الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: إيلاءُ مَن أدخَلَ على نَفسِه السُّكْرَ باختيارِه


اختلَفَ العُلَماءُ في حُكمِ إيلاءِ مَن أدخَلَ على نفسِه السُّكْرَ باختيارِه؛ على قَولَينِ: القول الأول: يَقَعُ إيلاءُ مَن أدخلَ على نفسِه السُّكْرَ باختيارِه، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: المالِكيَّةِ [223]     ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير)) (2/426)، ((منح الجليل)) لعليش (4/196). ، والشَّافِعيَّةِ [224]     ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/343)، ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (4/302). ، والحَنابِلةِ [225]     ((الإقناع)) للحجاوي (4/78)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/361).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: قياسًا على طَلاقِ السَّكرانِ [226]     ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/361).
ثانيًا: لأنَّ الفرائِضَ له لازِمةٌ؛ فلا تزولُ عنه بالسُّكرِ [227]     ((الأم)) للشافعي (5/288).
ثالثًا: لأنَّه فَرَّط بإزالةِ عَقلِه فيما يُدخِلُ فيه ضررًا على غيرِه؛ فأُلزِمَ حُكمَ تَفريطِه عُقوبةً له [228]     ((كشاف القناع)) للبهوتي (5/234). القول الثاني: لا يَقَعُ إيلاءُ من أدخَلَ على نَفسِه السُّكْرَ باختيارِه، وهو وَجهٌ عند الحَنابِلةِ [229]     ((المبدع)) لإبراهيم بن مفلح (8/18)، ((الإنصاف)) للمرداوي (9/133). اختاره ابنُ عُثيمين [230]     ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/220). ، وهو الظَّاهِرُ مِن كلامِ ابنِ تَيميَّةَ [231]     قال ابنُ تَيميَّةَ في طلاق السكران: (هذه المسألةُ فيها قَولانِ للعُلَماءِ؛ أصحُّهما: أنَّه لا يَقَعُ طلاقُه، فلا تنعَقِدُ يمينُ السَّكرانِ ولا يقَعُ به طلاقٌ إذا طَلَّقَ، وهذا ثابتٌ عن أمير المؤمنين عثمان ابن عفان، ولم يثبُتْ عن الصحابةِ خِلافُه -فيما أعلَمُ- وهو قولُ كثيرٍ مِن السَّلَفِ والخَلَفِ: كعُمَرَ بن عبد العزيز وغيره، وهو إحدى الروايتينِ عن أحمد: اختارها طائفةٌ من أصحابِه، وهو القولُ القديمُ للشافعيِّ، واختاره طائفةٌ من أصحابِه، وهو قولُ طائفةٍ مِن أصحابِ أبي حنيفة: كالطحاوي. وهو مَذهَبُ غير هؤلاء. وهذا القولُ هو الصَّوابُ... فهو لا يعلَمُ ما يقولُ، وإذا لم يعلَمْ ما يقولُ لم يكُنْ له قَصدٌ صَحيحٌ، و «إنَّما الأعمالُ بالنيَّاتِ». وصار هذا كما لو تناولَ شَيئًا مُحَرَّمًا جعَلَه مجنونًا؛ فإنَّ جُنونَه وإن حصَلَ بمعصيةٍ فلا يَصِحُّ طلاقُه ولا غيرُ ذلك من أقوالِه، ومن تأمَّلَ أصولَ الشريعةِ ومقاصِدَها تبيَّنَ له أنَّ هذا القولَ هو الصَّوابُ، وأنَّ إيقاعَ الطَّلاقِ بالسَّكرانِ قَولٌ ليس له حُجَّةٌ صَحيحةٌ يُعتَمَدُ عليها). ((مجموع الفتاوى)) (33/102، 103). ، وابنِ القَيِّم [232]     قال ابنُ القَيِّم: (أمَّا السَّكرانُ فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] ؛ فلم يرتِّبْ على كلامِ السَّكرانِ حُكمًا حتى يكونَ عالِمًا بما يقولُ). ((إعلام الموقعين)) (3/87). ، وابنِ باز [233]     قال ابنُ باز: (ليس من عقوبةِ السَّكرانِ إيقاعُ الطَّلاقِ، فالصَّوابُ الذي عليه المحقِّقونَ مِن أهلِ العِلمِ، وبه أفتى الخليفةُ الرَّاشِدُ عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ طَلاقَ السَّكرانِ الذي قد فقد عَقْلَه لا يَقَعُ، حتى ولو كان آثمًا، أمَّا غيرُ الآثمِ فلا يقَعُ عند الجميعِ). ((فتاوى نور على الدرب)) (22/40).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ النساء: 43.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه لم يُرَتِّبْ على كلامِ السَّكرانِ حُكمًا حتى يكونَ عالِمًا بما يقولُ [234]     ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/87).
ثانيًا: من السنة
عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرئٍ ما نوى )) [235]     الحديث أخرجه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907). ويُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (10/234).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ السكران لا يَعلَمُ ما يقولُ، وإذا لم يَعلَمْ ما يقولُ لم يكُنْ له قَصدٌ صَحيحٌ، وإنما الأعمال بالنيات [236]     ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (33/103).
ثالثًا: لأنَّه فاقِدٌ للعَقلِ، فهو كالمجنونِ [237]     ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/220).

انظر أيضا: