الموسوعة الفقهية

المطلب الثَّالث: الميتة الطاهرة


الفرع الأوَّل: مَيتةُ الآدميِّ
مَيتةُ الآدميِّ طاهرةٌ، سواء كان مُسلمًا أم كافرًا؛ وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: المالكيَّة في الأظهَرِ ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/141)، ((التاج والإكليل)) للمواق (1/99). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/563)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/78). ، والحنابلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/193)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/34).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
عمومُ قَولِه تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70]
وجه الدَّلالة:
أنَّ تكريمَ عُمومِ بَني آدَمَ يقتضي بألَّا يُحكَمَ عليه بالنَّجاسةِ، سواءٌ في حالِ الحياةِ أو حالِ الموتِ، وسواء كان مسلمًا أم كافرًا قال الماورديُّ: (فلمَّا طهُروا أحياءً لأجْل الكرامةِ، وجَب أن يُخَصُّوا بها أمواتًا لأجْلِ الكرامةِ) ((الحاوي الكبير)) (3/8).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((لقِيَني رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا جُنُب، فأخذَ بيدي، فمشيتُ معه حتى قعَدَ فانسلَلْتُ، فأتيتُ الرَّحْلَ فاغتسَلْتُ، ثم جئتُ وهو قاعِدٌ، فقال: أين كنتَ يا أبا هِرٍّ؟ فقلتُ له، فقال: سبحانَ اللهِ! يا أبا هِرٍّ، إنَّ المُؤمِنَ لا يَنجُسُ )) رواه البخاري (285) واللفظ له، ومسلم (371).
وجهُ الدَّلالة:
أنَّ قولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((إنَّ المؤمِنَ لا يَنجُسُ)) مُطلقٌ يشمَلُ حالَ الحياةِ وحالَ المَوتِ قال النوويُّ: (هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ في طهارةِ المُسلم حيًّا وميِّتًا، فأمَّا الحيُّ فطاهِرٌ بإجماعِ المُسلمين، حتى الجنينُ إذا ألقَتْه أمُّه وعليه رُطوبةُ فَرْجِها؛ قال بعض أصحابنا: هو طاهِرٌ بإجماعِ المُسلمين... وأمَّا الميِّتُ ففيه خلاف للعلماء) ((شرح مسلم)) (4/66).  يُنظر: ((المجموع)) للنووي (2/561).
ثالثًا: من الآثار
عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (المسلمُ لا يَنجُسُ حيًّا ولا ميِّتًا) رواه البخاريُّ معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (1253) واللفظ له، ورواه موصولًا ابنُ أبي شَيبة في ((المصنَّف)) (11246) موقوفًا على ابن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عنهما. قال البيهقيُّ في ((السنن الكبرى)) (1/306): معروف، وصحَّح إسنادَه ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (2/460) وقال: وهو موقوف, وقد رُوي من هذا الوجه مرفوعًا.  يُنظر: ((المجموع)) للنووي (2/561).
رابعًا: أنَّ المؤمِنَ الميِّتَ يُشرَعُ غُسلُه، ولو كان نَجِسًا لم يكُن في تغسيلِه فائدةٌ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/8). ((المجموع)) للنووي (2/560).
خامسًا: دلَّ الدَّليلُ على طهارةِ المُشرِك الحيِّ عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((بعَث رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خيلًا قِبَل نَجدٍ، فجاءتْ برجُلٍ مِن بني حنيفة يُقال له: ثُمامة بن أثال، فرَبطوه بساريةٍ مِن سواري المسجِدِ)) رواه البخاري (469) واللفظ له، ومسلم (1764). ، وليس هناك دليلٌ على نجاسَتِه ميِّتًا.
الفرع الثَّاني: مَيتةُ السَّمَك
مَيتةُ السَّمَك طاهرةٌ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة: 96]
وجه الدَّلالة:
أنَّ طعامَ البَحرِ المذكورَ في الآية هو ما مات فيه، ومِن ذلك السَّمَك؛ وإباحةُ الله تعالى أكْلَه، دليلٌ على طهارَتِه ((جامع البيان)) للطبري (11/61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 244).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((سأل رجلٌ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ الله، إنَّا نرَكَب البحرَ، ونحمِلُ معنا القليلَ مِن الماءِ؛ فإنْ توضَّأْنا به عطِشْنا، أفنتوضَّأُ بماءِ البَحرِ؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتتُه )) رواه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنَّسائي (59)، وابن ماجه (386)، وأحمد (8720). قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان في ((المجروحين)) (2/316)، والنووي في ((المجموع)) (1/82)، وقال ابن البر في ((التمهيد)) (16/217): لا يحتج أهل الحديث بإسناده لكنه صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/24): (في إسناد هذا الحديث اختلافٌ، لكن قال البخاري والترمذي: هو حديثٌ صحيح)، وصححه ابن العراقي في ((طرح التثريب)) (6/11)، وصححه أحمد شاكر في تحقيق ((المحلى)) (1/221)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (386).
وجه الدَّلالة:
أنَّ قولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الحِلُّ مَيتتُه)) يشمَلُ جَميعَ مَيتاتِ البَحرِ قال الشنقيطيُّ: (لا طعام له غير صَيده إلَّا ميتته، كما قاله جمهور العلماء، وهو الحقُّ،ويؤيِّده قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في البحر: ((هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتتُه))، وقد قدَّمنا ثبوت هذا الحديث، وفيه التَّصريح من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ ميتة البحر حلال، وهو فصل في محلِّ النِّزاع. وقد تقرَّر في الأصول: أنَّ المفرد إذا أضيف إلى معرفة كان من صِيغ العموم). ((أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)) (1/51). ، سواءٌ كان سمكًا أو غيره، وما كان حلالَ الأكْلِ، فهو طاهِرٌ.
ثالثًا: من الإجماع الإجماعاتُ الواردةُ هنا في حِلِّ مَيتةِ السَّمَك، وما دام قد ثبَت حِلُّ أكلِ مَيتَتِه، فهي طاهرةٌ.
نقل الإجماعَ على حِلِّ مَيتةِ السَّمَك: ابنُ عبدِ البَرِّ قال ابن عبدِ البَرِّ: (السَّمك لم يُختلف في أكْله، واختُلف في أكلِ الدوابِّ منه). ((التمهيد)) (23/12). ، والنوويُّ قال النوويُّ: (فالسَّمك والجرادُ إذا ماتَا، طاهرانِ بالنَّصوصِ، والإجماعِ). ((المجموع)) (2/561). ، وابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (قد أجمع سلف الأمَّة وأئمَّتُها على حِلِّ السَّمَك كلِّه). ((منهاج السنة النبوية)) (8/137). ، وابنُ حجر قال ابن حجر: (لا خلافَ بين العُلَماءِ في حِلِّ السَّمك على اختلافِ أنواعه، وإنَّما اختُلف فيما كان على صورة حيوان البرِّ كالآدميِّ والكَلب والخِنزيرِ والثُّعبان). ((فتح الباري)) (9/619). ، والشِّربيني قال الشربينيُّ: (وأمَّا مَيتةُ السَّمك والجراد، فللإجماعِ على طهارتِهما). ((مغني المحتاج)) (1/232). والشوكانيُّ قال الشوكانيُّ: (وبالجملة فلا خلافَ في أنَّ مَيتةَ السَّمك حلالٌ طاهرة). ((السيل الجرار)) (ص: 28).
الفرع الثَّالث: مَيتةُ البَحرِ
مَيتةُ البَحرِ طاهرةٌ، سواءٌ كان الموتُ بسبَبِ آدميٍّ، أو طفا على الماءِ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: المالكيَّة ((الكافي)) لابن عبدِ البَرِّ (1/160)، وينظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/76). ، والشَّافعيَّة ((روضة الطالبين)) للنووي (3/275)، وينظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/63). ، والحنابلة ((الفروع)) لابن مفلح (10/388)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/34). ، وهو مذهَبُ الظَّاهريَّة قال ابن حزم: (أمَّا ما يسكُن جوفَ الماء، ولا يعيش إلَّا فيه فهو حلالٌ كلُّه كيفما وُجِدَ, سواء أُخِذ حيًّا ثم مات، أو مات في الماء؛ طفَا أو لم يطْفُ, أو قتَلَه حيوان بحريٌّ أو بريٌّ، هو كلُّه حلالٌ أكْلُه. وسواءٌ خنزيرُ الماء, أو إنسانُ الماءِ, أو كلبُ الماء، وغير ذلك، كلُّ ذلك حلالٌ أكلُه: قتَل كلَّ ذلك وثنيٌّ أو مُسلِمٌ أو كتابيٌّ، أو لم يقتُلْه أحدٌ... وبأكْل الطافي من السَّمكِ يقول ابنُ أبي ليلى والأوزاعيُّ وسفيان الثوريُّ ومالك والليث والشافعيُّ وأبو سليمان). ((المحلى)) (6/60).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة: 96]
وجهُ الدَّلالة:
أنَّ طعامَ البَحرِ المذكورَ في الآيةِ هو ما مات فيه؛ وإباحةُ اللهِ تعالى أكلَه، دليلٌ على طهارَتِه ((جامع البيان)) للطبري (11/61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 244).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
1- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((سأل رجلٌ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ الله، إنَّا نرَكَب البحرَ، ونحمِل معنا القليلَ مِنَ الماء؛ فإنْ توضَّأْنا به عَطِشنا، أفنتوضَّأ بماءِ البَحرِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتتُه )) رواه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنَّسائي (59)، وابن ماجه (386)، وأحمد (8720). قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان في ((المجروحين)) (2/316)، والنووي في ((المجموع)) (1/82)، وقال ابن البر في ((التمهيد)) (16/217): لا يحتج أهل الحديث بإسناده لكنه صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/24): (في إسناد هذا الحديث اختلافٌ، لكن قال البخاري والترمذي: هو حديثٌ صحيح)، وصححه ابن العراقي في ((طرح التثريب)) (6/11)، وصححه أحمد شاكر في تحقيق ((المحلى)) (1/221)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (386).  
وجه الدَّلالة:
أنَّ قولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الحِلُّ مَيتتُه)) يشمَلُ جَميعَ مَيتاتِ البَحرِ قال الشنقيطيُّ: (لا طعامَ له غيرُ صَيدِه إلَّا مَيتَتَه، كما قاله جمهورُ العلماء، وهو الحقُّ،ويؤيِّده قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في البحر: ((هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتتُه))، وقد قدَّمنا ثبوتَ هذا الحديث، وفيه التَّصريحُ من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ مَيتةَ البَحرِ حلال، وهو فصل في محلِّ النِّزاعِ. وقد تقرَّر في الأصول: أنَّ المفردَ إذا أضيف إلى معرفةٍ كان من صِيغ العُمومِ). ((أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)) (1/51). ، سواء ٌكان سمكًا أو غيره، وما كان حلالَ الأكْلِ، فهو طاهِرٌ.
2- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((غزَوْنا جيشَ الخَبَط وأُمِّرَ أبو عُبَيدة، فجُعْنا جُوعًا شديدًا، فألْقى البحرُ حوتًا مَيِّتًا، لم نَرَ مِثلَه، يُقالُ له: العنبرُ، فأكَلْنا منه نِصفَ شَهرٍ، فأخَذ أبو عبيدةَ عَظمًا من عِظامِه، فمرَّ الرَّاكِبُ تحتَه، فأخبرني أبو الزُّبَيرِ، أنَّه سمع جابرًا يقول: قال أبو عُبَيدةَ: كلوا، فلمَّا قَدِمنا المدينةَ ذكَرْنا ذلك للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: كُلوا رِزقًا أخرَجَه اللهُ، أطعِمونا إنْ كان معكم، فأتاه بعضُهم بعضوٍ فأكَلَه )) رواه البخاري (4362) واللفظ له، ومسلم (1935).
وجه الدَّلالة:
أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكَل منه، وأمَرَهم بالأكلِ منه، وهذا صريحٌ في إباحةِ مَيتةِ ما ألقاه البَحرُ قال ابن حجر: (يُستفادُ منه إباحةُ مَيتةِ البَحرِ، سواء مات بنفسِه أو مات بالاصطيادِ، وهو قَولُ الجُمهورِ، وعن الحنفيَّةِ يُكرَه، وفرَّقوا بين ما لَفَظَه فمات، وبين ما مات فيه من غيرِ آفة). ((فتح الباري)) (9/618). ؛ وما أُبيحَ أكلُه، فهو طاهِرٌ.
ثالثًا: من الآثار
جاء عن طائفةٍ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم إباحةُ مَيتةِ البَحرِ مطلقًا بلا مخالفٍ لهم منهم قال ابن حزم: (قال الله تعالى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ **الصافات: 142**، فسمَّى ما يلتقِمُ الإنسانَ في بلعةٍ واحدةٍ حوتًا، وليس هذا من الصِّفة التي أحلَّ أبو حنيفة, وقد قال أبو بكر وعُمر بإباحَتِه، ولا يُعلَمُ لهما في ذلك مخالفٌ من الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عنهم.... وعن الحسن قال: أدركتُ سبعين رجلًا من أصحابِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأكلونَ صَيدَ المجُوسِ مِن الحِيتان، لا يختلِجُ منه شيءٌ في صُدورِهم، ولم يكونوا يرَونَ صَيده ذَكاتَه). ((المحلى)) (6/64)، وينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/615). ، ومن ذلك ما يلي:
1- عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (أَشهَدُ على أبي بكرٍ أنَّه قال: السَّمكةُ الطَّافيةُ حلالٌ) رواه البخاريُّ معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (5493) بلفظ: ((الطَّافي حلال))، ورواه موصولًا عبد الرزَّاق في ((المصنَّف)) (8654)، وابن أبي شيبة في ((المصنَّف)) (20115)، والطحاويُّ في ((شرح مشكل الآثار)) (10/210)، والدارقطنيُّ (4/269) (14)، والبيهقيُّ (9/253) (19446). صحَّح إسناده النوويُّ في ((المجموع)) (9/34)، وقال ابن حجر في ((تغليق التعليق)) (4/507): له طرق كثيرة.
2- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (لَمَّا قَدِمتُ البحرين سألني أهلُها عمَّا قذَفَ البحرُ، فأمَرتُهم أن يأكلوه، فلمَّا قَدِمتُ على عُمَرَ فذكر قصَّةً، قال فقال عمر: قال الله عزَّ وجلَّ في كتابِه: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ [المائدة: 96] ، فصَيدُه ما صِيدَ، وطعامُه ما قذَفَ به) رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (5493) بلفظ: ((صَيدُه ما اصطِيدَ، وطعامُه ما رَمَى به))، ورواه موصولًا البخاري في ((التاريخ)) كما في ((تغليق التعليق)) لابن حجر (4/506)، وعبد بن حميد في ((تفسيره)) كما في ((تغليق التعليق)) لابن حجر (4/506)، والطبري في ((التفسير)) (11/61)، والبيهقي (9/254) (19454).
وجهُ الدَّلالةِ مِن الأثرين:
أنَّ أكلَ مَيتةِ البَحرِ حَلالٌ، وما كان حلالَ الأكلِ، فهو طاهِرٌ ((جامع البيان)) للطبري (11/61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 244).
الفرع الرَّابع: مَيتةُ الجَرادِ  
مَيتةُ الجَرادِ طاهِرةٌ، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّةِ ((البناية شرح الهداية)) للعيني (11/526)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/79). ، والمشهور مِن مَذهَبِ المالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/122)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/81). ، والشَّافعية ((المجموع)) للنووي (2/560)، وينظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/56). ، والحنابلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/138)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (1/232). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال النوويُّ: (فالسَّمك والجرادُ إذا ماتا، طاهرانِ بالنَّصوصِ والإجماع) ((المجموع)) (2/561). وقال الشربينيُّ: (وأمَّا مَيتةُ السَّمَكِ والجراد، فللإجماعِ على طهارَتِهما) ((مغني المحتاج)) (1/232). قال ابن العربي: (ومنعَ مِن أكلِ الجرادِ إلَّا بذكاةٍ؛ قاله مالك وغيره؛ وذلك لأنَّ عمومَ الآية يجري على حاله حتى يخصِّصَه الحديثُ الصحيح... وهو مِن صَيدِ البَرِّ فلا بدَّ فيه من ذكاةٍ) ((أحكام القرآن)) (1/79) وقال ابنُ رشد: (واختلفوا في الجَرادِ، فقال مالك: لا يُؤكَلُ من غيرِ ذكاةٍ، وذكاتُه عنده هو أن يُقتَلَ إما بقَطعِ رأسِه أو بغيرِ ذلك. وقال عامَّةُ الفقهاء: يجوز أكلُ مَيتَتِه، وبه قال مُطَرِّف، وذكاة ما ليس بذي دَمٍ عند مالك كذكاةِ الجَراد. وسببُ اختلافِهم في مَيتةِ الجَرادِ هو هل يتناوَلُه اسمُ المَيتةِ أم لا، في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ((بداية المجتهد)) (1/443). وقال الحطَّاب: (أن الطَّاهِرَ أنواع: منها مَيتةُ الحيوانِ البَرِّي الذي لا دَمَ فيه، وهو الذي يقال فيه: ليس له نَفسٌ سائلة كما تقَدَّمَ بيانُ ذلك، ولو كانت فيه رطوبةٌ؛ كالعنكبوت والجداجد، والعقرب والزُّنبور، والصرصار والخنافس، وبنات وردان، والجراد والنحل، والدود والسوس، وفي مَيتةِ ما لا نفسَ له سائلة طريقتان في المذهب؛ الأولى: أنَّها طاهرةٌ باتِّفاقِ وهذه طريقة ابن بشير؛ قال في العتبية: وأما البَرِّي مما لا نفْسَ له سائلة لا ينجُسُ بالموتِ، بلا خلاف. انتهى. والطريقة الثانية: أنَّ فيها قَولينِ المشهورُ أنَّها طاهرةٌ، قال في التوضيح: نقل سند عن سحنون أنَّها نَجِسةٌ، لكنها لا تُنَجِّسُ غيرها. انتهى. وقال ابن عرفة: مَيتةُ بَرِّي ذي نفسٍ سائلة غير إنسانٍ، كالوزغ؛ نَجِسٌ، ونقيضها طاهِرٌ) ((مواهب الجليل)) (1/122).
الأدلَّة مِن السُّنَّةِ:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ أبي أَوْفَى رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((غزَوْنا معَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبعَ غزَواتٍ أو سِتًّا، كُنَّا نأكُلُ معَه الجَرادَ )) رواه البخاري (5495) واللفظ له، ومسلم (1952).
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، قال: ((أُحِلَّتْ لنا مَيتتانِ ودَمَانِ: الجرادُ والحِيتانُ، والكَبِدُ وَالطِّحالُ )) أخرجه البيهقي (1241) موقوفا على ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما. قال الدارقطني في ((علله)) (13/157): الموقوف عن ابن عمر أصح، وقال البيهقي: الموقوف هو الصحيح، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/84): روي موقوفًا على ابن عمر، وهو أصح [يعني من المرفوع]، وقال الصنعاني في ((سبل السلام)) (1/42): صح أنه موقوف، وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/739): ثبت موقوفا بأسانيد صحاح، وصححه موقوفا ابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (62)، وصحح إسناده موقوفا الألباني في ((منزلة السنة)) (8) وقال: وهو في منزلة المرفوع، وصحَّحه ابن عثيمين في ((شرح بلوغ المرام)) (6/10)، وقال الوادعي في ((الفتاوى الحديثية)) (1/220): الصحيح وقفه على ابن عمر، وله حُكم الرَّفع.
الفرع الخامس: ميتةُ ما لا نفْسَ (أي دم) له سائلة
ميتةُ ما لا نَفْسَ له سائلةٌ قال ابن القيِّم: (أوَّلُ مَن حُفِظَ عنه في الإسلامِ أنَّه تكلَّم بهذه اللَّفظةِ، فقال: ما لا نفْسَ له سائلة؛ إبراهيم النَّخَعي، وعنه تلقَّاها الفقهاء، والنَّفْس في اللُّغة: يُعبَّرُ بها عن الدَّم، ومنه نَفِسَت المرأة- بفَتح النون- إذا حاضت، ونُفِسَت- بضمها- إذا وَلدت). ((زاد المعاد)) (4/112). كالذُّباب والعقرب والخُنفساءِ؛ طاهرةٌ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: الحنفيَّة ((المبسوط)) للسَّرَخْسي (1/51)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/62). ، والمالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (1/122)، ((التاج والإكليل)) للمواق (1/86). ، والحنابلةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/377)، وينظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (1/305). ، وقولٌ للشَّافعيَّة ((الأم)) للشافعي (1/18)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/321). قال النوويُّ: (الصَّحيحُ منهما: أنَّه لا ينجِّسُ الماءَ، هكذا صحَّحَه الجُمهور، وقطَع به أبو الفتح سليم بن أيوب الرازيُّ في كتابه الكفاية، وصاحِبُه أبو الفتح نصر المقدسيُّ في كتابه الكافي، وغيرهما، وشذَّ المحامليُّ في المقنع، والرُّويانيُّ في البحر، ورجَّحَا النَّجاسة، وهذا ليس بشيءٍ، والصَّواب الطَّهارةُ، وهو قول جمهور العُلَماءِ، بل نَسَب جماعةٌ الشافعيَّ إلى خرْقِ الإجماع في قوله الآخَر بالنَّجاسة). ((المجموع)) (1/129) ، وهو قَولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ، وعامَّةِ العلماءِ قال ابن المُنذِر: (وقال عوامُّ أهلِ العِلمِ: إنَّ الماءَ لا يَفسُد بموتِ الذُّبابِ والخُنفساء، وما أشبَهَ ذلك فيه، هذا قول مالك بن أنس، وأحمد، وإسحاق، وأبي عُبَيد، وأبي ثور، ورُوي معنى هذا القول عن النَّخَعي، والحسن، وعكرمة، وعطاء... ولا أعلم أحدًا قال غيرَ ما ذكرْتُ إلَّا الشافعيَّ؛ فإنَّ الرَّبيع أخبرني أنَّه قال: فيها قولان، هذا الذي حكيتُه عن جُمَلِ النَّاس أحدُهما، والثاني: أنَّه يُنجِّسُ الماءَ بموته فيه... والقول الذي يوافق السُّنةَ وقولَ سائِرِ أهلِ العلمِ، أَوْلى به). ((الإشراف)) (1/144-145). وقال البغويُّ: (وهذا قولُ عامَّةِ الفُقَهاءِ). ((شرح السنة)) (11/260).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
1- قَولُ الله تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام: 145]
وجه الدَّلالة:
أنَّ الله عزَّ وجلَّ إنَّما حرَّمَ الدَّمَ المسفوحَ، وإذا كان عُفِيَ عَن الدَّمِ غيرِ المَسفوحِ، مع أنَّه مِن جِنسِ الدَّمِ؛ عُلِمَ أنَّ ما لا دَم فيه أَولى بالعَفوِ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/100).
2- قولُه تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: 69]
وجه الدَّلالة:
أنَّ ذلك فيه بيانُ طَهارةِ العَسَلِ، ومعلومٌ أنَّه لا يخلو مِنَ النَّحلِ الميِّتِ وفراخِه فيه، وحَكَم اللهُ تعالى مع ذلك بطَهارَتِه، فأَخبَرَ عمَّا فيه من الشِّفاءِ للنَّاسِ؛ فدلَّ ذلك على أنَّ ما لا دَمَ له، لا يَفسُدُ بالموتِ ((أحكام القرآن)) للجصَّاص (5/5).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا وقع الذُّبابُ في شَرابِ أحدِكم فلْيَغمِسْه، ثمَّ لْيَنزِعْه؛ فإنَّ في إحدى جَناحَيه داءً، والأخرى شِفاءً قال الخطَّابي: (قد تكلَّم على هذا الحديثِ بَعضُ مَن لا خَلاقَ له، وقال: كيف يجتَمِعُ الدَّاءُ والشِّفاءُ في جناحَيِ الذبابة؟! وكيف تَعلَم حتَّى تقدِّمَ جَناحَ الداءِ، وتؤخِّرَ جَناحَ الشِّفاء؟! قال: وهذا سؤالُ جاهلٍ، أو متجاهلٍ؛ فإنَّ الذي يَجِدُ نَفسَه ونفوسَ عامَّةِ الحَيوانِ قد جُمِعَ فيها بين الحرارة والبرودة، والرُّطوبة واليبوسة، وهي أشياءُ متضادَّة إذا تلاقَت تفاسَدَت، ثم يرى أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد ألَّفَ بينها، وجعل منها قُوى الحيوانِ التي بها بقاؤها- لجديرٌ ألَّا يُنكِرَ اجتماعَ الدواء والداءِ في جُزأينِ من حيوانٍ واحدٍ، وإنَّ الذي ألهم النَّحلةَ أن تتَّخِذَ البيتَ العجيبَ الصَّنعةِ، وتَعسِلُ فيه، وألهم الذرَّة أن تكتَسِبَ قُوْتَها، تدَّخِرُه لأوانِ حاجَتِها إليه، هو الذي خلَق الذُّبابةَ، وجعل لها الهدايةَ إلى أن تُقَدِّمَ جَناحًا، وتؤخِّرَ جَناحًا، لِمَا أراد مِنَ الابتلاءِ الذي هو مدرجةُ التعبُّدِ والامتحان، الذي هو مِضمارُ التَّكليف، وفي كلِّ شيء حِكمةٌ وعِبرة، وما يذَّكَّر إلَّا أولو الألبابِ). ((شرح السنة)) للبغوي (11/261). وقال ابن القيِّم: (اعلَمْ أنَّ في الذُّبابِ عندهم قوةً سُمِّية يدلُّ عليها الوَرم، والحكَّة العارضة عن لَسعِه، وهي بمنزلة السِّلاحِ، فإذا سقط فيما يؤذيه، اتَّقاه بسلاحِه، فأمر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقابِلَ تلك السُّميَّة بما أودَعَه الله سبحانه في جَناحِه الآخَرِ مِنَ الشِّفاء، فيُغمَسُ كُلُّه في الماء والطعام، فيقابل المادَّة السُّمية المادَّة النافعة، فيزول ضَرَرُها، وهذا طبٌّ لا يَهتدي إليه كبارُ الأطباءِ وأئمَّتُهم، بل هو خارج من مشكاةِ النبوَّة، ومع هذا فالطَّبيبُ العالم العارف الموفَّق يَخضَع لهذا العلاجِ، ويقرُّ لِمَن جاء به بأنَّه أكملُ الخَلقِ على الإطلاق، وأنَّه مُؤيَّدٌ بِوَحي إلهي خارِجٍ عن القُوَى البشريَّة، وقد ذكر غيرُ واحدٍ مِن الأطبَّاءِ أنَّ لسعَ الزُّنبور والعقرب إذا دُلِكَ موضعه بالذُّبابِ نفَع منه نفعًا بيِّنًا، وسكَّنَه، وما ذاك إلَّا للمادَّة التي فيه). ((زاد المعاد)) (4/112). )) رواه البخاري (3320).
وجه الدَّلالة:
أنَّ الذُّبابَ لا نفْسَ له سائلةٌ، ولو كان نجِسًا لَمَا أُمِرَ بغَمسِه في الشَّرابِ الذي وقَعَ فيه، ومعلومٌ أنَّه يموتُ من ذلك، لا سيَّما إذا كان الطَّعامُ حارًّا، فلو كان ينجِّسُه لكان أمرًا بإفسادِ الطَّعامِ، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنما أمَر بإصلاحِه، ثم عُدِّي هذا الحُكمُ إلى كلِّ ما لا نفْسَ له سائلةٌ، كالنَّحلة والزُّنبور، والعنكبوتِ، وأشباه ذلك؛ إذ الحُكمُ يعُمُّ بعمومِ عِلَّته، ويَنتفي لانتفاءِ سَبَبِه ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/111)، ((سبل السلام)) للصَّنعاني (1/28).
ثالثًا: أنَّه لَمَّا كان سببُ تنجيسِ المَيتةِ هو الدَّمَ المحتَقَن في الحيوانِ بِمَوتِه، وكان ذلك مفقودًا فيما لا دَم له سائِلٌ؛ انتفى الحُكمُ بالتَّنجيسِ لانتفاءِ عِلَّته ((مجموع فتاوى)) لابن تيميَّة (21/100)، (زاد المعاد)) لابن القيِّم (3/393)، ((سبل السلام)) للصَّنعاني (1/28).

انظر أيضا: