الموسوعة الفقهية

المبحث الرابعُ: حُكمُ الجَهرِ بالذِّكرِ عقِبَ الصَّلواتِ


اختلَفَ العلماءُ في مشروعيَّةِ الجَهرِ بالذِّكرِ عقِبَ الصَّلواتِ إلى قولينِ:
القولُ الأوَّلُ: يُستحَبُّ الجَهرُ بالذِّكرِ عقِبَ الصَّلاةِ، وهو قولُ بعضِ الحنفيَّةِ ((حاشية ابن عابدين)) (1/666)، ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 214). ، وقولُ بعضِ متأخِّري الحنابلةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/366). وقال المرداويُّ: (هذه المسألة ليس للأصحاب فيها كلامٌ) ((تصحيح الفروع)) (2/231). ، واختارَه ابنُ حزمٍ خصَّه بالتكبير فقط، فقال: (ورفْع الصَّوت بالتكبير إثر كلِّ صلاة: حسنٌ) ((المحلى)) (3/180). ، وابنُ تيميَّةَ قال ابنُ تَيميَّة: (ويستحبُّ الجهر بالتسبيح والتحميد لا التكبير «في كشاف القناع: والتكبير» عقيبَ الصلاة). ((الفتاوى الكبرى)) (5/336) وينظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/366)، ((حاشية الروض المربع)) لابن قاسم (2/84). ، وابنُ بازٍ قال ابن باز: (السنَّة الجهر بالذكر عقبَ الصلوات الخمس وعقب صلاة الجُمُعة بعد التسليم) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (11/191). ، وابنُ عُثَيمين قال ابن عُثَيمين: (الجهرُ بالذِّكر بعد الصلوات المكتوبة سُنَّة... وقد اختار الجهرَ بذلك شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله - وجماعةٌ من السَّلف، والخلف؛ لحديثي ابن عباس، والمغيرة رضي الله عنهم، والجهر عامٌّ في كل ذِكر مشروع بعد الصلاة سواء كان تهليلًا، أو تسبيحًا، أو تكبيرًا، أو تحميدًا؛ لعموم حديث ابن عباس، ولم يرِدْ عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التفريقُ بين التهليل وغيره، بل جاء في حديث ابن عباس أنَّهم يعرفون انقضاءَ صلاة النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالتكبير، وبهذا يُعرَف الردُّ على مَن قال لا جهرَ في التسبيح والتحميد والتكبير. وأمَّا مَن قال: إنَّ الجهر بذلك بدعةٌ فقد أخطأ؛ فكيف يكون الشيءُ المعهود في عهد النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بدعة؟). ((مجموع فتاوى ورسائل العُثَيمين)) (13/247، 248).
الأدلة مِن السنَّةِ:
1- عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رفعَ الصَّوتِ بالذِّكرِ حينَ ينصرِفُ النَّاسُ مِن المكتوبةِ كان على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم))، قال ابنُ عبَّاسٍ: ((كنتُ أعلَمُ إذا انصرَفوا بذلك إذا سمِعْتُه )) رواه البخاري (841)، ومسلم (583). ، وفي لفظٍ: ((ما كنَّا نعرِفُ انقضاءَ صلاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا بالتَّكبيرِ )) رواه البخاري (842)، ومسلم (583).
2- عن المُغيرةِ بنِ شُعبةَ - رضيَ اللهُ عنه - قال: سمِعْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ إذا قضى الصَّلاةَ: ((لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له)) رواه مسلم (593).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
 أنَّه لا يسمَعُ القولَ إلَّا إذا جهَرَ به القائلُ ((مجموع فتاوى ورسائل العُثَيمين)) (13/247).
3- أنَّ ابنَ الزُّبيرِ كان يقولُ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ حين يُسلِّمُ: ((لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، ولا نعبُدُ إلَّا إيَّاه، له النِّعمةُ وله الفضلُ، وله الثَّناءُ الحسَنُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، مُخلِصينَ له الدِّينَ ولو كرِهَ الكافرونَ))، قال ابنُ الزُّبيرِ: (كان رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم - يُهلِّلُ بهنَّ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ) [2699] رواه مسلم (594).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قولَه: (يُهلِّلُ)، أي: يرفَعُ صوتَه؛ فالتَّهليلُ رفعُ الصَّوتِ ((فتح الباري)) لابن رجب (7/400)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (1/468).
القول الثاني: لا يُشرَعُ الجَهرُ بالذِّكرِ عقِبَ الصَّلاةِ قال الشافعيَّة والحنابلة: إلَّا أن يكون إمامًا يُريد أن يُتعلَّم منه، فيجهر حتى يَعلم أنه قد تُعلِّم منه ثم يُسرُّ. ، وهو مذهبُ المالكيَّةِ قال النفراويُّ: (اختُلف: هل الأفضل في الأذكار الواردةِ عقبَ الصلوات السرُّ أو الجهر؟ قال بعضهم: يستحبُّ رفْع الصوت بها لِما في الصحيحين من حديث ابن عباسٍ، قال: "كنتُ أعرف انقضاءَ صلاة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالتكبير"، وفي مسلمٍ من حديث الزُّبير: "كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا سلَّم من صلاتِه قال بصوته: لا إله إلَّا اللهُ وحده لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، لا حولَ ولا قوةَ إلَّا بالله العليِّ العظيم، لا إله إلَّا الله، ولا نعبُد إلَّا إيَّاه، له النِّعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلَّا اللهُ مُخلصين له الدِّين ولو كرِه الكافرون". وحمل الشافعيُّ رضي الله عنه الحديث على أنَّه جهر زمنًا يسيرًا حتى علَّمهم صفةَ الذكر لا أنه داومَ على الجهر، فاختار للإمامِ والمأموم إخفاءَ الذكر، إلَّا أن يريد الإمامُ برفع صوته تعليمَ الجماعة أو إعلامهم، قلت: وفي كلام أئمَّتنا في التكبير المطلوب في يوم العيد ما يُوافق ما قاله الشافعيُّ؛ لأنَّهم عدُّوا رفْع الصوت بالتكبير بدعةً) ((الفواكه الدواني)) (1/492)، وينظر: ((المدخل)) لابن الحاج (2/276). ، والشافعيَّةِ ((المجموع)) للنووي (3/487)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (1/150). ، وبعضِ الحنفيَّةِ ((حاشية ابن عابدين)) (1/666)، ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 214). ، وحُكِيَ عن أكثرِ العلماءِ قال ابنُ بطَّال: (ولم أجد من الفقهاء من يقول بشىءٍ من هذا الحديث إلَّا ما ذكره ابنُ حبيب فى الواضحة قال: يُستحَبُّ التكبير فى العساكر والثغور بأثَرِ صلاة الصبح، والعشاء تكبيرًا عاليًا ثلاث مرات، وهو قديمٌ من شأن الناس) ((شرح صحيح البخاري)) (2/458). وقال النَّوويُّ: (نقل ابنُ بطال وآخرون أنَّ أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متَّفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر والتكبير) ((شرح النَّووي على مسلم)) (5/84). وينظر: ((الفروع)) لابن مفلح (2/231). وقال ابن رجب: (وحكي عن أكثرِ العلماء خلاف ذلك، وأنَّ الأفضل الإسرارُ بالذكر) ((فتح الباري)) (5/235). ، وصوَّبه المَرْداويُّ قال المردواي: (قلت: الصوابُ الإخفات في ذلك، وكذا كُلُّ ذِكْر). ((تصحيح الفروع)) (2/231). ، واختارَه الألبانيُّ قال الألبانيُّ: (الثابِتُ في السنَّة أنَّه لا يجوز رَفْعُ الصوت بالذِّكْرِ؛ لِمَا يترتَّبُ من وراء ذلك من التشويش) ((موقع تفريغات أشرطة الألباني - سلسلة الهدى والنور - الشريط رقم: 428)).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِن الكتابِ
1- قولُه تعالى: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا [الإسراء: 110]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
نهى اللهُ في هذه الآيةِ عن الجهرِ بالدُّعاءِ ((الأم)) للشافعي (1/150)، ((المجموع)) للنووي (3/487).
2- عمومُ قولِه تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55]
3- عموم قوله تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً
ثانيًا: من السُّنَّة
عن أبي موسى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنه، قال: ((كنَّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّمَ، وكنَّا إذا أشرَفْنا على وادٍ هلَّلْنا وكبَّرْنا ارتفعَتْ أصواتُنا، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّمَ: يا أيُّها النَّاسُ، اربَعُوا على أنفسِكم؛ فإنَّكم لا تَدْعونَ أصَمَّ ولا غائبًا، إنَّه معكم سميعٌ قريبٌ )) رواه البخاري (2992) واللفظ له، ومسلم (2704).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ فيه النَّهيَ عن رفعِ الصَّوتِ بالدُّعاءِ والذِّكرِ ((فتح الباري)) لابن حجر (6/135).
ثالثًا: أنَّه يترتَّبُ مِن رفعِ الصَّوتِ بالذِّكرِ التَّشويشُ على المُصلِّين قال الألبانيُّ: (الثابت في السنَّة أنَّه لا يجوز رَفْعُ الصَّوت بالذِّكْر؛ لِمَا يترتب من وراء ذلك من التشويش) ((موقع تفريغات أشرطة الألباني - سلسلة الهدى والنور - الشريط رقم: 428)).
رابعًا: أنَّ الإسرارَ أبلَغُ في الإخلاصِ، وأقربُ إلى الإجابةِ ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 214).
خامسًا: أنَّ أحاديثَ الجَهْرِ بالذِّكرِ عَقِيبَ الصَّلاةِ إنَّما هي للتَّعليمِ [2713] ((الأم)) للشافعي (1/150).
فائدةٌ: ما تُخالِفُ به المرأةُ الرَّجُلَ في الصَّلاةِ
لا فرقَ في صفةِ الصَّلاةِ بين المرأةِ والرَّجُلِ عن أمِّ الدَّرداء: (أنها كانت تجلسُ في صلاتها جِلْسَةَ الرجل، وكانت فقيهةً)، أخرجه البخاري في ((التاريخ الصغير)) (906)، وأخرجه في الصَّحيح معلقًا (1/165)، وأخرجه ابن أبي شيبة (2785) ولم يقل: (وكانت فقيهة)، وصحَّح سنده الألباني في ((صفة صلاة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) (ص 189). ، وهو قولٌ للمالكيَّةِ قال ابنُ عبد البرِّ: (أمَّا جلوس المرأة فقد ذكَرْنا عن مالك أنَّ المرأة والرجُل في الجلوس في الصَّلاة سواء، لا يخالفها فيما بعدَ الإحرام إلَّا في اللباس والجهر) ((الاستذكار)) (1/480)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/286). ، واختيارُ ابنِ بازٍ قال ابن باز: (الصَّواب: أنه ليس بين صلاة الرجل وصلاة المرأة فرقٌ، وما ذكره بعض الفقهاء من الفرق ليس عليه دليل، والحديث الذي ذكرتِه في السؤال، وهو قول النبيِّ عليه الصلاة والسلام: «صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي» أصلٌ يعم الجميع، والتشريعات تعمُّ الرجال والنساء، إلَّا ما قام عليه الدليلُ بالتخصيص. فالسنَّة للمرأة أن تصلِّيَ كما يُصلِّي الرجل في الركوع والسُّجود، والقِراءة، ووضْع اليدين على الصدر، وغير ذلك، هذا هو الأفضل، وهكذا وضْعها على الركبتين في الركوع، وهكذا وضْعهما على الأرض في السجود حيالَ المنكبين أو حيال الأُذنين، وهكذا استواء الظَّهر في الركوع، وهكذا ما يُقال في الركوع والسجود وبعد الرفع من الركوع وبعدَ الرفع من السُّجود وبين السَّجدتين كلِّه كالرجل سواء، عملًا بقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي» رواه البخاري في الصحيح). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (11/79، 80). ، والألبانيِّ قال الألبانيُّ: (كل ما تقدَّم من صِفة صلاته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يستوي فيه الرِّجال والنساء، ولم يردْ في السنَّة ما يقتضي استثناءَ النساء من بعض ذلك؛ بل إنَّ عموم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي». يشملهن، وهو قولُ إبراهيم النَّخَعي؛ قال: "تفعل المرأةُ في الصلاة كما يفعل الرجل"؛ أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عنه. وحديث انضمام المرأة في السُّجود، وأنها ليست في ذلك كالرجل؛ مرسلٌ لا حُجَّة فيه؛ رواه أبو داود في "المراسيل" عن يَزيدَ بن أبي حبيب...وأمَّا ما رواه الإمامُ أحمد في "مسائل ابنه عبد الله عنه" عن ابن عُمرَ: أنَّه كان يأمر نساءه يتربَّعن في الصَّلاة؛ فلا يصحُّ إسناده؛ لأنَّ فيه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف، وروى البخاريُّ في ((التاريخ الصغير)) بسندٍ صحيح عن أمِّ الدرداء: أنَّها كانت تجلس في صلاتها جِلْسَةَ الرجل، وكانت فقيهةً). ((أصل صفة صلاة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) (3/1040). ، وابنِ عُثَيمين قال ابن عُثَيمين: (القول الراجح: أنَّ المرأة تصنع كما يصنع الرجلُ في كلِّ شيء، فترفع يديها وتجافي، وتمدُّ الظهر في حال الركوع، وترفع بطنَها عن الفخذين، والفخذين عن الساقين في حال السجود...؛ وعلى هذا تكون المرأة مساويةً للرجل في كيفية الصلاة). ((الشرح الممتع)) (3/219، 220).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
عن مالكِ بنِ الحُوَيرثِ رضيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((صلُّوا كما رأَيْتُموني أُصلِّي )) رواه البخاري (631).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ عمومَ الحديثِ يشمَلُ النِّساءَ كالرِّجالِ ((أصل صفة صلاة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) للألباني (3/1040)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (3/219).
ثانيًا: أنَّه لم يرِدْ في السنَّةِ ما يقتضي استثناءَ النِّساءِ مِن بعضِ ما جاء في صفةِ الصَّلاةِ ((أصل صفة صلاة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) للألباني (3/1040).
ثالثًا: أنَّ الأصلَ اشتراكُ المُكلَّفينَ مِن الرِّجالِ والنِّساءِ في الأحكامِ، إلَّا ما قام الدَّليلُ عليه ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (3/217، 218).

انظر أيضا: