الموسوعة الفقهية

الفصل الثَّالث: سُنَنُ ومُستحبَّاتُ الوقوفِ بعَرَفة


المبحث الأوَّل: الغُسْلُ للوقوفِ بعَرَفة
يُستحَبُّ الاغتسالُ للوقوفِ بعَرَفة، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة ((الهداية شرح البداية)) للمرغيناني (1/17)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/35). , والمالِكيَّة ((حاشية العدوي)) (2/533)، ويُنظر: ((الاستذكار)) لابن عَبْدِ البَرِّ (2/378). , والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (7/211)، ويُنظر: ((الأم)) للشافعي (1/265). , والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/151)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/427).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
1- عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، لَمَّا سُئِلَ عن الغُسْلِ قال: يومَ الجُمُعة، ويومَ عَرَفةَ، ويومَ النَّحْر، ويومَ الفِطْر رواه الشافعي في ((الأم)) (8/391)، والبيهقي (6343) واللفظ لهما، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (724). صحَّح إسنادَه الألباني في ((إرواء الغليل)) (1/177).
2- عن نافعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما كان يغتسِلُ لوقوفِه عَشِيَّةَ عَرَفةَ رواه مالك في ((الموطأ)) (1/322).
ثانيًا: أنَّه قُربةٌ يجتمِعُ لها الخَلْقُ في موضعٍ واحدٍ؛ فشُرِعَ لها الغُسْلُ؛ كصلاةِ الجُمُعة والعيدين ((المجموع)) للنووي (8/ 93).
المبحث الثَّاني: السَّيْرُ من مِنًى إلى عَرَفةَ صباحًا بعد طلوعِ شَمْسِ يومِ عَرَفة.
يُسَنُّ السَّيْرُ من مِنًى إلى عَرَفةَ صباحًا بعد طلوعِ شَمْسِ يومِ عَرَفة، وذلك باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية ((الهداية)) للمرغيناني (1/143)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/503). , والمالكية ((الكافي)) لابن عبد البر (1/371)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/118). ، والشافعية ((المجموع)) للنووي (8/84)، ويُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/486). ، والحنابلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/491)، ويُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (3/234).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّةِ:
عن جابرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهما في حديثه الطَّويلِ في صِفَةِ حجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فلما كان يومُ التَّرْوِية توجَّهوا إلى مِنًى، فأهلُّوا بالحج، وركِبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصلَّى بها الظُّهرَ والعصرَ والمغربَ والعشاءَ والفَجرَ، ثم مكث قليلًا حتى طلَعَتِ الشَّمسُ، وأمَرَ بقُبَّةٍ مِن شَعْرٍ تُضْرَبُ له بنَمِرةَ، فسار رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا تشكُّ قريشٌ إلَّا أنَّه واقِفٌ عند المشعَرِ الحرامِ، كما كانت قريشٌ تصنَعُ في الجاهليَّةِ، فأجاز رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى أتى عَرَفة )) رواه مسلم (1218)
المبحث الثَّالث: خُطبةُ عَرَفة
المطلب الأوَّل: حُكْمُ خُطبةِ عَرَفةَ
يُسَنُّ للإمامِ أن يخطُبَ يومَ عَرَفةَ بنَمِرَةَ بعد الزَّوالِ قبل الصَّلاةِ، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ قال النووي: (وهو سنَّة باتفاق جماهير العُلَماء). ((شرح النووي على مسلم)) (8/182). : الحَنَفيَّة ((الهداية شرح البداية)) للمرغيناني (1/143)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/504). , والمالِكيَّة ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/416)، ويُنظر: ((المدونة)) لسحنون (1/231). , والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/86)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/495). , والحَنابِلة ((الإقناع)) للحجاوي (1/387)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/491).
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما في حديثِه الطَّويلِ في صِفَةِ حَجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((حتى إذا زاغَتِ الشَّمسُ أمَرَ بالقصواءِ، فَرُحِلَتْ له، فأتى بطنَ الوادي، فخطَبَ النَّاسَ، وقال: إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم، كحُرمَةِ يومِكم هذا، في شَهْرِكم هذا، في بلَدِكم هذا... )) رواه مسلم (1218)
المطلب الثَّاني: هل خُطبةُ عَرَفة خُطبتانِ، أو خُطبةٌ واحدةٌ؟
اختلف أهلُ العِلْمِ في ذلك على قولينِ:
القول الأوّل: أنَّ خُطبةَ عَرَفة خُطبتانِ يُفصَلُ بينهما بجِلْسةٍ خفيفةٍ، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة ((الهداية شرح البداية)) للمرغيناني (1/143)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/504). , والمالِكيَّة ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/416)، ويُنظر: ((المدونة)) لسحنون (1/231). , والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/86)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/495). ؛ وذلك قياسًا على خُطبةِ الجُمعةِ ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/152)، ((درر الحكام)) للملا خسرو (1/225).
القول الثاني: أنَّ خُطبةَ عَرَفةَ خُطبةٌ واحدةٌ، وهذا مذهَبُ الحَنابِلة ((الإقناع)) لابن قُدامة (1/387)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/491). ، واختارَه ابنُ القَيِّم قال ابنُ القيم: (خَطَبَ خطبةً واحدة، ولم تكن خُطبتينِ جلس بينهما). ((زاد المعاد)) (2/234). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عثيمين: ((حديثُ جابرٍ ليس فيه إلَّا خطبةٌ واحدةٌ)). ((الشرح الممتع)) (5/11).
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما في حديثِه الطَّويلِ في صِفَةِ حَجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((حتى إذا زاغَتِ الشَّمسُ أمَرَ بالقصواءِ، فَرُحِلَتْ له، فأتى بطنَ الوادي، فخطَبَ النَّاسَ، وقال: إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم، كحُرمَةِ يومِكم هذا، في شَهْرِكم هذا، في بلَدِكم هذا... )) رواه مسلم (1218)
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّه ليس فيه إلَّا خُطبةٌ واحدةٌ ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/11).
المبحث الرابع: الجمعُ بين الصَّلاتينِ يومَ عَرَفة
المطلب الأوَّل: حُكْمُ الجمعِ بين الصَّلاتينِ يومَ عَرَفة
يُسَنُّ للحاجِّ الجَمْعُ بين الظُّهرِ والعصرِ بعَرَفةَ تقديمًا في وقتِ الظُّهْرِ.
الأدِلَّة
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- فِعْلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما في حديثِ جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وفيه: ((ثمَّ أَذَّنَ، ثم أقام فصلَّى الظهرَ، ثم أقام فصَلَّى العصرَ، ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا )) رواه مسلم (1218)
2- عن ابنِ شهابٍ، قال: أخبرني سالمٌ، أنَّ الحجَّاجَ بنَ يُوسفَ، عام نزَلَ بابنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهما، سأل عبدَ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، كيف تصنَعُ في الموقِفِ يومَ عَرَفةَ؟ فقال سالمٌ: ((إنْ كنتَ تُريدُ السُّنَّةَ فهَجِّرْ بالصَّلاةِ يومَ عَرَفة، فقال عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: صَدَقَ؛ إنَّهم كانوا يَجمعونَ بين الظُّهْرِ والعَصر في السُّنَّة، فقلت لسالمٍ: أفعَلَ ذلك رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال سالمٌ: وهل تتَّبعونَ في ذلك إلَّا سُنَّتَه؟ )) رواه البخاري (1662)
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنْذِر قال ابنُ المُنْذِر: (أجمعوا على أنَّ الإمامَ يجمَعُ بين الظهرِ والعَصرِ بعَرَفة يوم عَرَفة، كذلك مَن صلَّى وحْدَه). ((الإجماع)) (ص: 57). ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (أجمعوا أنَّ الجمْعَ بين الظُّهرِ والعصرِ يومَ عَرَفة مع الإمامِ سُنَّةٌ مجتَمَعٌ عليها). ((الاستذكار)) (4/325). ،وابنُ رُشْدٍ قال ابنُ رشد: (أجمعوا على أنَّ الجمْعَ بين الظهر والعصر في وقتِ الظهرِ بعَرَفةَ سُنَّةٌ، وبين المَغْرِب والعِشاء بالمُزْدَلِفة أيضًا في وقتِ العِشاءِ سُنَّةٌ أيضًا). ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/170). والنوويُّ قال النووي: (أجمعَتِ الأمَّة على أنَّ للحاجِّ أن يجمع بين الظُّهر والعصر إذا صلَّى مع الإمام).((المجموع)) (8/92)، يُنْظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (8/184، 185). ،وابنُ دقيق العيد قال ابنُ دقيق العيد: (لا خلاف في جوازِ الجمع بين الظُّهر والعصر بعَرَفة، وبين المَغْرِب والعِشاء بمُزْدَلِفةَ). ((إحكام الأحكام)) (ص: 220). ، وابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (النبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- جمع بين الصلاتينِ بعَرَفةَ في وقْتِ الأولى، وهذا الجمعُ ثابتٌ بالسنَّة المتواتِرةِ، وباتِّفاقِ المسلمين عليه) ((جامع المسائل)) (6/336).
المطلب الثَّاني: سببُ الجمعِ بعَرَفةَ والمُزْدَلفةِ
اختلف أهلُ العِلْمِ في سَبَبِ الجمعِ بعَرَفة والمُزْدَلِفةِ على ثلاثةِ أقوالٍ:
القول الأوّل: أنَّ سَبَبَ الجمعِ بعَرَفة والمُزْدَلِفةِ السَّفَرُ، فلا يَجمَعُ مَن كان دونَ مسافَةِ قَصْرٍ، كأهلِ مكَّة، وهذا مذهَبُ الشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/371)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/396). قال النووي: (قال أكثرُ أصحاب الشافعي: هو بسبَبِ السَّفَرِ، فمن كان حاضرًا أو مسافرًا دون مرحلتينِ كأهل مكَّة لم يَجُزْ له الجَمْعُ كما لا يجوز له القَصْر). ((شرح النووي على مسلم)) (8/185،187). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/5)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/298). ، وهو قَوْلُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ منهم: سالم بن عبد الله، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأشهب، وفقهاء أصحاب الحديث. ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (12/203)، ((شرح النووي على مسلم)) (8/187).
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
أوَّلًا: نُصوصُ جَمْعِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أسفارِه، ومنها:
عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جَمَعَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوةِ تبوك بين الظُّهرِ والعصرِ، وبين المَغْرِبِ والعِشاءِ )) رواه مسلم (706)
ثانيًا: جَمْعُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَرَفةَ والمُزْدَلِفةِ:
عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في صِفَةِ حَجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثمَّ أذَّنَ، ثمَّ أقام فصلَّى الظهرَ، ثم أقامَ فصَلَّى العصرَ، ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا ... حتى أتى المُزْدَلِفةَ، فصلى بها المغرِبَ والعشاءَ بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ، ولم يُسَبِّحْ بينهما شيئًا )) رواه مسلم (1218)
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَمَعَ وهو مسافِرٌ، وهو وصْفٌ مناسبٌ ومعهودٌ للجَمْعِ، ولا أثَرَ للنُّسُكِ في ذلك، بدليلِ عَدَمِ الجَمْعِ في مِنًى قال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (روى مالكٌ عن ابن شهابٍ أنه قال: سألتُ سالمَ بنَ عبدِ اللهِ: هل يُجمَع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم، لا بأس بذلك، ألم تَرَ إلى صلاةِ النَّاس بعَرَفة؟). قال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (فهذا سالمٌ قد نزع بما ذَكَرْنا وهو أصلٌ صحيحٌ لمن أُلْهِمَ رُشدَه ولم تَمِلْ به العصبيةُ إلى المعاندة, ومعلوم أنَّ الجمعَ بين الصلاتين للمسافِرِ رخصةٌ وتوسِعَةٌ, ولو كان الجمعُ على ما قال ابنُ القاسم والعراقيون من مراعاةِ آخِرِ وقتِ الظُّهْرِ وأوَّل وقت العصر؛ لكان ذلك أشدَّ ضيقًا وأكثَرَ حرجًا مِنَ الإتيان بكلِّ صلاةٍ في وقتها؛ لأنَّ وقتَ كلِّ صلاةٍ أوسَعُ، ومراعاتَه أمكَنُ مِن مراعاةِ طَرَفَيِ الوقتينِ، ومَن تدَبَّرَ هذا وجَدَه كما وصفْنَا، وبالله توفيقُنا). ((التمهيد)) (12/203)، ويُنْظَر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/176)، ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (ص: 220).
القول الثاني: أنَّ سَبَبَ ذلك النُّسُكُ، فيجوزُ الجَمْعُ للحاجِّ، حتى لِمَن كان دون مسافةِ قَصْرٍ، كأهلِ مكَّة، وهذا مذهَبُ الحَنَفيَّة قال ابنُ نجيم: (هذا الجَمْعُ لا يختَصُّ بالمسافِرِ؛ لأنَّه جَمْعٌ بسبَبِ النُّسُكِ، فيجوزُ لأهْلِ مكَّةَ ومُزْدَلِفةَ ومِنًى وغيرِهم). ((البحر الرائق)) (2/366)، ويُنْظَر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/16)، ((تبيين الحقائق وحاشية الشلبي)) (2/24). ، والمالِكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/170)، ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/332). ، وهو وجهٌ للشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/371)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/396).                     ، وقولٌ للحَنابِلة قال ابنُ تيميَّة: (الجمعُ بين الصَّلاتين، قد يقالُ إنَّه لأجْلِ النُّسُك، كما تَقُوله الحنفيَّة وطائفةٌ من أصحابِ أحمد، وهو مقتضى نَصِّه؛ فإنَّه يمنعُ المكيَّ مِنَ القصْرِ بعَرَفة، ولم يمنعه مِنَ الجَمْع). ((مجموع الفتاوى)) (24/45).           ، وهو قَوْلُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ منهم: الحسن البصري، وابن سيرين، ومكحول، والنخعي. يُنْظَر: ((المجموع)) للنووي (4/371). ، واختارَه الطبريُّ قال المباركفوري: (قال الطبري: جَمْعُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّاس بعَرَفةَ دليلٌ على جوازِ الجمعِ في السَّفَر القصيرِ؛ إذ لم يُنقَل عن أحدٍ مِن أهلِ مكَّة التخلُّفُ عن الصَّلاة معه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فإنَّ الجمعَ بعِلَّةِ النُّسُك)). ((مرعاة المفاتيح)) (9/28). ، وابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (يجوز الجمعُ لكلِّ مَن بعَرَفة، من مكِّيٍّ وغيره... وذكر أصحابُنا أنه لا يجوز الجمعُ إلَّا لِمَن بينه وبين وَطَنِه سِتَّةَ عَشَرَ فرسخًا، إلحاقًا له بالقَصْرِ، وليس بصحيحٍ؛ لأنَّ النبي- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- جَمَعَ، فجَمَعَ معه مَن حَضَره مِنَ المكيين وغيِرهم، ولم يأمُرْهم بتركِ الجَمْعِ، كما أمَرَهم بتركِ القَصْرِ حين قال: (أتِّموا، فإنَّا سَفْرٌ)، ولو حَرُمَ الجمعُ لبَيَّنَه لهم، إذ لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ، ولا يُقِرُّ النبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على الخطأِ. وقد كان عثمانُ يُتِمُّ الصَّلاة؛ لأنَّه اتَّخَذَ أهلًا، ولم يَتْرُك الجمعَ. ورُوِيَ نحوُ ذلك عن ابنِ الزُّبير. قال ابنُ أبي مُلَيكة: وكان ابن الزبير يُعَلِّمُنا المناسِكَ. فذكَرَ أنَّه قال: إذا أفاض، فلا صلاةَ إلا بجَمْعٍ. رواه الأثرم. وكان عمر بن عبد العزيز واليَ مكَّة، فخرج فجَمَعَ بين الصلاتين. ولم يَبْلُغْنا عن أحد مِنَ المتقدِّمين خلافٌ في الجمع بعَرَفة ومُزْدَلِفة، بل وافَقَ عليه من لا يرى الجمعَ في غيره، والحقُّ فيما أجمعوا عليه، فلا يُعَرَّجُ على غيره). ((المغني)) (3/366،367). , وابنُ باز قال ابنُ باز: (ظاهِرُ السنَّة الصحيحة المعلومة مِن حَجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَجَّةِ الوداعِ، أنَّ جميعَ الحُجَّاج يَقْصُرون في مِنًى فقط من دون جمعٍ، ويَجْمعون ويَقْصُرون في عَرَفةَ ومُزْدَلِفة، سواءٌ كانوا آفاقِيَّينَ أو مِن أهْلِ مكَّة وما حولها، لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَقُلْ لأهلِ مكَّة: أتِمُّوا، وأمَّا صلاته يومَ العيدِ في مكَّةَ الظُّهْرَ فقد صلَّاها قصرًا، ولم يَزَلْ يَقْصُر حتى رجَعَ إلى المدينةِ، كما ثبت ذلك في الأحاديثِ الصحيحةِ من حديث أنسٍ وغيره، ولم يقُلْ لأهل مكَّة: أَتِمُّوا، لأنَّ ذلك معلومٌ في حَقِّ المقيمينَ في مكَّة. ويُروى أنَّه قال ذلك يومَ فَتْحِ مكَّةَ؛ حيث صلى بالنَّاس قَصْرًا في المسجِدِ الحرامِ، وفي السَّنَد مقال، لكنْ يتأيَّدُ بالأصْلِ، وهو أنَّ المقيمينَ في مكَّة وغيرِها، ليس لهم القَصْرُ؛ لأنَّهم ليسوا مسافرينَ، والقَصْرُ يختَصُّ بالمسافرينَ، واللهُ ولىُّ التوفيقِ). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (30/207-209).         
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
حديثُ جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في صِفَةِ حَجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثم أذَّنَ، ثم أقامَ فصلَّى الظُّهْرَ، ثم أقام فصلَّى العصرَ، ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا ... حتى أتى المُزْدَلِفةَ، فصلَّى بها المغربَ والعِشاءَ بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ، ولم يُسَبِّحْ بينهما شيئًا )) رواه مسلم (1218)
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَمَعَ، فجَمَعَ معه مَن حَضَره مِنَ المكيين وغيِرهم، ولم يأمُرْهم بتركِ الجَمْعِ، كما أمَرَهم بتركِ القَصْرِ حين قال: (أتِّموا، فإنَّا سَفْرٌ)، ولو حَرُمَ الجمعُ لبَيَّنَه لهم، إذ لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ، ولا يُقِرُّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الخطأِ، كما أنَّه لم يُنقَلْ عن أحدٍ مِن أهْلِ مكَّةَ التخلُّفُ عن الصَّلاةِ معه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ابنُ تيميَّة: (السنَّةُ المعلومةُ يقينًا عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لم يأمُرْ أحدًا مِنَ الحُجَّاجِ معه مِن أهلِ مكَّة أن يؤخِّروا العصرَ إلى وقتِها المختَصِّ، ولا يُعجِّلوا المغربَ قبل الوصولِ إلى مُزْدَلِفةَ فيصلُّوها إمَّا بعَرَفة وإمَّا قريبًا مِنَ المَأزمينِ؛ هذا ممَّا هو معلومٌ يقينًا، ولا قال هذا أحدٌ، بل كلامُه ونصوصُه تقتضي أنَّه يجمَعُ بين الصلاتينِ، ويؤخِّرَ المغرِبَ جميعُ أهلِ الموْسِمِ، كما جاءت به السُّنَّة). ((مجموع الفتاوى)) (22/89)، ويُنْظَر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (9/28).
ثانيًا: أنَّ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه مع كَوْنِه أتمَّ الصَّلاةَ؛ لأنَّه اتَّخَذَ أهلًا بمكَّةَ، إلَّا أنَّه لم يترُكِ الجمْعَ ((المغني)) لابن قُدامة (3/367).
ثالثًا: أنَّه قد نَقَلَ الإجماعَ على سُنِّيَّة الجَمْعِ بعَرَفةَ والمُزْدَلِفةِ جماعةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ؛ مِمَّا يدلُّ على أنَّ سَبَبَ الجمعِ النُّسُكُ لا السَّفَرُ.
القول الثالث: أنَّ سَبَبَ ذلك الحاجةُ ورفْعُ الحرجِ، وهو قولُ أبي يوسُفَ، ومحمَّدِ بنِ الحسَن فقد ذَهَبا إلى أنَّ جوازِ الجمْعِ للحاجةِ إلى امتدادِ الوقوفِ؛ بدليلِ أنَّه لا جَمْعَ على مَن ليس عليه الوقوفُ، وأنَّ الحاجَّ يحتاج إلى الدعاءِ في وقتِ الوُقوفِ، فشُرِعَ الجمعُ؛ لئلَّا يشتغِلَ عنِ الدُّعاءِ. ((تبيين الحقائق)) للزيلعي و((حاشية الشلبي)) (2/24)، ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/470). ، واختاره ابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: ((معلومٌ أنَّ جَمْعَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَرَفةَ ومُزْدَلِفةَ لم يكُنْ لخوفٍ ولا مطرٍ ولا لسَفَرٍ أيضًا, فإنَّه لو كان جمْعُه للسَّفَر لجَمَعَ في الطريقِ، ولجمَعَ بمكَّة كما كان يقْصُرُ بها, ولجَمَع لَمَّا خرج من مكَّةَ إلى مِنًى وصلَّى بها الظهرَ والعصرَ والمغربَ والعشاءَ والفجرَ, ولم يَجْمَعْ بمِنًى قبل التعريفِ, ولا جمَعَ بها بعد التعريفِ أيَّامَ مِنًى, بل يُصَلِّي كلَّ صلاةٍ ركعتينِ غيرَ المغربِ, ويُصَلِّيها في وقتها ولا جَمْعُه أيضا ًكان للنُّسُك؛ فإنَّه لو كان كذلك لجَمَعَ مِن حينِ أحرَمَ؛ فإنَّه مِن حينِئذٍ صار مُحْرِمًا، فعُلِمَ أنَّ جَمْعَه المتواتِرَ بعَرَفة ومُزْدَلِفةَ لم يكُنْ لمطَرٍ ولا خوفٍ ولا لخصوصِ النُّسُك، ولا لمجرَّدِ السَّفَرِ؛ فهكذا جمَعَه بالمدينةِ الذي رواه ابنُ عبَّاس، وإنما كان الجَمْعُ لرَفْعِ الحَرَجِ عن أمَّتِه، فإذا احتاجوا إلى الجَمْعِ جَمَعوا). ((مجموع الفتاوى)) (24/77). وقال أيضًا: (الصَّحيحُ أنَّه لم يجمَعْ بعَرَفة لمجرَّد السَّفَر كما قَصَرَ للسَّفَر؛ بل لاشتغالِه باتِّصالِ الوقوفِ عن النُّزولِ، ولاشتغالِه بالمسيرِ إلى مُزْدَلِفةَ، وكان جمْعُ عَرَفة لأجلِ العبادةِ، وجَمْعُ مُزْدَلِفةَ لأجْلِ السَّيرِ الذي جَدَّ فيه، وهو سَيْرُه إلى مُزْدَلِفةَ، وكذلك كان يصنَعُ في سفره: كان إذا جَدَّ به السَّيْرُ أخَّرَ الأولى إلى وقتِ الثَّانيَةِ، ثم يَنْزِلُ فيُصَلِّيهما جميعًا، كما فَعَل بمُزْدَلِفة. وليس في شريعَتِه ما هو خارجٌ عن القياس؛ بل الجمعُ الذي جمَعَه هناك يُشْرَع أن يُفعَلَ نظيرُه، كما يقوله الأكثرون). ((مجموع الفتاوى)) (24/45، 46). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عثيمين في سياقِ ذِكْرِه للأقوالِ في سببِ الجَمْعِ: (وقيل: المصلحة والحاجة، وهو الأقربُ، فجَمْعُ عَرَفةَ لمصلحةِ طُولِ زَمَنِ الوقوفِ والدُّعاء، ولأنَّ النَّاس يتفرَّقون في الموقِفِ؛ فإن اجتمعوا للصَّلاة شقَّ عليهم، وإنْ صَلَّوْا متفرِّقينَ فاتت مصلحةُ كثرَةِ الجَمْعِ، أمَّا في مُزْدَلِفةَ فهم أحوَجُ إلي الجمعِ، لأنَّ النَّاس يدفعونَ مِن عَرَفةَ بعد الغروبِ، فلو حُبِسُوا لصلاةِ المغرِبِ فيها لصَلَّوْها من غيرِ خشوعٍ، ولو أُوقِفوا لصلاتِها في الطريقِ لكان ذلك أشقَّ، فكانت الحاجةُ داعيةً إلي تأخيرِ المغربِ لتُجْمَعَ مع العشاءِ هناك، وهذا عينُ الصَّوابِ والمصلحةِ؛ لجَمْعِه بين المحافظةِ على الخشوعِ في الصَّلاةِ، ومراعاةِ أحوالِ العبادِ). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/256).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ الجمْعَ بين الصَّلاتينِ لم يَعْلَق بمجرَّدِ السَّفَر، في شيءٍ مِنَ النصوصِ، بل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يجمَعْ في حَجَّتِه إلَّا بعَرَفةَ والمُزْدَلِفة، وكان بمِنًى يقصُرُ ولا يجمَعُ، وكذلك في سائِرِ سَفَرِ حَجَّتِه، ولا يجمَعُ لمجرَّدِ النُّسُك، فإنه لو كان للنُّسُكِ لجمَعَ مِن حينِ أحرَمَ ((مجموع الفتاوى)) (24/77)، ((جامع المسائل)) لابن تيميَّة (6/330)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/255).
ثانيًا: أنَّ الجمع بعَرَفة كان لمصلحةِ طُولِ زَمَنِ الوقوفِ والدُّعاءِ، ولأنَّ النَّاس يتفرَّقون في الموقِفِ؛ فإن اجتمعوا للصَّلاةِ شقَّ عليهم، وإنْ صَلَّوْا متفرِّقينَ فاتت مصلحةُ كثرَةِ الجَمْعِ، أمَّا في مُزْدَلِفةَ فهم أحوَجُ إلي الجمعِ، لأنَّ النَّاس يدفعونَ مِن عَرَفةَ بعد الغروبِ، فلو حُبِسُوا لصلاةِ المغرِبِ فيها لصَلَّوْها من غيرِ خشوعٍ، ولو أُوقِفوا لصلاتِها في الطريقِ لكان ذلك أشقَّ، فكانت الحاجةُ داعيةً إلي تأخيرِ المغربِ لتُجْمَعَ مع العشاءِ هناك، وهذا عينُ الصَّوابِ والمصلحةِ؛ لجَمْعِه بين المحافظةِ على الخشوعِ في الصَّلاةِ، ومراعاةِ أحوالِ العِبادِ قال ابنُ تيميَّة: (ومعلومٌ أنَّه قد كان يُمكِنُه أن يترُكَ العَصرَ فيُصَلِّيها في وقتها المختَصِّ، لكنْ عَدَلَ عن ذلك إلى أنْ قَدَّمها مع الظهر؛ لمصلحةِ تكميلِ الوقوف، لعِلْمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ اتصالَ الوقوفِ إلى المغربِ بغيرِ قَطْعٍ له بصلاةِ العَصْرِ في أثنائه؛ أحبُّ إلى اللهِ مِن أن يُصَلِّيَ العصرَ في وقتها الخاصِّ، ولو أخَّرَ مؤخِّرٌ العَصرَ وصَلَّاها في الوقتِ الخاصِّ وقطَعَ الوقوفَ، لأجزَأَه ذلك فيما ذكره العُلَماء مِنْ غيرِ نزاعٍ أعْلَمُه، ولكِنْ تَرَكَ ما هو أحبُّ إلى اللهِ ورسولِه، فإنَّه لو قَطَعَ الدُّعاءَ والذِّكْرَ لبَعْضِ أعمالِه المباحة، ووَقَفَ إلى المغربِ لم يَبْطُل بذلك حجُّه، فأَنْ لا يبطُلَ بِتَرْكِ ذلك لصلاةِ العَصْرِ أَوْلى وأَحْرَى. ودلَّتْ هذه السنَّة الثابتة عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أنَّ الجمعَ يكون للحاجةِ والمصلحةِ الشَّرعيَّة، فلمَّا لم يكُنْ لمجرَّدِ السَّفَرِ، فلم يكن لمُجَرَّدِ النُّسُك). ((جامع المسائل)) (6/336، 337).ويُنْظَر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/256).
المطلب الثَّالث: حُكْمُ قَصْرِ المَكِّيِّ في عَرَفةَ والمُزْدَلِفةِ   
اختلف الفقهاءُ في حُكْمِ قَصْرِ المَكِّيِّ في عَرَفةَ والمُزْدَلِفةِ على قولينِ:
القولُ الأوَّل: لا يَقْصُرُ المكِّيُّ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/152)، ويُنْظَر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (24/44). ، والشَّافعيَّة في الأصحِّ ((المجموع)) للنووي (4/371)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/496). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/5)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/367). ، وبه قال جمهورُ السَّلَفِ منهم: عطاء، ومجاهد، والزهري، وابن جريج، والثوري، الثوري, ويحيى القطان، وأبو ثور, وإسحاق، وابن المُنْذِر. ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (10/14)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/367)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/440). ، واختارَه داودُ الظَّاهريُّ ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (10/14). ؛ وذلك لأنَّ المكِّيَّ غيرُ مسافرٍ، فحُكْمُه حُكْمُ المقيمِ، فيُتِمُّ الصَّلاةَ، ولا يَقصُرُ، وإنَّما يقصُرُ مَن كان سَفَرُه سفرًا تقصُرُ في مِثْلِه الصَّلاة، والمعروفُ أنَّ عَرَفة، وهي أبعَدُ المشاعِرِ عن مكَّة ليست كذلك ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (10/14)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/367)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/439)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (24/61).
القول الثاني: يَقْصُرُ أهلُ مكَّةَ، وهذا مذهَبُ المالِكيَّة قال ابنُ عبدِ البرِّ: (قال مالكٌ: يُصَلِّي أهلُ مكَّة ومِنًى بعَرَفةَ ركعتين ركعتين ما أقاموا؛ يَقْصُرون بالصَّلاة حتى يرجِعوا إلى أهليهم، وأميرُ الحاجِّ أيضًا كذلك، إذا كان من أهل مكَّةَ قَصَرَ الصَّلاة بعَرَفة وأيامَ مِنًى، قال: وعلى ذلك الأمرُ عندنا). ((التمهيد)) (10/13). والضابط عند المالكية: أنَّ الحاجَّ يقْصُر حتى أهلُ مكَّة، إلَّا أهلَ كلِّ موضعٍ كأهل عَرَفة في عَرَفةَ، وأهلِ المُزْدَلِفةِ في المُزْدَلِفةِ، وأهل مِنًى في مِنًى؛ فإنَّ هؤلاء فقط يُتِمُّون؛ لأنَّهم في أهليهم، وذكروا أنَّ القَصْرَ لغيرهم إنما هو للسُّنَّة، وإلَّا فهو ليس بمسافة قصرٍ في حَقِّ المكيِّ، وأهل المُزْدَلِفة ونحوهم. ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (10/13، 14)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/170، 171)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/539). ، وقولٌ للشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/371)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/396). ، وروايةٌ عن أحمَدَ ((زاد المعاد)) ابن القيم (1/481). ، وبه قالَتْ طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ منهم: القاسم بن محمد، وسالم، والأوزاعي. ((المغني)) لابن قُدامة (3/367)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/439). ، واختاره أبو الخطَّابِ ((زاد المعاد)) ابن القيم (1/481). ، وابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (أمَّا القَصرُ فلا ريبَ أنَّه من خصائص السَّفَر، ولا تعلُّقَ لا بالنُّسك، ولا مُسَوِّغَ لقَصْرِ أهل مكَّة بعَرَفةَ وغيرها إلا أنَّهم بسَفَرٍ وعَرَفة عن المسجِدِ بريدٌ كما ذكره الذين مَسَحوا ذلك، وذكره الأزرقي في ((أخبار مكَّة))، فهذا قَصْرٌ في سَفَرٍ قَدْرُه بريدٌ، وهم لَمَّا رجعوا إلى مِنًى كانوا في الرجوعِ مِنَ السفر, وإنَّما كان غايةُ قَصْدِهم بريدًا, وأيُّ فرقٍ بين سفر أهل مكَّة إلى عَرَفة، وبين سفر سائر المسلمينِ إلى قَدْرِ ذلك من بلادهم, واللهُ لم يُرَخِّصْ في الصَّلاة ركعتينِ إلَّا لمسافرٍ؛ فعُلِمَ أنهم كانوا مسافرينَ). ((مجموع الفتاوى)) (24/47)، وانظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/481). ، وابنُ القَيِّم قال ابنُ القيم: (فلما أتمَّها- يعني الخطبة- يوم عَرَفة، أمَرَ بلالًا فأذَّنَ، ثم أقام فصلَّى الظُّهْرَ ركعتين أسَرَّ فيهما بالقراءةِ، وكان يومَ الجمعة، فدلَّ على أنَّ المسافِرَ لا يصلِّي جمعةً، ثم أقام، فصلَّى العصر ركعتين أيضًا، ومعه أهلُ مكَّة، وصلَّوْا بصلاتِه قصرًا وجمعًا بلا ريبٍ، ولم يأمُرْهم بالإتمامِ، ولا بِتَرْك الجمع، ومن قال إنَّه قال لهم: ((أتِمُّوا صلاتَكم؛ فإنَّا قومٌ سَفْرٌ ))، فقد غلِطَ عليه غَلَطًا بيِّنًا، ووَهِمَ وهمًا قبيحًا، وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفَتْحِ بجَوْفِ مكَّةَ؛ حيث كانوا في ديارِهم مقيمينَ؛ ولهذا كان أصحُّ أقوالِ العُلَماءِ أنَّ أهل مكَّة يَقْصُرون، ويجمعونَ بعَرَفة، كما فعلوا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي هذا أوضحُ دليلٍ على أنَّ سَفَرَ القَصْرِ لا يتحدَّدُ بمسافةٍ معلومةٍ، ولا بأيامٍ معلومةٍ، ولا تأثيرَ للنُّسُك في قصر الصَّلاة البتَّةَ، وإنَّما التأثير لِمَا جَعَلَه اللهُ سببًا، وهو السَّفضر. هذا مقتضى السنَّة، ولا وجه لِمَا ذهب إليه المحَدِّدون). ((زاد المعاد)) (2/234). ، والشنقيطيُّ قال الشنقيطي: (أظهرُ قَولَيْ أهلِ العِلْمِ عندي: أنَّ جميعَ الحُجَّاجِ يَجمعونَ الظُّهرَ والعصرَ، ويَقْصُرون، وكذلك في جمعِ التأخيرِ في مُزْدَلِفةَ يقصرونَ العِشاءَ، وأنَّ أهلَ مكَّة وغيرَهم في ذلك سواءٌ، وأنَّ حديث: ((أتِمُّوا؛ فإنَّا قَومٌ سَفْرٌ))، إنَّما قاله لهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مكَّةَ، لا في عَرَفةَ ولا في مُزْدَلِفة). ((أضواء البيان)) (4/439). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (ظاهرُ السنَّةِ الصحيحةِ المعلومةِ من حجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حجَّةِ الوداع، أنَّ جميعَ الحُجَّاج يقصُرون في مِنًى فقط من دون جَمْعٍ، ويَجْمَعون ويَقْصُرون في عَرَفة ومُزْدَلِفة، سواءٌ كانوا آفاقيين أو من أهلِ مكَّة وما حولها؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَقُلْ لأهلِ مكَّة: أتِمُّوا، وأمَّا صلاتُه يومَ العيدِ في مكَّةَ الظُّهْرَ فقد صلَّاها قصرًا، ولم يَزَلْ يَقْصُر حتى رجَعَ إلى المدينةِ، كما ثبت ذلك في الأحاديثِ الصحيحةِ من حديث أنسٍ وغيره، ولم يقُلْ لأهل مكَّة: أَتِمُّوا، لأنَّ ذلك معلومٌ في حَقِّ المقيمينَ في مكَّة. ويُروى أنَّه قال ذلك يومَ فَتْحِ مكَّةَ؛ حيث صلى بالنَّاس قَصْرًا في المسجِدِ الحرامِ، وفي السَّنَد مقال، لكنْ يتأيَّدُ بالأصْلِ، وهو أنَّ المقيمينَ في مكَّة وغيرِها، ليس لهم القَصْرُ؛ لأنَّهم ليسوا مسافرينَ، والقَصْرُ يختَصُّ بالمسافرينَ، واللهُ ولىُّ التوفيقِ). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (30/207-209). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عثيمين: (الصحيحُ أنَّ القصرَ في مِنًى وفي عَرَفة ومُزْدَلِفةَ، ليس سببُه النُّسُكَ، بل سبَبُه السَّفَر، والسفرُ لا يتقيَّد بالمسافة، بل يتقيَّدُ بالحالِ، وهو أنَّ الإنسانَ إذا خرج وتأهَّبَ واستعدَّ لهذا الخروج، وحمل معه الزادَ والشرابَ؛ فهو مسافِرٌ، وبناء على ذلك نقول: إنَّ النَّاسَ في عهد الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانوا يتزوَّدونَ للحَجِّ، أهلُ مكَّةَ وغيرُ أهلِ مكَّة؛ ولهذا كان أهلُ مكَّةَ مع الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَجَّةِ الوداعِ، يجْمَعون ويَقْصُرون تبعًا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يقل: يا أهلَ مكَّة أتِمُّوا. وهذا القولُ هو القولُ الرَّاجِحُ). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (24/61، 62).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
حديثُ جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في صِفِّة حجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثمَّ أذَّنَ، ثم أقام فصلَّى الظُّهرَ، ثم أقام فصَلَّى العصرَ، ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا ... حتى أتى المُزْدَلِفةَ، فصلَّى بها المغربَ والعِشاءَ بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ، ولم يُسَبِّحْ بينهما شيئًا )) رواه مسلم (1218)
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجميعَ من معه جمعوا وقَصَروا، ولم يَثْبُتْ شيءٌ يدلُّ على أنَّهم أتَمُّوا صلاتَهم بعد سلامِه في مِنًى، ولا مُزْدَلِفةَ، ولا عَرَفةَ، وسائرُ الأمراء هكذا لا يُصَلُّون إلَّا ركعتينِ، فعُلِمَ أنَّ ذلك سُنَّةُ الموضِعِ قال ابنُ تيميَّة: (ثبتَ بالنَّقلِ الصَّحيحِ المتَّفَق عليه بين عُلَماءِ أهلِ الحديثِ؛ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حجَّةِ الوداعِ كان يقصُرُ الصَّلاةَ بعَرَفة ومُزْدَلِفة، وفي أيامِ مِنًى, وكذلك أبو بكرٍ وعُمَرُ بعده, وكان يصلِّي خَلْفَهم أهلُ مكَّة, ولم يأْمُروهم بإتمامِ الصَّلاةِ، ولا نَقَلَ أحدٌ لا بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيف أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأهلِ مكَّة- لَمَّا صلى بالمسلمينِ ببطْنِ عُرَنةَ الظُّهرَ ركعتينِ قصرًا وجمعًا، ثم العصرَ ركعتينِ- يا أهلَ مكَّة، أتِمُّوا صلاتَكم، ولا أمَرَهم بتأخيرِ صلاةِ العَصرِ، ولا نَقَلَ أحدٌ أنَّ أحدًا مِنَ الحجيجِ لا أهلَ مكَّة ولا غيرَهم صلَّى خلْفَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خلافَ ما صلَّى بجمهورِ المسلمينَ، أو نَقَلَ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو عُمَرَ قال في هذا اليوم: يا أهلَ مكَّة أتِمُّوا صلاتَكم؛ فإنَّا قَومٌ سَفْرٌ؛ فقد غَلِط؛ وإنَّما نُقِلَ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال هذا في جوف مكَّةَ لأهلِ مكَّةَ عامَ الفتحِ) ((مجموع الفتاوى)) (24/42)، ويُنْظَر: ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (10/14)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/171)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/440).
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّه لَمَّا قَدِمَ مكَّة صلَّى بهم ركعتينِ، ثم انصرفَ، فقال: يا أهلَ مكَّة، أتِمُّوا صلاتَكم؛ فإنَّا قومٌ سَفْرٌ )) رواه مالك في ((الموطأ)) (1/149)، وعبدالرزاق في ((المصنف)) (4369)، والبيهقي (5534) صحح إسناده النووي في ((المجموع)) (8/92) وصحَّحه ابن تيميَّة في ((مجموع الفتاوى)) (24/125)
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّه صلَّى بهم بعد ذلك بمِنًى ركعتينِ، ولم يُرْوَ عنه- رضي الله عنه- أنَّه قال لأهلِ مكَّةَ شيئًا قال ابنُ تيميَّة: (وقد ثبتَ أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ قاله لأهلِ مكَّة لَمَّا صلَّى في جوفِ مكَّة) ((مجموع الفتاوى)) (24/43)، ويُنْظَر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/439).
ثالثًا: أنَّه لو كان أهلُ مكَّةَ قاموا فأتمُّوا وصَلَّوْا أربعًا وفعلوا ذلك بعَرَفة ومُزْدَلِفةَ وبمِنًى أيامَ مِنًى- لكان ممَّا تتوفَّرُ الهِمَمُ والدواعي على نَقْلِه بالضرورةِ؛ بل لو أخَّرُوا صلاةَ العصرِ ثم قاموا دون سائرِ الحُجَّاجِ فصَلَّوْها قصرًا؛ لنُقِلَ ذلك، فكيف إذا أتمُّوا الظهرَ أربعًا دون سائرِ المُسلمينَ؟! وأيضًا فإنَّهم إذا أخذوا في إتمامِ الظُّهْرِ- والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد شَرَعَ في العَصْرِ- لكان إمَّا أن ينتظِرَهم فيُطيلَ القيامَ, وإمَّا أن يَفوتَهم معه بعضُ العَصْرِ بل أكثَرُها؛ فكيف إذا كانوا يُتِمُّونَ الصَّلواتِ؟ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (24/43).
رابعًا: أنَّ لهم الجَمْعَ، فكان لهم القَصْرُ كغَيْرِهم ((المغني)) لابن قُدامة (3/367).
خامسًا: أنَّ في تَكرارِ مشاعِرِ الحَجِّ ومناسِكِه مقدارَ المسافةِ التي فيها قَصْرُ الصَّلاةِ عند الجميعِ؛ فإنَّ عَمَلَ الحَجِّ إنَّما يتِمُّ في أكثَرَ مِن يومٍ وليلةٍ مع لزومِ الانتقالِ مِن محَلٍّ لآخَرَ، فلَفَّقَ بينها ما يحصُلُ به مسافةُ القَصْرِ سواءٌ كان التحديدُ بالمسافةِ أو بالزَّمَن ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/171).
سادسًا: أنَّها منازِلُ السَّفَرِ، وإن لم تكُنْ سَفَرًا تقصُرُ فيه الصَّلاة، بدليلِ أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَدِمَ مكَّةَ صبيحةَ رابعةٍ مِن ذي الحِجَّةِ، فأقام بمكَّةَ إلى يومِ التَّرْوِيةِ، وذلك أربعُ ليالٍ ثم خرج فقَصَرَ بمِنًى ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/173).
سابعًا: أنَّ كلَّ ما يُطْلَقُ عليه اسمُ السَّفَرِ لغةً تَقْصُرُ فيه الصَّلاةُ، أمَّا تحديدُ مسافةِ القَصْرِ فلم يثبُتْ فيه شيءٌ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/440).
ثامنًا: أنَّه لو كان سببُ الجمعِ والقَصْرِ النُّسُكَ؛ لكانوا إذا حَلُّوا التحلُّلَ الثَّانيَ لم يحِلَّ لهم أن يقْصُروا في مِنًى، ولو كان سبَبُه النُّسُكَ، لكانوا إذا أحرَموا في مكَّةَ بحَجٍّ أو عُمْرةٍ جازَ لهم الجمعُ والقَصْرُ ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (7/285).
المطلب الرابع: حُكْمُ الجَمْعِ والقَصْرِ لمَنْ صلَّى وحْدَه
مَنْ صَلَّى الظهرَ والعصرَ منفَرِدًا؛ يجوز له أن يجمَعَ ويقْصُرَ، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ قال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (قال الشافعيُّ وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وأحمد وإسحاق: جائزٌ أن يجمع بينهما مِنَ المسافرينَ مَن صلَّى مع الإمامِ، ومَن صلَّى وحده إذا كان مسافِرًا) ((الاستذكار)) (4/326) وقال ابنُ قُدامة: (المنفرِدُ يجمَعُ كما يجمَعُ مع الإمامِ؛ فَعَلَه ابنُ عمر، وبه قال عطاء، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وصاحِبَا أبي حنيفةَ). ((المغني)) (3/366). وقال النووي: (أجمعتِ الأمَّةُ على أنَّ للحاجِّ أن يجمع بين الظهرِ والعصرِ إذا صلَى مع الإمامِ، فلو فات بعضَهم الصَّلاةُ مع الإمامِ، جاز له أن يصلِّيَهما منفرِدًا جامعًا بينهما عندنا، وبه قال أحمدُ وجمهور العُلَماء. وقال أبو حنيفة: لا يجوزُ، ووافَقَنَا على أنَّ الإمامَ لو حضر ولم يحضُرْ معه للصلاةِ أحَدٌ جاز له الجمعُ، وعلى أنَّ المأمومَ لو فاته الصلاتانِ بالمُزْدَلِفةِ مع الإمامِ، جاز له أن يُصَلِّيَهما منفردًا جامعًا؛ فاحتجَّ أصحابُنا عليه بما وافق عليه، والله أعلم). ((المجموع)) (8/92). : المالِكيَّة ((الشرح الكبير)) للشيخ الدردير و((حاشية الدسوقي)) (2/44)، ويُنظر: ((الاستذكار)) لابن عَبْدِ البَرِّ (4/326). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/92). ، والحَنابِلة ((الإنصاف)) للمرداوي (4/ 22)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/366). ، وبه قال أبو يوسفَ، ومحمَّدُ بنُ الحَسَنِ: صاحِبَا أبي حنيفةَ ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/24)، ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/470). ، واختاره الطَّحاويُّ ((فتح الباري)) لابن حجر (3/513).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عن نافعٍ، قال: ((إنَّ ابنَ عُمَرَ كان إذا لم يُدْرِكِ الإمامَ يومَ عَرَفةَ جمعَ بينَ الظُّهْرِ والعَصْرِ في مَنْزِلِه )) أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم بعد حديث (1661)، وأخرجه موصولًا إبراهيم الحربي في ((المناسك)) كما في ((تغليق التعليق)) لابن حجر (3/84) واللفظ له.
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أن ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما هو أحدُ مَن روى حديثَ جَمْعِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين الصَّلاتينِ, وكان مع ذلك يجمَعُ وَحْدَه, فدلَّ على أنَّه عرَفَ أنَّ الجمعَ لا يختصُّ بالإمامِ ((فتح الباري)) لابن حجر (3/513).
ثانيًا: أنَّ الجمعَ بين الصَّلاتينِ يومَ عَرَفة إنَّما كان للحاجَةِ إلى امتدادِ الوُقوفِ؛ ليتفرَّغوا للدُّعاء؛ لأنَّه موقِفٌ يُقصَد إليه من أطرافِ الأرضِ، فشُرِعَ الجمعُ؛ لئَلَّا يشتغِلَ عن الدُّعاءِ، والمنفَرِدُ وغيرُه في هذه الحاجة سواءٌ، فيستويانِ في جوازِ الجمعِ ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (4/339)، ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/470، 471).
ثالثًا: أنَّ كلَّ جمعٍ جاز مع الإمامِ جاز منفرِدًا؛ فإنَّ الجماعةَ ليست شرطًا في الجَمْعِ ((المغني)) لابن قُدامة (3/366)،((كشاف القناع)) للبهوتي (2/492).
المطلب الخامس: صِفَةُ الأذانِ والإقامةِ للصَّلاتينِ
تكون الصَّلاةُ بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة ((الهداية شرح البداية)) للمرغيناني (1/143)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/152). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/92). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/491)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/365). ، ورُوِيَ عن مالكٍ وإن كان المشهورُ عنه أنَّه بأذانينِ وإقامتينِ. ((الاستذكار)) لابن عَبْدِ البَرِّ (4/326)، ((الشرح الكبير)) للشيخ الدردير و((حاشية الدسوقي)) (2/44). ، وهو قَوْلُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ قال ابنُ عبد البر: (وقال الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأبو عبيد والطبري: يجمَعُ بينهما بأذانٍ واحدٍ وإقامتينِ بإقامةٍ لكلِّ صلاةٍ، وقد رُوِيَ عن مالكٍ مثلُ ذلك). ((الاستذكار)) (4/326).
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
حديثُ جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّاهما بأذانٍ وإقامتينِ, وفيه: ((ثمَّ أذَّنَ، ثم أقامَ فصلَّى الظُّهرَ، ثم أقام فصَلَّى العصرَ )) رواه مسلم (1218)
مسألةٌ: هل يكونُ الأذانُ قبل الخُطبةِ أو بَعْدَها؟
السُّنَّةُ أن يكونَ الأذانُ بعد الخُطبةِ، وهو ظاهِرُ مذهَبِ الحَنابِلة ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/157، 158)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/492). ، وقولٌ للمالِكيَّة ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/336، 539)، ويُنْظَر: ((الاستذكار)) لابن عَبْدِ البَرِّ (4/325)، ((الشرح الكبير)) للشيخ الدردير مع ((حاشية الدسوقي)) (2/44). ، ورُوِيَ عن أبي يوسُفَ قال البابرتي: (قال بعض الشارحين: وهذا أصحُّ عندي، وإن كان على خلافِ ظاهِرِ الرِّوايةِ؛ لِمَا صحَّ من حديث جابر). ((العناية شرح الهداية)) (2/469). ، واختارَه الشَّوكانيُّ قال الشوكاني: (وهو أصحُّ، ويترجَّحُ بأمرٍ معقولٍ، هو أنَّ المؤذِّنَ قد أُمِرَ بالإنصاتِ للخُطبةِ، فكيف يؤذِّنُ ولا يستمِعُ الخُطبة). ((نيل الأوطار)) (5/ 74). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عثيمين معلِّقًا على حديثِ جابرٍ رضي الله عنه: (أمَرَه أن يؤذِّنَ بعد الخُطبةِ، ثم أقامَ فصلَّى الظهرَ، ثمَّ أقام فصلَّى العصر). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (24/486).
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما في حديثِه الطَّويلِ في صِفَةِ حجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فأتى بطْنَ الوادِي، فخطَبَ النَّاسَ.... ثم أذَّنَ، ثمَّ أقامَ فصَلَّى الظُّهرَ، ثمَّ أقام فصلَّى العصرَ، ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا )) رواه مسلم (1218).
المطلب السادس: حُكْمُ الجَهْرِ والإسرارِ بالقراءةِ في الظُّهْرِ والعَصْرِ
يُسَنُّ الإسرارُ بالقراءةِ في صلاتَيِ الظُّهْرِ والعَصْرِ بعرفاتٍ، حتى لو وافَقَ يومَ الجُمُعةِ.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما في حديثِه الطَّويلِ في صِفةِ حجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ثم أذَّنَ، ثمَّ أقامَ فصَلَّى الظُّهرَ، ثمَّ أقام فصلَّى العصرَ، ولم يُصَلِّ بينهما شيئًا )) رواه مسلم (1218).
وَجْهُ الدَّلالةِ
أنَّه نصَّ أنَّه صلَّى الظُّهْرَ، وصلاةُ الظُّهْرِ لا يُجهَر فيها بالقراءةِ، ويتأيَّدُ هذا بأنَّه لم يُنقَل عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجَهْرُ فيها، فظاهِرُ الحالِ الإسرارُ المجموع للنووي (8/87).
ثانيًا: مِنَ الإجماع
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنْذِر قال النووي: (يُسَنُّ الإسرارُ بالقراءة في صلاتَيِ الظهرِ والعصرِ بعرفاتٍ، ونقل ابنُ المُنْذِر إجماعَ العُلَماء عليه؛ قال [ابن المُنْذِر]: وممن حُفِظَ ذلك عنه: طاوس ومجاهد والزهري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو حنيفة)). ((المجموع)) (8/92). ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: ((أجمعَ العُلَماءُ أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما صلَّى بعَرَفة صلاةَ المسافِرِ لا صلاةَ جمُعةٍ، ولم يجهَرْ بالقراءةِ)). ((الاستذكار)) (4/325). ، وابنُ رُشْدٍ قال ابنُ رشد: ((أجمعوا أنَّ القراءةَ في هذه الصَّلاة سِرًّا)). ((بداية المجتهد)) (2/113).
المبحث السادس: الإكثار مِنَ الدُّعاءِ والذِّكْرِ والتَّلبيةِ يومَ عَرَفة
يُستحبُّ في يومِ عَرَفة الإكثارُ مِنَ الدُّعاء, والذِّكر, والتَّلبية قال النووي: (السنَّةُ أن يُكْثِرَ مِنَ الدُّعاءِ, والتَّهليلِ, والتَّلبيةِ, والاستغفارِ, والتضرُّعِ, وقراءةِ القرآنِ؛ فهذه وظيفةُ هذا اليوم, ولا يُقَصِّر في ذلك، وهو معظَمُ الحجِّ ومطلوبُه. وفي الحديثِ الصحيحِ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (الحجُّ عَرَفةُ) فينبغي ألَّا يُقَصِّرَ في الاهتمامِ بذلك، واستفراغِ الوُسْعِ فيه). ((المجموع)) (8/113) ، وذلك باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية ((البناية)) للعيني (4/223)، ويُنظر: ((الجوهرة النيرة على مختصر القدوري)) لأبي بكر بن علي الزبيدي (1/157). ، والمالكية ((التاج والإكليل)) للمواق (3/118)، ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/331)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/809،810). ، والشافعية ((المجموع)) للنووي (8/113)، ويُنظر: ((النجم الوهاج)) لمحمد بن موسى الدميري (3/509). ، والحنابلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/579)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (2/413).
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما في حديثِه الطَّويلِ في صِفَةِ حَجَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فجَعَلَ بطْنَ ناقَتِه القَصْواءِ إلى الصَّخَراتِ، وجعَلَ حَبْلَ المُشاةِ بين يديه، واستقبَلَ القِبلةَ، فلم يَزَلْ واقفًا حتى غَرَبَتِ الشَّمسُ )) رواه مسلم (1218)
المبحث السابع: الدَّفْعُ إلى مزدَلِفةَ بعد غروبِ الشَّمسِ، وعليه السَّكينةُ والوَقَارُ
يُسَنُّ أن يَدْفَعَ الحاجُّ بعدَ غُروبِ الشَّمسِ إلى مُزْدَلِفةَ وعليه السَّكينةُ والوَقارُ، فإذا وجد فجوةً أسرعَ ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/437). ، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية ((حاشية ابن عابدين)) (2/508)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/154). ، والمالكية ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البر (1/ 373)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/261)، ((الجامع لمسائل المدونة)) (5/529). ، والشافعية ((المجموع)) للنووي (8/133)، ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/174). ، والحنابلة ((الإقناع)) للحجاوي (1/ 388)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/373)، ((عمدة الفقه)) لابن قُدامة (ص: 49).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في حديثه: ((فلم يَزَلْ واقفًا حتى غربتِ الشَّمسُ وذَهبتِ الصُّفْرةُ قليلًا حتى غاب القُرْصُ, فأردَفَ أسامةَ خَلْفَه, ودفع رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد شَنَقَ للقَصْواءِ بالزِّمامِ، حتى إنَّ رَأْسَها لَيُصِيبُ مَورِكَ رَحْلِه، ويقول بيده اليُمْنى: أيُّها النَّاسُ، السَّكينةَ السَّكينةَ )) رواه مسلم (1218). وقال أسامةُ رَضِيَ اللهُ عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان يسيرُ العَنَقَ، فإذا وَجَدَ فَجوةً نَصَّ قال هشامٌ: والنَّصُّ فوقَ العَنَقِ )) رواه البخاري (1666) واللفظ له، ومسلم (3166).
ثانيًا: أنَّ هذا مشيٌ إلى الصَّلاةِ؛ لأنَّهم يأتونَ مُزْدَلِفةَ ليُصَلُّوا بها المغربَ والعِشاءَ، وقد قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أُقيمَتِ الصَّلاةُ فلا تأتُوها تَسْعَونَ، وأْتُوها تَمْشُونَ وعليكم السَّكينةُ )) رواه البخاري (908)، ومسلم (602) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
المبحث الثامن: أن يدفَعَ مُلَبِّيًا ذاكرًا لله عزَّ وجلَّ
يُستحَبُّ للحاجِّ أن يدفَعَ مِن عَرَفةَ مُلَبِّيًا ذاكرًا للهِ تعالى، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/366)، ويُنظر: ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 162). ، والمالكية ((الذخيرة)) للقرافي (3/261)، ((الجامع لمسائل المدونة)) (5/529، 530). المالكية لم يذكروا التلبية لأن المشهور من مذهبهم: تقطع التلبية إذا زالت شمس يوم عرفة. ((المدونة)) لسحنون (1/397)، ((المعونة على مذهب عالم المدينة)) (ص: 524) ((الدر الثمين والمورد المعين)) (ص: 518). ، والشافعية ((المجموع)) للنووي (8/132)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/108). ، والحنابلة ((الإقناع)) للحجاوي (1/ 388)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/373)، ((عمدة الفقه)) لابن قُدامة (ص: 49).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
قولُ الله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة: 198]
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن الفَضْلِ بن العبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أردف الفضل، فأخبر الفضل أنه لم يزَلْ يُلَبِّي حتى رمى الجَمْرةَ )) رواه البخاري (1685) واللفظ له، ومسلم (1281).
ثالثًا: أنَّ ذِكرَ اللهِ مستحَبٌّ في كلِّ الأوقاتِ، وهو في هذا الوقتِ أشدُّ تأكيدًا ((العدة شرح العمدة)) لبهاء الدين المقدسي (ص: 210).
رابعًا: أنَّه زَمَنُ الاستشعارِ بطاعةِ الله تعالى, والتلبُّسِ بعبادَتِه, والسَّعيِ إلى شعائِرِه، فناسَبَ أن يكون مقرونًا بذِكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ ((العدة شرح العمدة)) لبهاء الدين المقدسي (ص: 211).

انظر أيضا: