الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّل: صَلاةُ تحيَّةِ المسجدِ


الفَرعُ الأوَّل: حُكمُ تحيَّةِ المسجدِ
تُسنُّ صلاةُ ركعتينِ عندَ دخولِ المسجدِ وتُسمَّى هاتان الركعتان تحيَّة المسجد؛ قال الألباني: (قال العجلوني: «تحيَّة المسجد- إذا دخلت أن تركع ركعتين» رواه أحمد في الزهد عن ميمون بن مهران أنه كان يقوله من قوله، قال النجم: وهذا الكلام يَجري على ألسنة الفقهاء، ومن العجب أنَّ بعض المتفقهين في العصر زعم أنه لا يُقال تحيَّة المسجد، مع ورود مثل ذلك وجريانه على ألْسنة الفقهاء قديمًا وحديثًا). ((الثمر المستطاب)) (ص: 616). ، وهذا باتِّفاقِ المذاهب الفقهيَّة الأربعة: الحَنَفيَّة ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/173)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/55). ، والمالِكيَّة ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/296)، وينظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 46)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (1/511). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/52)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/223). ، والحَنابِلَة ((الفروع)) لابن مفلح (3/183)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/444). ، وحُكي الإجماعُ على ذلك قال النوويُّ: («فلا يجلس حتى يركعَ ركعتين»: فيه استحبابُ تحيَّة المسجد بركعتين، وهي سُنَّة بإجماع المسلمين، وحكى القاضي عِياض عن داود وأصحابه وجوبهما). ((شرح النووي على مسلم)) (5/226). وقال العينيُّ: (اعلم أنَّ هذه سُنَّة بإجماع المسلمين؛ إلَّا ما رُوي عن داود وأصحابه وجوبُها بظاهر الأمْر، وليس كذلك؛ لأنَّ الأمر محمولٌ على الاستحباب والنَّدْب؛ لقوله عليه السلام للذي سأله عن الصلوات: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلَّا أن تطوَّع»، وغير ذلك من الأحاديث، ولو قُلنا بوجوبهما لحرُم على المحدِث الحدثَ الأصغر دخولُ المسجد حتى يتوضَّأ؛ ولا قائلَ به، فإذا جاز دخولُ المسجد على غير وضوء لزِم منه أنه لا يجِب عليه سجودُهما عند دخوله). ((شرح أبي داود)) (2/378). وقال ابن رجب: (في الحديث: الأمر لِمَن دخل المسجد أن يركع ركعتين قبل جلوسه، وهذا الأمرُ على الاستحباب دون الوجوب عند جميع العلماء المعتدِّ بهم. وإنما يُحكَى القولُ بوجوبه عن بعض أهل الظاهر. وإنما اختلف العلماء: هل يُكره الجلوس قبل الصلاة أم لا؟ فرُوي عن طائفةٍ منهم كراهةُ ذلك، منهم: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو قول أصحاب الشافعيِّ. ورخَّص فيه آخرون، منهم: القاسم بن محمد، وابن أبي ذئب، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. قال أحمد: قد يدخلُ الرجل على غير وضوء، ويدخُل في الأوقات التي لا يُصلَّى فيها. يُشير إلى أنه لو وجبَتِ الصلاة عند دخول المسجد لوجَب على الداخل إليه أن يتوضَّأ، وهذا ممَّا لم يوجبه أحدٌ من المسلمين). ((فتح الباري)) (2/462، 463). وقال الباجي: (قول مالك: "وذلك حسنٌ وليس بواجب"، يريد أنَّ الركوع حين دخول المسجد ليس بواجب، وعلى ذلك فقهاءُ الأمصار، وذهب داودُ إلى وجوب ذلك، الدليل على صِحَّة ما ذهب إليه الجمهورُ قوله عليه السلام للذي سأله عمَّا يجب عليه من الصلوات، فقال: «الصلوات الخمس»، فقال: هل علي غيرهن فقال: «لا، إلَّا أن تطوَّع»). ((المنتقى))‏ (1/287). وقال القرطبيُّ: (عامَّة العلماء على أن الأمر بالركوع على الندب والترغيب). ((تفسير القرطبي)) (12/273). وقال ابن حجر: (اتَّفق أئمَّة الفتوى على أنَّ الأمر في ذلك للندب، ونقل ابن بطَّال عن أهل الظاهر الوجوبَ، والذي صرَّح به ابن حزم عدمُه). ((فتح الباري)) (1/537، 538). وقال ابنُ عبد البَرِّ: (لا يختلف العلماءُ أنَّ كلَّ مَن دخل المسجد في وقت يجوز فيه التطوُّعُ بالصلاة، أنَّه يُستحبُّ له أن يركع فيه عند دخوله ركعتين، قالوا: فيهما تحيةُ المسجد، وليس ذلك بواجبٍ عند أحدٍ على ما قال مالك رحمه الله إلَّا أهلَ الظاهر، فإنَّهم يوجبونهما، والفقهاءُ بأجمعهم لا يُوجبونهما) ((التمهيد)) (20/100).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
1- عن أبي قَتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا دخَلَ أحدُكم المسجدَ، فلا يجلسْ حتى يركعَ ركعتينِ )) رواه البخاري (444)، مسلم (714).
2- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ سُلَيك الغَطَفاني ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يخطُب، فقال: يا سُلَيك، قم فاركعْ ركعتينِ، وتجوَّز فيهما )) رواه البخاري (930)، ومسلم (875).
ثانيًا: أنَّ تحيةَ المسجدِ لو كانتْ واجبةً لحرُمَ دخولُ المسجدِ على المُحدِثِ الحدثَ الأصغرَ حتَّى يتوضَّأَ، ولا قائلَ به قال القرطبي: (وقد ذهب داودُ وأصحابه إلى أنَّ ذلك على الوجوبِ، وهذا باطلٌ، ولو كان الأمْرُ على ما قالوه لحرم دخول المسجد على المحدِث الحدثَ الأصغَرَ حتى يتوضَّأ، ولا قائلَ به فيما أعلم). ((تفسير القرطبي)) (12/274).
الفَرعُ الثاني: سُقوطُ تحيَّةِ المسجدِ بصَلاةِ الفريضةِ
مَن دخَلَ المسجدَ وقد أُقيمتِ الصلاةُ، أو وَجَد الإمامَ في الصلاةِ، فلا يَشتغِل بتحيةِ المسجدِ، وتَسقُطُ عنه نصَّ الشافعيَّة والحنابلة وبعض المالكيَّة على حصول تحيَّة المسجد والفريضة معًا إذا نواهما. يُنظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (1/511)، ((المجموع)) للنووي (1/325-326)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/244).
الدَّليلُ مِنَ الإِجْماع:
نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (قد اتَّفق العلماءُ على أنَّه لا يَشتغِل عنها بتحية المسجِد). ((مجموع الفتاوى)) (23/264). ، وابنُ حَجرٍ قال ابنُ حَجر: (اتَّفقوا على أنَّ الداخِلَ والإمامُ في الصَّلاة تَسقُط عنه التحيَّة). ((فتح الباري)) (2/410).
الفرعُ الثالث: مشروعيَّةُ تدارُكِ الركعتينِ لِمَن قعَدَ قبلَ أن يُصلِّي
تحيَّة المسجدِ لا تسقُطُ بالجلوسِ، وهو مذهبُ الجمهور: الحَنَفيَّة ((الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين)) (2/19)، وينظر: ((درر الحكام)) لملا خسرو (1/111). ، والمالِكيَّة ((منح الجليل)) لعليش (1/340)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/5)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (1/406). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (2/291)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/46). وصَرَّحَ الحنابلةُ أنَّه إذا طال الفصْلُ فإنَّها تسقُطُ. يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/46).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّة:
عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ سُلَيكٌ الغطفانيُّ يومَ الجُمُعة ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يخطُب، فقال: يا سُلَيكُ، قم فاركعْ ركعتينِ وتجوَّزْ فيهما )) رواه البخاري (930)، ومسلم (875).
الفَرعُ الرابع: تحيَّةُ المسجدِ الحرامِ
المسألةُ الأولى: مَن دَخَلَ المسجِدَ الحرامَ فطافَ
مَن دخَلَ المسجدَ الحرامَ فطافَ، فإنَّ طوافَه يُعَدُّ تحيةً له، وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحَنَفيَّة ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 260)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/351). ، والمالِكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/375)، وينظر: ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (1/406). ، والشافعيَّة ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/484)، وينظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/476). ، الحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/477)، ((الإقناع)) للحجاوي (1/379). اتَّفق الحنابلة مع الجمهور أنَّ أول ما يبدأ به داخلُ مكَّة الطواف، لكن الخلاف في التسمية، فهم لا يُسمُّونه تحية المسجد، ولكن يُسمُّونه تحية الكعبة، كذلك لا يُسقطون به تحية المسجد، ويقولون: إنَّ ركعتي الطواف تقوم مقامَ تحية المسجد. يُنظر المرجعين السابقين.
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّة:
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين قدِمَ مكَّةَ كان أوَّلَ شيءٍ بدأ به حين قدِمَ أنه توضَّأَ، ثم طافَ بالبيتِ )) رواه البخاري (1641)، ومسلم (1235).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخل المسجدَ الحرام للطوافِ، ولم يصلِّ التَّحية ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/163).
المسألةُ الثانية: مَن دَخَل المسجدَ لِغَيْرِ الطَّواف
مَن دخَلَ المسجدَ الحرامَ لا للطَّوافِ، وإنَّما للصلاةِ أو للعِلم مثلًا، فهذا يَبقى المشروعُ في حقِّه أنْ لا يجلسَ حتى يُصلِّيَ ركعتينِ، وهذا ما ذَهب إليه الحَنَفيَّة ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 260). ، والمالِكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/375)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (1/406). ، واختاره ابنُ عُثَيمين قال ابن عثيمين: (وهنا مسألة: وهي هل تحيَّة المسجد الحرام الطواف، أو تحية المسجد الحرام صلاة ركعتين؟ اشتهر عند كثيرٍ من الناس أنَّ تحيَّة المسجد الحرام الطواف، وليس كذلك، ولكن تحيته الطواف لِمَن أراد أن يطوف، فإذا دخل الإنسان المسجدَ الحرام يُريد الطواف، فإنَّ طوافه يُغني عن تحية المسجد؛ لأنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخل المسجد الحرام للطواف ولم يصلِّ التحية. لكن إذا دخل المسجد الحرام بنيَّة انتظار الصلاة، أو حضور مجلس العلم، أو ما أشبهَ ذلك، فإنَّ تحيته أن يُصلِّيَ ركعتين كغيره من المساجد؛ لقول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا دخل أحدُكم المسجد فلا يجلس حتى يُصلِّيَ ركعتين» وهذا يشمل المسجدَ الحرام) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/163). , وبه أفتتِ اللَّجنةُ الدَّائمة قالت اللجنة الدائمة: (نعمْ، الطواف بالكعبة المشرَّفة تحيَّة المسجد الحرام للقادم من سفر، ومَن لم يتمكَّن من الطواف فليصلِّ ركعتين قبل أن يجلس؛ لعمومِ قول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا دخل أحدُكم المسجدَ فلا يجلس حتى يصلِّيَ ركعتين»، وأمَّا المقيم في مكَّة فتحية المسجد الحرام منه صلاةُ ركعتين كبقية المساجد) ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الثانية)) (6/141).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّة:
عن أبي قَتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا دخَلَ أحدُكم المسجدَ، فلا يجلسْ حتَّى يركعَ ركعتينِ )) رواه البخاري (444)، مسلم (714).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
عمومُ قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا دخَلَ أحدُكم المسجدَ))، فإنَّه يشمَلُ المسجدَ الحرامَ ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/163).
الفَرعُ الخامس: تحيَّةُ المسجدِ في أوقاتِ النَّهي
سيأتي بحثُها عندَ بحثِ صلاةِ ذواتِ الأسبابِ في أوقاتِ النهيِ.

انظر أيضا: