلُه بدواءٍ ونحوِه، فالسَّكرانُ لا قصْدَ له؛ فهو أَولى بعدَمِ المؤاخَذةِ [191] ((إعلام الموقعين)) لابن القيِّم (5/454).
رابعًا: أنَّ عِبادةَ السَّكرانِ -كالصَّلاةِ- لا تصِحُّ بالنَّصِّ والإجماعِ، وكلُّ مَن بطَلَت عِبادتُه لعدَمِ عقْلِه، فبُطلانُ عقُودِه أَولى وأحْرى [192] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (33/107).
خامسًا: أنَّ جميعَ الأقوالِ والعقودِ مَشروطةٌ بوُجودِ التَّمييزِ والعقْلِ، فمَن لا تَمييزَ له ولا عقْلَ، ليس لكلامِه في الشَّرعِ اعتِبارٌ أصلًا [193]((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (33/107).

انظر أيضا: