الموسوعة الفقهية

المَبحثُ الثَّاني: من حقوق الزوج: خِدمةُ المَرأةِ لزَوجِها


يجِبُ على المرأةِ خِدمةُ زَوجِها فيما دلَّ عليه العُرفُ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1040]   يرى الحَنَفيَّةُ وجوبَ خِدمةِ المرأةِ لِزَوجِها ممَّن تخدمُ نفسَها -إذا لم تكُنْ من بناتِ الأشرافِ- فتجِبُ الخِدمةُ عليها ديانةً لا قضاءً، أي: تُفتَى بوجوبِ الخِدمةِ، لكِنْ لا يُجبِرُها القاضي إذا رفَضَت. ((المبسوط)) للسرخسي (11/29)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (4/199)، ((الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين)) (3/579). ، والمالِكيَّةِ [1041]   يرى المالِكيَّةُ وجوبَ خدمة المرأة لزوجِها في الطَّبخِ والكَنسِ والفَرشِ وما شابه ذلك، إن لم تكُنْ من أشرافِ النَّاسِ، أو كان زوجُها فقيرَ الحال. يُنظر: ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (4/442)، ((منح الجليل)) لعليش (4/392). في الجُملةِ، وهو قَولُ الطَّبريِّ [1042]   قال الطبري: (يؤخَذُ منه [أي: من حديث عليٍّ، الآتي في أدلَّة السُّنَّة] أنَّ كلَّ من كانت لها طاقةٌ مِن النِّساءِ على خدمةِ بيتِها في خُبزٍ أو طَحنٍ أو غيرِ ذلك: أنَّ ذلك لا يلزَمُ الزَّوجَ، إذا كان معروفًا أنَّ مِثلَها يلي ذلك بنَفسِه). ((فتح الباري)) لابن حجر (9/506). ، وابنِ تيميَّةَ [1043]   قال ابن تيمية: (تنازع العُلماءُ: هل عليها أن تخدُمَه في مِثلِ فِراشِ المنزِلِ، ومناولةِ الطَّعامِ والشَّرابِ، والخُبزِ والطَّحنِ، والطَّعامِ لمماليكِه وبهائمِه؛ مثل عَلفِ دابَّتِه ونحوِ ذلك؟ فمنهم من قال: لا تجِبُ الخِدمةُ. وهذا القولُ ضعيفٌ كضَعفِ قولِ من قال: لا تجِبُ عليه العِشرةُ والوَطءُ؛ فإنَّ هذا ليس مُعاشرةً له بالمعروفِ، بل الصَّاحِبُ في السَّفرِ الذي هو نظيرُ الإنسانِ، وصاحِبُه في المسكَنِ، إن لم يُعاوِنْه على مَصلحةٍ، لم يكن قد عاشَره بالمعروفِ. وقيل -وهو الصَّوابُ- وجوبُ الخدمةِ؛ فإنَّ الزوجَ سَيِّدُها في كتابِ الله، وهي عانِيةٌ عنده بسُنَّةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى العاني والعَبدِ الخِدمةُ؛ ولأنَّ ذلك هو المعروفُ. ثمَّ مِن هؤلاء من قال: تجِبُ الخِدمةُ اليسيرةُ. ومنهم من قال: تجِبُ الخِدمةُ بالمعروفِ، وهذا هو الصَّوابُ؛ فعليها أن تخدُمَه الخدمةَ المعروفةَ مِن مِثلِها لِمثلِه، ويتنوَّعُ ذلك بتنوُّعِ الأحوالِ: فخِدمةُ البَدَويَّةِ ليست كخِدمةِ القُرويَّةِ، وخِدمةُ القَويَّةِ ليست كخِدمةِ الضَّعيفةِ). ((مجموع الفتاوى)) (34/90). ،  وابنِ القَيِّمِ [1044]   قال ابنُ القيِّم: (احتجَّ من أوجَبَ الخِدمةَ بأنَّ هذا هو المعروفُ عند من خاطبهم اللهُ سبحانه بكلامِه، وأمَّا ترفيهُ المرأةِ، وخِدمةُ الزَّوجِ، وكَنسُه وطحنه وعجنُه، وغسيلُه وفرشُه وقيامُه بخدمةِ البيتِ: فمِن المنكَرِ، واللهُ تعالى يقولُ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 228] ، وقال: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء: 34]، وإذا لم تخدمْه المرأةُ، بل يكون هو الخادِمَ لها، فهي القوَّامةُ عليه! وأيضًا فإنَّ المهرَ في مُقابلةِ البُضعِ، وكُلٌّ من الزوجين يقضي وطَرَه مِن صاحِبِه، فإنَّما أوجب اللهُ سبحانه نفقتَها وكِسوتَها ومسكنَها في مقابلةِ استمتاعِه بها وخِدمتِها، وما جرت به عادةُ الأزواجِ. وأيضًا فإنَّ العقودَ المُطلَقةَ إنما تُنزَّلُ على العُرفِ، والعُرفُ خِدمةُ المرأةِ وقيامُها بمصالحِ البيتِ الداخِليةِ. وقولُهم: إنَّ خِدمةَ فاطمةَ وأسماءَ كانت تبرُّعًا وإحسانًا، يرُدُّه أنَّ فاطِمةَ كانت تشتكي ما تَلقى من الخِدمةِ، فلم يَقُلْ لعليٍّ: لا خِدمةَ عليها، وإنَّما هي عليك، وهو صلَّى الله عليه وسلَّم لا يُحابي في الحُكمِ أحدًا، ولَمَّا رأى أسماءَ والعَلفُ على رأسِها، والزبيرُ معه لم يقُلْ له: لا خِدمةَ عليها، وإنَّ هذا ظلمٌ لها، بل أقرَّه على استخدامِها، وأقَرَّ سائِرَ أصحابِه على استخدامِ أزواجِهم، مع عِلمِه بأنَّ منهنَّ الكارهةَ والرَّاضيةَ، هذا أمرٌ لا ريبَ فيه. ولا يصِحُّ التفريقُ بين شريفةٍ ودنيئةٍ، وفقيرةٍ وغنيةٍ؛ فهذه أشرَفُ نِساءِ العالَمين، كانت تخدمُ زَوجَها، وجاءته صلَّى الله عليه وسلَّم تشكو إليه الخِدمةَ، فلم يُشْكِها، وقد سَمَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم في الحديثِ الصَّحيحِ المرأةَ عانيةً، فقال: «اتَّقوا اللهَ في النِّساءِ؛ فإنهنَّ عَوانٍ عندكم»، والعاني: الأسيرُ، ومرتبةُ الأسيرِ خِدمةُ من هو تحتَ يده، ولا ريبَ أنَّ النِّكاحَ نوعٌ مِن الرِّقِّ، كما قال بعضُ السَّلَفِ: النِّكاحُ رِقٌّ؛ فلْينظُرْ أحدُكم عند مَن يُرِقُّ كريمتَه، ولا يخفى على المنصِفِ الرَّاجِحُ من المذهبينِ، والأقوى من الدليلينِ). ((زاد المعاد)) (5/170). ، وابنِ حجَرٍ [1045]   قال ابن حجر: (الذي يترجَّحُ: حملُ الأمرِ في ذلك على عوائدِ البلادِ؛ فإنَّها مختَلِفةٌ في هذا البابِ). ((فتح الباري)) (9/324). ، والمرداويِّ [1046]   قال المرداوي: (الصوابُ أن يُرجَعَ في ذلك إلى عُرفِ البلدِ). ((الإنصاف)) (8/267). ، والسَّعدي [1047]   قال السعدي: (الصَّوابُ أنَّه تجِبُ مُعاشَرةُ كُلٍّ مِن الزَّوجينِ للآخَرِ بالمعروفِ، وأنَّ الطَّبخَ والخَبزَ وخِدمةَ الدارِ ونحوَ ذلك: واجِبٌ عليها مع جريانِ العادةِ بذلك). ((المختارات الجلية)) (ص: 103). ،  وابنِ باز [1048]   قال ابن باز: (الصوابُ فيها أنَّها واجبةٌ عليها لزوجِها، وهكذا كان أصحابُ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تخدُمُهم نساؤُهم، حتى فاطمةُ رَضِيَ اللهُ عنها كانت تخدُمُ زَوجَها، وتقومُ بحاجةِ البيت من طَحنٍ، وكنسٍ، وطبخٍ، وغيرِ ذلك، فهذا من المعاشرةِ بالمعروفِ، أو هذا هو الأصلُ، إلَّا إذا كانت المرأةُ من بيئةٍ قد عُرِفوا بأنهم يُخدَمون، في أيِّ قطرٍ، أو في أيِّ زمان، فالنَّاسُ لهم عُرفُهم؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19] ، فإذا كانت المرأةُ من بيئةٍ تُخدَمُ، ولم يكنْ من عادتِهم أنَّهم يَخدُمون البيتَ، فإنَّ الزوجَ يأتي لها بخادمةٍ، إن لم تَسمَحْ بأن تخدُمَ بيتَه، أمَّا إن سمَحَت فالحمدُ لله، وأمَّا الأصلُ، فالأصلُ أنها تخدُمُ زوجَها في كلِّ شيء ممَّا ذكرَتْه السَّائلةُ، من كنسِ البيتِ، وطبخِ الطعامِ، وتغسيلِ الثيابِ، وكيِّها، ونحوِ ذلك). ((فتاوى نور على الدرب)) (21/112). ، وابنِ عُثيمين [1049]   قال ابن عثيمين: (ما دلَّ عليه العُرفُ مِن الخدمةِ، سواءٌ كان ذلك في مأكلٍ أو مشربٍ أو ملبسٍ أو غيرِ ذلك ممَّا جرى به العرفُ بأنَّ النساءَ يلتزِمْنَ به، حتى تُعَدَّ مَن امتنَعَت من ذلك مخالِفةً للمَعروفِ وجافيةً: فإنَّه يلزَمُها أن تقومَ به... وبناءً على ذلك فإنَّنا قد نقولُ في وقتٍ من الأوقاتِ: إنَّه يلزَمُها أن تخدُمَ زَوجَها في الطبخِ، وغسيلِ الأواني، وغسيلِ ثيابِه وثيابِها، وثيابِ أولادِها، وحضانةِ ولَدِها والقيامِ بمصالحِه، وقد نقولُ في وقت آخرَ: إنَّه لا يلزَمُها أن تطبخَ، ولا يلزمُها أن تغسلَ ثيابَها ولا ثيابَ زَوجِها ولا ثيابَ أولادِها؛ حَسَبَ ما يجري به العرفُ المتَّبَعُ المعتادُ). ((فتاوى نور على الدرب)) (10/329).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 19]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ خِدمةَ المرأةِ لِزَوجِها من المعاشرةِ بالمَعروفِ [1050]   ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (21/112).
2- قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 228]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ للنِّساءِ على الرِّجالِ مِن الحَقِّ مِثلَ ما للرِّجالِ عليهنَّ؛ فلْيؤدِّ كُلُّ واحدٍ منهما إلى الآخَرِ ما يجِبُ عليه بالمعروفِ [1051]   ((تفسير ابن كثير)) (1/609).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّة
1- عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها أتت النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تشكو إليه ما تَلقَى في يَدِها مِنَ الرَّحى، وبَلَغَها أنَّه جاءه رقيقٌ فلم تُصادِفْه، فذكَرَت ذلك لعائشةَ، فلمَّا جاء أخبَرَته عائِشةُ، قال: فجاءَنا وقد أخَذْنا مضاجِعَنا، فذهَبْنا نقومُ، فقال: على مَكانِكما! فجاء فقعد بيني وبينها حتى وجدتُ بَردَ قَدَميه على بَطني، فقال: ألا أدُلُّكما على خيرٍ مِمَّا سألتُما: إذا أخَذْتُما مَضاجِعَكما -أو أويتُما إلى فِراشِكما- فسَبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمَدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا أربعًا وثلاثين؛ فهو خيرٌ لكما من خادمٍ )) [1052]   أخرجه البخاري (5361) واللفظ له، ومسلم (2727).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ فاطمةَ كانت تشتكي ما تلقَى من الخِدمةِ، فلم يقُلِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِعَليٍّ: لا خِدمةَ عليها، وإنَّما هي عليك، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُحابي في الحُكمِ أحدًا [1053]   ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/171).
2- عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قالت: ((تزوَّجني الزُّبيرُ وما له في الأرضِ مِن مالٍ ولا مملوكٍ ولا شيءٍ غيرُ فَرَسِه، قالت: فكنتُ أعلِفُ فَرَسه، وأكفيه مَؤونَتَه وأسوسُه، وأدُقُّ النوى لناضِحِه، وأعلِفُه، وأستقي الماءَ، وأخرِزُ غَرْبَه [1054]   أي: وأَخِيطُ دَلْوَه. يُنظر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (8/ 111). وأعجِنُ، ولم أكُنْ أُحسِنُ أخبِزُ، وكان يخبِزُ لي جاراتٌ من الأنصارِ، وكُنَّ نِسوةَ صِدقٍ، قالت: وكنتُ أنقُلُ النَّوى من أرضِ الزُّبيرِ التي أقطَعَه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، على رأسي، وهي على ثُلُثَي فرسَخٍ، قالت: فجئتُ يومًا والنَّوى على رأسي، فلَقيتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومعه نفرٌ مِن أصحابه، فدعاني، ثم قال: «إخْ إخْ» ليحمِلَني خَلْفَه، قالت: فاستحييتُ وعَرَفتُ غَيرتَك، فقال: واللهِ لحَمْلُك النَّوى على رأسِك أشَدُّ مِن ركوبِك معه، قالت: حتى أرسَلَ إليَّ أبو بكرٍ بعد ذلك بخادمٍ، فكفَتْني سياسةَ الفَرَسِ، فكأنَّما أعتقَتْني )) [1055]   أخرجه البخاري (5224)، ومسلم (2182) واللفظ له.
وجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا رأى أسماءَ والعَلَفُ على رأسِها، والزُّبَيرُ معه، لم يَقُلْ له: لا خِدمةَ عليها، وإنَّ هذا ظُلمٌ لها، بل أقَرَّه على استخدامِها، وأقَرَّ سائِرَ أصحابِه على استخدامِ أزواجِهم، مع عِلمِه بأنَّ منهنَّ الكارِهةَ والرَّاضيةَ [1056]   ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/171).
3- عن أمِّ المؤمنين عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((كنتُ أغسِلُ الجَنابةَ مِن ثَوبِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَخرُجُ إلى الصَّلاةِ، وإنَّ بُقَعَ الماءِ في ثَوبِه )) [1057]   أخرجه البخاري (229). ، وفي لفظِ مُسلمٍ: ((لقد رأيتُني أفرُكُه من ثوبِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَركًا، فيُصَلِّي فيه )) [1058]   أخرجه مسلم (288).
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ على خِدمةِ المرأةِ لِزَوجِها في غَسلِ ثيابِه وشِبهِه، وهو مِن حُسنِ العِشرةِ وجَميلِ الصُّحبةِ [1059]   ((الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)) لابن الملقن (2/82).
ثالثًا: إنَّما أوجب اللهُ سبحانه نفقَتَها وكِسوتَها ومَسكَنَها في مقابلةِ استِمتاعِه بها وخِدمتِها، وما جرت به عادةُ الأزواجِ، وأمَّا المهرُ ففي مُقابلةِ البُضْعِ، وكلٌّ مِن الزَّوجينِ يَقضي وطَرَه مِن صاحِبِه [1060]   ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/171).

انظر أيضا: