الموسوعة الفقهية

المبحث السابع: العددُ الذي تَنعقِدُ به صلاةُ الجُمُعةِ


اختَلَفَ أهلُ العِلمِ في العددِ الذي تنعقِدُ به صلاةُ الجُمُعةِ ولا تصحُّ بدونِه على أقوالٍ، أقواها قولان:
القول الأوّل: أنَّ صلاةَ الجُمُعةِ تنعقِدُ باثنين سوى الإمامِ، وهو روايةٌ عن أحمدَ ((المغني)) لابن قدامة (2/243). ، وبه قال أبو يُوسُفَ ((المبسوط)) للسرخسي (2/43)، ((مختصر اختلاف العلماء)) للطحاوي (1/330). ، وطائفةٌ من السَّلَفِ قال الطحاويُّ: (رُوي عن أبي يوسف اثنانِ سوى الإمامِ، وبه قال الثوريُّ، والحسنُ بن حي، إذا لم يحضُر الإمامَ إلا رجلٌ واحد خطَب عليه، وصلَّى به الجمعة) ((مختصر اختلاف العلماء)) (1/330). وقال ابنُ قُدامَة: (وعن أحمد أنها تَنعقِد بثلاثة، وهو قولُ الأوزاعيِّ، وأبي ثور) ((المغني)) (2/243، 244). وقال النوويُّ: (حَكى غيرُه عن الأوزاعيِّ، وأبي يوسفَ، انعقادَها بثلاثةٍ، أحدُهم الإمام) ((المجموع)) (4/504). ، واختارَه ابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (تنعقد الجُمعةُ بثلاثة: واحدٌ يخطُب، واثنان يستمعان، وهو إحدى الرِّوايات عن أحمدَ، وقول طائفةٍ من العلماء، وقد يُقال بوجوبها على الأربعين؛ لأنَّه لم يثبُت وجوبها على مَن دونهم، وتصحُّ ممَّن دونهم؛ لأنَّه انتقالٌ إلى أعلى الفرضَينِ: كالمريضِ بخلافِ المسافرِ، فإنَّ فرضَه ركعتان) ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 439). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (وأصحُّ الأقوال في هذه المسألة قولُ مَن قال: تنعقد بثلاثة؛ لوجوه: منها: أنَّ الأصل وجوبُ إقامة الجمعة على أهل القرى والأمصار؛ فلا يجوز لهم تركُها إلَّا بحُجَّة، ولا حُجَّة في تركها لِمَن بلغ هذا العدد. ومنها: أنَّ الثلاثة هي أقلُّ الجمع في اللُّغة العربية، وإطلاق الجمع على الاثنين خلافُ الأغلب المشهور في اللغة؛ فحملُ الأدلَّة الشرعيَّة على ما هو الأغلبُ أَوْلى وأحوط في الدِّين. ومنها: أنَّ بقية الأقوال لا حُجَّة عليها واضحة تُوجِب الأخذَ بها، والتعويل عليها؛ فوجب العدولُ عنها، والأخذُ بالقول الذي يجمع الأدلَّة، ويُبرئ الذَّمَّة، وتحصُل به الحَيطةُ لطالب الحقِّ، ولو كان العدد الذي فوق الثلاثة شرطًا في إقامة الجمعة لنَبَّه عليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأَرْشَد إليه الأمَّة، فلمَّا لم يوجدْ شيءٌ من ذلك دلَّ ذلك على أنه ليس بشرط لإقامتِها، أمَّا الثلاثة فلا حاجةَ إلى التنبيه على وجوبِ إقامتها عليهم؛ لأنَّهم أقلُّ الجمْع، وقد دلَّ النصُّ والإجماعُ على أنها لا تُقام إلَّا في جماعة، والثلاثة أقلُّ الجماعة كما تَقدَّم) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (30/332). ، وابنُ عثيمين قال ابنُ عُثيمين: (ما ذهَب إليه شيخُ الإسلامِ أصحُّ؛ إذ لا بدَّ من جماعةٍ تستمع، وأقلُّها اثنان، والخطيبُ هو الثالث، وحديثُ أبي الدرداء يؤيِّد ما قاله الشيخ) ((الشرح الممتع)) (5/41). وقال أيضًا: (أقربُ الأقوال إلى الصواب: أنها تنعقد بثلاثة، وتجِب عليهم) ((الشرح الممتع)) (5/41).
الأدلَّة:
أولًا: من الكِتاب
قال الله تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قولَه: فَاسْعَوْا جاءَ بصيغةِ الجَمْعِ، فيَدخُلُ فيه الثلاثةُ ((المغني)) لابن قدامة (2/244).
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن ثلاثةٍ في قريةٍ لا تُقامُ فيهم الصَّلاةُ إلَّا استَحْوَذَ عليهم الشَّيطانُ )) رواه أبو داود (547)، والنسائي (2/106)، وأحمد (5/196) (21758). صحَّح إسنادَه النوويُّ في ((المجموع)) (4/182)، وصحَّحه ابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (4/386)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (547).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الصَّلاةَ عامَّةٌ تَشمَلُ الجُمُعةَ وغيرَها، فإذا كانوا ثلاثةً في قريةٍ لا تُقامُ فيهم الصلاةُ، فإنَّ الشيطانَ قد استحوذَ عليهم، وهذا يدلُّ على وجوبِ صلاةِ الجُمُعة على الثلاثة، ولا يُمكِنُ أن نقول: تجِبُ على الثلاثةِ، ثم نقول: لا تصحُّ من الثلاثةِ؛ لأنَّ إيجابَها عليهم، ثم قولنا: إنَّها غيرُ صحيحةٍ تَضادٌّ، معناه: أمرناهم بشيءٍ باطلٍ، والأمرُ بالشيءِ الباطلِ حرامٌ ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/40).
2- عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا كانوا ثلاثةً فلْيَؤُمَّهم أحدُهم, وأحقُّهم بالإمامةِ أقرؤُهم )) رواه مسلم (672).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ أمْره صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإمامةِ إذا كانوا ثلاثةً عامٌّ في إمامةِ الصَّلوات كلِّها؛ الجُمُعةِ والجماعةِ ((مجلة البحوث الإسلامية)) (35/317).
ثالثًا: أنَّ الثلاثةَ أقلُّ الجَمْع، فانعقدتْ به الجماعةُ ((المغني)) لابن قُدامة (2/244)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/40).
القول الثاني: تَنعقِدُ باثنين، وهو مذهبُ الظاهريَّة قال ابنُ حزم: (عن إبراهيمَ النَّخَعي: «إذا كان واحدٌ مع الإمام صلَّيَا الجُمعةَ بخُطبة ركعتين»، وهو قولُ الحسن بن حي, وأبي سليمان, وجميعِ أصحابنا, وبه نقول) ((المحلى)) (3/249)، ونسَبه النوويُّ لداود. ينظر: ((المجموع)) (4/504). ، وبه قالت طائفةٌ من السَّلَفِ قال ابنُ حزم: (عن إبراهيمَ النخعي: (إذا كان واحدٌ مع الإمام صلَّيَا الجمعة بخُطبة ركعتين) ((المحلى)) (3/249). وقال النوويُّ: (قال الحسنُ بن صالحٍ، وداود: تَنعقِد باثنين، أحدهما الإمامُ، وهو معنى ما حكاه ابنُ المنذر عن مكحولٍ) ((المجموع)) (4/504). ، واختارَه الطبريُّ ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/158). ، والشوكانيُّ قال الشوكانيُّ: (وأمَّا مَن قال: إنها تصحُّ باثنين فاستدلَّ بأنَّ العدد واجب بالحديث والإجماع، ورأى أنَّه لم يثبت دليلٌ على اشتراط عددٍ مخصوص، وقد صحَّت الجماعة في سائرِ الصلوات باثنين، ولا فرْق بينها وبين الجماعة، ولم يأتِ نصٌّ من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ الجمعة لا تنعقد إلَّا بكذا، وهذا القولُ هو الراجحُ عندي) ((نيل الأوطار)) (3/276).
الأدلَّة:
أولًا: من الكِتاب
قال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه لا يجوزُ أن يَخرُج عن هذا الأمرِ وعنْ هذا الحُكمِ أحدٌ إلَّا مَن جاءَ نصٌّ جليٌّ، أو إجماعٌ متيقَّنٌ على خروجِه عنه, وليس ذلك إلَّا الفذَّ وحْدَه ((المحلى)) لابن حزم (3/251).
ثانيًا: من السُّنَّة
عن مالكِ بنِ الحُوَيرثِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: أتيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنا وصاحبٌ لي، فلمَّا أَرَدْنا الإقفالَ مِن عندِه، قال لنا: ((إذا حضَرتِ الصَّلاةُ، فأذِّنا، ثم أَقيمَا، ولْيؤمَّكما أكبرُكما )) أخرجه البخاري (2848)، ومسلم (674) واللفظ له.
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جعَلَ للاثنينِ حُكمَ الجَماعةِ في الصَّلاةِ ((المحلى)) لابن حزم (3/251).
ثالثًا: أنَّ الاثنينِ جماعةٌ فيَحصُل الاجتماعُ، ومِن المعلومِ أنَّ صلاةَ الجماعةِ في غيرِ الجُمُعةِ تَنعقِدُ باثنينِ بالاتِّفاق، والجُمُعةُ كسائرِ الصَّلواتِ، فمَن ادَّعى خروجَها عن بقيَّة الصَّلواتِ، وأنَّ جماعتَها لا بدَّ فيها من ثلاثةٍ، فعليه الدَّليل ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/40).

انظر أيضا: