الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثالث: أن يكونَ السَّفرُ مُباحًا


اختَلَف أهلُ العِلمِ في الترخُّصِ برُخَصِ السَّفر في سفرِ المعصيةِ، على قولين:
القول الأول: يُشترَطُ في الترخُّصِ برُخَصِ السَّفرِ، كقَصْرِ الصَّلاةِ، والإفطارِ في رمضانَ: أنْ يكونَ السفرُ مباحًا، فإنْ كان في سَفرِ معصيةٍ لم يُبَحْ له الترخُّصُ، وهذا مذهبُ الجمهور: المالِكيَّة ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البر (1/ 244)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/ 487)، ويُنظر: ((المنتقى))‏ للباجي (1/261)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/168). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/343)، ((تحفة المحتاج)) للهيتمي، مع ((حواشي الشرواني والعبادي)) (2/386). ، والحَنابِلَة ((الإقناع)) للحجاوي (1/ 179)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/193)، ((العدة شرح العمدة)) لبهاء الدين المقدسي (ص: 110).
الأدلَّة:
أولًا: من الكِتاب
قال اللهُ تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ [المائدة: 3]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه شرَطَ في الترخيصِ بالاضطرارِ إلى أكْلِ المَيتةِ كونَه غيرَ متجانفٍ لإثمٍ، ويُفهَمُ منه أنَّ المتجانِفَ لإثمٍ لا رُخصةَ له، والعاصي بسَفرِه متجانِفٌ لإثم، وهو أَوْلى بالمنعِ من المضطرِّ في المَخْمَصةِ ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/279).
ثانيًا: أنَّ المعصيةَ لا تكونُ سببَ الرُّخصةِ، كما أنَّ السُّكرَ لا يُسقِطُ التكاليفَ ((الذخيرة)) للقرافي (2/367)، ((تحفة المحتاج)) للهيتمي، مع ((حواشي الشرواني والعبادي)) (2/387).
ثالثًا: أنَّ رُخَصَ السفر متعلِّقةٌ بالسَّفرِ، ومنوطةٌ به، فلمَّا كان سفرُ المعصيةِ ممنوعًا منه لأجْل المعصيةِ، وجَبَ أن يكونَ ما تَعلَّق به من الرُّخَص ممنوعًا منه لأجْل المعصيةِ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/388).
رابعًا: أنَّ في جوازِ الرُّخَصِ في سفرِ المعصيةِ والتخفيفِ عليه إعانةً له على معصيتِه ((المجموع)) للنووي (4/344)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/279).
خامسًا: أنَّ ما يتعلَّقُ بالسفرِ من رُخصةِ تخفيفٍ من الله سبحانه على عباده لِمَا يَلحقُهم من المشقَّةِ فيه؛ ليكون ذلك معونةً لهم وقوةً على سفرهم، والعاصي لا يستحقُّ المعونةَ؛ فلم يَجُزْ أن يَستبيحَ الرُّخصةَ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/389).
سادسًا: أنَّ السببَ المحظور لا يُسقِطُ شيئًا من فَرْض الصَّلاةِ، كالخوف بالقِتال المحظورِ لا يُبيحُ صلاةَ شِدَّةِ الخوفِ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/389).
سابعًا: أنَّ النُّصوصَ وردتْ في حقِّ الصَّحابةِ، وكانت أسفارُهم مباحةً؛ فلا يَثبُتُ الحُكمُ في سفرٍ مخالفٍ لسفرِهم؛ لأنَّه رُخصةٌ، فتتقيَّدُ بمحلِّها الذي وردتْ فيه ((المغني)) لابن قدامة (2/194).
القول الثاني: كلُّ مسافرٍ له الترخُّصُ برُخَصِ السَّفرِ، من غيرِ تفريقٍ بين السَّفرِ المباحِ، وبين سَفرِ المعصيةِ، وهذا مذهبُ الحَنَفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (2/124)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/93). ، ورواية عن مالك قال الباجي: (وأمَّا سفر المعصية، فالمشهورُ من مذهب مالك: أنَّه لا تُقصَر فيه الصلاة، وبه قال الشافعيُّ، وروى زيادُ بن عبد الرحمن عن مالكٍ: أنَّه تُقصَر فيه الصَّلاة، وبه قال أبو حنيفة) ((المنتقى))‏ (1/261). ، وبه قال طائفةٌ من السَّلفِ قال الماورديُّ: (قال أبو حنيفةَ، والثوريُّ، والأوزاعيُّ، والمزنيُّ: العاصي في سفرِه كالطَّائعِ في استباحة الرُّخَص؛ تعلقًا بقوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ **النساء: 101**) ((الحاوي الكبير)) (2/387). ، واختاره ابنُ حزمٍ قال ابنُ حزم: (كونُ الصَّلوات المذكورة في السَّفر ركعتينِ فرضٌ، سواء كان سفرَ طاعةٍ أو معصيَّةٍ، أو لا طاعةَ ولا معصيةَ، أمنًا كان أو خوفًا) ((المحلى)) (4/264). ، وابنُ تيميَّة قال ابنُ تَيميَّة: (الحُجَّة مع مَن جعَل القصرَ والفِطر مشروعًا في جِنس السَّفر ولم يخصَّ سفرًا من سفر. وهذا القولُ هو الصَّحيح؛ فإنَّ الكتاب والسُّنة قد أطلقَا السفر؛ قال تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ **البقرة: 184**، كما قال في آية التيمُّم: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ **النساء: 43، والمائدة: 6** الآية، وكما تقدَّمت النصوص الدالَّة على أنَّ المسافر يصلِّي ركعتين، ولم يَنقُل قطُّ أحدٌ عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه خصَّ سفرًا من سفر، مع عِلمه بأنَّ السفر يكون حرامًا ومباحًا، ولو كان هذا ممَّا يختصُّ بنوعٍ من السفر، لكان بيان هذا من الواجبات، ولو بيَّن ذلك لنقلتْه الأمَّة، وما عَلِمتُ عن الصحابةِ في ذلك شيئًا) ((مجموع الفتاوى)) (24/109). ، والشوكانيُّ قال الشوكاني: (وأمَّا قول المصنِّف: (مريدًا أيَّ سفَر) أي: سواء كان السفرُ طاعةً أو معصية، فهو صواب؛ لأنَّ الأدلَّة الأخرى لم تُفرِّق بين سفر وسفر، ومن ادَّعى ذلك فعليه الدليل) ((السيل الجرار)) (ص: 188). ، والسعديُّ قال السعديُّ: (يقول تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ أي: في السَّفر، وظاهر الآية يقتضي الترخُّص في أيِّ سفر كان، ولو كان سفرَ معصية، كما هو مذهبُ أبي حنيفة رحمه الله) ((تفسير السعدي)) (ص 197). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (الأقربُ عندي أنَّ مَن سافر سفر معصية فله الترخُّص برُخَص السفر). وقال: (الصَّواب أنَّ له القصرَ فيه) ((اختيارات الشيخ ابن باز وآراؤه الفقهية)) لخالد آل حامد (1/684). , وقوَّاه ابنُ عُثَيمين قال ابنُ عثيمين: (وذهَب الإمامُ أبو حنيفة وشيخُ الإِسلام ابن تيميَّة وجماعةٌ كثيرة من العلماء؛ إلى أنَّه لا يُشترَطُ الإِباحةُ لجواز القصر، وأنَّ الإِنسان يجوز أن يَقصُر حتى في السفر المحرَّم،... وهذا القول قولٌ قويٌّ؛ لأنَّ تعليله ظاهر، فالقصر منوطٌ بالسفر على أنَّ الركعتين هما الفرض فيه، لا على أنَّ الصلاة حُوِّلت من أربع إلى ركعتين، كما ثبَت ذلك في «صحيح البخاري» وغيره عن عائشةَ رضي الله عنها: «أنَّ أَوَّل ما فُرِضَتِ الصَّلاةُ ركعتين، ثم هاجر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فزِيدَ في صلاةِ الحَضرِ وأُقرَّتْ صلاةُ السَّفر على ركعتينِ»، وحينئذٍ تبيَّن أنَّ الركعتين في السفر عزيمةٌ لا رُخصة؛ وعليه: فلا فَرْقَ بين السفر المحرَّم والسفر المباح) ((الشرح الممتع)) (4/350).
الأدلَّة:
أولًا: من الكِتاب
قال اللهُ تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء: 101]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ عمومَ الآيةِ تَقتضي الرُّخْصةَ في كلِّ ضاربٍ في الأرضِ من طائعٍ أو عاصٍ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/387).
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن يَعلَى بنِ أُميَّة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سألتُ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قلتُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقدْ أمَّن اللهُ الناسَ؟ فقال لي عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنه: عجبتُ ممَّا عجبتَ منه! فسألتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، فقال: ((صدَقةٌ تصدَّق اللهُ بها عليكم، فاقبَلوا صدقَتَه)) رواه مسلم (686).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلام لم يَخصَّ سفرًا من سفرٍ، بل عمَّ، فلا يجوزُ لأحدٍ تخصيصُ ذلك، ولم يجُزْ ردُّ صدقةِ اللهِ تعالى التي أمَر- عليه السَّلامُ- بقَبولِها؛ فيكون مَن لا يَقبَلُها عاصيًا ((المحلى)) لابن حزم ( 4/267).
2- عنِ ابنِ عبَّاسٍ قال: فرَضَ اللهُ الصَّلاةَ على لِسانِ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَضَر أربعًا، وفي السَّفَرِ ركعتينِ، وفي الخوفِ ركعةً رواه مسلم (687).
وجْه الدَّلالةِ من هذه النُّصوصِ:
أنَّها عامَّةٌ في كلِّ سفرٍ، ولم تُقيَّدْ بسَفرِ الطَّاعةِ دون سفرِ المعصيةِ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/387).
ثالثًا: أنَّ كلَّ صلاةٍ جاز الاقتصارُ فيها على ركعتينِ، استوى في فِعلها الطائعُ والعاصي كالجُمُعةِ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/387).
رابعًا: أنَّ للمقيمِ رُخصةً وللمسافرِ رُخصةً، فلو مَنَعتِ المعصيةُ من رُخصةِ المسافِرِ لَمَنَعتْ من رُخصةِ المقيمِ، فلمَّا جازَ للمقيمِ أن يترخَّص أيضًا، وإنْ كان عاصيًا، جاز للمسافِرِ أن يترخَّصَ أيضًا وإنْ كان عاصيًا ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/387).
خامسًا: أنَّه لو أنشأَ سفرًا في طاعةٍ من حجٍّ، أو جهاد، ثم جعَلَه معصيةً لسعيهِ بالفسادِ جازَ أن يَستبيحَ رُخَصَ السَّفرِ، كذلك إذا أنشأ سفرَه عاصيًا ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/387).
سادسًا: أنَّه لَمَّا جازَ للعاصي أن يتيمَّمَ في سفرِه إجماعًا، ولم تمنعْه المعصيةُ من التيمُّم، فكذلك لا تَمْنَعُه من سائرِ الرُّخَصِ كالقَصرِ وغيرِه ((المحلى)) لابن حزم (4/267)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/387).
سابعًا: أنَّ نفْس السَّفرِ ليس بمعصيةٍ، وإنَّما المعصيةُ ما يكونُ بَعدَه أو يُجاوِرُه، فصَلَحَ أن تتعلَّقَ به الرُّخصةُ ((الهداية)) للمرغيناني (1/82).
ثامنًا: أنَّ القُبحَ المجاوِرَ لا يعدمُ المشروعيَّةَ ((حاشية ابن عابدين)) (2/124).

انظر أيضا: