الموسوعة الفقهية

المبحث الرَّابِع: الإحرامُ عَقِبَ صلاةٍ، وهل له صلاةٌ تَخُصُّه؟


المَطْلَب الأوَّل: الإحرامُ عَقِبَ صلاةٍ
يُستَحَبُّ الإحرامُ بعد صلاةٍ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (واستحبَّ الجميعُ أن يكون ابتداءُ المُحْرِم بالتَّلبية بإِثْرِ صلاةٍ يُصَلِّيها نافلةً أو فريضةً من ميقاتِه) ((التمهيد)) (15/132). وقال ابنُ رشد: (واستحبَّ الجميعُ أن يكون ابتداءُ المُحْرِم بالتَّلبية بإثْرِ صلاةٍ يُصَلِّيها نافلةً أو فريضةً من ميقاتِه إذا كانت صلاة لا يُتَنَفَّل بعدها) ((بداية المجتهد)) (1/338). ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَة، الحَنَفيَّة ((الهداية شرح البداية)) للمرغيناني (1/137)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/346)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/144). ، والمالِكِيَّة ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/364)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/147). ، والشَّافِعِيَّة ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/272) ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (2/315)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/480). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/307)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/407).
الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((صلى رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم الظُّهْرَ بذي الحُلَيفَةِ، ثم دعا بناقَتِه فأشْعَرَها في صَفحةِ سَنامِها الأيمَنِ، وسَلَتَ الدَّمَ، وقَلَّدَها نَعلَينِ، ثم رَكِبَ راحِلَتَه، فلمَّا استوَتْ به على البَيداءِ أَهَلَّ بالحَجِّ )) رواه مسلم (1243).
2- عن نافعٍ قال: ((كان ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما إذا أراد الخروجَ إلى مَكَّةَ ادَّهَنَ بدُهْنٍ، ليس له رائحةٌ طَيِّبةٌ، ثم يأتي مسجِدَ الحُلَيفَة، فيصلِّي ثم يركَبُ، وإذا استوَتْ به راحِلَتُه قائمةً أحرَمَ، ثم قال: هكذا رأيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يفعَلُ )) رواه البخاري (1541)، ومسلم (1184) واللفظ له.
3- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، كان يقول: كان رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يركَعُ بذي الحُلَيفة ركعتينِ، ثم إذا استوَتْ به النَّاقَةُ قائمةً عند مسجِدِ ذي الحُلَيفَة، أهَلَّ بهؤلاءِ الكلماتِ رواه مسلم (1184).
المَطْلَب الثَّاني: هل للإحرامِ صَلاةٌ تخصُّه
ليس للإحرامِ صلاةٌ تَخُصُّه، وهو قولُ بعضِ الشَّافِعِيَّة ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/272) وذهب إلى ذلك السبكي وتبعه الزركشي: أنَّه لم يثبُتْ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم صلَّى للإحرامِ صلاةً خاصة، وأنَّ الذي ثبت ودلَّ عليه كلام الشافعي وقوعُ الإحرامِ إِثْرَ صلاة. يُنْظَر: ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (2/315). وروايةٌ عن أحمَدَ ((الإنصاف)) للمرداوي (3/307). ، واختارَه ابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (يُسْتَحَبُّ أن يُحْرِمَ عقيب صلاةٍ: إمَّا فرض وإمَّا تطوُّع إن كان وقتَ تطوُّع؛ في أحد القولين، وفي الآخَرِ: إن كان يصلِّي فرضًا أحرَمَ عقيبَه، وإلَّا فليس للإحرامِ صلاةٌ تخصُّه، وهذا أرجح) ((مجموع الفتاوى)) (26/108-109). قال المرداوي: (واختار الشيخ تقي الدين أنَّه يُستحَبُّ أن يُحْرِمَ عقيبَ فَرْضٍ إن كان وقْتَه، وإلا فليس للإحرامِ صلاة تخصه) ((الإنصاف)) (3/307). ، وابنُ القَيِّم قال ابنُ القيم: (ولم يُنقلْ عنه أنَّه صلى للإحرامِ ركعتين، غيرَ فَرْضِ الظُّهر). ((زاد المعاد)) (2/107) والألبانيُّ قال الألباني: (وليس للإحرام صلاةٌ تخصُّه، لكن إن أدركته الصلاةُ قبل إحرامه فصلَّى ثم أحرم عَقِبَ صلاته، كان له أسوةٌ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم؛ حيث أحرم بعد صلاة الظُّهْرِ) ((مناسك الحَجِّ والعُمْرَة)) (ص15). وابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (وقال بعض أَهْل العِلْم: إنَّه ليس للإحرام صلاةٌ خاصَّة، وإنما يُحْرِم الإنسان بمجرَّد أن ينتهي من الاغتسالِ والتطيُّب ولِباسِ ثيابِ الإحرامِ بدون صلاة، إلَّا إذا كان وقت صلاةٍ مشروعةٍ، مثل: أن يكون في الضحى فيُصَلِّي صلاة الضحى ويُحْرِم عقبها، أو يريد أن يصلِّي ركعتين سنة الوضوء فيُحْرِم عَقِبَها، وهذا هو الصوابُ؛ إذا كان من عادته أن يفعله- يعني: من عادته أن يصلِّي صلاة الضحى، ومن عادَتِه أن يصلِّي إذا توضأ- أمَّا إذا صلَّى وليس من عادَتِه ذلك، فمعروف أنَّه إنَّما أراد الصَّلاةَ في الإحرام) ((لقاء الباب المفتوح)) (اللقاء: 177). ؛ وذلك لأنَّه لم يَرِدْ عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم صلاةٌ خاصَّةٌ بالإحرامِ، وأنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم إنَّما أحرَمَ عَقِبَ الفريضةِ ((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/101), ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/69).
المَطْلَب الثَّالِث: متى يكونُ الإحرامُ؟
يُستحَبُّ أن يُحْرِمَ إذا استَوَتْ به راحِلَتُه قال النوويُّ: (قولُه في هذا الباب عن ابنِ عُمَرَ، قال: ((فإنِّي لم أرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حتى تنبعِثَ به راحِلَتُه ))، وقال في الحديث السابق: ((ثم إذا استوت به النَّاقة قائمةً عند مسجد ذي الحُلَيفة أهَلَّ))، وفي الحديث الذي قبلَه: ((كان إذا استوَتْ به راحلَتُه قائمةً عند مسجدِ ذي الحُلَيفةِ أهَلَّ))، وفي رواية:((حين قام به بعيرُه))، وفي رواية: ((يُهِلُّ حين تستوي به راحلتُه قائمةً))، هذه الروايات كلُّها متَّفقة في المعنى، وانبعاثُها هو استواؤُها قائمةً، وفيها دليلٌ لمالك والشافعي والجمهور: أنَّ الأفضل أن يُحْرِمَ إذا انبعثت به راحِلَتُه) ((شرح النووي على مسلم)) (8/93-94)، ((المجموع)) (7/216). ، وهذا مَذْهَبُ المالِكِيَّة ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/522)، ((التاج والإكليل)) للمواق (3/106). ("قوله: بإِثْر صلاة" ليس على ظاهِرِه من إحرامِه بعد السَّلام بل حتى يستوي على راحلته إن كان له راحلةٌ يَرْكَبها، أو حتى يُسْرع في مشيه حالَ كونه يقول، وهذا على جهة الأولويَّة؛ إذ لو أحرم الراكبُ قبل أن يستويَ وأحرم الماشي قبل مَشْيِه كفاه ذلك. "قوله: يقول لبيك إلخ" أي في حالِ كونه قائلًا؛ أي: على جِهَة السُّنِّيَّة، وملخَّصُه أنَّ التلبِيَة في نفسها واجبةٌ ويُسَنُّ مقارَنَتُها للإحرام) ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) ، والأصَحُّ عند الشَّافِعِيَّة قال النووي: (هل الأفضل أن يُحْرِم عقب صلاةِ الإحرامِ وهو جالسٌ، أم إذا انبعثت به راحلَتُه متوجهةً إلى مَقْصِده حين ابتداء السَّيْر؟ فيه قولان، وهما مشهوران ذكرهما المصنِّفُ بدليلهما: (القديم) عَقِبَ الصلاة (والأَصَحُّ) نَصه في الأم أنَّ الأفضَلَ حين تنبعِثُ به دابَّتُه إلى جهة مَكَّة إن كان راكبًا أو حين يتوجَّه إلى الطريق إن كان ماشيًا) ((المجموع)) (7/221)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/481) ، وهو اختيارُ ابنِ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (والمذهَبُ على ما حكينا، وأنَّ المستحبَّ: أن يُحرِمَ دُبُرَ الصلاة، ومعنى قولنا: إذا استوى على راحِلَتِه: أنَّها الحال التي يريد أن يأخُذَ في المَسِير. وقد نقل عبد الله عن أبيه: أنَّه يلبَسُ ثوبين ثم يُقَلِّدُ بَدَنَتَه ثم يُشْعِرُ ثم يُحْرِمُ، هكذا الأمر، هكذا يروى عن النبيِّ- صلَّى الله عليه وسَلَّم-. وعلى هذا: يستحَبُّ الإحرام إذا ركب وأرادَ الأخْذَ في السير؛ لأنَّ تقليدَ الهَدْيِ وإشعارَه بعد الصَّلاة، وقد جَعل الإحرامَ بعده) ((شرح عمدة الفقه)) (2/421). وقال: (فهذه نصوصٌ صحيحة أنَّه إنَّما أهلَّ حين استوَتْ به راحِلَتُه واستوى عليها، ورواتُها مثل ابن عمر وجابر وأنس وابن عباس في رواية صحيحة...) ((شرح عمدة الفقه)) (2/425). ، والشِّنْقيطيِّ قال الشِّنْقيطيُّ: (أظهر أقوالِ أَهْل العِلْم فيه: أنَّه أوَّلُ الوقت الذي يرَكْبَ فيه مركوبَه عند إرادةِ ابتداء السَّيْر، لصِحَّة الأحاديث الواردة بأنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم أهلَّ حين استوت به راحلته) ((أضواء البيان)) (5/4). ، وابنِ باز قال ابنُ باز: (والأفضلُ أن يكون التلفُّظُ بذلك بعد استوائِه على مركوبه من دابَّة أو سيارة أو غيرهما؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم إنما أهلَّ بعد ما استوى على راحلته، وانبعثت به من الميقاتِ للسَّيْر، هذا هو الأصَحُّ من أقوال أَهْل العِلْم) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/41). ، وابنِ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (الأقرب أنَّه يلبِّي إذا ركب السيارة) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (22/99). وقال: (نحن جرَّبْنا فائدةَ كَوْنِه لا يلَبِّي إلَّا إذا ركب؛ لأنَّه أحيانًا يتذكَّرُ الإنسانُ شيئًا كطِيبٍ أو شِبْهِه، فإذا قلنا: أحْرِمْ بعد الصلاةِ لم يتمكَّنْ من استعمالِ الطِّيبِ بعد الإحرامِ، لكِنْ إذا قلنا: لا تُلَبِّ ولا تُحْرِمْ إلا بعد الرُّكوبِ، حصل في ذلك فُسحَةٌ، إلَّا إذا صَحَّ حديثُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، فإنَّه يبدأُ بالتَّلبِيَة عَقِبَ الصَّلاةِ) ((الشرح الممتع)) (7/103). وقال أيضًا: (لكنَّ الأحسَنَ والأرفَقَ بالنَّاسِ ألَّا يلبي حتى يستوِيَ على ناقَتِه؛ لأنَّه قد يحتاجُ إلى شيءٍ؛ فقد يكون نَسِيَ أن يتطيَّبَ مثلًا، وقد يتأخَّر في الميقاتِ بعد أن يصلِّي الرَّكعتين، ركعتَي الوضوء، أو الصَّلاة المفروضة مثلًا، فالأرفَقُ به أن تكون تلبيَتُه إذا استوى على ناقَتِه، وإن لبَّى قبل ذلك فلا حَرَج) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (24/509).
الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((صلَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالمدينةِ أربعًا، وبذي الحُلَيفة ركعتينِ، ثم بات حتى أصبَحَ بذي الحُلَيفة، فلمَّا رَكِبَ راحِلَتَه واستَوَتْ به أهَلَّ )) رواه البخاري (1546) واللفظ له، ومسلم (690).
2- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم يركَعُ بذي الحُلَيفة ركعتينِ، ثم إذا استَوَت به النَّاقةُ قائمةً عند مسجِدِ ذي الحُلَيفةِ، أهَلَّ بهؤلاءِ الكَلِماتِ رواه البخاري (1541)، ومسلم (1184) واللفظ له.
3- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم ركِبَ راحِلَتَه بذي الحُلَيفة، ثم يُهِلُّ حين تستوي به قائمةً )) رواه البخاري (1514)، ومسلم (1187) واللفظ له.
4- عن سالِمِ بنِ عبدِ اللهِ أنَّه سَمِعَ أباه، يقول: ((ما أهلَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم إلَّا مِن عِنْدِ الشَّجرةِ حين قامَ به بعيرُه )) رواه مسلم (1186).
5- عن نافعٍ قال: ((كان ابنُ عمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما إذا أراد الخروجَ إلى مَكَّةَ ادَّهَنَ بدُهْنٍ، ليس له رائحةٌ طَيِّبةٌ، ثم يأتي مسجِدَ الحُلَيفةِ، فيُصَلِّي ثم يركَبُ، وإذا استوت به راحِلَتُه قائمةً أحرَمَ، ثم قال: هكذا رأيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم يفعَلُ )) رواه البخاري (1554) واللفظ له، ومسلم (1187).
6- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((وأمَّا الإهلالُ فإنِّي لم أرَ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم يُهِلُّ حتى تنبعِثَ به راحِلَتُه )) رواه البخاري (166)، ومسلم (1187).
المَطْلَب الرَّابِع: التلفُّظُ بالنُّسُكِ عَقِبَ الإحرامِ
يُسْتَحَبُّ أن ينطِقَ بما أحرَمَ به مِن حَجٍّ أو عُمْرَةٍ قال ابنُ عُثيمين: (واعلم أنَّ النيَّةَ محلُّها القلْبُ؛ ولهذا قال الرسولُ صلَّى الله عليه وسَلَّم: «إنَّما الأعمالُ بالنيَّاتِ، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى»، فليست من أعمالِ الجوارح؛ ولهذا نقول: إنَّ التلفُّظَ بها بدعةٌ، فلا يُسَنُّ للإنسانِ إذا أراد عبادةً أن يقول: اللهُمَّ إنِّي نويت كذا؛ أو أردْتُ كذا، لا جهرًا ولا سرًّا؛ لأنَّ هذا لم يُنقَلْ عن رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، ولأنَّ الله تعالى يعلم ما في القلوبِ، فلا حاجة أن تَنْطِقَ بلسانك ليَعْلَمَ ما في قلبك، فهذا ليس بذِكْرٍ حتى يُنطَقَ فيه باللِّسان، وإنما هي نيَّةٌ، محلُّها القلبُ، ولا فَرْقَ في هذا بين الحَجِّ وغيره؛ حتى الحَجُّ لا يُسَنُّ للإنسانِ أن يقول: اللَّهُمَّ إنِّي نويْتُ العُمْرَةَ؛ أو نَوَيْتُ الحَجَّ، لأنَّه لم يُنقَلْ عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، ولكن يلبِّي بما نوى، والتَّلبيةُ غيرُ الإخبارِ بالنيَّةِ؛ لأنَّ التلبِيَة تتضمَّنُ الإجابةَ لله، فهي بنَفْسِها ذِكْرٌ ليست إخبارًا عمَّا في القلب، ولهذا يقول القائِلُ: لبَّيْك عُمْرَةً أو لبَّيْكَ حجًّا) ((الشرح الممتع)) (2/291). وقالت اللَّجْنَة الدَّائِمَة: (الإحرامُ هو نيَّةُ الدُّخولِ في النُّسُك، والتلفُّظُ بالنُّسُك عند ذلك والتَّلْبِيَة ليسا بلازِمَينِ، بل هما سنَّة) ((فتاوى اللَّجْنَة الدَّائِمَة- المجموعة الثَّانية)) (10/130). وهو مَذْهَبُ الحَنَفيَّةِ ((حاشية ابن عابدين)) (2/483)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/346)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/144). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/408)، ويُنظر: ((شرح عمدة الفقه)) لابن تيميَّة (2/436). ، واختارَه ابنُ تيميَّة وقال ابنُ تيميَّة: (في الحَجِّ إنما كان يستفتِحُ الإحرامَ بالتَّلبِيَة، وشَرَعَ للمسلمينَ أن يُلَبُّوا في أوَّلِ الحَجِّ، «وقال صلَّى الله عليه وسَلَّم لضباعة بنت الزبيرِ: حُجِّي واشترطي، فقولي: لبَّيكَ اللهم لبيك، ومحلِّي حيث حبَسْتَني» فأمرها أن تشتَرِطَ بعد التَّلْبِيَة. ولم يَشْرَع لأحد أن يقول قبل التَّلْبِيَة شيئًا. لا يقول: اللهمَّ إني أريد العُمْرَة والحَجَّ، ولا الحَجَّ والعُمْرَة، ولا يقول: فيَسِّرْه لي وتقبَّلْه مني، ولا يقول: نويتُهما جميعًا، ولا يقول: أحرمتُ لله، ولا غير ذلك من العبادات كلِّها. ولا يقول قبل التَّلْبِيَة شيئًا، بل جعل التَّلْبِيَة في الحَجِّ كالتكبير في الصَّلاة. وكان هو وأصحابُه يقولون: فلانٌ أهل بالحَجِّ، أهلَّ بالعُمْرَة، أو أهلَّ بهما جميعًا. كما يقال كبَّرَ للصلاةِ، والإهلالُ رَفْعُ الصَّوْتِ بالتَّلبِيَة، وكان يقول في تلبيته: «لبيك حجًّا وعُمْرَة» ينوي ما يريد [أن] يفعَلَه بعد التَّلْبِيَة، لا قبلها. وجميع ما أحدَثَه النَّاس من التلفُّظ بالنِّيَّة قبل التكبيرِ وقبل التَّلبية وفي الطهارة وسائِرِ العبادات؛ فهي مِن البِدَع) ((مجموع الفتاوى)) (22/222). وابنُ رَجَب وقال ابنُ رجب: (والنيَّة: هي قصْدُ القلب، ولا يجب التلفظُ بما في القلب في شيءٍ من العبادات،... ولا يُعْلَم في هذه المسائل نقلٌ خاصٌّ عن السَّلَف، ولا عن الأئمَّة إلا في الحَجِّ وحده، فإنَّ مجاهدًا قال: إذا أراد الحَجَّ يسمِّي ما يُهِلُّ به، ورُوِيَ عنه أنَّه قال: يُسَمِّيه في التَّلْبِيَة، وهذا ليس مما نحن فيه؛ فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم كان يذكُرُ نُسُكَه في تَلْبِيَته، فيقول: لبيك عُمْرَةً وحجًّا»، وإنما كلامُنا في أنَّه يقول عند إرادَةِ عَقْدِ الإحرام: اللهمَّ إني أريد الحَجَّ أو العُمْرَةَ، كما استحَبَّ ذلك كثيرٌ من الفقهاءِ، وكلامُ مُجاهدٍ ليس صريحًا في ذلك) ((جامع العلوم والحكم)) (1/92). وابنُ باز وقال ابنُ باز: (النيَّةُ محلُّها القلب وصِفَتُها أن ينوِيَ بقَلْبِه أنَّه يحجُّ عن فلانٍ أو عن أخيه أو عن فلانِ بنِ فلانٍ هكذا تكون النِّيَّة، ويُستحَبُّ مع ذلك أن يتلفَّظَ فيقول: اللهمَّ لبَّيك حجًّا عن فلان أو لبَّيْك عُمْرَةً عن فلانٍ- عن أبيه أو عن فلان بن فلان حتى يؤكِّدَ ما في القلبِ باللَّفْظِ؛ لأنَّ الرسول- صلَّى الله عليه وسَلَّم- تلفَّظ بالحَجِّ، وتلفظ بالعُمْرَة، فدلَّ ذلك على شرعيَّة التلفُّظِ لِمَا نواه؛ تأسيًا بالنبي عليه الصَّلاةُ والسَّلام، وهكذا الصحابةُ تلفَّظوا بذلك كما علَّمَهُم نبيُّهم عليه الصَّلاةُ والسَّلام، وكانوا يرفعون أصواتَهم بذلك، هذه هي السنَّة، ولو لم يتلفَّظ واكتفى بالنيَّة كَفَت النيَّة) ((تحفة الأخوان)) (ص: 197)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/71). وبه أفتَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ جاء في فتوى اللَّجْنَة الدَّائِمَة: (الإحرامُ هو نيَّة الدخول في النُّسُك، والتلفُّظ بالنُّسُك عند ذلك والتَّلْبِيَة ليسا بلازمينِ، بل هما سنة) ((فتاوى اللَّجْنَة الدَّائِمَة- المجموعة الثَّانية)) (10/130).
الأدلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن السَّائِبِ بنِ خلَّادٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال ((أتاني جبريلُ فأمرني أن آمُرَ أصحابي أن يرفَعوا أصواتَهم بالإهلالِ وبالتَّلْبِيَة )) أخرجه أبو داود (1814)، والترمذي (829) واللفظ له، والنسائي (2753)، وابن ماجه (2922)، وأحمد (16617). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (5/42): أصح رواية، وصَحَّحه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (2/258)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/152) والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (829)، وصَحَّح إسناده النووي في ((المجموع)) (7/225).
2- عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((أتاني الليلة آتٍ مِن رَبِّي، فقال: صَلِّ في هذا الوادي المُبارَك، وقُلْ: عُمْرَةً في حَجَّةٍ )) رواه البخاري (1534).
3- عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سمعْتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم يقول: ((لبَّيْكَ عُمْرَة وحجًّا )) رواه البخاري (4353، 4354)، ومسلم (1232) واللفظ له..

انظر أيضا: