الموسوعة الفقهية

المبحث السادس: المَسجِدُ


المطلب الأول: اشتراطُ المسجِدِ
يُشتَرَطُ لصحَّةِ الاعتكافِ أن يكونَ في المسجِدِ.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187]
وجه الدلالة:
أنَّ الآيةَ دلَّت على أنَّ شَرطَ الاعتكافِ المسجدُ؛ لأنَّه لو صحَّ في غيرِه لم يختَصَّ تحريمُ المباشرةِ به؛ لأنَّ الجِماعَ مُنافٍ للاعتكافِ إجماعًا، فعُلِمَ مِن ذِكرِ المساجِدِ أنَّ الاعتكافَ لا يكونُ إلَّا فيها   ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (2/306).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن عائشة رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((وإن كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَيُدْخِلُ عليَّ رأسَه وهو في المسجِدِ، فأُرَجِّلُهُ، وكان لا يدخُلُ البيتَ إلَّا لحاجةٍ، إذا كان مُعتَكِفًا )) رواه البخاري (2029)، ومسلم (297).
ثالثًا: من الإجماع
نقل الإجماعَ على ذلك: ابنُ عبد البَرِّ قال ابنُ عبد البر: (وأجمعوا أنَّ الاعتكافَ لا يكون إلا في مسجدٍ) ((الاستذكار)) (3/385). ، وابنُ قدامة قال ابنُ قدامة: (ولا يصحُّ الاعتكافُ في غير مسجدٍ إذا كان المعتكِفُ رجلًا، لا نعلَمُ في هذا بين أهلِ العِلمِ خلافًا) ((المغني)) (3/189). ، والقرطبي قال القرطبي: (أجمع العلماءُ على أنَّ الاعتكاف لا يكونُ إلا في المسجد) ((تفسير القرطبي)) (2/333). ، وابنُ تيمية قال ابنُ تيمية: (لا يكون الاعتكافُ إلَّا في المساجِدِ، باتِّفاق العلماء) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (27/252).
المطلب الثاني: حُكمُ الاعتكافِ في غيرِ المساجِدِ الثلاثة
لا يُشترَطُ أن يكونَ الاعتكافُ في المساجِدِ الثلاثة وهي: المسجِدُ الحرامُ، والمسجِدُ النَّبويُّ، والمسجِدُ الأقصى. ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة ((الهداية)) للمرغيناني (1/133)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/113)، ((فتح القدير)) للكمال بن الهمام (2/394). ، والمالكيَّة ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/465)، وينظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص84)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/313). ، والشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/483)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/450). ، والحَنابِلة ((الفروع)) لابن مفلح (5/137)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/189).
الدَّليل من الكتاب:
عمومُ قَولِه تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187]
وجه الدلالة:
أنَّ لفظَ المساجِدِ عامٌّ لجميعِ المساجِدِ، وليس للمساجِدِ الثلاثةِ فقط   (( الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/503).
المطلب الثالث: ضابِطُ المسجد الذي يصحُّ فيه الاعتكافُ
إن كان يتخلَّلُ الاعتكافَ صلاةُ جماعةٍ، فيُشتَرَط لصِحَّتِه أن يكونَ في مسجِدِ جماعةٍ، وهو مذهبُ الحَنَفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (3/106)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/349)، وينظر:  (((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/113). ، والحَنابِلة ((الفروع)) لابن مفلح (5/137)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/189). ، واختاره ابن باز قال ابنُ باز: (يصحُّ الاعتكافُ في غير المساجِدِ الثلاثةِ، إلَّا أنَّه يُشتَرَط في المسجِدِ الذي يُعتكَف فيه إقامةُ صلاة الجَماعة فيه، فإن كانت لا تقامُ فيه صلاةُ الجَماعة لم يصحَّ الاعتكافُ فيه) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/444). ، وابن عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (لا يصح الاعتكافُ إلا في مسجدٍ تقام فيه الجَماعة) ((الشرح الممتع)) (6/509).
وذلك لأنَّ الجَماعة واجبةٌ، واعتكاف الرَّجُلِ في مسجٍد لا تقامُ فيه الجَماعة إن كان يتخلَّلُ اعتكافَه جماعةٌ، يُفضِي إلى أحدِ أمرينِ: إمَّا تَركُ الجَماعة الواجِبة، وإمَّا خروجُه إليها، فيتكرَّر ذلك منه كثيرًا مع إمكانِ التحرُّزِ منه، وذلك منافٍ للاعتكافِ؛ إذ هو لزومُ المعتكَفِ والإقامةُ على طاعةِ الله تعالى فيه ((المغني)) لابن قدامة (3/189).
المطلب الرابع: الاعتكافُ في غيرِ مَسجِدِ الجُمُعة
الفرع الأول: الاعتكافُ في غير مسجِدِ الجُمُعة إن كان لا يتخلَّل الاعتكافَ جُمُعة
يجوز الاعتكافُ في غيرِ مَسجِدِ الجُمعةِ، إن كان لا يتخَلَّلُ الاعتكافَ جُمُعةٌ، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة ((البناية)) للعيني (4/128)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/113)، قال ابنُ الهمام: (والحاصل أن الاعتكافَ في غير الجامع جائزٌ في الجملةِ بالاتفاقِ، أو إلزامها بالدليلِ، فإذا صحَّ فبعد ذلك الضَّرورة مُطلَقةٌ للخُروجِ مع بقاء الاعتكافِ، وهي هنا متحقِّقةٌ نظرًا إلى الأمر بالجُمعة) ((فتح القدير)) (2/395). ، والمالكيَّة لكنْ عند المالكيَّة أنَّه إذا نوى مدَّةً يتعيَّنُ عليه إتيانُ الجمعةِ في أثنائها، فيتعيَّن الجامِعُ ((التاج والإكليل)) للمواق (2/455). ، والشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/483). وعند الشَّافِعيَّة يجب الجامع للاعتكاف فيه، إن نذر مدَّةً متتابِعةً فيها يومُ الجُمعة، وكان ممَّن تلزَمُه الجمعةُ، ولم يشترَطِ الخروجُ لها ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/450). ، والحَنابِلة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/258)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/189، 190). ، وهو قولُ طائفةٍ من السَّلَف قال ابنُ عبد البر: (وقال آخرون الاعتكاف في كل مسجدٍ جائزٌ، روي هذا القَولُ عن سعيد بن جبير وأبي قلابة، وإبراهيم النخعي وهمام بن الحارث، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي الأحوص والشعبي، وهو قول الشَّافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري، وحجَّتُهم حَملُ الآية على عمومها في كلِّ مَسجدٍ، وهو أحد قولَيْ مالك، وبه يقول ابن عُلَيَّة وداود والطبري) ((التمهيد)) (8/326).
الدَّليل من الكتاب:
عمومُ قَولِه تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187]
وجه الدلالة:
أنَّ لَفظَ المساجِدِ عامٌّ لجميع المساجِدِ، وتخصيصُه ببعضِ المساجِدِ دون بعضٍ يحتاجُ إلى دليلٍ   (( مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (20/157).
الفرع الثاني: الاعتكاف في غير الجامع إن كان يتخللُ اعتكافَه يومُ جُمُعة
 لا يُشتَرَطُ الاعتكافُ في المسجِدِ الجامِعِ، ومن وجَبَت عليه الجُمُعة وكانت تتخلَّلُ اعتكافَه؛ فعليه أن يخرُجَ لحضورِ الجُمعةِ، ثم يرجِعَ إلى المسجِدِ الذي يعتكِفُ فيه، والأفضَلُ أن يكونَ اعتكافُه في المسجِدِ الجامِعِ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ                           ((المبسوط)) للسرخسي (3/108)، وينظر: ((بدائع الصنائع))   للكاساني (2/114).     ، والحَنابِلة                 ((الفروع)) لابن مفلح (5/140)، ((شرح منتهى الإرادات))   للبهوتي (1/501).     ، وقولٌ لبعضِ السَّلَفِ                 قال البغوي: (أمَّا الخروجُ للجمعة، فواجبٌ عليه، لا يجوزُ له تَرْكُه. واختلفوا   في بُطلانِ اعتكافه، فذهب قومٌ إلى أنَّه لا يَبطُلُ به اعتكافُه، وهو قول الثوري،   وابن المبارك، وأصحاب الرأي، كما لو خرج لقضاءِ الحاجةِ) ((شرح السنة))   (6/401).     ، وهو اختيارُ ابن العربي المالكي                 قال   ابنُ العربي: (إذا اعتكف في مسجدٍ لا جمعةَ فيه للجمعة، فمن علمائِنا من قال:   يبطُلُ اعتكافُه، ولا نقول به، بل يَشرُف الاعتكافُ ويَعظُم. ولو خرج من الاعتكافِ   من مسجدٍ إلى مسجدٍ لجاز له; لأنه يخرج لحاجةِ الإنسانِ إجماعًا، فأيُّ فرقٍ بين   أن يرجِعَ إلى ذلك المسجِدِ أو إلى سواه؟) ((أحكام   القرآن)) (1/180).     ، وابنِ باز                 وقال ابنُ باز: (ومحلُّ الاعتكافِ المساجدُ التي تقام فيها صلاةُ الجَماعة، وإذا   كان يتخلَّلُ اعتكافَه جُمعةٌ، فالأفضل أن يكون اعتكافُه في المسجد الجامع إذا   تيسَّر ذلك) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/442).     ، وابنِ عُثيمين                 وقال ابنُ عُثيمين: (وهو في كل مسجدٍ، سواء كان في مسجدٍ تقامُ فيه الجمعة، أو في   مسجدٍ لا تقام فيه، ولكنَّ الأفضلَ أن يكون في مسجدٍ تقامُ فيه، حتى لا يضطرَّ إلى   الخروجِ لِصَلاةِ الجمعة) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين))   (20/155).     .
الأدلة:
أوَّلًا: من الكتاب:
عمومُ قَولِه تعالى: ... وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *البقرة: 187*
وجه الدلالة:
أنَّ لفظَ المساجِدِ عامٌّ لجميعِ المساجِدِ                ينظر: ((أحكام   القرآن)) لابن العربي  (1/180). (( مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (20/157).     .
ثانيًا: لأنَّ الخُروجَ للجُمعةِ مِن المعتكِفِ ضرورةٌ؛ لأنَّها فرْضُ عَيْنٍ، ولا يُمكِنُ إقامةُ الجُمعةِ في كلِّ مَسجدٍ، فيَحتاجُ إلى الخُروجِ إليها كما يحتاجُ إلى الخروجِ لحاجةِ الإنسانِ               ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/114).     .
المطلب الخامس: حكمُ صُعودِ المعتَكِف إلى المنارةِ والسَّطح والخُروجِ للرَّحَبة أو غيرِ ذلك ممَّا لم يُعدَّ للصَّلاةِ
الفرع الأول: حكمُ صُعودِ المُعتَكِف إلى منارةِ المَسجِد
يجوزُ للمُعتَكِف الصعودُ إلى منارةِ المَسجِد، إن كانت في المسجِدِ أو بابُها فيه، واعتكافُه صَحيحٌ، وهو مذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (3/116)، وينظر: ((المبسوط)) للشيباني (2/287). ، والشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/505-506)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (2/115). ، والحَنابِلة ((الفروع)) لابن مفلح (5/140)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/259). فائدة: قال ابنُ عُثيمين: (إذا كان باب المكتبة داخِلَ المسجد تكونُ المكتبة من المسجد فلها حُكمُه، فتُشرَع تحيَّة المسجد لِمَن دَخَلَها، ولا يحِلُّ للجُنُب المُكثُ فيها إلا بوضوءٍ، ويصِحُّ الاعتكافُ فيها، ويحرم فيها البيعُ والشِّراء، وهكذا بقيةُ أحكامِ المسجِدِ المعروفة. وفي الحالِ الثانية وهي: ما إذا كان بابُها خارِجَ المسجد، وليس لها بابٌ على المسجِدِ، لا تكونُ مِن المسجِدِ، فلا يثبُتُ لها أحكامُ المساجِدِ، فليس لها تحيَّة مسجد، ولا يصِحُّ الاعتكافُ فيها، ولا يحرُمُ فيها البيع والشراء؛ لأنها ليسَتْ من المسجِدِ؛ لانفصالِها عنه. وفي الحال الثالثة وهي: ما إذا كان لها بابانِ، أحدُهما داخِلَ المسجِدِ. والثاني: خارِجَه، إن كان سورُ المسجِدِ محيطًا بها، فهي من المسجِدِ، فتثبت لها أحكامُ المسجد، وإن كان غيرَ محيطٍ بها، بل لها سورٌ مستقلٌّ، فليس لها حكمُ المسجِدِ فلا تثبت لها أحكامُه؛ لأنها منفصلةٌ عن المسجد؛ ولهذا لم تكُن بيوتُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مَسجِدِه، مع أنَّ لها أبوابًا على المسجِدِ؛ لأنَّها مُنفصِلةٌ عنه) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (14/351-352). ؛ وذلك لأنَّ المنارةَ إن كانت في المسجِدِ، أو بابُها فيه، فهي من جملةِ المسجِدِ، فتأخُذُ أحكامَه ((الإنصاف)) للمرداوي (3/259).
الفرع الثاني: حكمُ صُعودِ المُعتَكِف إلى سطحِ المَسجِدِ أو الاعتكافِ فيه
يصِحُّ الاعتكافُ في سَطحِ المَسجِد، أو صعودُ المعتكِفِ إليه، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (3/116)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (3/39). ، والشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/480)، وينظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/495). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/259)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/196). ، وحُكي الإجماعُ على ذلك قال ابنُ قدامة: (..وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشَّافعي ولا نعلم فيه مخالفًا) ((المغني)) لابن قدامة (3/196)، لكنْ خلافُ المالكيَّة ثابِتٌ في المسألة. ينظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/733)، ((حاشية العدوي)) (1/585). ؛ وذلك لأنَّ السَّطحَ مِن جُملةِ المسجِدِ، فيأخُذُ أحكامَه   (( المغني)) لابن قدامة (3/196).
الفرع الثالث: حكمُ خُروجِ المُعتَكِف إلى الرَّحَبةِ
يَصِحُّ خُروجُ المُعتَكِفِ إلى الرَّحَبةِ إن كانت متَّصِلةً بالمسجِدِ، واعتكافُه صَحيحٌ قال ابنُ حجر: (الرَّحَبةُ (بفتح الراء والحاء): هي بناءٌ يكونُ أمام بابِ المَسجِد غير منفصلٍ عنه، هذه رَحَبةُ المسجد، ووقع فيها الاختلافُ، والرَّاجِحُ أنَّ لها حكم المسجِدِ، فيصِحُّ فيها الاعتكافُ، وكلُّ ما يُشتَرَطُ له المسجدُ، فإن كانت الرَّحَبة منفصلةً، فليس لها حكمُ المسجِدِ) ((فتح الباري)) (13/155). ، وهو مذهبُ الشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/303)، (6/500)، وينظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/495). ، وبعضِ المالكيَّة ((حاشية الدسوقي)) (1/542)، وينظر: ((المدونة الكبرى)) لسحنون (1/300)، ((الذخيرة)) للقرافي (2/536). ، وروايةٌ عن أحمد ((الفروع)) لابن مفلح (5/139)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/365،358،295). ، وهو اختيارُ ابنِ حَزمٍ قال ابنُ حزم: (ولا يجوزُ الاعتكافُ في رَحَبةِ المسجِدِ، إلَّا أن تكونَ منه) ((المحلى)) (5/193). ، وابنِ تيميَّةَ ((مجموع الفتاوى)) (21/304). ، وابنِ القَيِّم ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/31). ، وابنِ حجر ((فتح الباري)) لابن حجر (13/155). ؛ وذلك لأنَّ الرَّحَبةَ إن كانت في المسجدِ، فهي من جملَتِه، فتأخُذُ أحكامَه ((المصدر السابق)).
المطلب السادس: اعتكافُ المرأةِ في مَسجِدِ بَيتِها
لا يصِحُّ اعتكافُ المرأةِ في مَسجِدِ بَيتِها، وهو مذهَبُ الجُمهورِ: المالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/396)، وينظر: ((الذخيرة)) للقرافي (2/535). ، والشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/480)، ((مغني المحتاج)) (1/451). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/352)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/190)، ((كتاب الصيام من شرح العمدة)) لابن تيمية (2/737-745).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187]
وجه الدلالة:
أن المرادَ بالمساجِدِ: المواضِعُ التي بُنِيَت للصَّلاة فيها. وموضِعُ صلاةِ المرأةِ في بيتها ليس بمسجدٍ؛ لأنَّه لم يُبْنَ للصَّلاةِ فيه، فلا يثبُتُ له أحكامُ المساجِدِ الحقيقيَّةِ (( المغني)) لابن قدامة (3/191).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اعتكَفَ معه بعضُ نِسائِه، وهي مُستحاضةٌ ترى الدَّمَ، فربَّما وضعت الطَّستَ تَحتَها من الدَّمِ... )) رواه البخاري (309).
وجه الدلالة:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مكَّنَ امرأتَه أن تعتكِفَ في المسجِدِ وهي مُستحاضةٌ؛ إذ لا تفعل ذلك إلَّا بأمْرِه، ولو كان الاعتكافُ في البيتِ جائزًا لَمَا أمَرَها بالمسجِدِ، ولأمَرَها بالبَيتِ؛ فإنَّه أسهَلُ وأيسَرُ وأبعَدُ عن تلويثِ المسجِدِ بالنَّجاسةِ، وعن مَشقَّةِ حَملِ الطَّستِ ونَقلِه، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُخيَّرْ بين أمرينِ إلَّا اختار أيسَرَهما، ما لم يكن إثمًا، فعُلِمَ أنَّ الجُلوسَ في غيرِ المَسجِدِ ليس باعتكافٍ ((شرح العمدة - كتاب الصيام)) لابن تيمية (2/743).
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذكَرَ أنْ يعتكِفَ العَشرَ الأواخِرَ مِن رمضانَ، فاستأذَنَتْه عائشةُ، فأذِنَ لها، وسألَتْ حفصةُ عائشةَ أن تستأذِنَ لها ففعَلَتْ، فلمَّا رأت ذلك زينبُ ابنةُ جَحشٍ أَمَرَتْ ببناءٍ، فبُنِيَ لها، قالت: وكان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا صلى انصرَفَ إلى بنائِه، فبَصُرَ بالأبنيةِ، فقال: ما هذا؟ قالوا: بناءُ عائشةَ وحَفصةَ وزينبَ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: آلبِرَّ أردْنَ بهذا؟ ما أنا بمُعتكفٍ. فرجَعَ، فلما أفطَرَ اعتكَفَ عَشرًا من شوَّال )) رواه البخاري (2045)، ومسلم (1173).
وجه الدلالة:
أنَّه لو كان اعتكافُهن رَضِيَ اللهُ عنهن في غيرِ المسجِدِ العامِّ مُمكنًا؛ لاستغنَينَ بذلك عن ضَربِ الأخبيةِ في المسجِدِ، كما استغنَينَ بالصَّلاةِ في بُيوتِهن عن الجَماعة في المسجِدِ، ولَأمَرَهنَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك قال ابنُ تيمية: ( وذلك دليلٌ على أنَّه مَشروعٌ حَسن, ولو كان اعتكافُهن رَضِيَ اللهُ عنهن في غيرِ المسجِدِ العامِّ مُمكنًا؛ لاستغنَينَ بذلك عن ضَربِ الأخبيةِ في المسجِدِ، كما استغنَينَ بالصَّلاةِ في بُيوتِهن عن الجَماعة في المسجِدِ، ولَأمَرَهنَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك.) ((شرح العمدة لابن تيمية - كتاب الصيام)) (2/ 740).
ثالثًا: لأنَّ الاعتكافَ قُربةٌ يُشتَرَطُ لها المسجِدُ في حقِّ الرجُلِ، فيشتَرَطُ في حقِّ المرأةِ، كالطَّوافِ ((المغني)) لابن قدامة (3/ 191).
رابعًا: لأنَّه ليس بمسجدٍ حقيقةً ولا حكمًا، ولا يسمَّى في الشَّرعِ مسجدًا ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/ 511).

انظر أيضا: