الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الثَّالِثُ: تَفضيلُ بعضِ الأولادِ في الهِبةِ لِمُسَوِّغٍ شَرعيٍّ


يجوزُ تَفضيلُ بَعضِ الأولادِ في الهِبةِ إذا كان لِمُسَوِّغٍ شَرعيٍّ [1464]   من المسَوِّغاتِ الشَّرعيَّةِ التي ذكرها العُلَماءُ في تفضيلِ بَعضِ الأولادِ في الهبةِ: حاجةُ الابنِ وفَقرُه دون إخوانِه، أو مَرَضُه، أو ضَعفُه وعَدَمُ اعتمادِه على نفسِه، أو اشتغالُه بطَلَبِ العلمِ، أو أن يمنعَ الأبُ بعضَ أولادِه لفِسقِه أو لبِدعتِه؛ لكونِه يستعينُ بما يأخُذُه على معصيةِ اللهِ. ، وهو قَولٌ للحَنابِلةِ [1465]   قال المرداوي: (قيل: إن أعطاه لمعنًى فيه؛ من حاجةٍ، أو زَمَانةٍ، أو عَمًى، أو كثرةِ عائلةٍ، أو لاشتغالِه بالعِلمِ، ونَحوِه، أو مَنَع بَعضَ وَلَدِه لفِسقِه أو بِدعتِه، أو لِكَونِه يعصي اللهَ بما يأخُذُه، ونحوِه: جاز التَّخصيصُ... وقد رُوِيَ عن الإمامِ أحمد رحمه الله ما يدُلُّ على ذلك؛ فإنَّه قال في تخصيصِ بَعضِهم بالوَقفِ: لا بأسَ إذا كان لحاجةٍ، وأكرَهُه إذا كان على سبيلِ الأَثَرةِ. والعَطيَّةُ في معنى الوَقفِ). ((الإنصاف)) (7/105). اختاره ابنُ قُدامةَ [1466]   قال البهوتي: (قيل: إن أعطاه لمعنًى فيه؛ من حاجةٍ، أو زَمَانةٍ، أو عَمًى، أو كثرةِ عائلةٍ، أو لاشتغالِه بالعِلمِ، ونَحوِه، «كصَلاحِه»، أو مَنَع بَعضَ وَلَدِه لفِسقِه أو بِدعتِه، أو لِكَونِه يعصي اللهَ بما يأخُذُه، ونحوِه: جاز التَّخصيصُ «والتَّفضيلُ بالأَولى». اختاره الموفَّقُ وغَيرُه). ((كشاف القناع)) للبهوتي (4/311). ، وهو قَولُ ابنِ حَزمٍ [1467]   قال ابنُ حزم: (لكِنْ يُنفِقُ على كلِّ امرئٍ منهم بحَسَبِ حاجتِه، ويُنفِقُ على الفقيرِ منهم دونَ الغنيِّ). ((المحلى)) (8/95). ، والعِزِّ بنِ عبدِ السَّلامِ [1468]   قال العزُّ بن عبد السلام: (يجِبُ التَّسويةُ بينهم في الهبةِ، فإن كان بعضُ الأولادِ فقيرًا مضرورًا، وبعضُهم غنيًّا مجبورًا؛ ففي تقديمِ الفقيرِ المضرورِ على الغنيِّ المجبورِ نَظَرٌ واحتمالٌ؛ لأنَّ دَفعَ ضَرَرِ المضرورِ أفضَلُ مِن تكثيرِ مالِ المجبورِ). ((قواعد الأحكام في إصلاح الأنام)) (2/140). ، وابنِ تَيميَّةَ [1469]   قال ابنُ تيمية: (على الرجُلِ أن يعدِلَ بين أولادِه، كما أمر اللهُ ورَسولُه؛ فقد ثبت في الصحيحينِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال لبشيرِ بن سعد لَمَّا نحَلَ ابنَه النعمانُ نَحْلًا، وأتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُشهِدَه على ذلك، فقال له: «اتَّقوا اللهَ واعدِلوا بين أولادِكم، وقال: لا تُشهِدْني على هذا؛ فإني لا أشهَدُ على جَورٍ، وقال له: اردُدْه» فردَّه بشير. وقال له على سبيل التهديدِ: «لا، أشهِدْ على هذا غيري». لكن إذا خَصَّ أحدَهما بسَبَبٍ شَرعيٍّ، مِثلُ: أن يكونَ محتاجًا مُطيعًا لله، والآخَرُ غنيٌّ عاصٍ يستعينُ بالمالِ على المعصيةِ، فإذا أعطى مَن أمَرَ اللهُ بإعطائِه، ومنع مَن أمَرَ اللهُ بمَنعِه؛ فقد أحسَنَ). ((مجموع الفتاوى)) (31/295). ، وابنِ باز [1470]   قال ابن باز: (قال: «أشهِدْ على هذا غيري؛ فإنِّي لا أشهَدُ على جَورٍ»، فدَلَّ ذلك على أنَّ تخصيصَ بَعضِ الأولادِ دونَ بَعضٍ: مِنَ الجَورِ، ولا يجوزُ، بل إمَّا أن يؤتيَهم كُلَّهم، وإمَّا أن يَدَعَهم كُلَّهم، إلَّا إذا كان التَّخصيصُ لأجلِ الفَقرِ: هذا فقيرٌ، وهذا غنيٌّ، ينفِقُ على الفقيرِ قَدْرَ حاجتِه، أو هذا صغيرٌ ما له شَيءٌ، وهذا كبيرٌ له أسبابٌ). ((الإفهام في شرح عمدة الأحكام)) (ص: 577). ، وابنِ عُثيمين [1471]   قال ابن عثيمين: (لا يحِلُّ لأحدٍ أن يُحابيَ بَعضَ أولادِه دونَ بَعضٍ، بل عليه أن يسوِّيَ بينهم في العطيَّةِ بما قد سَوَّى الله بينهم، وذلك أن يعطيَ الذَّكَرَ مِثلَ حَظِّ الأُنثَيينِ، هذا في العطيةِ المحضِ، أي: التبرُّعِ المحضِ، أمَّا ما كان لدَفعِ الحاجةِ؛ فإنَّ العَدلَ بينهم أن يُعطيَ كُلَّ واحدٍ منهم ما يحتاجُ إليه، سواءٌ كان بقَدرِ ما أعطى الآخَرَ، أو أكثَرَ، أو دونَه؛ فمثلًا: إذا كان الابنُ الكبيرُ يحتاجُ إلى كتبٍ للدراسةِ، وإلى أعمالٍ أخرى للدِّراسةِ، وأعطاه ما يشتري به الكُتُبَ والأعمالَ الأُخرى، ولم يُعطِ الآخَرينَ الذين لا يحتاجونَ مِثلَه؛ فليس ذلك من التفضيلِ، بل هذا من العَدلِ، فإذا بلغ هؤلاء مِثلَ ما بلغ الأوَّلُ واحتاجوا مِثلَ ما احتاج، أعطاهم مثلَ ما أعطى الأوَّلَ). ((فتاوى نور على الدرب)) (9/298). ، وبه أفتت اللَّجنةُ الدَّائمةُ [1472]   جاء في فتاوى اللَّجنةِ الَّدائِمةِ: (المشروعُ في عطيَّةِ الأولادِ هو التَّسويةُ بينهم في العَطاءِ على السَّواءِ، ولا يجوزُ التَّفضيلُ إلَّا لمُسَوِّغٍ شَرعيٍّ؛ لِكَونِ أحدِهم مُقعدًا، أو صاحِبَ عائلةٍ كبيرةٍ، أو لاشتغالِه بالعِلمِ؛ أو صَرْفِ عَطيَّةٍ عن بعضِ وَلَدِه؛ لفِسقِه أو بِدعتِه، أو لِكَونِه يعصي اللهَ فيما يأخُذُه). ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (16/193).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها أنَّها قالت: (إنَّ أبا بكرٍ كان نحَلَها جَذاذَ عِشرينَ وَسْقًا مِن مالِه بالعاليةِ، فلمَّا حضَرَتْه الوفاةُ، قال: واللهِ يا بُنَيَّةُ، ما مِنَ النَّاسِ أحَبُّ إليَّ غِنًى بعدي مِنكِ، ولا أعزُّ عليَّ فَقرًا منكِ، وإنِّي كنتُ نحَلْتُكِ مِن مالي جَذاذَ عِشرينَ وَسْقًا، فلو كُنتِ جَذَذْتيه واحتَزتِيه كان لكِ، فإنَّما هو اليومَ مالُ وارثٍ، وإنَّما هو أخوك وأختاك، فاقسِموه على كتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، قالت: يا أبتِ، واللهِ لو كان كذا وكذا لترَكْتُه، إنَّما هي أسماءُ، فمَن الأُخرى؟ قال: ذو بطنِ بِنتِ خارِجةَ، أُراها جاريةً، فوَلَدَت جاريةً ) [1473]   أخرجه مالك في ((الموطأ)) برواية محمد بن الحسن الشيباني (808) واللفظ له، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (5844)، والبيهقي (12298). صحَّحه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/144)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (1619).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ أبا بكرٍ خَصَّ عائِشةَ دونَ أبنائِه بهِبةٍ؛ لِمَعنًى في ذلك [1474]   ((المغني)) لابن قدامة (6/52)، ((كشاف القناع)) للبهوتي ((4/311).
ثانيًا: لأنَّه مِن بابِ دَفعِ الضَّرَرِ عن المحتاجِ، وهو أفضَلُ مِن تكثيرِ مالِ الغَنيِّ [1475]   ((قواعد الأحكام في إصلاح الأنام)) للعز بن عبد السلام (2/140).

انظر أيضا: