الموسوعة الفقهية

المبحث الأول: تناوُلُ الطَّعامِ والشَّرابِ


المطلب الأول: تناولُ الطَّعامِ والشَّرابِ عَمْدًا
الفرع الأول: حُكمُ تناوُلِ الطَّعامِ والشَّرابِ للصَّائِمِ
مَن أكلَ أو شَرِبَ ممَّا يُتغَذَّى به متعمِّدًا، وهو ذاكرٌ لصَومِه؛ فإنَّ صَومَه يَبطُلُ.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قوله تعالى: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ [البقرة: 187]
وجه الدلالة
أنَّ الله أباح الأكلَ والشُّربَ إلى طُلوعِ الفَجرِ، ثم أمَرَ بالإمساكِ عنهما إلى اللَّيلِ ((المغني)) لابن قدامة (3/119)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/570).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
ما جاء عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال فيما يرويه عن ربِّه: ((يترُكُ طَعامَه وشَرابَه وشَهْوتَه مِن أجلي )) رواه البخاري (1894) واللفظ له، ومسلم (1151).
ثالثًا: من الإجماع
نقَلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ حَزمٍ قال ابنُ حزم: (واتَّفقوا على أنَّ الأكلَ لِمَا يُغذي مِن الطعام ممَّا يُستأنَفُ إدخالُه في الفَمِ، والشُّربَ والوَطءَ؛ حرامٌ مِن حينِ طُلوعِ الشَّمسِ إلى غُروبِها) ((مراتب الإجماع)) لابن حزم (ص 39)، ولم يتعقَّبه ابن تيمية في ((نقد مراتب الإجماع)). ، وابنُ قُدامةَ قال ابنُ قدامة: (وأجمَعَ العُلَماءُ على الفِطرِ بالأكلِ والشُّربِ بما يُتغَذَّى به) ((المغني)) (3/119).
الفرع الثاني: ما يترتَّبُ على الإفطارِ عَمدًا بطعامٍ أو شرابٍ
1- القَضاءُ
يلزَمُ مَن أفطَرَ متعمِّدًا بتناوُلِ الطَّعامِ أو الشَّرابِ؛ القضاءُ، وعلى هذا عامَّةُ أهلِ العِلمِ ((المجموع)) للنووي (6/329). ،أمَّا الكفَّارةُ، فلا تَجِبُ عليه، وهو مذهَبُ الشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/329)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (2/96)، ((الإشراف)) لابن المنذر (3/128). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/ 309)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/130). ، ورجَّحه ابنُ المُنذِر قال ابنُ المنذر: (واختلفوا فيما يجِبُ على من أكل أو شَرِبَ في نهار رمضان عامدًا. فقال سعيد بن جُبَير والنخعي وابن سيرين وحماد بن أبي سليمان والشَّافعي وأحمد: عليه القضاءُ وليس عليه الكفَّارةُ......قال أبو بكر- أي ابن المنذر-: بالقَولِ الأوَّلِ أقولُ). ((الإشراف)) (3/128). ، واختاره ابنُ عُثيمين ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (25/261)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/411).
وذلك للآتي:
أما القضاءُ فقياسًا على المريضِ والمُسافِرِ اللَّذينِ أوجَبَ اللهُ عليهما القضاءَ مع وجودِ العُذرِ؛ فلَأنْ يَجِبَ مع عدَمِ العُذرِ أَوْلى (( المجموع)) للنووي (6/328).
دليلُ عدمِ وُجوبِ الكفَّارة:
1- عدمُ ورودِ نَصٍّ مِن الكتابِ أو السنَّةِ، يوجِبُ ذلك، والأصلُ بَراءةُ الذِّمَّة (( الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/411).
2- عدمُ صِحَّةِ القياسِ على الجِماع في نهارِ رَمضانَ؛ فقد ورد النصُّ في الجِماع، وما سِواه ليس في مَعناه؛ لأنَّ الجِماع أغلَظُ (( تحفة المحتاج)) للهيتمي (3/447).
2- الإمساكُ
يلزَمُ مَن أفطَرَ بالأكلِ والشُّربِ متعمِّدًا؛ الإمساكُ بقيَّةَ يومِه، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (2/408)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/363). ، والمالكيَّة ((الشرح الكبير)) للدردير (1/525)، وينظر: ((الذخيرة)) للقرافي (2/523). ، والشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/339). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/309)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/145). ، واختاره ابنُ حزمٍ قال ابنُ حزم: (من تعمَّدَ الفِطرَ عاصيًا، فهو مُفتَرَضٌ عليه- بلا خلافٍ- صَومُ ذلك اليومِ, ومُحَرَّمٌ عليه فيه كلُّ ما يَحرُمُ على الصَّائِم، ولم يأت نصٌّ ولا إجماعٌ بإباحةِ الفِطرِ له إذا عصى بتعمُّدِ الفِطرِ, فهو باقٍ على ما كان حرامًا عليه, وهو مُتزَيِّدٌ من المعصيةِ متى ما تزَيَّدَ فِطرًا, ولا صَومَ له مع ذلك. ورُوِّينا عن عمرِو بنِ دينار نحو هذا. وعن الحسن وعطاء: أنَّ له أن يُفطِرَ) ((المحلى)) (6/243). ؛ وذلك لأنَّه أفطَرَ بدونِ عُذرٍ، فلَزِمَه إمساكُ بقيَّةِ النَّهارِ، وفِطرُهُ عَمْدًا لم يُسقِطْ عنه ما وجَبَ عليه من إتمامِ الإمساكِ (( أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/423).
المطلب الثاني: تناوُلُ الطَّعامِ والشَّرابِ نِسيانًا
مَن أكَلَ أو شَرِبَ ناسيًا؛ فلا شَيءَ عليه، ويُتِمُّ صَومَه، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (3/61), وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/327). ، والشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/335)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (7/70). قال النووي: (وبه قال الحسن البصري ومجاهد وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور وداود وابن المنذر) ((المجموع)) (6/335) ، والحَنابِلة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/215)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/131). قال ابنُ القيم: (قاعدةُ الشَّريعة أنَّ مَن فعَلَ محظورًا ناسيًا فلا إثمَ عليه، كما دلَّ عليه قولُه تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وثبت عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الله سبحانَه استجابَ هذا الدُّعاءَ، وقال: (قد فعلْتُ) وإذا ثبت أنَّه غيرُ آثمٍ، فلم يَفعَلْ في صَومِه محرَّمًا، فلم يَبطُلْ صَومُه، وهذا محضُ القياسِ؛ فإنَّ العبادةَ إنَّما تبطُلُ بفِعلِ مَحظورٍ أو تَرْكِ مأمورٍ) ((إعلام الموقعين)) (2/54).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((... فأنزَلَ الله تعالى لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] قال- أي الله سبحانه وتعالى-: قد فَعَلْتُ )) رواه مسلم (126).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن أبي هُريرة رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من نَسِيَ وهو صائِمٌ، فأكلَ أو شَرِبَ- فلْيُتِمَّ صَومَه؛ فإنَّما أطعَمَه اللهُ وسقاه )) رواه البخاري (1933)، ومسلم (1155)، قال النووي: (فيه دلالةٌ لمذهبِ الأكثرينَ؛ أنَّ الصَّائِم إذا أكل أو شَرِبَ أو جامع ناسيًا، لا يُفطِرُ) ((شرح النووي على مسلم)) (8/35).
المطلب الثالث: ما يَدخُل الجوفَ من غيرِ قَصْدٍ
ما يَدخُل جوفَ الصَّائِم بلا اختيارٍ منه، كغُبارِ الطَّريق، لا يُفطِّره في الجُملة.
الدَّليل من الإجماعِ:
نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنذر قال ابنُ المُنذر: (وقد رُوِّينا عن عباس والحسَنِ البصري، أنَّهما قالَا في الصَّائِم يدخُل الذُّبابُ حَلقَه: لا شيءَ عليه، وبه قال مالكٌ، والشَّافعيُّ، وأحمدُ، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، ولا يُحفَظ عن غيرهم خِلافُهم). ((الإشراف)) (3/131). ، وابنُ حزم قال ابنُ حزم: (وقد رُوِّينا من طريق وكيع، عن أبي مالك، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، عن ابن عبَّاس في الذُّباب يدخُل حَلقَ الصَّائِم، قال: لا يُفطِّر. وعن وكيع، عن الرَّبيع، عن الحسن في الذُّباب يدخُل حَلْق الصَّائِم، قال: لا يُفطِّر. وعن الشَّعبيِّ مثلُه. وما نعلم لابن عبَّاس في هذا مخالِفًا من الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عنهم، إلَّا تلك الرِّواية الضعيفة عنه). ((المحلى)) (4/350). ، وابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (المفسِدُ للصومِ من هذا كلِّه ما كان عن عَمْد وقصدٍ، فأمَّا ما حصَل منه عن غير قصْد، كالغُبارِ الذي يدخُل حَلقَه من الطريق، ونخْلِ الدَّقيق، والذُّبابةِ التي تدخل حَلقَه، أو يُرشُّ عليه الماءُ فيدخُل مسامِعَه، أو أنفَه أو حَلقَه، أو يُلقى في ماء فيصِل إلى جوفه، أو يَسبِق إلى حلْقه من ماء المضمضة، أو يُصبُّ في حلقِه أو أنفِه شيءٌ كُرهًا، أو تُداوى مأمومتُه أو جائفتُه بغير اختيارِه، أو يُحجم كُرهًا، أو تُقبِّله امرأةٌ بغير اختيارِه فيُنزِل، أو ما أشبَهَ هذا- فلا يَفسُد صومُه، لا نَعلم فيه خلافًا). ((المغني)) (3/130). ، والنوويُّ قال النووي: (اتَّفق أصحابنا على أنَّه لو طارت ذُبابة، فدخلت جوفَه، أو وصَل إليه غُبار الطريقِ، أو غربلةُ الدَّقيق، بغير تعمُّد- لم يُفطِر). ((المجموع)) (6/327). ، والخَرشيُّ قال الخرشي: (وغُبار طريق (ش) يعني: أنَّ غبارَ الطريقِ إذا دخَل في حلْقِ الصَّائِم، فلا قضاءَ عليه فيه؛ للمشقَّة، ولا خِلافَ في ذلك). ((شرح مختصر خليل)) (2/258). ووقَع خِلاف في دخول الذُّبابة إلى حَلْق الصَّائِم؛ قال برهان الدين ابنُ مُفلح: ("وإن طار إلى حَلْقه ذباب" لم يُفطر، خلافًا للحسن بن صالح). ((المبدع)) (2/430). وقال ابنُ حجر: (ونقَل ابن المُنذر الاتِّفاقَ على أنَّ مَن دخل في حلقه الذُّبابُ وهو صائم، أنْ لا شيءَ عليه، لكن نقَل غيرُه عن أشهبَ أنَّه قال: أَحَبُّ إليَّ أن يقضِيَ، حكاه ابنُ التين). ((فتح الباري)) (4/155).
المطلب الرابع: حُكم ابتلاعُ الصَّائِم رِيقَه
ابتلاعُ الرِّيقِ لا يُفطِّر، ما دام لم يفارقِ الفمَ، ولم يَجمعْه.
الدَّليل من الإجماعِ:
نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ حزم قال ابنُ حزم: (واتَّفقوا على أنَّ الرِّيقَ ما لم يُفارِق الفمَ لا يُفطِّر). ((مراتب الإجماع)) (ص: 40). ، والنوويُّ قال النوويُّ: (ابتلاعُ الرِّيق لا يُفطِّر بالإجماع، إذا كان على العادةِ؛ لأنَّه يَعسُر الاحترازُ منه). ((المجموع)) (6/317). ، وابنُ مُفلح قال برهان الدين ابنُ مُفلح: ("يُكره للصائم أن يجمع رِيقَه فيبلعَه"؛ لأنَّه اختُلف في الفطر به، وأقل أحواله أن يكون مكروهًا، وظاهرُه ولو قصدًا، وبأنَّه إذا ابتلعه من غير جمْع أنَّه لا يُكره، بغير خلاف؛ لأنَّه لا يمكن التحرُّز منه كغُبار الطريق). ((المبدع)) (2/442).
المطلب الخامس: حُكمُ من ابتلَعَ ما بين أسنانِه وهو صائِمٌ
الفرع الأول: ابتلاعُ الصَّائِم ما بين أسنانِه مِمَّا لا يمكِنُ لَفْظُه
مَن ابتلَعَ ما بين أسنانِه وهو صائِمٌ، وكان يسيرًا لا يمكِنُ لفظُه، مِمَّا يجري مع الرِّيقِ؛ فصومُه صحيحٌ.
الأدِلَّة:
أوَّلًا: من الإجماع
نقل الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنذِر قال ابنُ المُنذر: (أجمع أهلُ العِلم على أنْ لا شيءَ على الصَّائِم فيما يَزدرِدُه ممَّا يَجري مع الرِّيق، ممَّا بين أسنانه، ممَّا لا يقدِر على الامتناع منه). ((الإشراف)) (3/134 – 135).
ثانيًا: لأنَّه لا يُمكِنُ التحرُّزُ منه، فأشبَهَ الرِّيقَ ((المغني)) لابن قدامة (3/126).
الفرع الثاني: ابتلاعُ الصَّائِم ما بين أسنانِه مِمَّا يُمكِنُ لَفظُه
مَن ابتَلَعَ ما بين أسنانِه وهو صائِمٌ، وكان يُمكِنُه لَفظُه؛ فإنَّه يُفطِرُ، وهو مذهبُ الشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/323). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/321)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/126). ، وقولٌ للمالكيَّة ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص 80). ؛ وذلك لأنَّه بلَع طعامًا يُمكِنُه لفظُه باختيارِه، ذاكرًا لِصَومِه، فأفطَرَ به، كما لو ابتدأَ الأكْلَ ((المجموع)) للنووي (6/317).
المطلب السادس:: حُكمُ ابتلاعِ الصَّائِم ما لا يؤكَلُ في العادة
إذا ابتلعَ الصَّائِم ما لا يُؤكَلُ في العادة كدرهمٍ أو حصاةٍ أو حشيشٍ أو حديدٍ أو خيطٍ أو غير ذلك؛ أفطَرَ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة ((الهداية)) للمرغيناني (1/124)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/93). ، والمالكيَّة ((منح الجليل)) لعليش (2/136)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/249) ، والشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/317). ، والحَنابِلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/481). وهو مَذهَبُ جماهيرِ العُلَماءِ مِنَ السَّلَفِ والخَلفِ ((المجموع)) للنووي (6/317).
الأدِلَّة:
أولًا: من الآثار
قولُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: الفِطرُ ممَّا دخل، وليس ممَّا خرَجَ رواه ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) (9411)، وأورده البخاري في صحيحه (باب الحجامة والقيء للصائم) معلقًا بصيغة الجزم بلفظ: (الصوم مما دخل)، ووصله البيهقي في ((السنن الكبرى)) (579). وقال البيهقي في ((الخلافيات)) (2/357): ثابت، وقال النووي في ((المجموع)) (6/317): إسناده حسن أو صحيح، وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (4/79): إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين.
ثانيًا: لأنَّه في حكمِ الأكلِ؛ فإنه يقال: أكَلَ حَصاةً (( بدائع الصنائع)) للكساني (2/93).
ثالثًا: لأنَّه ابتلع ما يُمكنه الاحترازُ منه ممَّا لا حاجةَ به إليه، فأشبَهَ ما إذا قَلَع ما بين أسنانِه وابْتلَعَه ((المجموع)) للنووي (6/315).
المَطلب السَّابع: حُكمُ بَلعِ البَلغَمِ أو النُّخامةِ أثناءَ الصَّومِ
الفرع الأوَّل: حُكمُ بَلعِ البَلغَمِ أو النُّخامةِ أثناءَ الصَّومِ إذا لم تَصِلْ إلى الفَمِ
ابتِلاعُ البَلغَمِ ([1]( البَلغَمُ: خَلطٌ من أخلاطِ الجَسَدِ، وهو النُّخامةُ ونحوُه من البُصاقِ الثَّخينِ المُنعَقِدِ. يُنظر: ((النظم المستعذب)) لابن بطال الركبي (1/174)، ((لسان العرب)) لابن منظور (12/56). أو النُّخامةِ ([2]( النُّخامةُ والنُّخاعةُ: ما يُخرِجُه الإنسانُ مِن حَلقِه أو خَيشومِه من مَخرَجِ الخاءِ المُعجَمةِ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/596). إذا لم تَصِلْ إلى الفَمِ: لا يُفطِرُ، وذلك باتِّفاقِ المذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ ([3]( اتَّفَق أبو حنيفةَ وصاحباه على عدَمِ الفِطرِ بابتِلاعِ النُّخامةِ النَّازِلةِ مِنَ الرَّأسِ، واختلفوا في البَلغَمِ الصَّاعدِ من الجَوفِ؛ فيرى أبو حنيفةَ ومحمَّدُ بنُ الحَسَنِ عَدَمَ الفِطرِ بابتلاعِه، ويرى أبو يوسُفَ أنَّه يُفطِرُ به إذا كان مِلءَ الفَمِ، وقَولُ أبي يوسُفَ وَصَفه الكَمالُ ابنُ الهُمامِ أنَّه أحسَنُ. ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/335)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/296)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/415). ، والمالِكيَّةِ ([4]( المعتَمَدُ عندَ المالِكيَّةِ: أنَّ البَلغَمَ أو النُّخامةَ لا تُفطِرُ مُطلَقًا، ولو وصَلَت إلى طَرَفِ اللِّسانِ. ((الشرح الكبير)) للدردير (1/525)، ((منح الجليل)) لعليش (2/133). ، والشَّافِعيَّةِ ([5]( ((فتح العزيز بشرح الوجيز)) للرافعي (3/199)، ((روضة الطالبين)) للنووي (2/360). ، والحنابِلةِ ([6]( ((الإقناع)) للحجاوي (1/314)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/481). .
الفرع الثَّاني: حُكمُ بَلعِ البَلغَمِ أو النُّخامةِ أثناءَ الصَّومِ إذا وصَلَت إلى الفَمِ
اختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِ بَلعِ البَلغَمِ أو النُّخامةِ أثناءَ الصَّومِ إذا وصَلَت إلى الفَمِ، على قولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: ابتلاعُ البَلغَمِ أو النُّخامةِ أثناءَ الصَّومِ إذا وصَلَت إلى الفَمِ: لا يُفطِرُ به الصَّائِمُ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [7] اتَّفَق أبو حنيفةَ وصاحباه على عدَمِ الفِطرِ بابتِلاعِ النُّخامةِ النَّازِلةِ مِنَ الرَّأسِ، واختلفوا في البَلغَمِ الصَّاعدِ من الجَوفِ؛ فيرى أبو حنيفةَ ومحمَّدُ بنُ الحَسَنِ عَدَمَ الفِطرِ بابتلاعِه، ويرى أبو يوسُفَ أنَّه يُفطِرُ به إذا كان مِلءَ الفَمِ، وقَولُ أبي يوسُفَ وَصَفه الكَمالُ ابنُ الهُمامِ أنَّه أحسَنُ. ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/335)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/296)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/415). ، والمالِكيَّةِ في المعتَمَدِ ([8]( ((منح الجليل)) لعليش (2/133). ، وهو وَجهٌ عندَ الشَّافِعيَّةِ ([9]( ((البيان)) للعمراني (3/505). ، وروايةٌ عِندَ الحنابِلةِ ([10]( ((الإنصاف)) للمرداوي (3/325-326). ، واختيارُ ابنِ عُثَيمين ([11]( قال ابنُ عُثَيمين: (وفي المسألةِ قَولٌ آخَرُ في المذهَبِ: أنَّها لا تُفطِرُ أيضًا ولو وصَلَت إلى الفَمِ وابتَلَعها، وهذا القَولُ أرجَحُ؛ لأنَّها لم تَخرُجْ من الفَمِ، ولا يُعَدُّ بَلعُها أكلًا ولا شُربًا، فلو ابتَلَعها بعدَ أن وصَلَت إلى فَمِه فإنَّه لا يُفطِرُ بها، لكن نقولُ قبلَ أن يفعَلَ هذا: لا تفعَلْ وتجنَّبْ هذا الأمرَ، ما دامَ أنَّ المسألةَ بهذا الشَّكلِ، وليست النُّخامةُ كبَلعِ الرِّيقِ، بل هي جِرمٌ غيرُ مُعتادٍ وُجودُه في الفَمِ، بخلافِ الرِّيقِ؛ فالخِلافُ بالتَّفطيرِ بها أقوى مِنَ الخِلافِ بالتَّفطيرِ بجَمعِ الرِّيقِ، والأمرُ واضِحٌ، ولكِنْ كما قُلْنا أوَّلًا: إنَّ ابتلاعَ النُّخامةِ محرَّمٌ؛ لِما فيها من الاستِقذارِ والضَّرَرِ). ((الشرح الممتع)) (6/424). وقال أيضًا: (البَلغَمُ أو النُّخامةُ إذا لم تَصِلْ إلى الفَمِ فإنَّها لا تُفطِرُ، قولًا واحدًا في المذهَبِ، فإن وصَلَت إلى الفَمِ ثمَّ ابتلَعَها ففيه قولانِ لأهلِ العِلمِ: منهم من قال: إنَّها تُفطِرُ؛ إلحاقًا لها بالأكلِ والشُّربِ. ومنهم من قال: لا تُفطِرُ؛ إلحاقًا لها بالرِّيقِ؛ فإنَّ الرِّيقَ لا يَبطُلُ به الصَّومُ، حتى لو جَمَع ريقَه وبَلَعه فإنَّ صَومَه لا يَفسُدُ. وإذا اختَلَف العلماءُ فالمرجِعُ الكِتابُ والسُّنَّةُ، وإذا شكَكْنا في هذا الأمرِ: هل يُفسِدُ العِبادةَ أو لا يُفسِدُها؟ فالأصلُ عَدَمُ الإفسادِ، وبناءً على ذلك يكونُ بَلعُ النُّخامةِ لا يُفطِرُ). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (19/355). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: قياسُ البَلغَمِ على الرِّيقِ في عَدَمِ التَّفطيرِ بالابتلاعِ، بجامِعِ كَونِهما أمرًا معتادًا في الفَمِ غَيرَ واصِلٍ مِنَ الخارِجِ ([12]( يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/123). .
ثانيًا: أنَّ البَلغَمَ أمرٌ يَشُقُّ التَّحرُّزُ منه، فلا يُفطِرُ الصَّائِمُ بابتِلاعِه ([13]( يُنظر: ((الشرح الكبير)) للدردير (1/525). .
ثالثًا: أنَّ النُّخامةَ لم تخرُجْ من الفَمِ، ولا يُعَدُّ بَلعُها أكلًا ولا شُربًا، فلا يُفطِرُ الصَّائِمُ ببَلعِها ([14]( يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (6/424). .
القَولُ الثَّاني: ابتِلاعُ البَلغَمِ أو النُّخامةِ أثناءَ الصَّومِ إذا وصَلَت إلى الفَمِ: يُفطِرُ به الصَّائِمُ، وهو مَذهَبُ الشَّافعيَّةِ ([15]( الشَّافِعيَّةُ لهم تفصيلٌ: إن لم تحصُلْ في حَدِّ الظَّاهِرِ من الفَمِ لا يُفطِرُ، وإن حصَلَت فيه بانصبابِها من الدِّماغِ في الثُّقبةِ النَّافِذةِ منه إلى أقصى الفَمِ فَوقَ الحُلقومِ، نُظِر: إن لم يَقدِرْ على صَرفِها ومَجِّها حتى نزَلَت إلى الجَوفِ لا يُفطِرُ، وإن رَدَّها إلى فَضاءِ الفَمِ أو ارتدَّت إليه ثمَّ ابتَلَعَها أفطَرَ. ((فتح العزيز بشرح الوجيز)) للرافعي (3/199)، ((روضة الطالبين)) للنووي (2/360). ، والحنابِلةِ ([16]( ((الإقناع)) للحجاوي (1/314)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/481). ، وقولٌ عِندَ المالِكيَّةِ ([17]( ((الشرح الكبير)) للدردير (1/525). ، واختيارُ ابنِ بازٍ ([18]( قال ابنُ بازٍ: (إنَّ الرِّيقَ لا بأسَ به، كونُه يَبلَعُ ريقَه هذا لا حَرَجَ فيه، الرِّيقُ المعتادُ، أمَّا النُّخامةُ من الصَّدرِ أو من الرَّأسِ فهذه لا تُبلَعُ، متى وصلَت إلى فَمِه فإنَّ الواجِبَ أنَّه يَقذِفُها ولا يبتَلِعُها، فإن تعَمَّد ابتلاعَها أفطَرَ بذلك على الصَّحيحِ، وقضى ذلك اليومَ). ((فتاوى نور على الدرب)) (16/296-297). وقال أيضًا: (أمَّا النُّخامةُ -وهي ما يخرُجُ من الصَّدرِ أو من الأنفِ، ويقالُ لها: النُّخاعةُ، وهي البَلغَمُ الغليظُ الذي يحصُلُ للإنسانِ تارةً من الصَّدرِ، وتارةً من الرَّأسِ- هذه يجِبُ على الرَّجُلِ والمرأةِ بَصقُه وإخراجُه وعَدَمُ ابتلاعِه). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/313). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: قياسُ البَلغَمِ على الدَّمِ في الفِطرِ بابتلاعِه، بجامِعِ إمكانِ التَّحرُّزِ منهما ([19]( يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/123). .
ثانيًا: قياسُ البَلغَمِ على القَيءِ في الفِطرِ بابتلاعِه، بجامِعِ كَونِهما حصَلَا من غيرِ الفَمِ ([20]( يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/123). .
المطلب الثامن: حُكمُ شُربِ الدُّخَانِ أثناءَ الصَّومِ
شُرْبُ الدُّخَانِ المعروفِ (التَّبْغ) أثناء الصَّومِ؛ يُفسِدُ الصِّيامَ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (2/395). ، والمالكيَّة ((الشرح الكبير)) للدردير (1/525). ، والشَّافعيَّة ((حواشي الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج)) (3/400). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/320-321). ؛ وذلك لأنَّ الدُّخَانَ له جِرمٌ ينفُذُ إلى الجَوف،ِ فهو جسمٌ يدخُلُ إلى الجَوفِ، فيكونُ مُفطِّرًا كالماء؛ ولأنَّه يسمَّى شُربًا عُرفًا، وصاحِبُه يتعَمَّدُ إدخالَه في جَوفِه مِن مَنفَذِ الأكلِ والشُّربِ، فيكونُ مُفطِرًا (( مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (19/223).
المطلب التاسع: من أفطر ظانًّا أنَّ الشمسَ قد غرَبت
الفرع الأول: الإمساكُ في حَقِّ مَن أفطَرَ ظانًّا أنَّ الشَّمسَ قد غرَبَتْ
إذا أفطَرَ الصَّائِم في صومٍ واجبٍ؛ ظانًا أنَّ الشَّمسَ قد غَرَبَتْ، ثم تبيَّنَ له أنَّها لم تغرُبْ؛ فإنَّه يلزَمُه الإمساكُ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/372)، وينظر:  ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/372). ، والمالكيَّة ((منح الجليل)) لعليش (2/134)، وينظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (1/133). ، والشَّافعيَّة ((تحفة المحتاج)) للهيتمي (3/433). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/309)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/145). ، وحُكي فيه الإجماعُ قال ابنُ قدامة: ( وكلُّ من أفطَرَ والصَّومُ لازمٌ له؛ كالمُفطِر بغيرِ عُذرٍ، والمُفطِرِ يظُنُّ أنَّ الفَجرَ لم يطلُعْ وقد كان طلَعَ، أو يظنُّ أنَّ الشَّمسَ قد غابت ولم تَغِبْ، أو النَّاسي لنيَّةِ الصَّومِ، ونحوِهم- يلزَمُهم الإمساكُ. لا نعلم بينهم فيه اختلافًا. إلا أنَّه يخرج على قولِ عطاءٍ في المعذورِ في الفِطرِ: إباحةُ فِطرِ بَقيَّةِ يَومِه، قياسًا على قولِه فيما إذا قامَتِ البيِّنةُ بالرُّؤية. وهو قول شاذٌّ، لم يعرِّجْ عليه أهلُ العِلمِ) ((المغني)) (3/ 145). ، وذلك قضاءً لحقِّ الوقتِ بالقَدْرِ المُمكِن، أو نفيًا للتُّهمةِ ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/372).
الفرع الثاني: من أفطَرَ ظانًّا أنَّ الشَّمسَ قد غرَبتْ هل يلزَمُه قضاءٌ أو لا؟
اختلف أهلُ العِلمِ في وجوبِ القَضاءِ على مَن أفطَرَ ظانًّا أنَّ الشَّمسَ قد غرَبت على قولينِ:
القول الأوّل: من أفطر ظانًّا أنَّ الشَّمسَ قد غرَبت، يلزَمُه القضاءُ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((الهداية)) للمرغيناني (1/129)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/372). ، والمالكيَّة ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/453). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/307). ، والحَنابِلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/309)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/148).
الدَّليل من الكتاب:
عموم قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ [البقرة: 187]
وجه الدلالة:
أنَّ الصَّائِم مأمورٌ بإتمامِ صَومِه إلى اللَّيلِ، والصَّائِم في هذه المسألة قد أكَل في النَّهارِ ((المجموع)) للنووي (6/310).
القول الثاني: من أفطر ظانًّا أنَّ الشمسَ قد غرَبت، فلا قضاءَ عليه، وهو قولُ طائفةٍ من السَّلف ((التمهيد)) لابن عبد البر (21/98). ، واختاره ابن تيميَّة، وابن القيِّم، وابن عُثيمين ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/572 - 573)، ((تهذيب سنن أبي داود)) لابن القيم (6/212)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/396).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
عمومُ قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا البقرة: 286.
وجه الدلالة:
أنَّ هذا مِن الخطأِ الذي قد عفا اللهُ عنه؛ ولا قضاءَ على من أفطر مُخطِئًا ((تهذيب سنن أبي داود)) لابن القيم (6/212).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالت: ((أفطَرْنا على عهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في يومِ غَيمٍ، ثم طلَعتِ الشَّمسُ )) رواه البخاري (1959).
وجه الدلالة:
أنه لم يُنقَلْ أنَّ الصحابةَ أُمِرُوا بالقضاءِ، ولو كان واجبًا لنُقِلَ (( الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/398).
المطلب العاشر: أكَلَ شاكًّا في غروبِ الشَّمسِ
من أكل شاكًّا في غروبِ الشَّمسِ ولم يتبَيَّنْ له بعد ذلك هل غربَتْ أم لا، أو تبيَّنَ أنَّها لم تغرُبْ؛ فإنَّه يأثَمُ، ويجِبُ عليه القضاءُ في الحالتينِ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الأربعةِ: الحنفيَّة ((الهداية)) للمرغيناني (1/129)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/106). ، والمالكيَّة ((حاشية الدسوقي)) (1/526). ، والشَّافعيَّة ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/158). ، والحَنابِلة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/310).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187]
وجه الدلالة:
أنَّه لا بُدَّ أن يُتِمَّ الصَّائِم صَومَه إلى اللَّيلِ، أي: إلى غروبِ الشَّمسِ (( الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/396).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا أقبَلَ اللَّيلُ مِن هاهنا، وأدبَرَ النَّهارُ مِن هاهنا، وغرَبَتِ الشَّمسُ؛ فقد أفطَرَ الصَّائِم )) رواه البخاري (1954)، ومسلم (1100).
وجه الدلالة:
أنه لم تغرُبِ الشَّمسُ، والأصلُ بقاءُ النَّهارِ حتى يُتيَقَّنَ، أو يَغلِبَ على الظَّنِّ غروبُ الشَّمسِ، فمن أكلَ وهو شاكٌّ، فقد تجاوَزَ حَدَّه، وفعَلَ ما لم يُؤذَنْ له فيه.
المطلب الحادي عشر: مَن تسحَّر بعد طُلوعِ الفَجرِ خطأً
من تسحَّرَ معتقدًا أنَّه ليلٌ، فتبيَّنَ له أنَّ الفَجرَ قد دخَلَ وقتُه؛ فقد اختلَفَ أهْلُ العِلمِ في وجوبِ القضاءِ عليه، على قولين:
القول الأول: صَومُه صَحيحٌ، ولا قضاءَ عليه، وهو قَولُ طائفةٍ مِن السَّلَفِ قال ابنُ قدامة: (وحكي عن عروة, ومجاهد والحسن, وإسحاق: لا قضاءَ عليهم) ((المغني)) (3/147). : واختاره ابنُ تيميَّةَ قال ابنُ تيمية: (وإن شكَّ: هل طلعَ الفَجرُ؟ أو لم يطلُعْ؟ فله أن يأكُلَ ويشرَبَ حتى يتبيَّنَ الطُّلوعَ. ولو عَلِمَ بعد ذلك أنَّه أكَلَ بعد طلوعِ الفَجرِ، ففي وجوبِ القَضاءِ نِزاعٌ. والأظهَرُ أنَّه لا قضاءَ عليه، وهو الثَّابِتُ عن عمر، وقال به طائفةٌ مِن السَّلَفِ والخَلَف). ((مجموع الفتاوى)) (25/216). ، وابنُ عُثيمين ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/394 - 395، 398)، ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عُثيمين)) (19/292 - 294).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
1- قَولُ الله سبحانه وتعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187]
وجه الدلالة:
أنَّ الأصلَ بقاءُ اللَّيلِ حتى يتبيَّنَ دخولُ الفَجرِ, وضِدُّ التبيُّنِ: الشَّكُّ والظَّنُّ، ومن القواعِدِ الفِقهيَّةِ المُقرَّرةِ أنَّ اليقينَ لا يزولُ بالشَّكِّ، فما دُمنا لم نتبيَّن الفَجرَ، فلنا أن نأكُلَ ونَشرَبَ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/394).
2- قولُه تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286]
وجه الدلالة:
أنَّ مَن أكَلَ أو شَرِبَ جاهلًا بدُخولِ وَقتِ الفَجرِ؛ فهو مُخطِئٌ، والخطأُ معفوٌّ عنه.
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
حديثُ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، حيث قالت: ((أفطَرْنا على عهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ غَيمٍ، ثمَّ طلعَتِ الشَّمسُ )) رواه البخاري (1959).
وجه الدَّلالة:
أنَّه لم يُنقَل أنَّهم أُمِرُوا بالقَضاءِ، وإذا كان هذا في آخِرِ النَّهارِ، فأوَّلُه مِن بابِ أَوْلى؛ لأنَّ أَوَّلَه مأذونٌ له بالأكلِ والشُّربِ فيه، حتى يتبيَّنَ له الفَجرُ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/333 - 394).
 القول الثاني: عليه القَضاءُ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة ((الهداية)) للمرغيناني (1/129)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/322). ، والمالكيَّة ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (1/526)، وينظر: ((المدونة الكبرى)) لسحنون (1/266)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/704). ، والشَّافِعيَّة قال النووي: (ولو أكل ظانًّا غروبَ الشَّمسِ فبانت طالعةً أو ظانًّا أنَّ الفَجرَ لم يطلُع فبان طالعًا- صار مُفطِرًا. هذا هو الصَّحيحُ الذى نصَّ عليه الشَّافعي، وقطع به المصنِّفُ والجمهور) ((المجموع)) (6/313). ، والحَنابِلة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/310) قال أبو داود: قلت لأحمد: (إذا تسحَّرَ وهو يرى أنَّ عليه ليلًا وقد أصبح؟ قال: يقضي) ((مسائل الإمام أحمد لأبي داود السجستاني)) (ص 93).
الدَّليل:
قولُ الله سبحانه وتعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187]
وجه الدلالة:
تبيُّنُ طلوعِ الفَجرِ قد حصلَ في هذه الحالةِ، فلَزِمَه القضاءُ قال البابرتي: (أمَّا فساد صومِه، فلانتفاءِ رُكنِه بغَلطٍ يُمكِنُ الاحترازُ عنه في الجملةِ، بخلاف النِّسيانِ. وأمَّا إمساكُ البقيَّةِ فلِقَضاءِ حَقِّ الوَقتِ بالقَدْرِ المُمكِن..، آنفًا أو لِنَفيِ التُّهمة؛ فإنَّه إذا أكل ولا عُذرَ به، اتَّهَمه الناسُ بالفِسقِ، والتحرُّزُ عن مواضِعِ التُّهَم واجبٌ. وأما القضاءُ، فلأنَّه حقٌّ مَضمونٌ بالمِثلِ شَرعًا، فإذا فوَّته قضاه، كالمريض والمسافر. وأما عدمُ الكفَّارة، فلأنَّ الجنايةَ قاصرةٌ؛ لِعَدمِ القَصدِ) ((العناية شرح الهداية)) (2/372)، ويُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (1/129).

انظر أيضا: