الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الأَوَّلُ: أن يكونَ السَّفرُ مسافةَ قَصرٍ


الفَرْع الأوَّل: مِقدارُ مَسافةِ القَصرِ
اختَلف أهلُ العِلمِ في مِقدارِ مَسافةِ السَّفرِ الذي تُقصَرُ فيه الصَّلاةُ على أقوالٍ عِدَّة قال العينيُّ: (المحكيُّ في هذا الباب نحوٌ من عشرين قولًا) ((عمدة القاري)) (7/125). ، أقواها قولان:
القول الأوّل: أنَّ المسافةَ التي تُقصَرُ فيها الصَّلاةُ: أربعةُ بُرُدٍ (88 كم تقريبًا)، وهذا مذهبُ الجمهور: المالِكيَّة ((الشرح الكبير)) للدردير، مع ((حاشية الدسوقي)) (1/359)، ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/56، 57). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/323)، ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/360). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (2/ 223)، ((الإقناع)) للحجاوي (1/ 179). ، وهو قولُ بَعضِ السَّلفِ قال النوويُّ: (مَذْهبنا: أنَّه يجوز القصرُ في مرحلتين، وهو ثمانية وأربعون مِيلًا هاشميَّة، ولا يجوزُ في أقلَّ من ذلك، وبه قال ابنُ عُمرَ، وابنُ عبَّاس، والحسنُ البَصريُّ، والزُّهريُّ، ومالكٌ، والليثُ بنُ سَعدٍ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثورٍ) ((المجموع)) (4/325). ، وقولُ أبي يُوسفَ من الحَنَفيَّة قال ابنُ مازةَ: ((وعن أبي يُوسَف رحمه الله أنَّه قدَّره بيومين..)) ((المحيط البرهاني)) (2/22). ، وبه قال فُقهاءُ أصحابِ الحديثِ قال النوويُّ: ((ثم قال الشافعيُّ ومالكٌ وأصحابهما، والليثُ والأوزاعيُّ، وفقهاءُ أصحابِ الحديثِ وغيرهم: لا يجوز القصرُ إلَّا في مسيرة مرحلتين قاصدتين، وهي ثمانية وأربعون ميلًا هاشميَّة)) ((شرح النووي على مسلم)) (5/195). ، واختارَه ابنُ بازٍ قال ابنُ باز: (السَّفر عند أهل العِلم هو ما بلَغ من المسافة يومًا وليلة- يعني مرحلتين- هذا الذي عليه جمهورُ أهل العِلم، ويُقدَّر ذلك بنحوِ ثمانين كيلو تقريبًا لِمَن يسير في السيَّارة، وهكذا الطائرات، وفي السُّفن والبواخر، هذه المسافة وما يُقاربها تُسمَّى سفرًا، وتُعتبر سفرًا في العُرف السائد بين المسلمين، فإذا سافر الإنسان على الإبل أو على قدميه، أو في السيَّارات، أو في الطائرات، أو في المراكب البحريَّة هذه المسافةَ أو أكثرَ منها فهو مسافرٌ. وقال بعضُ أهل العلم: إنَّه يُحدُّ بالعُرف ولا يُحدُّ بالمسافة المقدَّرة بالكيلومترات، بل ما يُعدُّ سفرًا في العُرف يُسمَّى سفرًا ويُقصر فيه، وما لا فلا، والصواب ما قرَّره أهلُ العلم أنه يُحدَّد بالمسافة، هذا هو الذي عليه أهلُ العلم، فينبغي الالتزامُ بذلك، وهو الذي جاء عن الصَّحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهم أعلمُ الناس بدِين الله، وهم أعلمُ الناس بسُنَّة رسولِ الله عليه الصَّلاة والسَّلام) ((فتاوى نور على الدرب)) (13/42-43).
الأَدِلَّة:
أولًا: من الآثار
1- عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((يا أهلَ مَكَّةَ، لا تَقْصُروا في أقلَّ مِن أربعةِ بُرُد البُرُد: جمْع بَريد، وهي كلمة فارسيَّة يُراد بها الرَّسول، ثم استُعملتْ في المسافةِ التي يَقطعُها، والبريد أربعةُ فراسخ، والفرسخُ ثلاثةُ أميال، فيكون قدْرُ الأربعة بُرُد: 48 ميلًا، وهو ما يساوي 88 كم تقريبًا. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/115- 116)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/43)، ((المغني)) لابن قدامة (2/188)، ((المجموع)) للنووي (4/325)، ((عمدة القاري)) للعيني (7/125)، ((حاشية الروض المربع)) لابن قاسم (2/379)، ((الفقه الإسلامي وأدلَّته)) للزحيلي (1/142). ، وذلِك مِن مَكَّةَ إلى الطَّائفِ وعُسْفَانَ)) أخرجه الشافعي في ((الأم)) (8/493) صححه عن ابن عباس: ابنُ تيميَّة في ((مجموع الفتاوى)) (24/127)، وابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/182): وابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (4/542)، وابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (2/553)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (3/253).
2- عن عَطاءٍ قال: (سُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ: أأَقْصُرُ الصَّلاةَ إلى عَرفَةَ؟ فقال: لا، ولكن إلى عُسْفانَ وإلى جُدَّة، وإلى الطَّائِفِ) رواه الشافعي في ((الأم)) (1/211)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (4297)، وابن المنذر في ((الأوسط)) (2262)، والبيهقي (3/137) (5605). صحَّحه ابن الأثير في ((مسند الشافعي)) (2/94)، وصحَّح إسنادَه النوويُّ في ((المجموع)) (4/328)، وقال ابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (4/543): إسنادُه على شرْط الشَّيخينِ. قال مالكٌ: (بَينَ مَكَّةَ والطَّائِفِ وجُدَّة وعُسْفَانَ أَربعةُ بُرُدٍ) ((موطأ مالك)) (1/148) وينظر: ((المجموع)) للنووي (4/322).
3- عن عَطاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ: (أنَّ ابنَ عُمرَ وابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما كانَا يُصلِّيانِ رَكعتينِ، ويُفطِرانِ في أَربعةِ بُرُدٍ فما فَوقَ ذلِك) رواه ابن المنذر في ((الأوسط)) (2261)، والبيهقي (3/137) (5603) وذكَره البخاريُّ في صحيحه (2/43) تعليقًا بصِيغة الجزم. صحَّح إسنادَه النوويُّ في ((المجموع)) (4/27)، والألبانيُّ في ((إرواء الغليل)) (3/17).
4- عن سالِمٍ ونافعٍ، عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: (أنَّه كان لا يَقصُرُ إلَّا في اليومِ التامِّ- قال مالك: وذلك أَربعةُ بُرُد) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/204)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (2/525)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (5394) صحَّحه ابنُ حزم في ((المحلَّى)) (6/244)، وقال ابنُ عبد البَرِّ في ((الاستذكار)) (2/225): أصحُّ ما رُوي عن ابن عُمرَ في هذا الباب.
وَجْهُ الدَّلالةِ من هذِه الآثارِ:
أنَّ هذه أقوالُ صحابةٍ، وقول الصَّحابيِّ حُجَّةٌ، خُصوصًا إذا خالَفَ القِياسَ ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/505).
ثانيًا: أنَّ في هذا القَدْرِ تَتكرَّرُ مَشقَّةُ الشدِّ والتَّرحالِ، وفيما دونه لا تَتكرَّرُ ((المجموع)) للنووي (4/322).
ثالثًا: أنَّها مسافةٌ تَجمَعُ مَشقَّةَ السَّفَر، من الحَلِّ والشدِّ؛ فجازَ القصرُ فيها، كمسافةِ الثَّلاثةِ الأيَّام، ولم يَجُز فيما دونها؛ لأنَّه لم يثبُتْ دليلٌ يُوجِبُ القَصرَ فيها ((المغني)) لابن قدامة (2/189).
القول الثاني: أنَّ القَصرَ يجوزُ في أيِّ سَفرٍ, ما دام يُسمَّى سَفرًا، طويلًا كان أمْ قصيرًا، ولا حَدَّ له، وهذا مذهبُ الظَّاهريَّة قال ابنُ رشد: (وقال أهلُ الظاهر: القَصرُ في كلِّ سفرٍ قريبًا كان أو بعيدًا) ((بداية المجتهد)) (1/168). وقال النوويُّ: (وقال داود: يُقصَر في طويلِ السَّفر وقصيرِه) ((المجموع)) (4/325). وقال ابنُ تَيميَّة: (ويجوز قَصرُ الصلاة في كلِّ ما يُسمَّى سَفرًا، سواء قلَّ أو كَثُر، ولا يَتقدَّر عدُّه، وهو مذهب الظاهرية) ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 434). ، وبعضِ الحَنابِلَةِ قال ابنُ تَيميَّة: (ولهذا قال طائفةٌ أخرى من أصحاب أحمد وغيرهم: إنَّه يُقصر في السفر الطويل والقصير؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يوقِّتْ للقصر مسافةً ولا وقتًا، وقد قصَر خلفه أهلُ مكة بعرفَةَ ومُزدلفةَ، وهذا قول كثيرٍ من السَّلف والخلف، وهو أصحُّ الأقوال في الدليل، ولكن لا بدَّ أن يكون ذلك ممَّا يُعدُّ في العُرف سفرًا؛ مثل أن يتزوَّد له، ويبرز للصحراء) ((مجموع الفتاوى)) (24/15)، وينظر: ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 434). ، واختارَه ابنُ قُدامةَ قال ابنُ قُدامةَ: (لا أرى لِمَا صار إليه الأئمَّة حُجَّة؛ لأنَّ أقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حُجَّة فيها مع الاختلاف، وقد رُوي عن ابن عباس وابن عُمر خلافُ ما احتجَّ به أصحابُنا. ثم لو لم يوجدْ ذلك لم يكن في قولهم حُجَّة مع قول النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفِعله، وإذا لم تثبتْ أقوالهم امتَنَع المصيرُ إلى التقدير الذي ذكروه؛ لوجهين: أحدهما، أنَّه مخالفٌ لسُنَّة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي رويناها، ولظاهرِ القرآن؛ لأنَّ ظاهره إباحةُ القصر لِمَن ضرب في الأرض؛ لقوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ **النساء: 101**، وقد سقَط شرْطُ الخوف بالخبر المذكور عن يَعلَى بن أُميَّة، فبَقِي ظاهرُ الآية متناولًا كلَّ ضرب في الأرض... والثاني: أنَّ التقدير بابُه التوقيف؛ فلا يجوز المصيرُ إليه برأي مجرَّد، سيَّما وليس له أصلٌ يُردُّ إليه، ولا نظيرٌ يُقاس عليه، والحُجَّة مع مَن أباح القصر لكلِّ مسافر، إلَّا أن ينعقدَ الإجماعُ على خلافه) ((المغني)) (2/190). وقال ابنُ تَيميَّة: (يجوز قصرُ الصلاة في كل ما يُسمَّى سَفرًا، سواء قلَّ أو كَثُر، ولا يتقدَّر عدُّه، وهو مذهب الظاهريَّة، ونصَره صاحبُ "المغني" فيه) ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 434). ، وابنُ تَيميَّةَ قال ابنُ تَيميَّة: (يجوزُ قَصرُ الصلاة في كل ما يُسمَّى سَفرًا، سواء قلَّ أو كَثُر، ولا يتقدَّر عدُّه، وهو مذهب الظاهرية ونصره صاحب "المغني" فيه، وسواء كان مباحًا أو محرَّمًا، ونصَره ابنُ عقيل في موضعٍ، وقاله بعضُ المتأخِّرين من أصحابِ أحمدَ، والشافعيِّ، وسواءٌ نوَى إقامةَ أكثرَ مِن أربعة أيَّام، أو لا، ورُوي هذا عن جَماعةٍ من الصَّحابة) ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 434). وقد اعتَبَر ابنُ تيميَّة أنَّ أدْنى ما يُسمَّى سفرًا في كلام الشَّرْع مسافةُ بَريد؛ يقول في ذلك: (وقد ثبَت بالسُّنة القصر في مسافة بريد؛ فَعُلِم أنَّ في الأسفار ما قد يكون بريدًا، وأدْنى ما يُسمَّى سفرًا في كلام الشَّارع البريد. وأمَّا ما دون البريد كالميل، فقد ثبَت في الصَّحيحينِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه كان يأتي قُباءً كلَّ سبتٍ، وكان يأتيه راكبًا وماشيًا، ولا ريبَ أنَّ أهلَ قُباءٍ وغيرَهم من أهل العوالي كانوا يأتون إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمدينة، ولم يَقصُر الصلاة هو ولا هم، وقد كانوا يأتون الجُمُعة من نحو ميل وفرسخ ولا يقصرون الصلاة، والجُمُعة على مَن سمِع النداء، والنداء قد يُسمَع من فرسخ، وليس كلُّ مَن وجبت عليه الجمعة أُبيح له القصر، والعوالي بعضها من المدينة وإنْ كان اسم المدينة يتناول جميعَ المساكن، كما قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ **التوبة: 101**، وقال: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ **التوبة: 120**، وأمَّا ما نُقِل عن ابنِ عُمرَ فيُنظر فيه؛ هل هو ثابت أم لا؟ فإنْ ثبَت فالرواية عنه مختلفة، وقد خالفه غيرُه من الصحابة، ولعلَّه أراد إذا قَطعت من المسافة ميلًا، ولا ريبَ أنَّ قُباءً من المدينة «كذا، ولعل الصواب: مِنْ قُباءٍ إلى المدينةِ» أكثر من ميل، وما كان ابنُ عمر ولا غيرُه يَقصُرون الصلاة إذا ذهَبوا إلى قُباءٍ) ((مجموع الفتاوى)) (24/48، 49). واعتبَر في موضعٍ آخَرَ ما يُعدُّ به سفرًا كالتزوُّد والبروز للصحراء؛ قال في ذلك: (ولكن لا بدَّ أن يكون ذلك ممَّا يُعَدُّ في العُرْف سفرًا، مثل أن يتزوَّد له، ويبرز للصحراء) ((مجموع الفتاوى)) (24/15). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القيِّم: (ولم يحدَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأمَّته مسافةً محدودة للقصر والفِطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السَّفر والضَّرْب في الأرض، كما أطلق لهم التيمُّمَ في كلِّ سفر، وأمَّا ما يُروى عنه من التحديد باليوم أو اليومين أو الثلاثة، فلم يصحَّ عنه منها شيءٌ البتةَ، والله أعلم) ((زاد المعاد)) (1/463). ، والشوكانيُّ قال الشوكانيُّ: (الحاصل أنَّ هذه التقديراتِ لا تدلُّ على عدم جواز القصر فيما دونها، مع كونها محتملةً أن يكون قاصدًا لسفر هو خلف ذلك المقدار، وأن يكون ذلك هو منتهى سفرِه؛ فالواجبُ الرجوعُ إلى ما يَصدُق عليه أنه سفر، وأنَّ القاصد إليه مسافر، ولا ريبَ أنَّ أهل اللُّغة يُطلقون اسم المسافِر على مَن شَدَّ رحله، وقصد الخروج من وطنه إلى مكانٍ آخَر، فهذا يَصدُق عليه أنه مسافرٌ وأنه ضاربٌ في الأرض، ولا يُطلقون اسم المسافر على مَن خرج مثلًا إلى الأمكنة القريبة من بلده لغرضٍ من الأغراض، فمَن قصَدَ السفر قَصَر إذا حضرتْه الصلاة، ولو كان في ميلِ بلده، وأمَّا نهاية السفر فلم يردْ ما يدلُّ على أنَّ السفر الذي يقصر فيه الصلاة هو أن يكون المسافر قاصدًا لمقدار كذا من المسافة فما فوقَها. وقد صحَّ النهيُ للمرأة أن تسافر بغير مَحرَم ثلاثة أيَّام، وفي رواية: (مسيرة يومٍ وليلة)، وفي رواية: (أن تسافر بريدًا)، فسمَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كلَّ ذلك سفرًا، وأقله البريد؛ فكان القصرُ في البريد واجبًا، ولكنَّه لا ينبغي ثُبوتُ القصر فيما دون البريد إلَّا أنْ يثبُت عند أهل اللُّغة، أو في لسان أهل الشرع أنَّ مَن قصَد دون البريد لا «كذا، ولعلَّ الأصوب بحذف (لا)» يُقال له: مسافِر) ((السَّيل الجرار)) (ص: 188). ، والشِّنقيطيُّ قال الشِّنقيطي: (أقوى الأقوال- فيما يَظهَرُ لي- حُجَّةً، هو قولُ مَن قال: إنَّ كل ما يُسمَّى سفرًا ولو قصيرًا تُقصر فيه الصلاة; لإطلاق السفر في النُّصوص) ((أضواء البيان)) (1/273). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عثيمين: (الصحيح: أنه لا حدَّ للسَّفر بالمسافة؛ لأنَّ التحديد كما قال صاحب المغني: «يحتاج إلى توقيف، وليس لِمَا صار إليه المحدِّدون حُجَّة، وأقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حُجَّة فيها مع الاختلاف) ((الشرح الممتع)) (4/351). وقال أيضًا: (إذا كان لم يُروَ عن الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تقييدُ السفر بالمسافة، وليس هناك حقيقةٌ لغويَّة تقيِّده، كان المرجع فيه إلى العُرف، وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه قال: «كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا خرَج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ صلَّى ركعتينِ». ومعلوم أنَّ ثلاثة فراسخ نِسبتُها إلى ستة عشر فرسخًا يسيرةٌ جدًّا؛ فالصحيح أنه لا حدَّ للمسافة، وإنما يُرجَع في ذلك إلى العُرف) ((الشرح الممتع)) (4/352، 353). ، والألبانيُّ قال الألبانيُّ: (وقد اختلف العلماءُ في المسافة التي تُقصر فيها الصلاة اختلافًا كثيرًا جدًّا، على نحو عشرين قولًا، وما ذكرناه عن ابن تيمية وابن القيِّم أقربُها إلى الصواب، وأليقُ بيُسر الإسلام؛ فإنَّ تكليف الناس بالقَصر في سفر محدود بيومٍ أو بثلاثة أيَّام وغيرها من التحديدات، يستلزم تكليفَهم بمعرفة مسافات الطُّرق التي قد يَطرقونها، وهذا ممَّا لا يستطيع أكثرُ الناس، لا سيَّما إذا كانت ممَّا لم تُطرَق من قبلُ) ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/311).
الأدلَّة:
أولًا: من الكِتاب
قال اللهُ تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء: 101]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الآيةَ مُطلقَةٌ في قَصْرِ الصَّلاةِ في كلِّ ضَرْبٍ في الأرضِ، وليس فيها تقييدٌ بالمسافةِ أو بالزَّمَنِ ((المجموع)) للنووي (4/326).
 ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن يَعلَى بنِ أُميَّةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (سألتُ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قلتُ: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وقدْ أمَّنَ اللهُ الناسَ؟ فقال لي عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنه: عجبتُ ممَّا عجبتَ منه! فسألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك فقال: ((صَدَقةٌ تَصدَّقَ اللهُ بها عَليكم، فاقْبَلُوا صَدقتَه)) رواه مسلم (686).
2- عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((صَحِبتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان لا يَزيدُ في السَّفرِ على رَكعتينِ، وأبا بَكرٍ وعُمرَ وعُثمانَ كذلِك رَضِيَ اللهُ عنهم )) رواه البخاري (1102) واللفظ له، ومسلم (689).
وجه الدَّلالةِ من هذه النُّصوصِ:
 أنَّ الأحاديثَ مُطلقَةٌ وليس فيها تقييدُ القصرِ في السَّفرِ بمسافةٍ مُعيَّنة ((المجموع)) للنووي (4/326).
ثالثًا: من الآثارِ
 عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (إنِّي لأُسافِرُ الساعةَ من النَّهارِ فأَقْصُر, يعني: الصَّلاةَ) أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (8223)، وابن المنذر في ((الأوسط)) (2270) صحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (2/660)، والألبانيُّ في ((إرواء الغليل)) (3/18). ، وعنه أيضًا: (لو خَرجتُ مِيلًا قصرتُ الصَّلاةَ) أورده ابن حزم في ((المحلى)) (5/8). قال ابنُ حزم: إسناده كالشَّمس. وصحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (2/660)، والصنعانيُّ في ((سبل السلام)) (2/63)..
رابعًا: أنَّ نُصوصَ الكتاب والسُّنَّة ليس فيها تفريقٌ بين سَفَرٍ طويلٍ وسفرٍ قصير؛ فمَن فرَّق بين هذا وهذا فقَدَ فرَّق بين ما جمَع الله بينه، فرقًا لا أصلَ له من كِتاب اللهِ ولا سُنَّة رسولِه، فالمرجعُ فيه إلى العُرْف، فما كان سَفرًا في عُرْف النَّاسِ فهو السَّفَرُ، الذي عَلَّقَ به الشارعُ الحُكمَ ((المحلى)) لابن حزم (5/18)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (24/35).
خامسًا: أنَّ السَّفَر لو كان له حَدٌّ لَمَا أَغفَل بيانَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((المحلى)) لابن حزم (5/21 رقم 513).
سادسًا: أنَّ حدَّه بالسَّيرِ أو بالأيَّام لا يَنضبِطُ؛ لأنَّه يتفاوتُ حسبَ سرعةِ الدَّابَّة ونوعِها، إلى غيرِ ذلك ((المحلى)) لابن حزم (5/16، 17، 18 رقم 513).
سابعًا: أنَّه لا فَرْقَ بين سَفرِ أهل مكَّةَ إلى عرفةَ، حيث يَقصُرونَ الصلاةَ لذلك، وبين سَفرِ سائرِ المسلمينَ إلى قدْرِ ذلك من بلادِهم؛ فإنَّ هذه مسافةُ بَريدٍ، وقد ثبَت فيها جوازُ القَصرِ والجَمْعِ ((المحلى)) لابن حزم (5/18 رقم 513)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (24/41).
الفَرْعُ الثَّاني: حُكمُ مَن شَكَّ في قَدْرِ المَسافةِ:
مَن شَكَّ في قَدْرِ المسافةِ؛ هل هي مسافةُ قَصْرٍ أمْ لا، لا يَقْصُر، ويَجِبُ عليه الإتمامُ؛ نصَّ على هذا فُقهاءُ الحَنابِلَةِ ((المغني)) لابن قدامة (2/190). ، وهو ظاهرُ مذهبِ المالِكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (2/146)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/60). ، ونصَّ عليه الشافعيُّ قال الشافعيُّ: (ولكن إذا سافَر في البحر والنهر مسيرةً يُحيط العلمُ أنَّها لو كانتْ في البَرِّ قُصِرتْ فيها الصلاة قَصَر، وإن كان في شكٍّ من ذلك لم يَقصُرْ حتى يستيقنَ بأنها مسيرةُ ما تُقصَر فيها الصلاة) ((الأم)) (1/216). وقال النوويُّ: (فلو شكَّ في المسافة اجتهد؛ نقَلَه الرافعيُّ وغيره، وقد نص الشافعي في الأم أنه إذا شكَّ في المسافة لم يجُزِ القصرُ) ((المجموع)) (4/323).
وذلك للآتي:
أولًا: أنَّ الأصلَ وُجوبُ الإتمامِ؛ فلا يزولُ بالشَّكِّ ((المغني)) لابن قدامة (2/190).                      
ثانيًا: أنَّ الأصل هو الإقامةُ حتَّى نتحقَّق أنَّه يُسمَّى سفرًا ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (4/353).
ثالثًا: أنَّ في الإتمامِ براءةً للذِّمَّة ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (رقم اللقاء: 98).
رابعًا: أنَّه صلَّى شاكًّا في صِحَّةِ صلاتِه، فأَشبهَ ما لو صلَّى شاكًّا في دخولِ الوقتِ ((المغني)) لابن قدامة (2/190).
الفَرعُ الثَّالِثُ: حُكمُ التائِهِ الذي لا يَقصِدُ مكانًا معينًا
يُشترَطُ لجوازِ القَصرِ أنْ يَقصِدَ قطْعَ مسافةِ قَصرٍ، فلو خرَج تائهًا أو لحاجةٍ من غيرِ قَصْدِ قَطْعِ مسافةِ القَصرِ، فإنَّه لا يَقصُرْ، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (2/122)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/28). ، والمالِكيَّة ((الشرح الكبير)) للدردير، مع ((حاشية الدسوقي)) (1/362)، ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/57). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/334)، ((تحفة المحتاج)) للهيتمي، مع ((حواشي الشرواني والعبادي)) (2/380). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/506)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/190).
وذلك للآتي:
أولًا: أنَّه لم يقصدْ مسافةَ القَصرِ؛ فلم يُبَحْ له، كابتداءِ سَفرِه ((المغني)) لابن قدامة (2/190)، ((تحفة المحتاج)) للهيتمي، مع ((حواشي الشرواني والعبادي)) (2/381).
ثانيًا: أنَّه اجتمَعَ في الصلاةِ ما يُوجِبُ الإتمامَ وما يُبيحُ الرُّخَصَ، فترجَّحَ الإتمامُ احتياطًا ((حاشية ابن عابدين)) (2/122).

انظر أيضا: