الموسوعة الفقهية

المَبحثُ الأوَّلُ: النَّفَقةُ على الأولادِ


المَطلَبُ الأوَّلُ: نَفَقةُ الوالِدِ على أولادِه حتى سِنِّ البُلوغِ
يجِبُ على الوالِدِ النَّفَقةُ على أولادِه الذين لا مالَ لهم حتى سِنِّ البُلوغِ فإذا كان لهم مالٌ، فلا تجِبُ عليه النَّفَقةُ. ينظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (5/302) ((مواهب الجليل)) للحطاب (5/588)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (8/346)، ((المغني)) لابن قدامة (8 / 168).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ البقرة: 233.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ تعالى بَيَّن أنَّ على الأبِ الذي يُولَدُ له إطعامُ وكِسوةُ وَلَدِه بالمعروفِ ((تفسير فتح القدير)) للشوكاني (1/ 245).
2- قَولُه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجورَهُنَّ الطلاق: 6.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أوجب اللهُ أُجرةَ رَضاعِ الوَلَدِ على الأبِ، فدَلَّ على أنَّ نَفَقَتَه تجِبُ عليه ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (11/245).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ هِندًا قالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبا سُفيانَ رَجُلٌ شَحيحٌ، وليس لي إلَّا ما يدخُلُ بيتي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُذِي ما يكفيكِ ووَلَدَك بالمعروفِ)) أخرجه البخاري (5364) واللَّفظُ له، ومسلم (1714).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحديثَ نَصٌّ في وُجوبِ النَّفَقةِ على الأولادِ ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (26/45)، ((سبل السلام)) للصنعاني (2/319).
ثالثًا: مِنَ الآثارِ
عن أبي هُرَيرةَ قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أفضَلُ الصَّدَقةِ ما ترك غِنًى، واليدُ العُلْيا خيرٌ من اليَدِ السُّفلى، وابدأْ بمن تعولُ)) أخرجه البخاري (5355).
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِ أبي هُرَيرةَ: (ويقولُ الابنُ: أطعِمْني، إلى من تَدَعُني؟) دليلٌ على وجوبِ النَّفَقةِ عليه ((الاستذكار)) لابن عبد البر (8/540).
رابعًا: مِن الإجماعِ
 نقل الإجماعَ على ذلك وفيه خِلافٌ شاذٌّ: أنَّ على الأمِّ مِنَ النَّفَقةِ بقَدْرِ ميراثِها منه؛ قال ابنُ القَيِّمِ: (وفيه دليلٌ على تفرُّدِ الأبِ بنَفَقةِ أولادِه، ولا تشارِكُه فيها الأمُّ، وهذا إجماعٌ مِنَ العُلَماءِ إلَّا قَولًا شاذًّا لا يُلتَفَتُ إليه: أنَّ على الأمِّ مِنَ النَّفَقةِ بقَدْرِ ميراثِها). ((زاد المعاد(( (5/448). : القاضي عبدُ الوَهَّابِ قال القاضي عبد الوهَّابِ: (تلزَمُ الرَّجُلَ نَفَقةُ وَلَدِه الصَّغيرِ إذا كان فقيرًا...فبَيَّن أنَّ النَّفَقةَ تَلزَمُ لكُلِّ واحدٍ ممَّن ذُكِر، وأنه يحتجُّ بما ذكرَه، ولا خلافَ في ذلك). ((المعونة على مذهب عالم المدينة)) (ص: 937). ، والماوَرديُّ قال الماوَردي: (نَفَقةُ الأولادِ على الآباءِ بدليلِ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ). ((الحاوي الكبير)) (11/477). ، وابنُ حَزمٍ قال ابن حزم: (اتَّفَقوا على أنَّه يلزَمُ الرَّجُلَ -الذي هو كما ذكَرْنا- نَفَقةُ وَلَدِه وابنتِه اللَّذَينِ لم يبلُغَا ولا لهما مالٌ، حتى يبلُغا). ((مراتب الإجماع)) (ص: 79). ، والكاسانيُّ قال الكاساني: (لو كان للصَّغيرِ أبوانِ فنَفَقتُه على الأبِ لا على الأمِّ، بالإجماعِ). ((بدائع الصنائع)) (4/32). ، وابنُ عبدِ البَرِّ قال ابنُ عبد البَرِّ بعد أن ذكر الأثَرَ عن أبي هُرَيرةَ: ("يقولُ وَلَدُك: أنفِقْ عَلَيَّ، إلى من تَكِلُني" قال أبو عُمَرَ: هذا بَيِّنٌ في نفقاتِ الزَّوجاتِ والمماليكِ، والبنينَ الصِّغارِ والبناتِ، ولا خِلافَ بين العُلَماءِ في وجوبِ النَّفَقاتِ جملةً على ما ذكَرْنا). ((الاستذكار)) (8/540). ، وابنُ قُدامةَ قال ابنُ قُدامةَ: (من كان له أبٌ من أهلِ الإنفاقِ لم تجِبْ نفَقَتُه على سواه؛ لأنَّ الله تعالى قال: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: 6] ، وقال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ [البقرة: 233] ، وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهندٍ: ((خُذِي ما يكفيكِ ووَلَدَكِ بالمعروفِ))، فجعل النَّفَقةَ على أبيهم دونها، ولا خِلافَ في هذا نَعلَمُه). ((المغني)) (8/216). ، والقُرطبيُّ قال القرطبي: (أجمع العُلَماءُ على أنَّ على المرءِ نَفَقةَ وَلَدِه الأطفالِ الذين لا مالَ لهم). ((تفسير القرطبي)) (3/163). ، وابنُ تيميَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (يجِبُ على الرَّجُلِ أن يُنفِقَ على وَلَدِه وبهائِمِه وزَوجتِه، بإجماعِ المُسلمِين). ((مجموع الفتاوى)) (8/535). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القَيِّمِ: (فيه دليلٌ على تفَرُّدِ الأبِ بنَفَقةِ أولادِه، ولا تشاركُه فيها الأمُّ، وهذا إجماعٌ من العُلَماءِ إلَّا قولًا شاذًّا لا يُلتَفَتُ إليه: أنَّ على الأمِّ من النَّفَقةِ بقَدرِ مِيراثِها). ((زاد المعاد)) (5/448).
رابعًا: لأنَّ الوَلَدَ بَعضٌ مِنَ الأبِ، فكما يلزَمُه أن يُنفِقَ على نَفْسِه، فكذلك يَلزَمُه أن يُنفِقَ على وَلَدِه ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (11/245).
المَطلَبُ الثَّاني: نَفَقةُ الوالِدِ على أولادِه (ذُكورًا وإناثًا) بعد سِنِّ البُلوغِ قال ابنُ قُدامةَ: (يُشتَرَطُ لوُجوبِ الإنفاقِ ثلاثةُ شُروطٍ: أحَدُها: أن يكونوا فُقَراءَ‏ لا مالَ لهم ولا كَسْبَ يستغنون به عن إنفاقِ غيرهم؛ فإن كانوا مُوسِرين بمالٍ أو كَسبٍ يستغنون به‏ فلا نَفَقةَ لهم؛ لأنها تجِبُ على سبيلِ المواساةِ، والمُوسِرُ مُستغنٍ عن المواساةِ. الثاني: أن يكونَ لِمن تجِبُ عليه النَّفَقةُ ما يُنفِقُ عليهم‏ فاضِلًا عن نَفَقةِ نَفْسِه؛ إمَّا من مالِه، وإمَّا من كَسْبِه، فأمَّا من لا يَفضُلُ عنه شيءٌ فليس عليه شيءٌ... الثالِثُ‏:‏ أن يكونَ المنفِقُ وارِثًا؛ لِقَولِ الله تعالى‏:‏وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ). ((المغني)) (8/ 168). وينظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (5/302)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (5/588)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (8/346).
الفَرعُ الأوَّلُ: النَّفَقةُ على الأبناءِ الذُّكورِ بعد سِنِّ البُلوغِ
المَسألةُ الأُولى: من لهم القُدرةُ على التكَسُّبِ
لا تجِبُ نَفَقةُ الوالِدِ على أبنائِه الذُّكورِ بعد سِنِّ البُلوغِ إذا كانت لهم القُدرةُ على التكَسُّبِ، وذلك باتِّفاقِ المذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّةِ نَصَّ الحَنَفيَّةُ على أنَّ الولَدَ الذَّكَرَ إذا بلغ حَدَّ الكَسْبِ فلا تجِبُ عليه النَّفَقةُ، وإن لم يَبلُغِ الحُلُمَ. ((المبسوط)) للسرخسي (5/163)، ((البحر الرائق)) (4/219)، ((الدر المختار وحاشية ابن عابدين)) (3/612). ، والمالِكيَّةِ ((مواهب الجليل)) (5/588)، ((منح الجليل)) (4/416). ، والشَّافِعيَّةِ ((منهاج الطالبين)) (ص: 265) ((نهاية المحتاج)) (7/220)، ((مغني المحتاج)) (3/448). ، والحنابلةِ ((كشاف القناع)) (5/481)، ((شرح منتهى الإرادات)) (3/238)، ((مطالب أولي النهى)) (5/643). ؛ وذلك لأنَّ النَّفَقةَ إنما تجِبُ على سبيلِ المواساةِ، والقادِرُ على التكَسُّبِ مُستغْنٍ عنها بكَسْبِه ((شرح منتهى الإرادات)) (3/238) ((مطالب أولي النهى)) (5/643).
المَسألةُ الثَّانيةُ: من ليس لهم القُدرةُ على التكَسُّبِ
تجِبُ نَفَقةُ الوالِدِ على أبنائِه الذُّكورِ بعد سِنِّ البُلوغِ إذا لم يكُنْ لهم قُدرةٌ على التكَسُّبِ كالعَجزِ والمرَضِ. باتِّفاقِ المذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّةِ ((المبسوط)) للسرخسي (5/163)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 64)، ((البحر الرائق)) (4/219)، ((الفتاوى الهندية)) (1/ 563). ، والمالِكيَّةِ ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البر (2/ 628،629)، ((شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني)) (4/ 465)، ((مواهب الجليل)) (5/588)، ((منح الجليل)) (4/416). ، والشَّافِعيَّةِ ((منهاج الطالبين)) (ص: 265)، ((نهاية المحتاج)) (7/220)، ((مغني المحتاج)) (3/448). ، والحنابِلةِ اشترط الحنابلةُ اتحادَ الدِّينِ لوُجوبِ النَّفَقةِ. ((المبدع شرح المقنع)) لبرهان الدين بن مفلح (8/ 190)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/ 483).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّهم فُقَراءُ، فاستحقُّوا النَّفَقةَ مِن والِدِهم الغَنيِّ ((المبدع شرح المقنع)) (8/ 189).
ثانيًا: لعَجْزِهم عن كفايةِ أنفُسِهم ((نهاية المحتاج)) (7/220)، ((مغني المحتاج)) (3/448).
الفَرعُ الثَّاني: النَّفَقةُ على البِنتِ بعد سِنِّ البُلوغِ
يجِبُ على الوالِدِ النَّفَقةُ على بِنْتِه البالغةِ المحتاجةِ ما لم تتزَوَّجْ   أمَّا إذا كان عندها مالٌ فلا يجِبُ الإنفاقُ عليها. ينظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) (5/302)، ((الدر المختار للحصكفى وحاشية ابن عابدين)) (3/612)، ((مواهب الجليل)) (5/588)، ((المغني)) لابن قدامة (8 / 168). ، نَصَّ عليه الحَنَفيَّةُ ((المبسوط)) (5/163)، ((البحر الرائق)) (4/219) ((الفتاوى الهندية)) (1/563). ، والمالِكيَّةُ ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البر (2/ 628)، ((مواهب الجليل)) (5/588)، ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (2/524)، ((منح الجليل)) لعليش (4/ 416). ، والشَّافِعيَّةُ ((تحفة المحتاج)) (8/347)، ((مغني المحتاج)) (3/448). ، وهو مُقتضى مَذهَبِ الحَنابلةِ أوجبها الحنابِلةُ للصَّحيحِ المكَلَّفِ الذي لا حِرفةَ له لسَبَبِ فَقْرِه، وهذا يَشمَلُ البِنتَ البالغةَ المحتاجةَ التي لم تتزوَّجْ؛ لأنَّ بعد الزَّواجِ تجِبُ نَفَقتُها على زَوجِها. ((شرح منتهى الإرادات)) (3/239)، ((غاية المنتهى في جمع الإقناع والمنتهى)) (2/389). وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/215).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ له الوِلايةَ عليها إلى أن تتزوَّجَ، فتَجِبُ نفقَتُها كالصَّغيرةِ ((الإشراف على نكت مسائل الخلاف)) للقاضي عبد الوهاب (2/ 809).
ثانيًا: لعَجْزِها عن الاكتِسابِ، فهي بمنزلةِ الصَّغيرةِ إن لم يكُنْ لها زوجٌ، ونفَقَتُها في صِغَرِها على الوالِدِ لحاجَتِها، فكذلك بعد بُلوغِها ((المبسوط)) (5/163).

انظر أيضا: