الموسوعة الفقهية

المبحث الثاني: استيعاب زمن الإمساك


المطلب الأول: بدايةُ زَمَنِ الإمساكِ
يلزَمُ الصَّائِم الإمساكُ عَنِ المفطِّراتِ مِن دُخولِ الفَجرِ الثاني الفجرُ فَجرانِ: فجرٌ صادِقٌ، وفَجرٌ كاذِبٌ. وهناك فروق بينهما، وهي: 1- الفجرُ الكاذِبُ: يكون مستطيلًا في السَّماءِ، ليس عَرْضًا، ولكن طُولًا، وأما الفجرُ الصَّادِقُ: فيكون عَرْضًا، يمتدُّ مِنَ الشَّمالِ إلى الجَنوبِ. 2- الفجر الصَّادِقُ: لا ظُلمةَ بعده بل يزدادُ فيه الضِّياءُ حتى تطلُعَ الشَّمسُ، وأمَّا الفجرُ الكاذِبُ: فإنَّه يَحدُث بعد ضيائِه ظُلمةٌ؛ ولهذا سُمِّيَ كاذبًا؛ لأنَّه يضمحِلُّ ويزول. 3- الفجرُ الصَّادِقُ: متَّصِلٌ بالأفُقِ، أمَّا الفَجرُ الكاذِبُ: فبينه وبين الأفُقِ ظُلمةٌ. ((لقاء الباب المفتوح لابن عُثَيمين)) (رقم اللقاء: 62). ، وذهب إلى هذا عامَّةُ أهلِ العلمِ قال ابنُ قُدامة: (والصَّومُ المشروعُ هو الإمساكُ عن المُفَطِّراتِ، من طلوعِ الفَجرِ الثاني إلى غُروبِ الشَّمس، رُوِيَ معنى ذلك عن عُمَرَ، وابن عباس، وبه قال عطاءٌ، وعوامُّ أهلِ العلم) ((المغني)) (3/105). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك   قال ابنُ عبد البر: (والنَّهارُ الذي يجِبُ صيامُه: من طلوعِ الفَجرِ إلى غروبِ الشَّمسِ، على هذا إجماعُ عُلَماءِ المُسلمينَ، فلا وَجْهَ للكلامِ فيه). ((التمهيد)) (10/62).
فرع: مَن طلَع عليه الفَجرُ وفي فَمِه طَعامٌ
مَن طلَع عليه الفَجرُ وفي فَمِه طعامٌ، فعليه أن يلفِظَه يجب الإمساكُ بمجَرَّدِ سَماعِ الأذانِ إن كان المؤذِّنُ ثقةً لا يؤذِّنُ حتى يطلُعَ الفَجرُ، أمَّا إن كان المؤذِّن يؤذِّن قبل طلوعِ الفَجرِ، فلا يجِبُ الإمساكُ، ويجوز الأكْلُ والشُّربُ حتَّى يتبيَّنَ الفَجر، كما لو عَرَفَ أنَّ المؤذِّنَ يتعمَّد تقديمَ الأذانِ قبل الوَقتِ، أو مِثل أن يكون في بَرِّيَّة، ويُمكنه مشاهدةُ الفَجرِ؛ فإنَّه لا يلزَمُه الإمساكُ إذا لم يطلُعِ الفَجرُ- ولو سَمِعَ الأذانَ، وإن كان لا يعلمُ حالَ المؤذِّنِ، هل أذَّنَ قبلَ الفَجرِ أو بعد الفَجرِ، فإنَّه يُمسِكُ أيضًا؛ فإنَّ الأصل أنَّ المؤذِّنَ لا يؤذِّنُ إلَّا إذا دخل الوَقتُ. ينظر:((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/286)، ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (19/295). ويُتمَّ صَومَه، فإنِ ابتلَعَه بطَلَ صومُه، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة   ((المبسوط)) للسرخسي (3/255). ، والمالكيَّة  ((حاشية الدسوقي)) (1/533). ، والشَّافعيَّة   ((المجموع)) للنووي (6/311). ، والحَنابِلة   ((الإنصاف)) للمرداوي (3/307). ، وهو قولُ ابنِ حَزمٍ   ((المحلى)) لابن حزم (4/366)، ويُنظر: ((تهذيب سنن أبي داود)) لابن القيم (6/209).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قوله تعالى: وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ[البقرة: 187]
وجه الدلالة
أنَّ اللهَ أباح الأكلَ والشُّربَ إلى طلوعِ الفَجرِ، ثمَّ أمَرَ بالإمساكِ عنهما إلى اللَّيلِ ((المغني)) لابن قدامة (3/119)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/570).
ثانيًا: منَ السُّنَّة
عن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها أنَّ بِلالًا كان يؤَذِّنُ بلَيلٍ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كُلوا واشرَبُوا حتى يؤذِّنَ ابنُ أمِّ مَكتومٍ؛ فإنَّه لا يُؤذِّنُ حتى يَطلُعَ الفَجرُ )) رواه البخاري (1918)، واللفظ له، ومسلم (1092). ورواه البخاري (623)، ومسلم (1092) من حديث ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما.
المطلب الثاني: نهايةُ زَمَنِ الإمساكِ والأحكامُ المُتعَلِّقةُ به
الفرع الأول: متى ينتهي زَمَنُ الإمساكِ؟
ينتهي زَمَنُ الإمساكِ بغُروبِ الشَّمسِ؛ نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ حزمٍ ((مراتب الإجماع)) لابن حزم (ص 39)، ولم يتعقبه ابن تيمية في ((نقد مراتب الإجماع)). ، وابنُ عبدِ البَرِّ قال ابنُ عبد البر: (والنَّهارُ الذي يجبُ صيامُه من طلوعِ الفجرِ إلى غروب الشَّمس. على هذا إجماعُ عُلَماءِ المُسلمين، فلا وجهَ للكلامِ فيه) ((التمهيد)) (10/62). ، والنوويُّ قال النووي: (ينقضي الصومُ ويَتِمُّ بغُروبِ الشَّمسِ بإجماعِ المُسلمين) ((المجموع)) (6/310).
الفرع الثاني: إذا أفطَرَ الصَّائِم ثم أقلعَتِ الطَّائرةُ به، فرأى الشَّمسَ لم تغرُبْ
إذا غرَبتِ الشَّمسُ وأفطَرَ الصَّائِم، ثم أقلعتْ به الطَّائرةُ وارتفعَتْ، ورأى الشَّمسَ لم تغرُبْ، فإنَّه لا يلزَمُه الإمساكُ، وصَومُه الذي صامه صحيحٌ، وبه أفتى عبدُ الرزَّاق عفيفي قال عبد الرزاق عفيفي: (إذا غابت الشَّمس في الأرض، فإنَّ الصَّائِم يُفطِرُ، فإذا ارتفعَت الطَّائرة في الفضاء، فرأى الشَّمسَ لم تغرُب استمَرَّ على فِطرِه..) ((فتاوى الشيخ عبد الرزاق عفيفي)) (ص 168). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (.. إذا أفطر بالبلَدِ بعد انتهاءِ النَّهارِ في حقِّه، فأقلَعَت الطَّائرة ثم رأى الشَّمس؛ فإنَّه يستمِرُّ مُفطرًا) ((مجلة البحوث الإسلامية)) (16/130). ، وابن عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (مسألةٌ: رجل غابت عليه الشَّمسُ وهو في الأرض وأفطَرَ وطارت به الطَّائرة ثم رأى الشَّمسَ. نقول: لا يلزَمُ أن يُمسِك؛ لأنَّ النَّهار في حقِّه انتهى، والشَّمس لم تطلُعْ عليه، بل هو طلَعَ عليها..) ((الشرح الممتع)) (6/397)، وانظر ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (19/331 - 334).
الفرع الثالث: ما يُعتَبَرُ في وقتِ الفِطرِ للمُسافِرِ في الطَّائرةِ
مَن سافَرَ بالطَّائرةِ وهو صائمٌ، ثم اطَّلَعَ بواسطةِ السَّاعةِ أو التِّلفازِ أو غيرِهما على أنَّ وَقتَ إفطارِ البَلَدِ الذي سافَرَ منه أو البَلَدِ القَريب منه في سَفَرِه؛ قد دخل، لكنَّه يرى الشَّمس بسببِ ارتفاعِ الطَّائرةِ- فليس له أن يُفطِرَ إلَّا بعد غُروبِها، وبه أفتى عبدُ الرزَّاق عفيفي قال عبد الرزاق عفيفي: (.. أمَّا إذا ارتفعَتِ الطائرةُ قبل الغُروبِ؛ فإنَّه يستَمِرُّ صائمًا حتى تَغِيبَ الشمسُ في الطَّائرة). ((فتاوى الشيخ عبد الرزاق عفيفي)) (ص 168). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (إذا أقلعَتِ الطائرةُ منَ الرياض مثلًا قبل غروبِ الشَّمس إلى جهةِ المَغربِ فإنَّك لا تزالُ صائمًا حتى تغرُبَ الشَّمسُ وأنت في الجَوِّ، أو تنزِلَ في بلدٍ قد غابت فيها الشَّمس) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/293 - 322)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (16/130). ، وابن عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (النَّاسُ الذين على الجبالِ أو في السُّهولِ والعِمارات الشَّاهقة، كُلٌّ منهم له حكمُه، فمن غابَتْ عنه الشَّمسُ حلَّ له الفِطرُ، ومن لا فلا) ((الشرح الممتع)) (6/398) وانظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (19/331).
الفرع الرابع: وقتُ الفِطرِ في البلادِ التي يَطولُ فيها النَّهارُ
 يجِبُ على الصَّائِم الإمساكُ مِن حينِ طُلُوعِ الفَجرِ، إلى غُرُوبِ الشَّمسِ، في أيِّ مكانٍ، سواءٌ طال النَّهارُ أم قَصُر، إذا كان اللَّيلُ والنَّهارُ يتعاقبانِ خِلالَ أربعٍ وعِشرينَ ساعةً، لكن لو شقَّ الصَّومُ في الأيَّامِ الطَّويلةِ مَشَقَّةً غيرَ مُحتمَلَة، ويُخشى منها الضَّرَرُ أو حدوثُ مَرَضٍ؛ فإنَّه يجوزُ الفِطرُ حينئذٍ، ويقضي المُفطِرُ في أيامٍ أُخَرَ يتمَكَّنُ فيها مِنَ القَضاءِ؛ وبهذا أفتى ابنُ باز ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/293 - 300). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (من كان في بلدٍ فيه ليلٌ ونهارٌ يتعاقبانِ في أربعٍ وعِشرينَ ساعةً؛ لَزِمَه صيامُ النَّهارِ وإن طال، إلَّا أن يشقَّ عليه مشقَّةً غَيرَ مُحتمَلةٍ يَخشى منها الضَّررَ، أو حُدوثَ مرضٍ، فله الفِطرُ وتأخيرُ الصِّيامِ إلى زَمَنٍ يقصُرُ فيه النَّهارُ) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (19/308 - 309). ، وغيرُهما، وهو قرارُ المجمَعِ الفقهيِّ الإسلاميِّ ((قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي)) (1/46). قرار رقم: 46 (6/9) بشأنِ مواقيتِ الصَّلاة والصِّيام في البلادِ ذات خطوطِ العَرْضِ العاليةِ.
الفرع الخامس: كيفيَّةُ تحديدِ زَمَنِ الإمساكِ في البلادِ التي يخرُجُ فيها اللَّيلُ والنَّهارُ عن المُعتادِ
مَن كان في بلدٍ لا يتعاقَبُ فيه اللَّيلُ والنَّهارُ في أربعٍ وعِشرينَ ساعةً؛ كبلَدٍ يكون نهارُها مثلًا: يومينِ، أو أُسبوعًا، أو شهرًا، أو أكثَرَ من ذلك، فإنَّه يَقْدُرُ للنَّهارِ قَدْرَه، وللَّيلِ قَدْرَه؛ بأن تُحسَبَ مدَّةُ اللَّيلِ والنَّهارِ اعتمادًا على أقربِ بلَدٍ منه، يكون فيه ليلٌ ونهارٌ يتعاقبانِ في أربعٍ وعشرينَ ساعةً. وبهذا أفتى ابنُ باز ((مجموع فتاوى ابن باز)) (15/293 - 300). ، وابن عُثيمين ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (19/308 - 309). ، وغيرُهما، وهو ما قَرَّره المجمَعُ الفقهيُّ الإسلاميُّ ((قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي)) (1/46)، قرار رقم: 46 (6/9) بشأن مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية.

انظر أيضا: