الموسوعة الفقهية

المطْلبُ الأوَّلُ: مِن شُروطِ الحِنْثِ العَمدُ


يُشتَرَطُ في الحِنْثِ العَمدُ والقَصدُ؛ فلا يقَعُ الحِنْثُ مِن النَّاسي والجاهِلِ والمُخطِئِ، وهذا مَذهَبُ الشافعيَّةِ -في الأظهَرِ- [521] ((روضة الطالبين)) للنووي (11/79)، ((نهاية المحتاج)) للرَّمْلي (8/196). ، والحَنابِلةِ [522] عند الحنابلةِ إذا كان في الطَّلاقِ والعِتاقِ فإنَّه يَحنَثُ. ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/346)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (5/315). ، وهو قَولُ طائفةٍ مِن السَّلَفِ [523] قال ابنُ قُدامةَ: (وهذا قولُ عطاءٍ، وعَمرِو بنِ دينارٍ، وابنِ أبي نجيحٍ، وإسحاقَ). ((المغني)) (9/494). ، وهو اختيارُ ابنِ حَزمٍ [524] قال ابنُ حزمٍ: (مَن حَلَف ألَّا يَفعَلَ أمرًا كذا، ففَعَلَه ناسيًا أو مُكرهًا، أو غَلَب بأمرٍ حِيلَ بيْنه وبيْنه به، أو حَلَف على غيرِه أن يفعَلَ فِعلًا ذَكَرَه له، أو ألَّا يَفعَلَ فِعلًا كذا، ففعَلَه المحلوفُ عليه عامِدًا أو ناسيًا، أو شَكَّ الحالِفُ أفَعَلَ ما حلف ألَّا يَفعَلَه أم لا؟ أو فعَلَه في غيرِ عَقلِه: فلا كفَّارةَ على الحالِفِ في شَيءٍ مِن كُلِّ ذلك ولا إثمَ). ((المحلى)) (6/287). ، وابنِ تيميَّةَ [525] قال ابنُ تيميَّةَ: (استقَرَّ بدَلالةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ أنَّ مَن فَعَل المنهيَّ عنه ناسيًا أو مُخطِئًا؛ فلا إثمَ عليه، ولا يكونُ عاصِيًا مُخالِفًا: فكذلك مَن فَعَل المحلوفَ ناسِيًا أو مُخطِئًا؛ فإنَّه لا يكونُ حانِثًا مُخالِفًا لِيَمينِه). ((مجموع الفتاوى)) (33/209). ، وابنِ القَيِّمِ [526] قال ابنُ القيِّم: (أن يَفعَلَ المحلوفَ عليه ذاهِلًا أو ناسيًا، أو مُخطِئًا أو جاهِلًا، أو مُكرَهًا أو مُتأوِّلًا، أو مُعتَقِدًا أنَّه لا يَحنَثُ به تقليدًا لِمن أفتاه بذلك، أو مغلوبًا على عَقلِه، أو ظنًّا منه أنَّ امرأته طَلَقَت فيَفعَلُ المحلوفَ عليه بِناءً على أنَّ المرأةَ أجنبيَّةٌ؛ فلا يؤثِّرُ فِعلُ المحلوفِ عليه في طلاقِها شَيئًا). ((إعلام الموقعين)) (3/106). ، واستظهَرَه الشَّوكانيُّ [527] قال الشوكاني: (قوله: «ولو ناسيًا أو مُكرَهًا» فالظَّاهِرُ أنَّهما لا حِنثَ عليهما ولا تلزَمُهما الكفَّارةُ؛ لِرَفعِ خِطابِ الشَّرعِ عنهما). ((السيل الجرار)) (ص: 686). ، والشِّنقيطيُّ [528] قال الشنقيطي: (كونُ مَن فَعَل ناسِيًا لا يَحنَثُ، هو قَولُ عَطاءٍ، وعمرِو بنِ دينارٍ، وابنِ أبي نجيح، وإسحاقَ، وروايةٌ عن أحمدَ، كما قاله صاحِبُ «المغني»، ووَجهُ هذا القَولِ ظاهِرٌ؛ للأدِلَّةِ التي ذكَرْنا). ((أضواء البيان)) (1/424). ، ورجَّحَه ابنُ باز [529] قال ابنُ باز: (الأصحُّ مِن أقوالِ العُلَماءِ أنَّ المحلوفَ عليه إذا فعَل الشَّرطَ ناسِيًا أو جاهِلًا؛ فإنَّه لا يقَعُ ما عُلِّقَ عليه). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (22/46). ، وابنُ عُثَيمين [530] قال ابنُ عُثَيمين: (القَولُ الرَّاجِحُ أنَّ مَن حنَّثَ غَيرَه وهو ناسٍ؛ فإنَّ هذا الغيرَ لا يَحنَثُ، كما أنَّ الحالِفَ نَفسَه إذا فَعَل الشَّيءَ وهو ناسٍ، أي: إذا فعل الشَّيءَ الذي حَلَف عليه وهو ناسٍ؛ فإنَّه ليس عليه كفَّارةٌ). ((فتاوى نور على الدرب)) (10/456).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
قال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [الأحزاب: 5]
وَجهُ الدَّلالةِ:
الآيةُ دَليلٌ على رَفعِ الإثمِ والحَرَجِ في حالِ الخَطَأِ ونَحوِه [531] ((المبدع شرح المقنع)) لبرهان الدين بن مفلح (7/346)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (5/315).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ وَضَع عن أمَّتي الخطَأَ، والنِّسيانَ، وما استُكرِهوا عليه )) [532] أخرجه ابن ماجه (2045) واللَّفظُ له، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (8273). حسَّنه النوويُّ في ((المجموع)) (6/521)، وابنُ تيميَّة في ((مجموع الفتاوى)) (7/685)، وابن حجَر في ((موافقة الخُبْرِ الخَبَر)) (1/510)، وقال ابنُ كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/90): رجالُه على شَرطِ الصحيحين، وله شاهِدٌ من القرآن، ومن طُرُق أُخر. وقال ابنُ الملقِّن في ((شرح البخاري)) (25/267): ثابتٌ على شرطِ الشيخينِ.
أوَجهُ الدَّلالةِ من الحديث:
1- الحديثُ عامٌّ فيُعمَلُ بعُمومِه إلَّا ما خرجَ بدَليلٍ، كغَرامةِ المُتلَفاتِ [533] ((فتاوى النووي)) (ص: 194).
2- أنَّ اللهَ تعالى قد رفَعَ المؤاخَذةَ عن المُخطئِ والنَّاسي؛ فإلزامُه بالحِنْثِ أعظَمُ مُؤاخَذةً، لَمَّا تجاوَزَ اللهُ عن المؤاخَذةِ بهِ [534] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/65).
ثالثًا: أنَّه إنَّما عَقَد يَمينَه على فِعلِ ما يَملِكُه، والنِّسيانُ والخطَأُ غَيرُ داخِلٍ تحتَ قُدرتِه؛ فما فعَلَه في تلك الأحوالِ لم يتناوَلْه يَمينُه، ولم يَقصِدْ مَنْعَ نَفسِه منه [535] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/65).
رابعًا: أنَّ فِعلَ النَّاسي والمُخطئِ بمَنزلةِ فِعلِ النَّائِمِ في عدَمِ التَّكليفِ به؛ ولهذا هو عَفْوٌ لا يكونُ به مُطيعًا ولا عاصِيًا [536] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/65).
خامسًا: أنَّ اللهَ تعالى إنَّما رَتَّب الأحكامَ على الألفاظِ؛ لِدَلالتِها على قَصدِ المتكَلِّمِ بها وإرادتِه؛ فإذا تيقَّنَّا أنَّه لم يَقصِدْ معنى كَلامِه ، ولم يَقصِدْ مُخالفةَ ما التزَمَه ولا الحِنْثَ؛ فإنَّ الشَّارِعَ قد رَفَع المؤاخَذةَ عنه بما لم يَقصِدْه [537] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/65).

انظر أيضا: