الموسوعة الفقهية

المبحث الخامس: تغطيةُ الرَّأسِ للذَّكَرِ


المَطْلَب الأوَّل: حُكْمُ تغطيةِ الرَّأسِ للذَّكَر
تغطيةُ الرَّأسِ للذَّكَر مِن محظوراتِ الإحرامِ، سواءٌ تغطِيَتُه بالطَّاقيَّة، أو الغُتْرَة، أو العِمامةِ، وما أشبهَ ذلك.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما بينا رجُلٌ واقف مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته - أو قال: فأوقصته - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيبا، ولا تخمروا رأسه، ولا تحنطوه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا )) رواه البخاري (1850) واللفظ له، ومسلم (1206).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه علَّل مَنْعَ تخميرِ رأسْهِ ببقائِه على إحرامِه، فعُلِمَ أنَّ المُحْرِم ممنوعٌ منه؛ فإنَّ المُحْرِمَّ الحيَّ أَوْلى مِنَ المُحْرِم الميِّتِ ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/268)، ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (24/275).
2- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ رجُلًا قال: يا رَسولَ اللهِ، ما يلبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيابِ؟ قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: لا تَلْبَسوا القُمُصَ، ولا العمائِمَ، ولا السَّراويلاتِ، ولا البَرانِسَ، ولا الخِفافَ... )) رواه البخاري (5803) واللفظ له، ومسلم (1177).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ ذِكْرَ العِمامةِ بعد ذِكْر البَرانِسَ دليلٌ على أنَّه لا يجوزُ تغطيةُ الرَّأسِ لا بِمُعتادِ اللِّباسِ، ولا بنادِرِه ((شرح السنة)) للبغوي (7/240).
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنْذِر قال ابنُ المُنْذِر: (أجمعوا على أنَّ المُحْرِم ممنوعٌ من تخمير رأسه) ((الإجماع)) (ص: 53)، ويُنْظَر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/268). ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (أجمعوا أن إحرام الرجل في رأسه، وأنَّه ليس له أن يغطي رأسه بنهي رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم عن لُبْسِ البرانس والعمائم) ((الاستذكار)) (4/14، 4/16). ، وابنُ رُشْدٍ قال ابنُ رشد: (اختلفوا في تخمير المُحْرِم وجهَه بعد إجماعِهم على أنَّه لا يُخَمِّرُ رأسَه) ((بداية المجتهد)) (1/327). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القيم: (المُحْرِم ممنوعٌ من تغطية رأسِه، والمراتب فيه ثلاث: ممنوعٌ منه بالاتفاق، وجائزٌ بالاتفاق، ومختلَفٌ فيه، فالأوَّلُ كلُّ متَّصِلٍ ملامِس يراد لسَتْرِ الرَّأس كالعمامة والقبَّعة والطاقيَّة والخَوذة وغيرها) ((زاد المعاد)) (2/225).
المَطْلَب الثَّاني: سَتْر الرَّأسِ بما يُحْمَل عليه
إذا حَمَلَ المُحْرِمُ على رأسِه شيئًا فسَتَرَ رأسَه؛ فإنَّه لا يلزَمُه شيءٌ [1125] يجوز للمُحْرِم أن يلَبِّدَ شَعْرَ رأسِه ولا يُعَدُّ ذلك مِن سَتْر الرَّأس المحظور، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: رأيتُ رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يُهِلُّ ملبِّدًا. رواه البخاري (1540)، ومسلم (1184). والتلبيد: ضَفْرُ الرَّأس بالصَّمْغِ أو الخَطْمي وشِبْههما، مِمَّا يَضُمُّ الشَّعْرَ ويَلْزَق بعضَه ببعضٍ، بما يُسَكِّنه ويمنَعُه من الانتفاشِ والتمعُّط. ((لسان العرب)) لابن منظور (3/385). ، إذا لم يقْصِدْ به التغطِيةَ، باتِّفاقِ المذاهِبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ: الحنفيَّة [1126] ((المبسوط)) للسرخسي (4/231). ، والمالكيَّة [1127] استثنى المالكيَّةُ ما لو حمَله لغيرِه، فإنَّ فيه الفِديةَ، سواء حمله بأجْرٍ أو بغير أجْر. ((حاشية الدسوقي)) (2/ 57)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/308). ، والشَّافِعِيَّة [1128] ((روضة الطالبين)) للنووي (3/125). ، والحَنابِلَة [1129] ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (2/ 327)،  ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/27).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّه لا يُقصَد به السَّترُ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/124).
ثانيًا: أنَّه لا يُسْتَرُ بمثلِه عادةً ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/124).
المَطْلَب الثَّالِث: الاستظلالُ وأنواعُه
الفرع الأوَّل: الاستظلالُ بمُنْفَصِلٍ غيرِ تابعٍ
يجوز أن يَستَظِلَّ بمنفصِلٍ عنه (ثابت)، غيرِ تابعٍ، كالاستظلالِ بخَيمةٍ، أو شَجَرةٍ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة:
عن جابرٍ رَضِيَ الله عنه: ((لَمَّا كان يومُ التَّرويةِ تَوجَّهوا إلى مِنًى، فأهَلُّوا بالحَجِّ، وركِبَ رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فصلى بها الظُّهرَ والعَصرَ والمغرِبَ والعِشاءَ والفَجرَ، ثم مكثَ قليلًا حتى طلَعَت الشَّمسُ، وأمر بقُبَّةٍ مِن شَعرٍ تُضرَبُ له بنَمِرةَ، فسار رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا تَشُكُّ قُريشٌ إلَّا أنَّه واقِفٌ عند المشعَرِ الحرامِ، كما كانت قريشٌ تَصنعُ في الجاهليَّةِ، فأجاز رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم حتى أتى عَرَفةَ، فوجد القُبَّةَ قد ضُرِبَت له بنَمِرةَ، فنزَلَ بها. حتى إذا زاغَتِ الشَّمسُ أمَرَ بالقَصواءِ، فرُحِلَت له )) أخرجه مسلم (1218).
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك :ابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (وأجمعوا أنَّ للمُحْرِم أن يدخُلَ الخِباءَ والفُسطاط وإن نزل تحت شجرةٍ أن يرميَ عليها ثوبًا) ((التمهيد)) (15/111). ، وابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (ولا بأس أن يستظِلَّ بالسقف والحائط والشجرة والخِباء، وإن نزل تحت شجرةٍ، فلا بأس أن يطرَحَ عليها ثوبًا يستظِلُّ به، عند جميع أَهْل العِلْم) ((المغني)) (3/287). ، والنَّوَوِيُّ قال النووي: (وأجمعوا على أنَّه لو قعد تحت خيمةٍ أو سقفٍ جازَ) ((المجموع)) (7/267).
الفرع الثَّاني: الاستظلالُ بمنفصِلٍ تابعٍ له
يجوز أن يستظلَّ بتابعٍ له منفصِلٍ، كالشَّمسيَّة والسَّيارة، ومحمَلِ البَعيرِ، وما أشبهه، وهو مَذْهَبُ الحنفيَّة [1136] ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/349). ، والشَّافِعِيَّة [1137] ((المجموع)) للنووي (7/267)، ، وروايةٌ عن أحمَدَ [1138] ((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/244). ، وبه قالت طائفةٌ من السَّلفِ [1139] ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (15/111). ، واختارَه ابنُ المُنْذِر [1140])) الإشراف)) لابن المُنْذِر (3/222) ، وابنُ القيِّم [1141] ((((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/257) ، والشَّوْكانيُّ [1142] ((نيل الأوطار)) للشوكاني (5/8).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة:
عن أم الحصين رضي الله عنها قالت: ((حَججتُ مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم حَجَّةَ الوَداعِ، فرأيتُ أُسامةَ وبلالًا، وأحدُهما آخِذٌ بخِطامِ ناقةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، والآخَرُ رافعٌ ثوبَه يستُرُه من الحرِّ، حتَّى رمَى جمرَةَ العَقبةِ )) [1143] رواه مسلم (1298).
ثانيًا: قياسًا على الاستظلالِ بالحائِطِ؛ إذ لا يُقصَدُ بذلك الاستدامةُ، فلم يكن به بأسٌ [1144] ((المغني((لابن قُدامة (3/288).
ثالثًا:استصحابًا للأصل؛ فما يحلُّ للحلالِ يَحِلُّ للمُحْرِم، إلَّا ما قام على تحريمِه دليلٌ [1145] ((المغني((لابن قُدامة (3/287).
المَطْلَب الثَّاني: الفِدْيةُ في تغطيةِ الرَّأسِ
تجب في تغطيةِ الرَّأسِ الفِدْيةُ بذبحِ شاةٍ، أو صيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ، أو إطعامِ ستَّة مساكينَ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة مِنَ الحَنَفيَّة ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 485) ، والمالِكِيَّة ((شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني)) (2/ 513)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/307). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/252). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/326)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/424). ؛ وذلك قياسًا على الفِدْيةِ في حلْقِ الرَّأس، بجامِعِ أنَّه استمتاعٌ مَحْضٌ، وترفُّهٌ باستعمالِ محظورٍ ((المجموع)) للنووي (7/249).
المَطْلَب الثَّالِث: مقدارُ تغطية الرَّأسِ الذي تجبُ فيه الفِدْيةُ
لا يُشتَرَط لوجوبِ الفِدْيةِ سَتْرُ جميعِ الرَّأس، وهو مَذْهَبُ الجُمْهورِ مِنَ المالِكِيَّة ((شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني)) (2/ 513)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/307). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/253). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/326)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/424).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: عمومُ الأدلَّة في الفِدْية، التي لم تُفَرِّقْ بين القليلِ والكثيرِ، ولا بين سَتْرِ جميعِ الرَّأس أو بعضِه ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) لللعمراني (4/ 212).
ثانيًا: أنَّه معنًى حصل به الاستمتاعُ بالمحظورِ، فاعتُبِرَ بمجرَّدِ الفِعْلِ؛كالوَطْء ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/ 344).
ثالثًا: أنَّ الانتفاعَ بتغطيةِ الرَّأس يحصُلُ في البعضِ، فتجب الفِدْيةُ بذلك ((الذخيرة)) للقرافي (3/ 307).
رابعًا: القياسُ على عدم اشتراطِ حَلْقِ جَميعِ شَعْرِ الرَّأسِ لوجوب الفِدْية ((الذخيرة)) للقرافي (3/307، 311)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/344).
المَطْلَب الرَّابِع: حُكْمُ تغطيةِ الوَجْهِ للمُحْرِمِ
تغطيةُ الوجهِ للمُحْرِم مباحٌ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة ((شرح السنة)) للبغوي (7/240)، ((المجموع)) للنووي (7/250، 268). والحَنابِلَة ((الفروع)) لابن مفلح (5/ 417)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/271)، ((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/244). ، وبه قال طائفة مِنَ السَّلَفِ قال ابنُ القيم: (وبإباحَتِه قال ستَّةٌ من الصَّحابة: عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وجابر رَضِيَ اللهُ عنهم) ((زاد المعاد)) (2/244). وينظر ((الإشراف)) لابن المُنْذِر (3/225)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/328). , وابنُ حَزْم قال ابنُ حزم: (لا بأس أن يغطِّيَ الرجلُ وَجْهَه بما هو ملتحِفٌ به أو بغيرِ ذلك، ولا كراهةَ في ذلك) ((المحلى)) (7/91). ، واختارَه ابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (القولُ الرَّاجِحُ جوازُ تغطيَتِه وجهَه؛ لأنَّ لفظةَ: (ولا وَجْهَه) في قصَّة الذي مات مختلَفٌ في صحَّتِها، وفيها نوعُ اضطراب، ولذلك أعرض الفقهاءُ عنها، وقالوا: إنَّ تغطية المُحْرِم وجْهَه لا بأس به، ويحتاجُه المُحْرِم كثيرًا، فقد ينام مثلًا ويضَعُ على وجهه منديلًا أو نحوه عن الذُّباب، أو عن العَرَق، أو ما أشبه ذلك) ((الشرح الممتع)) (7/165).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((ولا تُخَمِّروا رأسَه؛ فإنَّ اللهَ يبعَثُه يومَ القيامة مُلَبِّيًا )) رواه البخاري (1266)، ومسلم (1206).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النَّصَّ خَصَّ الرَّأسَ بالنهيِ عن التغطيةِ، فمفهومُه يقتضي جوازَ تغطيةِ غيرِه ((المجموع)) للنووي (7/250)، ((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/244).
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
1- عن عبدِ الرحمن بن القاسم، عن أبيه: ((أنَّ عُثمانَ بنَ عفَّانَ وزيدَ بنَ ثابتٍ ومَرْوانَ بنِ الحَكَمِ كانوا يُخَمِّرونَ وُجوهَهم وهُم حُرُمٌ)) رواه الشافعي في ((الأم)) (7/241)، والبيهقي (8870). وصَحَّح إسناده النووي في ((المجموع)) (7/268).
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عامرِ بنِ ربيعةَ قال: ((رأيتُ عُثمانَ بالعَرْجِ العَرْج: قريةٌ جامعةٌ مِن عَمَل الفُرُع قريبةٌ من الأبواءِ؛ على نحو ثمانيةٍ وسبعين مِيلًا من المدينة. ((شرح النووي على مسلم)) (15/15)، ((أحكام القرآن)) (4/56). وهو مُحْرِمٌ في يومٍ صائفٍ، قد غطَّى وجْهَه بقطيفةِ أُرْجُوانٍ الأُرْجُوان: الشديدُ الحُمْرة. ((لسان العرب)) لابن منظور (12/60). )) رواه مالك في ((الموطأ)) (1/354)، والشافعي في ((الأم)) (8/674)، والبيهقي (9353). صَحَّح إسنادَه النوويُّ في ((المجموع)) (7/268)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/398).
ولا يعرف لهؤلاء الصَّحابَة مخالف منهم قال شمس الدين ابن قُدامة: (لا نعرف لهم مخالفًا في عَصْرِهم، فكان إجماعًا) ((الشرح الكبير)) (3/271).
ثالثا: أنَّ الأصل هو الإباحة ((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/244).

انظر أيضا: