الموسوعة الفقهية

الفَصلُ الثَّالثُ: النَّفَقةُ على ذَوي الأرحامِ


تجِبُ النَّفَقةُ على المُقتَدِرِ، لكُلِّ ذي رَحِمٍ [1002]   قيَّده الحَنَفيَّةُ بذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ؛ كالعَمِّ والعمَّةِ، والأخِ والأختِ، والخالِ والخالةِ، ولا تجِبُ لغيرِ ذي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كابنِ العَمِّ وبنتِ العَمِّ؛ ولا لمَحْرَمٍ غيرِ ذي رَحِمٍ، كالأمِّ مِنَ الرَّضاعِ، وعند الاستواءِ في المَحْرَميَّةِ وأهليَّةِ الإرثِ يُرَجَّحُ مَن كان وارِثًا حقيقةً على قَدْرِ ميراثِه. وقيَّده الحَنابِلةُ بالرَّحِمِ الوارِثِ بفَرضٍ أو تَعصيبٍ، فتَجِبُ النَّفَقةُ عند الحَنابِلةِ للأخِ الشَّقيقِ أو لأبٍ أو لأمٍّ، والعَمِّ وابنِ العَمِّ، ولا تجِبُ للعَمَّة، وبِنتِ العَمِّ والخالِ والخالةِ، ونحوِهم ممَّا لا إرثَ لهم بالفَرضِ أو التَّعصيبِ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (4/228)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/238). فقيرٍ عاجِزٍ عن الكَسبِ، وهذا مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1003]   ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/64)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (4/228). ، والحَنابِلةِ [1004]   ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/481)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/238)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (5/643). ، وهو قَولُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ [1005]   قال الشوكاني: (حُكِي عن عمر، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، والعِترة، وأحمد بن حنبل، وأبي ثور: أنَّها تجِبُ النَّفَقةُ لكُلِّ مُعسرٍ على كلِّ مُوسِرٍ إذا كانت مِلَّتُهما واحِدةً وكانا يتوارثانِ). ((نيل الأوطار)) (6/381). ، واختيارُ ابنِ حَزمٍ [1006]   قال ابنُ حزم: (فَرْضٌ على كُلِّ أحدٍ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ الكبارِ والصِّغارِ: أن يبدأَ بما لا بُدَّ له منه، ولا غِنى عنه به: مِن نَفَقةٍ وكِسوةٍ، على حَسَبِ حالِه ومالِه، ثمَّ بعد ذلك يُجبَرُ كُلُّ أحدٍ على النَّفَقة على مَن لا مالَ له ولا عَمَلَ بيَدِه ممَّا يقومُ منه على نفسِه؛ مِن أبَوَيه وأجدادِه وجدَّاته، وإنْ عَلَوا؛ وعلى البنينَ والبناتِ وبَنيِهم، وإن سَفَلُوا؛ والإخوةِ والأخواتِ والزَّوجاتِ. كُلُّ هؤلاء يُسوَّى بينهم في إيجابِ النَّفَقةِ عليهم، ولا يُقَدَّمُ منهم أحدٌ على أحدٍ -قَلَّ ما بيَدِه بعد مَوتِه أو كَثُرَ- لكن يتواسَونَ فيه، فإنْ لم يَفضُلْ له عن نَفَقةِ نفسِه شَيءٌ لم يُكَلَّفْ أن يَشرَكَه في ذلك أحَدٌ ممَّن ذكَرْنا، فإنْ فَضَل عن هؤلاءِ بعد كِسوَتِهم ونَفَقتِهم شَيءٌ أُجبِرَ على النَّفَقةِ على ذَوي رَحِمِه المُحَرَّمةِ ومَوروثيه، إن كان مَن ذَكَرْنا لا شَيءَ لهم، ولا عَمَلَ بأيديهم تقومُ مُؤنتُهم منه، وهم الأعمامُ والعَمَّات وإن عَلَوا، والأخوالُ والخالاتُ وإن عَلَوا، وبَنو الإخوةِ وإن سَفَلُوا. والموروثونَ هم: مَن لا يَحجُبُه أحَدٌ عن ميراثِه إن مات؛ مِن عَصَبةٍ أو مَولًى مِن أسفَلَ، فإن حُجِبَ عن ميراثِه لوارِثٍ فلا شَيءَ عليه مِن نفقاتِهم). ((المحلى)) (9/266). ، وابنِ تَيميَّةَ [1007]   قال ابنُ تَيميَّةَ: (تجِبُ النَّفَقةُ لكُلِّ وارثٍ -ولو كان مُقاطَعًا- مِن ذَوي الأرحامِ وغَيرِهم؛ لأنَّه مِن صِلةِ الرَّحِمِ، وهو عامٌّ، كعُمومِ الميراثِ في ذوي الأرحامِ). ((الفتاوى الكبرى)) (5/519). ، وابنِ القَيِّمِ [1008]   قال ابنُ القيِّمِ: (هذا مَذهَبُ الإمامِ أحمَدَ، وهو أوسَعُ مِن مَذهَبِ أبي حنيفةَ، وإن كان مَذهَبُ أبي حنيفةَ أوسَعَ منه مِن وَجهٍ آخَرَ؛ حيث يُوجِبُ النَّفَقةَ على ذوي الأرحامِ، وهو الصَّحيحُ في الدَّليلِ، وهو الذي تقتضيه أصولُ أحمدَ ونُصوصُه، وقواعِدُ الشَّرعِ، وصِلةُ الرَّحِمِ التي أمَرَ اللهُ أن تُوصَلَ، وحَرَّمَ الجنَّةَ على كُلِّ قاطِعِ رَحِمٍ؛ فالنَّفَقةُ تُستَحَقُّ بشيئينِ: بالميراثِ: بكتابِ اللهِ، وبالرَّحِمِ: بسُنَّةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد تقَدَّم أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه حَبَس عَصَبةَ صَبيٍّ أن يُنفِقوا عليه، وكانوا بني عَمِّه، وتقَدَّم قَولُ زيدِ بنِ ثابتٍ: إذا كان عَمٌّ وأمٌّ، فعلى العَمِّ بقَدرِ ميراثِه، وعلى الأمِّ بقَدرِ مِيراثِها؛ فإنَّه لا مخالِفَ لهما في الصَّحابةِ البتَّةَ، وهو قَولُ جُمهورِ السَّلَفِ، وعليه يدُلُّ قَولُه تعالى: وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [الإسراء: 26] ، وقَولُه تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى [النساء: 36] ). ((زاد المعاد)) (5/488). ، وابنِ عُثيمين [1009]   قال ابنُ عثيمين: (تجِبُ النَّفَقةُ حتى لِمَن يَرِثُه بالرَّحِمِ مِن غَيرِ عَمودَيِ النَّسَبِ؛ لعُمومِ الآيةِ، وما دام أنَّ القُرآنَ قَيَّد الحُكمَ بعِلَّةٍ موجودةٍ في ذي الرَّحِمِ، فما الذي يُخرِجُ ذلك؟! فإذا كان يَرِثُه بالرَّحِمِ فإنَّه يجِبُ عليه الإنفاقُ عليه؛ لِدُخولِه في عُمومِ قَولِه تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة: 233] ، وهذا هو اختيارُ شَيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ رحمه الله. مثاله: ابنُ أختٍ غنيٌّ له خالٌ فقيرٌ، وهذا الخالُ ليس له أحدٌ يَرِثُه سوى ابنِ أختِه، فهل تجِبُ نفَقتُه عليه؟ أمَّا على المَذهَبِ فلا؛ لأنَّه مِن ذوي الأرحامِ، وأمَّا على القَولِ الصَّحيحِ فإنَّه يجِبُ الإنفاقُ عليه). ((الشرح الممتع)) (13/503).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ الأنفال: 75.
2- قال تعالى: وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ الإسراء: 26.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ أوجَبَ حَقًّا لذي القُربى [1010]   ((المحلى)) لابن حزم (9/271).
3- قال تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى النساء: 36.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى جعَلَ حَقَّ ذي القُربى يلي حَقَّ الوالِدَينِ، وأمَرَ تعالى بالإحسانِ إليه، ومِن أعظَمِ الإساءةِ أن يراه يموتُ جُوعًا وعُرْيًا، وهو قادِرٌ على سَدِّ خَلَّتِه وسَتْرِ عَورتِه [1011]   ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/484).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن جابرٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لرجُلٍ: ((ابدَأْ بنَفسِك فتَصَدَّقْ عليها، فإنْ فَضَل شَيءٌ فلأهلِكَ، فإنْ فَضَل عن أهلِك شَيءٌ فلِذِي قرابتِكَ، فإنْ فَضَل عن ذي قرابَتِكَ شَيءٌ، فهَكَذا وهَكَذا )) [1012]   أخرجه مسلم (997).
وَجهُ الدَّلالةِ:
قَولُه: ((فلِذِي قَرابتِكَ)) يَدُلُّ على وُجوبِ النَّفَقةِ على القَرابةِ بالعُمومِ [1013]   ((نيل الأوطار)) للشوكاني (6/381).
ثالثًا: لأنَّه إذا كان يَرِثُ بالرَّحِمِ فإنَّه يجِبُ الإنفاقُ عليه؛ لدُخولِه في عُمومِ قَولِه تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ البقرة: 233 [1014]   ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/503).

 




انظر أيضا: