الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الثَّالِثُ: الاستِثناءُ في الطَّلاقِ


اختلف العُلَماءُ في الاستِثناءِ في الطَّلاقِ، على قَولَينِ: القول الأول: إذا وقَعَ الاستِثناءُ في الطَّلاقِ، كقَولِ الرَّجُلِ لامرأتِه: أنتِ طالِقٌ إن شاء اللهُ، وأراد بالمشيئةِ التَّعليقَ: لم يَقَعِ الطَّلاقُ، وهذا مَذهَبُ الحَنَفيَّة [1801]   ((المبسوط)) للسرخسي (30/142)، ((الهداية)) للمرغيناني (1/254). ، والشَّافِعيَّةِ [1802]   ((روضة الطالبين)) للنووي (8/96)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/302). ، ورواية عن أحمد [1803]   ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (6/391). ، وبه قال طائِفةٌ مِنَ السَّلَفِ [1804]   وهو قول: طاوسٍ، والحكم، وإسحاق. يُنظر: ((الإشراف على مذاهب العلماء)) لابن المنذر (5/219). ، وهو قَولُ ابنِ المُنذِرِ [1805]   ((الإشراف على مذاهب العلماء)) لابن المنذر (7/122). ، وابنِ تيميَّةَ [1806]   قال ابنُ تيميَّةَ: (لو قال لامرأتِه: أنتِ طالِقٌ إن شاء الله، ففيه نزاعٌ مَشهورٌ، وقد رجَّحْنا التفصيلَ، وهو أنَّ الكلامَ يرادُ به شيئانِ: يُرادُ به إيقاعُ الطَّلاقِ تارةً، ويرادُ به مَنْعُ إيقاعِه تارةً؛ فإن كان مرادُه أنتِ طالِقٌ بهذا اللَّفظِ، فقولُه: إن شاء اللهُ مِثلُ قَولِه: بمشيئةِ اللهِ، وقد شاء اللهُ الطَّلاقَ حين أتى بالتَّطليقِ، فيقَعُ؛ وإن كان قد عَلَّقَ لئلَّا يقَعَ، أو عَلَّقَه على مشيئةٍ تُوجَدُ بعد هذا: لم يقَعْ به الطَّلاقُ حتى يُطَلِّقَ بعد هذا؛ فإنَّه حينئذٍ شاء اللهُ أن تُطَلَّقَ... فإذا قال: أنتِ طالِقٌ إن شاء اللهُ، وقَصَد حقيقةَ التَّعليقِ: لم يقَعْ إلَّا بتطليقٍ بعدَ ذلك، وكذلك إذا قَصَد تعليقَه لئلَّا يقعَ الآن؛ وأمَّا إنْ قَصَد إيقاعَه الآنَ وعَلَّقَه بالمشيئةِ توكيدًا وتحقيقًا: فهذا يقَعُ به الطَّلاقُ). ((مجموع الفتاوى)) (13/44). ، وابنِ القَيِّمِ [1807]   قال ابنُ القَيِّم: (التحقيقُ في المسألةِ أنَّ المُستثنيَ إمَّا أن يَقصِدَ بقَولِه: «إن شاء الله» التَّحقيقَ أو التعليقَ؛ فإنْ قَصَد به التَّحقيقَ والتأكيدَ، وقَعَ الطَّلاقُ، وإنْ قَصَد به التَّعليقَ وعدَمَ الوُقوعِ في الحالِ، لم تُطَلَّقْ. هذا هو الصَّوابُ في المسألةِ، وهو اختيارُ شَيخِنا وغيرِه مِن الأصحابِ). ((إعلام الموقعين)) (4/59). ، والشَّوكانيِّ [1808]   قال الشوكاني: (قد جاءت السُّنَّةُ الصَّحيحةُ بأنَّ التقييدَ بالمشيئةِ يُوجِبُ عَدَمَ وُقوعِ ما عُلِّقَ بها، كمن حَلَف ليفعَلَنَّ كذا إن شاء اللهُ، فإنَّه لا يلزَمُه حُكمُ اليمينِ في هذا أو غيرِه؛ فالمعَلِّقُ للطَّلاقِ بالمشيئةِ إن أراد هذا المعنى لم يقَعْ منه الطَّلاقُ، وإن أراد الطَّلاقَ إن كان اللهُ سبحانه يشاؤُه في تلك الحالِ؛ فإن كان ممسِكًا بها بالمعروفِ وهي مطيعةٌ له، فالله سبحانَه لا يشاءُ طَلاقَها، وإن كان غيرَ مُمسِكٍ بالمعروفِ فقد أراد اللهُ سُبحانَه منه في تلك الحالةِ أن يُسَرِّحَها بإحسانٍ، كما قال في كتابِه العزيزِ؛ فمرادُه هو ما في كتابِه مِن التخييرِ بين الإمساكِ بالمعروفِ والتسريحِ بالإحسانِ، وإن أراد ما يريدُه غالِبُ النَّاسِ مِن لفظِ التقييدِ بالمشيئةِ؛ فإنَّهم يريدونَ تأكيدَ وُقوعِ ما قيَّدوه بها في الإثباتِ، وتأكيدَ عدَمِ وقوعِ ما قَيَّدوه بها في النَّفيِ: وقع الطَّلاقُ المقيَّدُ بالمشيئةِ). ((السيل الجرار)) (ص: 406). ، وابنِ باز [1809]   قال ابنُ باز: (إن كان قَصدُه التعليقَ، لا يقعُ الطَّلاقُ، أمَّا إن كان قَصدُه الطَّلاقَ تقَعُ طلقةٌ واحِدةٌ بهذا اللَّفظِ: أنتِ طالِقٌ، أمَّا إن قال: إنْ شاء الله، قَصْدُه التعليقُ، هذا ما يقَعُ شَيءٌ، مثل لو قال: واللهِ إن شاء اللهُ ما أفعَلُ كذا، ما عليه شيءٌ). ((فتاوى نور على الدرب)) (22/299). ، وابنِ عُثيمين [1810]   قال ابنُ عثيمين: (إن أراد بقَولِه: إنْ شاء اللهُ، أي: إن شاء اللهُ أن تَطلُقي بهذا القَولِ، فإنَّ الطَّلاقَ يَقَعُ؛ لأنَّنا نَعلَمُ أنَّ الله تعالى يشاءُ الشَّيءَ إذا وُجِدَ سَبَبُه، وإن أراد بقَولِه: إن شاء اللهُ، أي: في طَلاقٍ مُستقبَلٍ، فإنَّه لا يقَعُ حتى يُوقِعَه مرَّةً ثانيةً في المستقبَلِ، وهذا هو الصَّوابُ). ((الشرح الممتع)) (13/155).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن حلفَ فاستثنَى، فإن شاءَ رجَعَ، وإن شاءَ تركَ غَيرَ حَنِثٍ )) [1811]   أخرجه أبو داود (3262) واللفظ له، والنسائي (3793)، وابن ماجه (2105)، وأحمد (4510). صَحَّح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (7/115)، وصَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3262). وأخرجه أبو داود (3261)، والترمذي (1531) واللفظ له، والنسائي (3829)، وابن ماجه (2106)، وأحمد (4581) مرفوعًا بلفظ: (مَن حَلَف على يمينٍ، فقال: إن شاء اللهُ؛ فقد استثنى، فلا حِنثَ عليه). حسنه الترمذي (410)، وصَحَّح إسناده ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/223)، وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/113): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ، وله طرُقٌ. وصَحَّح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (6/262)، وصَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1531). والحديثُ مُختَلَفٌ في رَفعِه ووَقفِه.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحديثَ صَريحٌ في أنَّ التقييدَ بالمشيئةِ يُوجِبُ عَدَمَ وُقوعِ ما عُلِّقَ بها [1812]   ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 406).
ثانيًا: أنَّ المعَلَّقَ عليه مِن مَشيئةِ الله أو عَدَمِها: غيرُ مَعلومٍ، ولأنَّ الوقوعَ بخِلافِ مَشيئةِ الله تعالى مُحالٌ [1813]   ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/302).
ثالثًا: أنَّه أتى بصورةِ الشَّرطِ، فيكونُ تَعليقًا مِن هذا الوَجهِ [1814]   ((الهداية شرح البداية)) للمرغيناني (1/254). القول الثاني: لا يؤثِّرُ الاستِثناءُ بـ (إنْ شاء اللهُ) في وقوعِ الطَّلاقِ، فمَن قال لِزَوجتِه: أنتِ طالِقٌ إنْ شاءَ اللهُ، وقع الطَّلاقُ، وهذا مَذهَبُ المالِكيَّةِ [1815]   ((الكافي)) لابن عبد البر (2/580)، ((الشرح الكبير)) للدردير (2/392). ، والحَنابِلةِ [1816]   ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/133)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (5/440). ، وبه قال جماعةٌ مِنَ السَّلَفِ [1817]   قال ابنُ المنذر: (اختلف أهلُ العِلمِ في الرجُلِ يقولُ لامرأتِه: أنتِ طالِقٌ إن شاء اللهُ تعالى؛ فقالت طائفةٌ: الطَّلاقُ يلزَمُ، هكذا قال الحسَنُ البصري، وسعيد بن المسَيِّب، ومكحول، وقتادة، والزُّهري، وابن أبي ليلي، والليث بن سعد، والأوزاعي). ((الإشراف على مذاهب العلماء)) (5/219).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ المشيئةَ لا اطِّلاعَ لنا عليها [1818]   ((الشرح الكبير)) للدردير (2/392).
ثانيًا: أنَّه تَعليقٌ على ما لا سَبيلَ إلى عِلمِه؛ فبَطَل، كما لو عَلَّقه على شَيءٍ مِن المُستَحيلاتِ [1819]   ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/133).
ثالثًا: لأنَّه إنشاءُ حُكمٍ في محَلٍّ، فلم يرتَفِعْ بالمشيئةِ، كالبَيعِ والنِّكاحِ [1820]   ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/133).

انظر أيضا: