الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثَّاني: أن يكونَ مُسلِمًا


اختلف العُلَماءُ في اشتراطِ الإسلامِ لصِحَّةِ اليَمينِ؛ على قولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يُشترَطُ لصِحَّةِ اليَمينِ أن يكونَ الحالِفُ مُسلِمًا [38]   فتَنعقِدُ اليَمينُ مِنَ الكافرِ، وعليه الكفَّارةُ إذا حَنِث؛ سواءٌ حَنِث في حالِ كُفرِه أو في حالِ إسلامِه، على تفصيلٍ في كَفَّارتِه، ويرى ابنُ المُنذِرِ أنَّ الكفَّارةَ تَلزَمُه إذا حَنِث بعدَ إسلامِه. يُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (9/487). ، وهو مَذهَبُ الشافِعيَّةِ [39]   ((روضة الطالبين)) للنووي (11/81)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/59). ، والحَنابِلةِ [40]   ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/220)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (6/229). ، والظاهريَّةِ [41]   قال ابنُ حزم: (مَن حَلَف بالله تعالى في كُفرِه، ثمَّ حَنَث في كُفرِه، أو بعد إسلامِه؛ فعليه الكَفَّارةُ). ((المحلى)) (6/309). ونَسَبَه ابنُ حجر لداود. يُنظر: ((فتح الباري)) (1/582). ، وهو اختيارُ أبي ثَورٍ [42]   ((المغني)) لابن قدامة (9/487). ، وابنِ المُنذِرِ [43]   ((المغني)) لابن قدامة (9/487). ، وبه قال ابنُ حَبيبٍ مِنَ المالِكيَّةِ [44]   ((الذخيرة)) للقَرافي (4/69).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّة
1- عن سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، ((أنَّ عبدَ اللهِ بنَ سهلٍ ومحيِّصةَ بنَ مسعودٍ أتيا خيبرَ، فتفرَّقا في النخلِ، فقتل عبدُ اللهِ بنُ سهلٍ، فجاء عبدُ الرحمنَ بنُ سهلٍ وحُويِّصةُ ومُحيِّصةُ ابنا مسعودٍ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فتكلَّموا في أمرِ صاحبِهم، فبدأ عبدُ الرحمنِ، وكان أصغرَ القومِ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: كبِّرِ الكُبرَ. قال يحيى: يعني: ليلي الكلامَ الأكبرُ. فتكلَّموا في أمرِ صاحبِهم، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أتستحقُّون قتيلَكم، أو قال: صاحبَكم، بأيمانِ خمسينَ منكم. قالوا: يا رسول اللهِ، أمرٌ لم نرَهُ. قال: فتبرِّئُكم يهودُ في أيمانِ خمسينَ منهم. قالوا: يا رسولَ اللهِ، قومٌ كفار. فودَاهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من قِبَله )) [45]   أخرجه البخاري (6142)، ومسلم (1669).
2- عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي نذَرْتُ في الجاهِليَّةِ أنْ أَعتكِفَ لَيلةً في المَسجِدِ الحَرامِ، قال: فأَوْفِ بنَذْرِكَ )) [46]   أخرجه البخاري (2043) ، ومسلم (1656) واللَّفظُ له.
وَجهُ الدَّلالةِ:
قولُه: ((أَوْفِ بنذرِكَ)) فيه دليلٌ على أنَّ الكافرَ لو نذَرَ في حالِ الكُفرِ بما يجوزُ نذرُهُ في الإسلامِ، صَحَّ نَذرُه، ويَلزَمُه الوَفاءُ به إذا أسلمَ، وكذلك لو حَلَفَ أو ظاهَرَ في حالِ الكُفرِ [47]   ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمُظْهِري (3/58). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/488).
ثانيًا: الكافِرُ إذا أسلم إنَّما تَسقُطُ عنه العباداتُ بإسلامِه؛ لأنَّ الإسلامَ يَجُبُّ ما قَبلَه، فأمَّا ما يَلزَمُه بنَذرِه أو يمينِه، فيبقى حُكمُه في حَقِّه؛ لأنَّه ألزم نفسه به [48]   ((المغني)) لابن قدامة (9/488).
ثالثًا: أنَّه يُستَحلَفُ عند الحاكِمِ، وكُلُّ مَن صَحَّت يمينُه عند الحاكِمِ صَحَّت يمينُه عند الانفرادِ؛ كالمُسلِمِ [49]   ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/220).
رابعًا: أنَّ اليَمينَ يُعقَدُ للبِرِّ، وهو أهلٌ له؛ لأنَّ البِرَّ يتحقَّقُ ممَّن يَعتقِدُ تَعظيمَ حُرمةِ اسمِ اللهِ تعالى، فيَحمِلُه اعتقادُه على البِرِّ؛ ولهذا يُستحلَفُ في الدَّعاوَى والخُصوماتِ [50]   ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (3/114).
القَولُ الثَّاني: يُشتَرَطُ لصِحَّةِ اليَمينِ أن يكونَ الحالِفُ مُسلِمًا، وهو مَذهَبُ الحَنفيَّةِ [51]   ((الفتاوى الهندية)) (2/51)، ((حاشية ابن عابدين)) (3/704). ، والمالِكيَّةِ [52]   ((التاج والإكليل)) للموَّاق (3/271). ويُنظر: ((الشرح الصغير للدردير مع حاشية الصاوي)) (2/190). ، وبه قال الثَّوريُّ [53]   ((المغني)) لابن قدامة (9/487)، ((فتح الباري)) لابن حجر (11/582).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
قولُه تعالى: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ [التوبة: 12]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه نفى اعتبارَ أيمانِهم؛ إذِ الأصلُ أن يَتوجَّهَ النَّفيُ إلى الصِّحَّةِ [54]   ((مفاتيح الغيب)) للرازي (15/535).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عِمرانَ بنِ الحُصَينِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا وفاءَ لِنَذْرٍ في مَعصيةٍ، ولا فيما لا يَملِكُ العَبدُ))، وفي رِوايةٍ: ((لا نَذْرَ في مَعصيةِ اللهِ )) [55]   أخرجه مسلم (1641).
وَجهُ الدَّلالةِ:
بَيَّن الحديثُ أنَّ النَّذرَ يَجِبُ بما يُتقَرَّبُ به، ولا تَصلُحُ القُربةُ مِن كافِرٍ، وكذا اليَمينُ [56]   ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقِّن (30/381).
ثالثًا: أنَّ الكافِرَ ليس بأهلٍ لليَمينِ؛ لأنَّ المقصودَ منها البِرُّ تعظيمًا لله تعالى، والكافِرُ ليس مِن أهلِه؛ لأنَّه هاتِكٌ حُرمةَ الاسمِ بالكُفرِ، والتَّعظيمُ مع الهَتكِ لا يجتَمِعانِ، والبِرُّ لا يتحقَّقُ إلَّا مِن المُعظِّمِ [57]   ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (3/114).

انظر أيضا: