الموسوعة الفقهية

المبحث الأوَّل: جِنس ما يُخرَج في زكاة الفِطر


تُخرَجُ زكاةُ الفطرِ مِن قُوتِ البَلدِ [2178] يجوزُ إخراجُ التَّمرِ والشَّعيرِ بالإجماع. قال القاضي عياض: (ولا خلافَ بينهم فى جواز إخراجها من البُرِّ والشَّعير، والتَّمر والزبيب، إلَّا خلافًا فى البُرِّ ممَّن لا يُعتدُّ بخلافه، فلم يُجزه فيهما، وكذلك لبعض المتأخِّرين فى الزَّبيب، والإجماعُ سبق هذا الخلافَ). ((إكمال المعلم))(3/481) قال النوويُّ: (قال القاضي: واختُلف في النوع المُخرَج، فأجمعوا أنه يجوز البُر والزَّبيب، والتمر والشَّعير، إلَّا خلافًا في البُرِّ لمن لا يُعتدُّ بخلافه، وخلافًا في الزبيب لبعض المتأخِّرين، وكِلاهما مسبوقٌ بالإجماع، مردودٌ به). ((شرح النووي على مسلم)) (7/60).      وقال الباجي: (وقوله: (صاعُا من تمر، أو صاعًا من شعير) ذِكرٌ لِمَا يجوز إخراجه في صدقة الفِطر، ولا خلاف في جواز إخراج التَّمر والشَّعير في زكاة الفِطر، وأنَّ المقدار المخرَج منه هو صاع، والصاع أربعة أمداد بمُدِّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((المنتقى شرح الموطأ)) (2/186).      قال القرطبيُّ: (وقوله: (صاعًا من طعام، أو صاعًا من أَقِطٍ، أو صاعًا من شَعير، أو صاعًا من زبيب) الطعام هنا: هو القمحُ بدليل ذِكر الشَّعير، وقد رواه أبو داود، وقال: أو صاعًا من حِنطة، مكان ((من طعام))، وهو حُجَّة على مَن قال: لا تخرج من البُر، وهو خلافٌ شاذٌّ، وهو مسبوقٌ بإجماع السَّلف)). ((المفهم)) (3/22)).      وقال الزرقاني: («أو صاعًا من شَعير، أو صاعًا من تمر» (أو) للتقسيم لا للتخيير؛ لاقتضائِه أن يخرج الشَّعير من قُوته أو التَّمر مع وجوده، وليس كذلك، (أو صاعًا من أَقِط) - بفتح الهمزة، وكسْر القاف - وهو لبن فيه زُبدة، (أو صاعًا من زَبيب)، فيُخرِج من أغلب القُوت من هذه الخَمس، وخالف في البُرِّ والزَّبيب مَن لا يُعتدُّ بخلافه، فقال: لا يخرج منهما، وردَّه الباجي وعياضٌ بالإجماع السَّابق عليهما). ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (2/220).      ونقَل ابن حزم عن ابن عُمرَ أنه لم يكُن يُخرِج إلَّا التمر أو الشَّعير، فقال: (فهذا ابنُ عمر قد ذكرنا أنه كان لا يُخرِج إلا التمر، أو الشعير، ولا يُخرِج البُرَّ، وقيل له في ذلك، فأخبر أنَّه في عمله ذلك على طريق أصحابِه؛ فهؤلاء هم الناس الذين يُستوحَش من خِلافهم، وهم الصحابة رضي الله عنهم، بأصحِّ طريق، وإنَّهم ليدَّعون الإجماعَ بأقلَّ من هذا إذا وجَدوه!). ((المحلى)) (4/249). ، وهذا مذهبُ المالكيَّةِ في الجملة للمالكيَّةِ تفصيلٌ، وهو أن يكونَ ما غلب اقتياتُه مِن تِسعةِ أشياءَ، وهي: القمح والشَّعير والسُّلْت، والأَرُز والذرة والدخن، والتمر والزبيب والأقِط؛ فإن لم توجد هذه الأنواعُ التِّسعة، واقتِيتْ غيرُها، فإنَّه يُخرج ممَّا غلب اقتياتُه. ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/261)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/229)، وينظر: ((المنتقى شرح الموطأ)) للباجي (2/188)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/167-169). ، والشافعيَّة قيَّده الشافعيَّة بغالِبِ قُوتِ بلَدِه. ((روضة الطالبين)) للنووي (2/303)، ((تحفة المحتاج)) للهيتمي و((حواشي الشرواني والعبادي)) (3/321). ، وروايةٌ عن أحمد ((مجموع الفتاوى)) (25/69)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/85). ، وهو مذهَبُ أكثَرِ العُلَماءِ انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (25/69)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/11). ، واختاره ابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (هل لهم أن يُخرِجوا ما يَقتاتونَ مِن غيرها؟ مثل أن يكونوا يَقتاتون الأَرُز والدخن؛ فهل عليهم أن يُخرِجوا حِنطةً أو شعيرًا، أو يُجزِئهم الأَرُز والدَّخن والذرة؟ فيه نزاعٌ مشهورٌ. وهما روايتان عن أحمد: إحداهما لا يُخرِج إلَّا المنصوص، والأخرى: يُخرج ما يقتاتُه، وإن لم يكن من هذه الأصنافِ. وهو قَولُ أكثَرِ العُلَماءِ: كالشافعيِّ وغَيرِه. وهو أصحُّ الأقوالِ؛ فإنَّ الأصلَ في الصَّدَقاتِ أنَّها تجِبُ على وَجهِ المساواةِ للفُقراءِ، كما قال الله تعالى: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ **المائدة: 89**، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فَرَض زكاةَ الفِطرِ صاعًا مِن تَمرٍ، أو صاعًا مِن شَعيرٍ؛ لأنَّ هذا كان قوتَ أهلِ المدينةِ، ولو كان هذا ليس قُوتَهم بل يَقتاتونَ غَيرَه، لم يُكلِّفْهم أن يُخرِجوا ممَّا لا يقتاتُونَه، كما لم يأمُرِ اللهُ بذلك في الكفَّارات. وصدقةُ الفِطرِ مِن جنسِ الكفَّارات؛ هذه معلَّقةٌ بالبَدَنِ، وهذه معلَّقةٌ بالبدن). ((مجموع الفتاوى)) (25/68، 69). ، وابنُ القيِّم قال ابنُ القيِّم: (المثال الرابع: ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فرَضَ صدقةَ الفِطرِ صاعًا مِن تَمرٍ، أو صاعًا مِن شَعيرٍ، أو صاعًا من زبيبٍ، أو صاعًا من أقِط))، وهذه كانت غالِبَ أقواتهم بالمدينة، فأمَّا أهلُ بلدٍ أو محَلَّةٍ قوتُهم غيرُ ذلك، فإنَّما عليهم صاعٌ مِن قُوتِهم، كمن قُوتُهم الذُّرة والأَرُز أو التِّين، أو غير ذلك من الحبوبِ، فإنْ كان قوتُهم من غيرِ الحُبوبِ كاللَّبَن واللحم والسَّمك، أخرجوا فِطرَتَهم من قُوتِهم كائنًا ما كان، هذا قولُ جُمهورِ العُلَماءِ، وهو الصَّوابُ الذي لا يُقالُ بِغَيره؛ إذ المقصودُ سدُّ خَلَّةِ المساكينِ يومَ العيدِ، ومواساتهم من جِنسِ ما يقتاتُه أهلُ بَلَدِهم). ((إعلام الموقعين)) (3/11). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (يجوزُ إخراجُ زكاةِ الفِطرِ مِنَ الرز وغيره من قوت البلدِ؛ لأنَّ الزَّكاة مواساةٌ، وإخراجُ الفِطرةِ مِنَ الرز من أحسن المواساة؛ لكونِه من خَيرِ طعامِ النَّاسِ اليوم). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (14/207). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمِين: (لا شكَّ في جوازِ إخراجِ الرز في زكاةِ الفِطرِ، بل ربَّما نقولُ: إنَّه أفضَلُ مِن غَيرِه في عصرنا؛ لأنَّه غالِبُ قُوتِ الناس اليومَ، ويدلُّ لذلك حديثُ أبي سعيد الخدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه الثابتُ في صحيح البخاريِّ قال: ((كنَّا نُخرِجُ يومَ الفِطرِ في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم صاعًا مِن طعامٍ، وكان طعامُنا الشَّعيرَ، والزَّبيب، والأقِط، والتَّمر))، فتخصيصُ هذه الأنواعِ ليس مقصودًا بعَينِها، ولكن لأنَّها كانت طعامَهم ذلك الوَقتَ). ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (18/283).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كنَّا نُخرِجُ إذ كان فينا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم زكاةَ الفِطرِ عَن كلِّ صغيرٍ وكبيرٍ، حرٍّ أو مملوكٍ، صاعًا من طعامٍ، أو صاعًا من أقِطٍ، أو صاعًا من شَعير، أو صاعًا من تَمرٍ، أو صاعًا مِن زَبيبٍ )) رواه البخاري (1506)، ومسلم (985)، واللفظ له. ، وفي رواية: ((كنَّا نُخرِجُ في عهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يومَ الفِطرِ صاعًا مِن طَعامٍ. وقال أبو سعيدٍ: وكان طعامُنا الشَّعيرَ والزَّبيبَ، والأقِطَ والتَّمر )) رواه البخاري (1510).
وجه الدَّلالة:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فَرَض زكاةَ الفِطرِ صاعًا مِن تَمر، أو صاعًا من شَعيرٍ؛ لأنَّ هذا كان قوتَ أهلِ المدينةِ ((مجموع الفتاوى)) (25/68، 69).
ثانيًا: أنَّ المقصودَ سدُّ خَلَّةِ المساكينِ يومَ العيد، ومواساتُهم تحصُل بأن تكونَ صَدَقَتُهم من جنسِ ما يقتاتُه أهلُ بَلَدِهم ((إعلام الموقعين)) (3/11).
ثالثًا: أنَّ نُفوسَ المستحقِّينَ إنما تتشوَّفُ لِقُوتِ بَلَدِهم ((تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي)) (3/321).
رابعًا: أنَّ المقصودَ إنَّما هو غِناهم عن الطَّلَبِ، وهم إنَّما يطلَبُون القوتَ؛ فوجب أن يكونَ هو المعتبَرَ ((الذخيرة)) (3/168).
خامسًا: أنَّه لَمَّا وجَبَ أداءُ ما فضَلَ عن قُوتِه، وجب أن تكونَ مِن قُوتِه ((المجموع)) للنووي (6/129، 130).
سادسا: أنَّه لا يُكلَّفُ بإخراجِ ما ليس مِن قُوتِهم؛ فإنَّ في هذا مشقَّةً على المتصدِّقِ، وعدمَ احتياجٍ للآخذ ينظر: ((مجموع الفتاوى)) (25/68، 69).
سابعًا: القياسُ على صدقةِ الكفَّارات؛ فإنَّ الطَّعامَ فيها يُخرَج من قوتِ أهلِ البَلَدِ، وصدقةُ الفِطرِ مِن جِنسِ الكفَّاراتِ؛ فكلتاهما متعلِّقةٌ بالبَدَنِ ((مجموع الفتاوى)) (25/68، 69).

انظر أيضا: