الموسوعة الفقهية

الفرعُ الثَّالِثُ: طلاقُ الغَضبانِ


المسألةُ الأولى: طَلاقُ الغَضبانِ غَضبًا مُعتادًا (غيرَ شَديدٍ)
يقَعُ طَلاقُ الغَضبانِ غَضبًا مُعتادًا (غَيرَ شَديدٍ).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن خُوَيلةَ بنتِ ثَعلَبةَ امرأةِ أوسِ بنِ الصَّامِتِ: ((أنَّها راجَعَت زَوجَها فغَضِبَ، فظاهَرَ منها، وكان شَيخًا كبيرًا قد ساء خُلُقُه وضَجِرَ، وأنَّها جاءت إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجعَلَت تشكو إليه ما تَلقَى مِن سُوءِ خُلُقِه، فأنزل اللهُ آيةَ الظِّهارِ، وأمَرَه رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكَفَّارةِ الظِّهارِ)) وفي روايةٍ: ((أنَّ خُوَيلةَ غَضِبَ زَوجُها فظاهَرَ منها، فأتت النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرَتْه بذلك، وقالت: إنَّه لم يُرِدِ الطَّلاقَ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أراكِ إلَّا حَرُمْتِ عليه ))
وَجهُ الدَّلالة:
أنَّ الظِّهارَ كان طلاقًا، وقد أُوقِعَ الظِّهارُ في غَضَبِه، فكذا الطَّلاقُ [1618]   ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/375).
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقل الإجماعَ على ذلك: ابنُ تيميَّةَ [1619]   قال ابنُ تَيميَّةَ: (الغضَبُ على ثلاثة أقسامٍ: أحدُها: ما يزيلُ العَقلَ، فلا يَشعُرُ صاحِبُه بما قال، وهذا لا يقَعُ طلاقُه بلا نزاعٍ. الثاني: ما يكونُ في مبادِئِه بحيثُ لا يمنَعُ صاحِبَه مِن تصَوُّرِ ما يقولُ وقَصْدِه، فهذا يقَعُ طلاقُه بلا نزاعٍ). ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (5/6). ، وابنُ رجبٍ [1620]   قال ابنُ رجب: (ما يقَعُ من الغَضبانِ مِن طلاقٍ وعَتاقٍ، أو يمينٍ؛ فإنَّه يؤاخَذُ بذلك كُلِّه بغيرِ خِلافٍ). ((جامع العلوم والحكم)) (1/375). ، وابن حجر الهيتمي [1621]   قال ابن حجر الهيتمي: («لا طلاقَ في إغلاقٍ» وفسَّرَه كثيرون بالإكراهِ، كأنه أُغلِقَ عليه البابُ أو انغلَقَ عليه رأيُه، ومنعوا تفسيرَه بالغَضَبِ؛ للاتِّفاقِ على وقوعِ طلاقِ الغضبانِ. قال البيهقي: وأفتى به جمعٌ من الصحابةِ، ولا مخالِفَ لهم منهم). ((تحفة المحتاج)) (8/32). ، وابنُ باز [1622]   قال ابنُ باز: (الحالُ الثالثةُ: الغضَبُ الذي ليس بشديدٍ، العاديُّ: هذا يقَعُ الطَّلاقُ فيه عند جميعِ العُلَماءِ، وهو الغَضَبُ العادي الذي ليس هناك فيه شِدَّةٌ واضحة، فهذا عند جميع أهل العلمِ يقَعُ فيه الطَّلاق). ((فتاوى نور على الدرب)) (22/136). ، وابنُ عثيمين [1623]   قال ابنُ عثمين: (الثانيةُ: ابتداءُ الغَضَبِ، لكِنْ يَعقِلُ ما يَقولُ، ويُمكِنُ أن يمنَعَ نَفسَه؛ فهذا يقَعُ طلاقُه بالاتِّفاقِ؛ لأنَّه صَدَر مِن شَخصٍ يَعقِلُه غيرِ مُغلَقٍ عليه، وكثيرًا ما يكون الطَّلاقُ في الغالِبِ نتيجةً للغَضَبِ). ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) (13/28).
ثالثًا: لأنَّه يَعقِلُ ما يقولُ، ويَملِكُ نَفسَه؛ فتصَرُّفُه كتصَرُّفِ غيرِ الغاضِبِ [1624]   ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (10/361).
رابعًا: لأنَّه مُكَلَّفٌ في حالِ غَضَبِه بما يَصدُرُ منه [1625]   ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (5/322).
المَسألةُ الثَّانيةُ: طلاقُ الغَضبانِ الذي غَيَّب الغَضَبُ عَقلَه
لا يقَعُ طَلاقُ الغَضبانِ الذي غَيَّب الغَضَبُ عَقلَه.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ:
نَقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ تيميَّةَ [1626]   قال ابنُ تَيميَّةَ: (الغَضَبُ على ثلاثةِ أقسام: أحدُها: ما يزيلُ العَقلَ فلا يَشعُرُ صاحِبُه بما قال، وهذا لا يقَعُ طلاقُه بلا نزاعٍ). ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (5/6). ، وابنُ القَيِّمِ [1627]   قال ابنُ القيم: (ما يزيلُ العَقلَ، فلا يشعَرُ صاحِبُه بما قال، وهذا لا يقَعُ طلاقُه بلا نزاعٍ). ((زاد المعاد)) (5/195). ، وابنُ عُثيمين [1628]   قال ابنُ عثيمين: (ألَّا يدريَ الإنسانُ ما يقولُ إطلاقًا، ولا يدري هل هو في الأرضِ أو في السَّماءِ، شِبهُ المُغمى عليه: فهذا لا يقع طلاقُه بالاتفاقِ، وهو يقع مِن بعضِ النَّاسِ الذين يُطلَقُ عليهم اسمُ (عَصَبيٌّ) يُجَنُّ، هذا إذا طَلَّق زَوجتَه لا يقَعُ الطَّلاقُ بالاتِّفاقِ). ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (5/61). ونقل ابنُ قُدامةَ [1629]   قال ابنُ قدامة: (أجمع أهلُ العِلمِ على أنَّ الزَّائلَ العَقلِ بغيرِ سُكْرٍ، أو ما في معناه: لا يقَعُ طلاقُه). ((المغني)) (7/378). والرحيبانيُّ [1630]   قال الرحيباني: (قد أجمع المُسلِمونَ على أنَّ من زال عَقلُه بغيرِ سُكرٍ مُحَرَّمٍ، كالنومِ، والإغماءِ، والجنونِ، وشُربِ الدَّواءِ المزيلِ للعَقلِ، والمرضِ: لا يقَعُ طلاقُه). ((مطالب أولي النهى)) (5/321). الإجماعَ على أنَّ من زال عَقلُه بغيِر سُكرٍ لا يقَعُ طَلاقُه.
ثالثًا: قياسًا على المجنونِ [1631]   ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (2/542)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/74)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (22/135).
رابعًا: لأنَّه كفاقِدِ العَقلِ لا يعي ما يقولُ [1632]   ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/27).
المَسألةُ الثَّالثةُ: طلاقُ الغَضبانِ الذي اشتَدَّ غَضَبُه ولم يُغَيِّبْ عَقلَه
اختلف العُلماءُ في طلاقِ الغَضبانِ الذي اشتَدَّ غَضَبُه ولم يُغَيِّبِ الغَضَبُ عَقْلَه، على قولَينِ: القول الأول: يَقَعُ طَلاقُ الغَضبانِ وإن اشتَدَّ غَضَبُه، ما لم يَغِبْ عَقلُه، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة [1633]   ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (5/58)، ((التجريد)) للقدوري (10/4917)، ((العناية)) للبابرتي (4/67). ، والمالِكيَّة [1634]   ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/366). ويُنظر: ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (2/542). ، والشَّافِعيَّة [1635]   ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (8/32). ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (10/365). ، والحَنابِلةِ [1636]   ((الإقناع)) للحجاوي (4/4)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/74).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ جَميلةَ كانت تحتَ أوسِ بنِ الصَّامِتِ، وكان رَجُلًا به لَمَمٌ [1637]   اللَّمَمُ: هو شِدَّةُ الحِرصِ، والرَّغبةُ في النِّساءِ. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (3/254)، ((النهاية)) لابن الأثير (4/273). ، فكان إذا اشتَدَّ لَمَمُه ظاهَرَ مِن امرأتِه، فأنزل الله تعالى فيه كفَّارةَ الظِّهارِ )) [1638]   أخرجه أبو داود (2220)، والحاكم (3792)، والبيهقي (15638). صَحَّحه الحاكم على شرط مسلم، وصَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2220).
ثانيًا: لأنَّه مُكَلَّفٌ في حالِ غَضَبِه بما يصدُرُ منه؛ مِن كُفرٍ، وقَتلِ نَفسٍ، وأخْذِ مالٍ بغيرِ حَقٍّ، وطَلاقٍ، وغيرِ ذلك [1639]   ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (5/322).
ثالثًا: لو جاز عدَمُ وُقوعِ طلاقِ الغَضبانِ لكان لكُلِّ أحدٍ أن يقولَ فيما جَناه: كُنتُ غَضبانَ [1640]   ((فتح الباري)) لابن حجر (9/389). !
رابعًا: لأنَّ الأحكامَ لا تختَلِفُ بالغَضَبِ والرِّضا، كسائِرِ الأحكامِ الأُخرى [1641]   ((الحاوي الكبير)) للماوردي (10/156). القول الثاني: لا يقَعُ طَلاقُ الغَضبانِ عندما يشتَدُّ به الغَضَبُ، ويحولُ بينه وبين نيَّتِه، وإن لم يَزُلْ عَقلُه بالكُلِّيَّةِ، وهو قَولُ ابنِ تيميَّةَ [1642]   قال ابنُ تَيميَّةَ: (إنْ غَيَّرَه الغَضَبُ ولم يُزِلْ عَقْلَه: لم يقع الطَّلاقُ؛ لأنَّه ألجأه وحَمَله عليه، فأوقَعَه وهو يكرَهُه؛ ليستريحَ منه، فلم يبقَ له قَصدٌ صَحيحٌ؛ فهو كالمُكرَهِ؛ ولهذا لا يُجابُ دعاؤُه على نَفسِه ومالِه، ولا يلزَمُه نَذرُ الطَّاعةِ فيه). ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (5/7). ،  وابنِ القَيِّمِ [1643]   قال ابنُ القيِّم: (الغَضَبُ على ثلاثةِ أقسامٍ: أحَدُها: ما يُزيلُ العَقلَ، فلا يشعُرُ صاحِبُه بما قال، وهذا لا يقَعُ طلاقُه بلا نزاعٍ. والثاني: ما يكونُ في مباديه بحيث لا يمنَعُ صاحِبَه مِن تصَوُّرِ ما يقولُ وقَصْدِه، فهذا يقَعُ طلاقُه. الثَّالِثُ: أن يَستحكِمَ ويشتَدَّ به، فلا يُزيلُ عَقْلَه بالكُلِّيَّةِ، ولكِنْ يحولُ بينه وبين نيَّتِه بحيث يندَمُ على ما فرَطَ منه إذا زال؛ فهذا محَلُّ نظَرٍ، وعدمُ الوقوعِ في هذه الحالةِ قَويٌّ مُتَّجِهٌ). ((زاد المعاد)) (5/195). وقال: (القسم الثَّالِثُ: مَن تَوَسَّط في الغَضَبِ بين المرتبتَينِ، فتعدَّى مبادِئَه، ولم ينتَهِ إلى آخِرِه؛ بحيث صار كالمجنونِ: فهذا مَوْضِعُ الخلافِ، ومحلُّ النظَرِ، والأدلَّةُ الشرعيَّةُ تدُلُّ على عدَمِ نُفوذِ طلاقِه، وعِتقِه، وعُقودِه التي يُعتبَرُ فيها الاختيارُ والرِّضا، وهو فرعٌ مِن الإغلاقِ). ((إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان)) (ص: 21). ، وهو اختيارُ ابنِ عابدين من الحَنَفيَّة [1644]   ((حاشية ابن عابدين)) (3/244). ، وابنِ باز [1645]   قال ابنُ باز: (الغَضبانُ له ثلاثُ حالاتٍ: إحداها: يقَعُ فيها الطَّلاق إجماعًا، وهي ما إذا كان الغَضَبُ عاديًّا لا يُوصَفُ بالشِّدَّةِ. الثانية: لا يقَعُ فيها الطَّلاقُ إجماعًا، وهي ما إذا كان الغَضَبُ قد اشتَدَّ حتى زال معه الشعورُ، وصار صاحِبُه في عدادِ المعتوهين. والثالثة: ما بين ذلك، وهي محلُّ الخِلافِ، والأرجَحُ فيها عدَمُ الوقوعِ؛ لأنَّ الغَضبانَ إذا اشتَدَّ به الغَضَبُ لم يضبِطْ نَفسَه، ولم يملِكِ القُدرةَ على عدمِ إيقاعِ الطَّلاقِ؛ لأنَّ شِدَّةَ الغَضَبِ تُلجِئُه إلى إيقاعِه؛ ليُفرِّجَ عن نفسِه ما أصابها، ويدفَعَ عنها نارَ الغَضَبِ؛ فهو بمثابةِ المُكرَهِ). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (21/373). ، وابنِ عثيمين [1646]   قال ابنُ عثيمين: (إذا كان الزَّوجُ حين إصدارِه الطَّلاقَ في حالةِ غَضَبٍ لا يملِكُ نَفسَه معها- فإنَّ طلاقَه لا يقَعُ عليه؛ لأنَّه لا طلاقَ في إغلاقٍ، والغَضَبُ ينقَسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: أحدُها: أن يكونَ في ابتدائِه، بحيث يعقِلُ الغاضِبُ ما يقولُ ويملِكُ نَفسَه، فتصَرُّفُه كتصَرُّفِ غيرِ الغاضِبِ؛ لأنَّه ليس ثمَّةَ مانِعٌ مِن تنفيذِه، فإذا طَلَّق في هذه الحالِ فإنَّ طلاقَه يقَعُ. الحالة الثانية: أن يكونَ غَضَبُه شَديدًا جدًّا بحيثُ لا يعي ما يقولُ، ولا يدري ما يقولُ، ولا يدري أهو في البيتِ أم في السوقِ، في حالٍ يكونُ كالمُغمى عليه؛ فهذا لا يقَعُ طلاقُه بلا ريبٍ؛ وذلك لأنَّه ليس له فِكرٌ، وليس له عَقلٌ فيما يقولُ حينئذٍ. الحالة الثالثة: أن يكونَ الغَضَبُ متوسِّطًا بين الحالةِ الأولى والثانية، بحيث يعي ما يقولُ، ويدري ما يقولُ، ولكِنَّه عاجِزٌ عن مِلكِ نَفسِه؛ لا يملِكُ نفسَه مع هذا الغَضَبِ، وفي وقوع طلاقِه خِلافٌ بين أهلِ العِلمِ؛ فالرَّاجِحُ أنَّه لا يقَعُ طلاقُه في هذه الحالةِ؛ لأنَّه كالمُكرَه؛ لأنَّ الحالةَ النفسيَّةَ الكامِنةَ تُلجِئُه إلجاءً على أن يقولَ هذا الطَّلاقَ). ((فتاوى نور على الدرب)) (10/361).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: قياسًا على المُكرَهِ، بل المُكرَهُ أحسَنُ حالًا منه؛ فإنَّ له قَصدًا وإرادةً حقيقيةً، لكِنْ هو محمولٌ عليه، وهذا ليس له قَصدٌ في الحقيقةِ، فإذا لم يقَعْ طَلاقُ المُكرَهِ فطلاقُ هذا أولى بعدَمِ الوقوعِ [1647]   ((إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان)) لابن القيم (ص: 47).
ثانيًا: لِعَدمِ القَصدِ، وجَريانِ اللَّفظِ على اللِّسانِ مِن غَيرِ إرادةٍ لِمعناه [1648]   ((إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان)) لابن القيم (ص: 47).

انظر أيضا: