مقالات وبحوث مميزة

 

 

 

التسامحُ العِقابيُّ معَ المُبتَدِعِ وضَرورةُ الإتقانِ المَعرفيِّ

الشيخ الدكتور سُلطان العميري

13 رجب 1431هـ

 

تُعَدُّ مسألةُ التعامُلِ معَ المُخالِفِ من القضايا الشائكةِ على مرِّ التاريخِ، فالخِلافُ فيها ضاربٌ في أعماقِ تاريخِ الفِكرِ الإسلاميِّ، ومَنْ يَتتبَّعْ مَراحلَ ذلك التاريخِ يجِدْ تَبايُناتٍ واسعةً بينَ أتباعِ المذاهِبِ في تَحديدِ القولِ الصحيحِ فيها، وتحريرِ الضوابِطِ الموافِقةِ لمُقتَضياتِ الدَّلالاتِ الشرعيةِ المُتقَنةِ.

وها هو اليومَ.. واقِعُنا المعاصِرُ يَشهَدُ التبايُناتِ نَفسَها، ويَعودُ فيه التاريخُ من جَديدٍ، ليَجعَلَ هذه المسألةَ محلَّ بحثٍ ومَثارَ جَدلٍ طَويلٍ.

وبلا شكٍّ يَلحَظُ المُراقِبُ في خِطابِنا السائدِ مَيلًا إلى الجانِبِ التشدُّديِّ في المَوقِفِ من المُخالِفِ في مَجالاتٍ عديدةٍ، ومن مَظاهِرِ ذلك التشدُّدِ: الانطلاقُ من سوءِ الظنِّ بالمُخالِفِ، وشُيوعُ القَدحِ في دِيانتِه, والاتهامُ بسُوءِ الطَّويَّةِ، وإغفالُ ما له من حُقوقٍ، وتَغليبُ الجانِبِ النافي لها.

وهذه المَظاهِرُ تَحتاجُ إلى إصلاحٍ ومُراجَعةٍ ومُحاكَمةٍ إلى دَلالاتِ النصوصِ الشرعيةِ، وما كان عليه الصحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم.

وقد أرادَ عَددٌ مِن المُهتَمِّينَ بهذه القَضيَّةِ التخَلُّصَ من الصُّورةِ الخاطئةِ في التعامُلِ معَ المُخالِفينَ، وكان من أظهَرِ القَضايا التي أرادوا مُزاوَلةَ التصحيحِ فيها: قضيةُ العِقابِ الدُّنيويِّ للمُبتَدِعِ، وحَسَنًا قَصَدوا، ولكنَّهم حينَ أرادوا مُمارَسةَ هذه العَمليةِ التصحيحيةِ لم تكُنْ مُمارستُهم خاليةً ممَّا يَقدَحُ في انضِباطِها، أو ما يُعَرقِلُ مَسيرتَها؛ وإنَّما وقَعَت في مُمارَساتٍ استِدلاليةٍ ووَصفيةٍ وتَحليليةٍ خاطئةٍ أدَّت بها إلى نتائجَ مُخالِفةٍ، أو غيرِ مُتَّسِقةٍ معَ المُستَنَداتِ الشرعيةِ الصحيحةِ، فغَدَت طَريقةُ التصحيحِ مُحتاجةً إلى تَصحيحٍ، وعَمليةُ النقدِ تَتطلَّبُ النقدَ.

وتَبرُزُ أعمَقُ تِلك المُمارَساتِ الخَاطئةِ في الأُمورِ التاليةِ:

الأمرُ الأولُ: شُيوعُ التوصيفِ المُخالِفِ للواقِعِ، فقد عمَدَ كَثيرٌ من المُتبَنِّينَ للتسامُحِ العِقابيِّ إلى بناءِ تَوْصيفاتٍ شَرعيةٍ وتاريخيةٍ خاطئةٍ مُخالِفةٍ للواقِعِ، وأخَذَ يَستَنِدُ إليها في تَقريرِ ما يُريدُ أنْ يَنتهيَ إليه، وهي غيرُ صَحيحةٍ في نَفسِها، وبالتالي وقَعَ في بِناءاتٍ خاطئةٍ.

 

والأمرُ الثاني: اختفاءُ المَناطاتِ الشرعيةِ المُؤثِّرةِ في الحُكمِ، ومُزاحَمةُ المَناطاتِ الأُخرى التي ليس لها تَأثيرٌ في بناءِ أيِّ حُكمٍ شَرعيٍّ، فمن البَدهيَّاتِ الاستدلاليةِ في المسائلِ الشرعيةِ أنَّ الواجبَ على الناظِرِ في دَلالاتِ النصوصِ الشرعيةِ التحرُّرُ من كلِّ غَرضٍ نَفسيٍّ أو واقِعيٍّ أو مَصلحيٍّ، ويَتجرَّدُ لتَحريرِ المَناطِ الذي اعتَبَرَتْه الشريعةُ في بِناءِ الحُكمِ الشرعيِّ، ولكنَّ المُلاحَظَ في قَضيةِ التسامُحِ العِقابيِّ عدمُ تَحريرِ تلك المَناطاتِ المُؤثِّرةِ، واختلاطُها بمَناطاتٍ أُخرى لا تَأثيرَ لها؛ ممَّا أوقَعَ البحثَ فيها في صوَرٍ عديدةٍ تُنافي الانضباطَ المَعرفيَّ والاستدلاليَّ.

وهذا البحثُ يُريدُ أنْ يُسلِّطَ الأضواءَ على هذين الخطأَينِ المَنهَجيَّينِ، ويُبيِّنَ آثارَهما على طريقةِ البحثِ والتداوُلِ في قَضيةِ التسامُحِ العِقابيِّ معَ المُخالِفِ، ويَدرُسَ مَدَى ربْطِ التسامُحِ معَ المُبتَدِعةِ مثلًا بعدمِ إجراءِ العِقابِ الدُّنيويِّ معَهم.

***           ***         ***

أما الأمرُ الأولُ، وهو: التوصيفُ الخاطئُ، فتَتجَلَّى أمثلتُه في القَضايا الآتيةِ:

القَضيةُ الأُولى: القولُ بأنَّ المُنافِقينَ كانوا يُعلِنونَ كُفرَهم بحَضْرةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والصحابةِ من غيرِ إنزالِ عُقوبةٍ دُنيويةٍ بهم؛ ليَتِمَّ التوصُّلُ بعدَ ذلك إلى أنَّ ثَمَّةَ تَسامُحًا عِقابيًّا كان معَ المُنافِقينَ.

وقد استنَدَ هذا القولُ على نَوعَينِ من الأدلةِ:

النوعُ الأولُ: أنَّ اللهَ تَعالى كَثيرًا ما يَذكُرُ عن المُنافِقينَ أقوالَهم ومُناقَضَتَهم لِمَا كان عليه المؤمنونَ، وأنَّهم يَتحدَّثونَ في مَجالِسِهم بذلك، ووَجَّهَ إلى المؤمِنينَ التوجيهَ مُباشرةً، ولم يَذكُرْ أيَّ إجراءٍ عِقابيٍّ؛ وإنَّما كان يأمُرُ بالإعراضِ وعدمِ الالتفاتِ إليهم ونحوِ ذلك، وهذا يدُلُّ على أنَّ المُنافِقينَ كانوا يُعلِنونَ أقوالَهم، وإلَّا كيف تَوجَّهَ الخِطابُ إلى المُؤمِنينَ مُباشرةً؟

والنوعُ الثاني: انسحابُ المُنافِقينَ بثُلثِ الجَيشِ يومَ أُحُدٍ، وهذا من أظهَرِ الأدلَّةِ على إعْلانِ المُنافِقينَ لكُفرِهم في زمنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.

ونحن حِينَ نَرجِعُ إلى واقِعِ المُنافِقينَ في عَصرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لنَتأكَّدَ من هذا التوصيفِ (إعلانِ الكُفرِ)، لا نجِدُ ما يدُلُّ عليه، بل هو مخالِفٌ للواقِعِ الذي كانوا يَعيشونَه، والشواهِدُ على هذا عديدةٌ، ومنها: وَصفُ النفاقِ نَفسِه؛ فإنَّ النفاقَ في الأصلِ يَعني الخَفاءَ والاستِتارَ، فلو كان المُنافِقونَ يُعلِنونَ كُفرَهم بينَ المُسلِمينَ فكيف يَصِحُّ وصفُهم بالنفاقِ إذنْ؟! ولهذا لمَّا بيَّنَ القُرآنُ ما كانوا عليه من الكُفرِ وسوءِ الطَّويَّةِ في سورةِ التوبةِ سُمِّيَ هذا التبيانُ فَضيحةً، وسُمِّيَت سورةُ التوبةِ بالفاضِحةِ، والفَضيحةُ تَعْني كشفَ المساوئِ وإظهارَها، فلو كان المنافِقونَ يُظهِرونَ كُفرَهم، فأيُّ فَضيحةٍ حصَلَت إذنْ؟!

ومَن يُطالِعِ القُرآنَ يجِدْه يَحْكي عن المُنافِقينَ الخوفَ والاستِتارَ وعدمَ إظهارِ ما يَكتُمونَه في صُدرِوهم، ومن ذلك: قولُه تَعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101], فهذه الآيةُ دالَّةٌ على أنَّ المُنافِقينَ يُخفونَ كُفرَهم بحيث لا يَعلَمُهم الرسولُ ومَن معَه، ومِن ذلك قولُه تَعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:29 -30 ]، فهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ كُفرَهم غيرُ ظاهرٍ، وإنَّما يمكِنُ أنْ يُعرَفَ بالقَرائنِ.

ومِن ذلك قولُه تَعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64], فهذه الآيةُ إخبارٌ من اللهِ تَعالى عن حذَرِ المُنافِقينَ من إظهارِ القُرآنِ لحَقيقةِ ما هُم عليه، فلو كانوا يُظهِرونَ الكُفرَ عَلَنًا فما مُبَرِّرُ هذا الحَذَرِ؟!

وممَّا يدُلُّ على ذلك: أنَّه نُقِلَ عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ أنَّه لا يُصلِّي على ميِّتٍ حتى يُصِّليَ عليه حُذَيفةُ؛ خَشيةَ أنْ يكونَ الميِّتُ مُنافِقًا، فلو كان المُنافِقونَ يُعلِنونَ كُفرَهم جِهارًا، لمَا خَفيَ على عُمَرَ وهو الرجُلُ القَريبُ من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولو كانوا يُظهِرونَ كُفرَهم، لمَا كان العِلمُ بأسماءِ بَعضِهم سِرًّا خاصًّا بحُذَيفةَ رضِيَ اللهُ عنه.

وإذا طالَعْنا حالَ المُنافِقينَ وَجَدْنا أنَّهم يَتحمَّلونَ مَشاقَّ كَبيرةً؛ فقدْ كانوا يَخرُجونَ إلى الغَزَواتِ، ويَحضُرونَ الصلَواتِ، وهي ثَقيلةٌ عليهم جدًّا، كما ذكَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلو كانوا يُظهِرونَ كُفرَهم، فلماذا هذا التحمُّلُ كلُّه؟!

والذي تدُلُّ عليه الأدلةُ الشرعيةُ والتاريخيةُ أنَّ المُنافِقينَ حصَلَ منهم إظهارٌ لفِكْرِهم، ولو لم يُظهِروا قولَهم الكُفريَّ لمَا كانوا مُنافِقينَ، ولكنَّ هذا الإظهارَ لا يَصِلُ إلى دَرَجةِ الإعلانِ به في وسَطِ المجتمعِ؛ وإنَّما كان إظهارًا خاصًّا في مجالِسِهم الخاصةِ، وفي حوادثَ مُتفرِّقةٍ، وكان يَشهَدُ هذه المجالِسَ بعضُ المُسلِمينَ ممَّن لم يَعلَمْ بحالِهم، ثم يُخبِرُ بعضُهم النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما يقولونَ، وهذا لا يُسوِّغُ لنا أنْ نقولَ: إنَّ ثَمَّةَ إعلانًا للكُفرِ في زمَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المدينةِ.

وأمَّا ما حَكاهُ القُرآنُ من أقوالِ المُنافِقينَ، فإنَّه لا يصِحُّ الاعتمادُ عليه في القولِ بأنَّهم يُمارِسونَ إعلانًا للكُفرِ بينَ يَدَيِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّ غايةَ ما فيه إثباتُ حُدوثِ تلك الكُفريَّاتِ من المُنافِقينَ، وليس فيها ما يدُلُّ على شُيوعِ هذا القولِ وإعلانِه، ومن عادةِ القُرآنِ الغالِبةِ استعمالُ الأُسلوبِ العامِّ في التوجيهاتِ، حتى ولو كانت مُتعلِّقةً بأسبابٍ جُزئيةٍ، فتَرَى القُرآنَ يُخاطِبُ عُمومَ المؤمِنينَ في الأمرِ والنهيِ النازِلِ بسبَبٍ خاصٍّ، وهذا لا يدُلُّ على أنَّ ما نزَلَ بسبَبِه الأمرُ أمرٌ شائعٌ في المجتمعِ المَدَنيِّ، فتِلك الحالُ في حِكايةِ قَولِ المُنافِقينَ، فاستعمالُ الأُسلوبِ العامِّ لا يَعني أنَّ هذا الفعلَ شائعٌ في ذلك المجتمعِ.

وأمَّا انسِحابُهم من غَزوةِ أُحُدٍ، فإنَّ الذي يُحاوِلُ أنْ يَتعرَّفَ حقيقةَ ما وقَعَ من المُنافِقينَ يُدرِكُ أنَّ ما وقَعَ منهم لم يكُنْ كُفرًا ونِفاقًا؛ فإنَّهم أثاروا شُبهةً ضَعيفةً، وهي أنَّهم لا يَتوقَّعونَ وُقوعَ القتالِ بينَ المُسلِمينَ والكُفَّارِ؛ ولهذا رَجَعوا إلى المدينةِ، وافتُتِنَ عددٌ من المُسلِمينَ بشُبهَتِهم، فرَجَعوا معَهم، وهذا في حدِّ ذاتِه ليس إعلانًا للكُفرِ، حتى يَصِحَّ الاعتمادُ عليه.

القضيةُ الثانيةُ: مَوقِفُ ابنِ عُمَرَ من القَدَريَّةِ، فإنَّه أنكَرَ قولَهم ولم يُطالِبْ بَمنعِهم، أو مُلاحَقَتِهم، فمَوقِفُه هذا دالٌّ على أنَّه يَرى أنَّ المُخالِفَ لا يُعاقَبُ على مُخالَفَتِه، وهذا يدُلُّ على التسامُحِ العِقابيِّ، كما يقولُ بعضُهم.

وإذا رَجَعْنا لِنتحقَّقَ من مَوقِفِ ابنِ عُمَرَ وغَيرِه من الصحابةِ من طائفةِ القَدَريَّةِ في زَمنِهم، فإنَّا نَجِدُ الأمرَ مُختَلِفًا عن هذا التوصيفِ، ولا بُدَّ لنا ابتداءً أنْ نُبيِّنَ المرادَ بالقَدَريَّةِ في زمنِ الصحابةِ، فإنَّ المقصودَ بهم مَن يُنكِرُ عِلمَ اللهِ السابقَ للأشياءِ، فاللهُ حينَ أمَرَ ونَهى لم يكُنْ يَعلَمُ مَن يُطيعُه ومَن يَعصيهِ حتى وقَعَتِ الأفعالُ من المُكلَّفينَ.

وحينَ ظهَرَ هؤلاء، وكان عدَدُهم قَليلًا، أخَذَ الناسُ يَسألونَ مَن بَقيَ من الصحابةِ كابنِ عُمَرَ، وابنِ عبَّاسٍ، وعِمرانَ بنِ حُصَينٍ، وواثلةَ وغيرِهم، وسَألوا أيضًا كبارَ عُلماءِ التابِعينَ الذين تَتلمَذوا على الصحابةِ.

وظاهرُ فَتوَى ابنِ عُمَرَ أنَّه يَرى كُفرَ القَدَريةِ الأُولى؛ لأنَّه بيَّنَ أنَّ اللهَ لا يَقبَلُ منهم عِلمَهم حتَّى يُؤمِنوا بالقَدَرِ، واستدَلَّ بحَديثِ جِبريلَ الطويلِ؛ ليُثبِتَ أنَّ القَدَريةَ أنكَروا أصلًا من أُصولِ الإيمانِ الستةِ، وكان ابنُ عبَّاسٍ يَرى قَتلَ القَدَريةِ الأُولى؛ فعن أبي الزُّبَيرِ أنَّه: "كان معَ طاوُسٍ يَطوفُ بالبيتِ، فمَرَّ مَعبَدٌ الجُهَنيُّ، فقال قائلٌ لطاوسٍ: هذا مَعبَدٌ الجُهَنيُّ، فعدَلَ إليه، فقال: أنتَ المُفْتَري على اللهِ، القائلُ ما لا يَعلَمُ؟ قال: إنَّه يُكذَبُ عليَّ، قال أبو الزُّبَيرِ: فعدَلَ معَ طاوُسٍ حتى دخَلْنا على ابنِ عبَّاسٍ، فقال طاوُسٌ: يا أبا عبَّاسٍ، الذين يقولونَ في القدَرِ؟ قال: «أَرُوني بعضَهم، قُلْنا: صانعٌ ماذا؟ قال: إذنْ أضَعُ يَديَّ في رأسِه فأدُقُّ عُنُقَه»، (الشريعةُ، الآجُرِّيُّ رقم 458).

وهذا هو القولُ المَنقولُ عن كبارِ عُلماءِ التابِعينَ، كمُحمَّدِ بنِ سِيرينَ، وإياسِ بنِ مُعاويةَ، وزَيدِ بنِ أسلَمَ، ومحمَّدٍ القُرَظيِّ، وإبراهيمَ النَّخَعيِّ، ووَكيعِ بنِ الجرَّاحِ، والقاسِمِ بنِ محمدِ بنِ أبي بكرٍ، وسالمِ بنِ عبدِاللهِ بنِ عُمَرَ، (انظُرْ في أقوالِهم: الشريعةَ، الآجُرِّيُّ 2/917، و918، و922، و923).

فكلُّ هؤلاء تَوارَدوا على الإفتاءِ بقَتلِ القَدَريةِ الأُولى، وهم أعلَمُ بفِقهِ الصحابةِ، وأقرَبُ إلى مَنهجيَّتِهم في الاستدلالِ، وأَوْلى بفَهمِ أقوالِهم.

وكونُ ابنِ عُمَرَ لم يُفْتِ بقَتلِ القَدَريةِ الأُولى لا يَعْني أنَّه لا يَرى إلحاقَ العُقوبةِ بهم، خاصَّةً إذا عَلِمْنا أنَّه يَرى كُفرَهم.

القَضيةُ الثالثةُ: مَوقِفُ عليٍّ من الخَوارِجِ، فإنَّه لمَّا ناظَرَهم هو وابنُ عباسٍ قال لهم: "لكم عِندي ثلاثُ خِلالٍ ما كُنتم مَعَنا، لن نَمنَعَكم مَساجِدَ اللهِ أنْ يُذكَرَ فيها اسمُه، ولا نَمنَعُكم فَيْئًا ما كانت أيْديكم معَ أيْدينا، ولا نُقاتِلُكم حتى تُقاتِلونا"، هذا يدُلُّ على أنَّ عليًّا يَرى أنَّ المُبتَدِعةَ لا يُتَّخَذُ فيهم إجراءٌ عِقابيٌّ، كما يقولُ بعضُ الباحِثينَ.

وقبلَ أنْ نُبيِّنَ حَقيقةَ مَوقِفِ عليٍّ رضِيَ اللهُ عنه، لا بُدَّ أنْ نُنبِّهَ على أنَّ النصوصَ الشرعيةَ دلَّتْ على مَشروعيةِ قِتالِ الخَوارِجِ وقَتلِهم، وقد جاء ذلك في نصوصٍ كثيرةٍ، منها: قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "يَأْتي في آخِرِ الزمانِ قَومٌ حُدَثاءُ الأسنانِ، سُفَهاءُ الأحلامِ، يقولونَ من خَيرِ قَولِ البَريَّةِ، يَمرُقونَ من الإسلامِ كما يَمرُقُ السهمُ من الرَّميَّةِ، لا يُجاوِزُ إيمانُهم حَناجِرَهم، فأينَما لَقِيتُموهم فاقْتُلوهم، فإنَّ في قَتلِهم أجرًا لمَن قتَلَهم يومَ القيامةِ»، (أخرَجَه البُخاريُّ، رقم 3611).

ومنها: قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ من ضِئضئِ هذا قومًا يَقرَؤونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ حَناجِرَهم، يَمرُقونَ من الإسلامِ مُروقَ السهمِ من الرَّميَّةِ، يَقتُلونَ أهلَ الإسلامِ، ويَدَعونَ أهلَ الأوثانِ، لئنْ أدْرَكْتُهم لَأقْتُلَنَّهم قَتلَ عادٍ»، (البُخاريُّ، رقم 7432).

فهذه النصوصُ كلُّها تدُلُّ على مَشروعيةِ اتخاذِ الإجراءاتِ العِقابيةِ ضدَّ الخَوارِجِ؛ ولهذا استنَدَ عددٌ من عُلماءِ المذاهِبِ إليها في تَقريرِ مَشروعيةِ قَتلِ الخَوارِجِ، ولو لم يَبْدَؤوا بالقتالِ، وهي دَلالةٌ قَويةٌ على خطأِ إطلاقِ القَولِ بالتسامُحِ العِقابيِّ بدونِ قَيدٍ.

وأمَّا عدَمُ تَطبيقِ عَليٍّ رضِيَ اللهُ عنه لهذه العُقوبةِ في بدايةِ الأمرِ، فليس فيها دَليلٌ على أنَّه يَرَى عدَمَ مَشروعيةِ العُقوبةِ الدُّنيويةِ للمُخالِفِ؛ فإنَّه حرَّقَ مَن غَلا فيه من الشِّيعةِ، ولم يَتسامَحْ مَعَهم، فمَوقِفُه من الخَوارِجِ في ابتداءِ الأمرِ يُحمَلُ على أنَّ عليًّا لم يكُنْ يَقصِدُ إلى تَشتيتِ جُهودِه في مُحارَبةِ الخارِجينَ عن حُكمِه، والمُنازِعينَ له في إمامتِه، وعلى أنَّ الخَوارجَ كان عددُهم كبيرًا جدًّا، فلا مَصلحةَ من قَتلِهم في تلك المرحلةِ، فلمَّا اعْتَدى الخوارجُ، وانتشَرَ شرُّهم بادَرَهم بالقتالِ والقَتلِ.

القضيةُ الرابعةُ: القولُ بأنَّ واصِلَ بنَ عَطاءٍ كان له مَجلِسٌ في مَسجِدِ الكوفةِ يُدرِّسُ فيه مَذهَبَه المُخالِفَ لمَا كان عليه الصحابةُ والتابِعونَ، وهذا يدُلُّ على مَدى التسامُحِ العِقابيِّ الذي كان يُزاوِلُه الصحابةُ والتابِعونَ، كما يقولُ بعضُ الباحِثينَ.

ونحن حينَ نَرجِعُ إلى المراجِعِ التاريخيةِ لِنَتحقَّقَ من هذا الأمرِ، نَجِدُها مُختلِفةً في حكايةِ ما كان عليه واصلٌ معَ الحسَنِ البَصريِّ، ولكنَّ كلَّ الحكاياتِ ليس فيها ما يدُلُّ على أنَّ واصِلًا كان له مَجلِسٌ مُستَقِرٌّ في المسجِدِ يَشرَحُ فيه قولَه؛ وإنَّما غايةُ ما فيها أنَّه لمَّا انعزَلَ عن مَجلِسِ الحَسَنِ البَصريِّ، جلَسَ إلى ساريةٍ من سَواري المسجِدِ، واجتمَعَ إليه عددٌ من أصحابِه، وأخَذَ يَتحدَّثُ إليهم بفِكرتِه، ولم يَرِدْ أنَّه أنشَأَ مَجلِسًا ظاهِرًا في المسجِدِ، أو في غيرِه يَشرَحُ فيه قولَه, بل الظاهرُ في التاريخِ أنَّ قولَه كان غيرَ مَشهورٍ، ولا مُعلَنٍ به.

القضيةُ الخامسةُ: مَوقِفُ عُمَرَ بنِ عبدِالعَزيزِ من غَيْلانَ، فإنَّه -كما قرَّرَ بعضُ الباحِثينَ- ناظَرَ غَيْلانَ الدِّمَشقيَّ ولم يَتخِذْ ضدَّه إجراءً عِقابيًّا، فلمَّا مات عُمَرُ قتَلَه هِشامُ بنُ عبدِ الملِكِ، وبلا شكٍّ أنَّ عُمَرَ أفضَلُ من هِشامٍ، وهذا دَليلٌ على أنَّ الإجراءاتِ العِقابيةَ كان مَنشؤُها السياسيةَ لا الدِّينَ.

ولكنَّ هذا التوصيفَ غيرُ دَقيقٍ، فإنَّ الناظِرَ في الكتُبِ المُسنَدةِ يَجِدُ أنَّ عُمَرَ لم يَتسامَحْ معَ غَيْلانَ، فإنَّه حينَ بلَغَه عن غَيْلانَ القولُ بالبِدعةِ دَعاه وحبَسَه أيامًا، ثم ناظَرَه، وبيَّنَ له خَطَأه واستَتابَه، فأظهَرَ غَيْلانُ التوبةَ والرجوعَ عن مَقالتِه، فخَلَّى سَبيلَه، وهذا يدُلُّ على أنَّه لو لم يُعلِنْ تَوبتَه لاتخَذَ منه مَوقِفًا آخَرَ.

ثم لمَّا مات عُمَرُ رجَعَ غَيْلانُ إلى مَقالتِه، وقتَلَه هِشامُ بنُ عبدِ الملِكِ بعدَما ناظَرَه الأوْزاعيُّ وأفْتى بقَتلِه، فقُتِلَ، وأيَّدَ عددٌ كبيرٌ من كبارِ العُلماءِ هذا الفعلَ.

وقد حاوَلَ عددٌ من الباحِثينَ التشكيكَ في نَزاهةِ هذا القَتلِ، وربْطَه بالأغراضِ السياسيةِ، وقد بيَّنْتُ في التفسيرِ السياسيِّ الخلَلَ المَنهجيَّ في هذا الربطِ الخاطئِ.

***             ***               ***
 

وأمَّا الأمرُ الثاني، وهو: اختفاءُ المَناطاتِ المُؤثِّرةِ في بحثِ التسامُحِ العِقابيِّ، فتَتجَلَّى هذه الإشكاليةُ في القَضايا التالية:

 

القَضيةُ الأُولى: الخَلطُ بينَ الحُكمِ الشرعيِّ وبينَ تَطبيقِه:

من المَعلومِ أنَّ النظرَ في نصوصِ الكِتابِ والسُّنةِ يَتطلَّبُ أنْ يُفرِّقَ الناظرُ فيها بين أمرَيْنِ مُهمَّينِ:

أمَّا الأمرُ الأولُ: فهو حقيقةُ الحُكمِ الشرعيِّ في نفْسِه وكيفيةُ بِنائِه.

وأمَّا الأمرُ الثاني: فهو تَنزيلُ الحُكمِ الشرعيِّ على المُعَيَّنِ وتَطبيقُه في الواقِعِ.

وهذان أمْرانِ مُفتَرِقانِ في الحقيقةِ، وفي المَناطاتِ المُؤثِّرةِ، وفي الشروطِ، فالواجبُ على الباحِثينَ في الشريعةِ أولًا بناءُ الحُكمِ الشرعيِّ في نَفسِه، وتحريرُ الدَّلالاتِ الصحيحةِ فيه، وتِبْيانُ المَناطاتِ المُعتَبَرةِ، وأمَّا تَنزيلُ الحُكمِ على المُعَيَّنينَ، وتَطبيقاتُه المُختلِفةُ، فهذا شأنٌ آخَرُ له شُروطٌ واعتباراتٌ أُخرى، ويجِبُ أنْ يُراعى فيه ظروفٌ زمانيةٌ ومكانيةٌ وحاليةٌ لا تُراعى في بناءِ الحُكمِ الشرعيِّ نَفسِه.

وهذا التفريقُ تدُلُّ عليه تَطبيقاتٌ كثيرةٌ في عهدِ الصحابةِ وغَيرِهم، فمِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ الشريعةَ ثبَتَ فيها حدُّ السرقةِ ثُبوتًا قَطعيًّا، ومعَ هذا لم يُطبِّقْ عُمَرُ هذا الحُكمَ على بعضِ المُعَيَّنينَ لظروفٍ خاصَّةٍ راعاها عُمَرُ، فعدمُ تَطبيقِ عُمَرَ لا لأنَّ الحُكمَ ليس ثابِتًا عندَه؛ إنَّما لأنَّه يُفَرِّقُ بينَ الحُكمِ الشرعيِّ ومَناطاتِه، وبينَ تَطبيقاتِه العَمليةِ، وكذلك لم يُقِمْ عُثمانُ حدَّ الزاني على المرأةِ الجاهلةِ في زَمَنِه, لا لأنَّ عُثمانَ لا يَرى حدَّ الزاني؛ وإنَّما لأنَّه راعى أحوالًا خاصةً قامَتْ في المُعَيَّنِ.

وعلى هذا، فانتفاءُ العِقابِ عن المُعَيَّنِ ليس دليلًا على انتفاءِ وُجودِ العُقوبةِ الشرعيةِ نفسِها، ولمَّا لم يُدرِكْ بعضُ المُتَبنِّينَ للتسامُحِ العِقابيِّ هذه الحقيقةَ أخذَ يَستدِلُّ على انتفاءِ مَشروعيةِ العُقوبةِ بانتفاءِ تَطبيقِها، فجعَلَ يقولُ: إنَّ المُنافِقينَ لم يُشَرَّعْ في حقِّهم إجراءٌ عقابيٌّ في الدُّنيا؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَتخِذْ في حقِّهم ذلك الإجراءَ العقابيَّ.

وهذا التصوُّرُ مَبْنيٌّ على مُقدِّمةٍ خاطئةٍ في الاستدلالِ، كما سبَقَ تِبيانُه، وفَضلًا عن ذلك فإنَّ ثَمَّةَ دَلالاتٍ شَرعيةً عديدةً دالَّةً على ثُبوتِ العُقوبةِ الدُّنيويةِ شَرعًا في حقِّ المُنافِقينَ.

ومن ذلك: قولُه تَعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73]، فالأمرُ بالجِهادِ والإغلاظِ أمرٌ بعقوبةٍ دُنيويةٍ بلا شكٍّ، وقد اختَلَفَ المُفسِّرونَ من الصَّحابةِ وغَيرِهم في مَعنى الأمْرِ بالجِهادِ هنا، فمنهم مَن ذهَبَ إلى أنَّ المرادَ به الجهادُ باليَدِ واللسانِ، وهو تَفسيرُ ابنِ مَسعودٍ وغَيرِه من السلَفِ، واختارَه ابنُ جَريرٍ وغيرُه، ومنهم مَن قال: إنَّ المرادَ بالجهادِ هنا الجهادُ باللسانِ فقطْ،كما قال ابنُ عباسٍ، وعُمومُ اللفظِ يُقوِّي القولَ الأولَ، وأمَّا الأمرُ بالإغلاظِ فهو أمرٌ بعدمِ الرفقِ بهم والشدَّةِ عليهم، وهذا أمرٌ يَشمَلُ أحكامًا عَمليةً عِقابيةً عديدةً.

وممَّا يدُلُّ على ذلك قولُه تَعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:61]، وهذه الآيةُ واضحٌ فيها التهديدُ العِقابيُّ بالقَتلِ والتشريدِ، وقد أخَذَ عدَدٌ من العُلماءِ مَشروعيةَ قَتْلِ المُنافِقينَ إذا أظهَرَ نِفاقَه مِن هذه الآيةِ.

وممَّا يدُلُّ على ذلك: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يُنكِرْ على عُمَرَ بنِ الخطَّابِ تَعليقَ القَتلِ بالمُنافِقِ حينَ قال عن حاطبٍ: "دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المُنافِقِ"، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "وما يُدْريكَ لعلَّ اللهَ اطَّلعَ على أهلِ بَدرٍ فقال: اعْمَلُوا ما شِئتُم فقد غَفَرْتُ لكم؟!"، فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يُنكِرْ على عُمَرَ استحلالَ ضَربِ عُنقِ المُنافِقِ، فهو لم يقُلْ: وما يُدْريكَ أنَّ المنافِقَ يُقتَلُ؟ وإنَّما بيَّنَ أنَّ حاطبًا ليس مُنافِقًا.

وممَّا يدُلُّ على ذلك: هَدمُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمسجِدِ الضِّرارِ، وهذا الهدمُ من الأُصولِ الكُبرى التي يُبنى عليها التعزيرُ بالمالِ، وقد استدَلَّ به كثيرٌ من العُلماءِ على هذه القَضيةِ، وليس خافيًا أنَّ التعزيرَ بالمالِ إجراءٌ عِقابيٌّ دُنيويٌّ.

هذه كلُّها دَلالاتٌ شَرعيةٌ على مَشروعيةِ العِقابِ الدُّنيويِّ في حقِّ المُنافِقِ.

ومن صوَرِ الخَلطِ بينَ الحُكمِ الشرعيِّ وبينَ تَطبيقِه: القَدحُ في الحُكمِ الشرعيِّ بناءً على التطبيقاتِ السيِّئةِ له، وبناءً على استغلالِ أصحابِ النفوسِ الضعيفةِ له، فإنَّ بعضَ الباحِثينَ في التسامُحِ العِقابيِّ لمَّا رَأى أنَّ الإجراءَ العِقابيَّ للمُخالِفِ طُبِّقَ تَطبيقاتٍ سَيِّئةً في التاريخِ الإسلاميِّ، واستَغَلَّه بعضُ الحُكَّامِ، أخَذَ يَقدَحُ في الحُكمِ الشرعيِّ نفسِه، وهذا كلُّه غيرُ صَحيحٍ، ولا مُبرِّرَ فيه للقَدحِ في الحُكمِ الشرعيِّ؛ لأنَّه لا عَلاقةَ للحُكمِ الشرعيِّ بالتطبيقاتِ الخاطئةِ، ولو طَرَدْنا هذه الطريقةَ لأبطَلْنا عددًا كَبيرًا من الشرائعِ الإسلاميةِ؛ نَتيجةَ التطبيقاتِ الخاطئةِ من بعضِ المُسلِمينَ لها.

ثم إنَّ عبَثَ المُستَغِلِّينَ للأحكامِ الشرعيةِ يُمكِنُ أنْ يقَعَ حتى في العقوباتِ الأُخرى التي هي دونَ القَتلِ؛ كالعُقوباتِ الماليةِ والجَسديةِ الأُخرى، فهل نُنكِرُ حتى هذه الأحكامَ لأنَّه تَمَّ استغلالُها من بعضِ ضُعفاءِ النفوسِ؟!

القَضيةُ الثانيةُ: اختِفاءُ المَناطِ المؤثِّرِ في قَتلِ المُبتَدِعِ:

من القَضايا المُهمَّةِ التي تُساعِدُ على ضَبطِ وإتقانِ البحثِ في مَسألةِ التسامُحِ العِقابيِّ: تَحريرُ المَناطِ المُؤثِّرِ في إجراءِ العُقوبةِ الدُّنيويةِ في حقِّ المُبتَدِعِ، فقد شاعَ في التاريخِ الإسلاميِّ أنَّ عددًا من غُلاةِ المُبتَدِعةِ قُتِلوا؛ كمَعبَدٍ الجُهَنيِّ، وغَيْلانَ الدِّمَشقيِّ، والجَهمِ بنِ صَفْوانَ، والجَعدِ بنِ دِرهَمٍ وغَيرِهم، وقَتلُ هؤلاء يَتعلَّقُ به بُحوثٌ عديدةٌ، ومن تلك البُحوثِ:

السببُ الحَقيقيُّ الذي كان وراءَ قَتلِهم، فقدْ ذهَبَ عددٌ من المُعاصِرينَ إلى ذلك السَّببَ كان سِياسيًّا بالدرجة الأُولى، وأنَّ العُلماءَ الذين أفْتَوْا بقَتلِهم انخَرَطوا معَ هذا الغرَضِ الماديِّ البحْتِ، وهذا خطأٌ تاريخيٌّ ظاهرٌ، وقد بيَّنْتُ الدلائلَ على خَطئِه في كتابِ "التفسيرُ السياسيُّ للقَضايا العَقَديةِ في الفِكرِ العَربيِّ المعاصِرِ"، وتَوصَّلْتُ إلى أنَّ السببَ وَراءَ ذلك كان سببًا دينيًّا بالدرجةِ الأُولى.

وقد استشكَلَ بعضُ الباحِثينَ هذه النتيجةَ وأخذَ يقولُ: إذا كانَ السبَبُ وراءَ قَتلِ أولئك المُبتَدِعةِ دينيًّا؛ فإنَّه يَلزَمُ منه الحُكمُ بجَوازِ قَتلِ الأشاعرةِ؛ لأنَّهم قالوا بأغلَظِ ممَّا قال مَعبَدٌ الجُهَنيُّ وغَيْلانُ الدِّمَشقيُّ، بل هم أكثَرُ ابتِداعًا منهما.

وإذا أرَدْنا أنْ نُحلِّلَ هذا الاستشكالَ، ونُفَكِّكَ مُقدِّماتِه، نَجِدُ أنَّه مَبنيٌّ على مُقدِّمَتَينِ خاطئَتَينِ:

أمَّا المُقدِّمةُ الأُولى: فهي أنَّ بِدَعَ الأشاعرةِ أغلَظُ من بِدَعِ القَدَريةِ، وهذا غيرُ صحيحٍ؛ فإنَّ قولَ مَعبَدٍ الجُهَنيِّ أعظَمُ جُرمًا ومُخالَفةً للنصوصِ الشرعيةِ والأدلةِ العَقليةِ من جميعِ أقوالِ الأشاعرةِ؛ فإنَّ قولَه راجعٌ إلى إنكارِ العِلمِ الإلهيِّ السابِقِ، وهذا قولٌ شَنيعٌ لم يقُلْ به الأشاعرةُ، ولا حتى المُعتَزِلةُ.

ومَنشأُ الغَلَطِ في ذلك الاستشكالِ راجعٌ إلى عَدمِ التفريقِ بينَ إطلاقاتِ لَفظِ القَدَريةِ في التاريخِ الإسلاميِّ؛ فإنَّ هذا اللفظَ يُطلَقُ على ثلاثِ طوائفَ كما بَيَّنْتُه في التفسيرِ السِّياسيِّ:

الإطلاقُ الأولُ: يُطلَقُ على نُفاةِ العِلمِ الإلهيِّ، ويُسَمَّى هؤلاء بالقَدَريةِ الأُولى، وهُم مَن يقولُ: إنَّ اللهَ لا يَعلَمُ بأفعالِ العِبادِ حتى تقَعَ منهم، وأمَّا قبلَ وُقوعِها فهو سُبحانَه لا يَعلَمُ مَن يُطيعُه، ولا مَن يَعصيهِ، وقد أنكَرَ عليهم مَن بَقيَ من الصحابةِ، وأفْتَوْا بقَتلِهم، وكذلك فعَلَ كبارُ عُلماءِ التابِعينَ، وهذه الطائفةُ انقرَضَتْ في زمنٍ مُبكِّرٍ من التاريخِ الإسلاميِّ.

والإطلاقُ الثاني: يُطلَقُ على الذين يَقولونَ: إنَّ اللهَ لا يَخلُقُ الشَّرَّ فقطْ، وهذا القولُ شاعَ في المُحدثين حتى قال الإمامُ أحمدُ: "ثلُثُ رُواةِ البَصرةِ من القَدَريةِ"، ويُريدُ بهم هذا الصِّنفَ.

والإطلاقُ الثالثُ: يُطلَقُ على المُعتَزِلةِ، الذين أثْبَتوا العِلمَ الإلهيَّ، ولكنَّهم نَفَوْا خَلقَ اللهِ تَعالى لكلِّ أفعالِ العبادِ.

وهذا الإطلاقُ هو الذي يُقابَلُ بينَه وبينَ قولِ الأشاعرةِ غالبًا, فإنْ قال العُلماءُ عن قولِ الأشاعرةِ: أغلَظُ من قولِ القَدَريةِ وأقبَحُ، فالمُرادُ بالقَدَريةِ هنا المُعتَزِلةُ لا القَدَريةُ الأُولى، ولا شكَّ في صحةِ هذا الحُكمِ؛ لأنَّ قَولَ المُعتَزِلةِ يُؤدِّي إلى تَعظيمِ الأمرِ والنهيِ والتكليفِ أكثَرَ من قولِ الأشاعرةِ.

وإذا ظهَرَتْ لنا هذه التفصيلاتُ المُهمَّةُ، فسنُدرِكُ أنَّ ذلك الاستشكالَ لا مُبَرِّرَ له؛ وإنَّما هو ناتجٌ عن عدمِ إدراكٍ لهذه الأمورِ المُهمَّةِ.

وأمَّا المُقدِّمةُ الثانيةُ: وهي: أنَّ المَناطَ في قَتلِ القَدَريةِ كان الابتداعَ في الدِّينِ، وهذه المُقدِّمةُ وقعَتْ فيها تَجاذُباتٌ عديدةٌ، وتَبايُناتٌ مختلِفةٌ في تَوصيفِ المَناطِ الحَقيقيِّ فيها، فمن الباحِثينَ مَن يقولُ: إنَّ المَناطَ هو الابتداعُ في الدِّينِ، ومنهم مَن يقولُ: إنَّه الوُقوعُ في البِدعةِ المُكَفِّرةِ، ومنهم مَن يقولُ: إنَّه الدعوةُ إلى البِدعةِ.

وكلُّ هذه الأقوالُ غيرُ دَقيقةٍ في تحديدِ المَناطِ الحَقيقيِّ لقَتلِ المُبتَدِعِ، وقبلَ أنْ نذكُرَ المَناطَ الصحيحَ المؤثِّرَ، لا بُدَّ أنْ نُنَبِّهَ على أنَّ هذه القَضيةَ تُعَدُّ من المسائلِ الاجتهاديةِ التي هي محلٌّ للاختلافِ السائغِ الذي يَقتَضي الإغلاظَ أو التثريبَ، وليست من مَعاقِدِ الإجماعِ التي يُضلَّلُ فيها المخالِفُ، وهذا لا يَعْني عدمَ الحرصِ على تحريرِ الدَّلالةِ الشرعيةِ فيها، وعدمَ بيانِ الخطأِ الواقِعِ فيها من الأقوالِ المُخالِفةِ.

وثَمَّةَ أمرٌ مُهِمٌّ لا بُدَّ من التنبيهِ عليه أيضًا، وهو أنَّ الإجراءَ العِقابيَّ بالقتلِ وغَيرِه مَبنيٌّ على إباحةِ التعزيرِ بالقَتلِ، وهذا الأصلُ مُختَلَفٌ فيه بينَ أتباعِ المذاهِبِ الفِقهيةِ، والذي ذهَبَ إليه أكثرُ الفُقهاءِ جَوازُ التعزيرِ بالقَتلِ، كما سيَأتي ذِكرُ بعضِ أدلتِه.

وبِناءً على هذا الأصلِ؛ ذهَبَ عددٌ من فُقهاءِ الحَنفيةِ والمالكيةِ والشافعيةِ والحنابلةِ إلى جَوازِ الإجراءِ العِقابيِّ على المُبتَدِعِ الداعيةِ إلى بِدعَتِه بالقَتلِ، وهو الذي كان عليه أكثَرُ عُلماءِ السلَفِ المُتقَدِّمينَ من أهلِ الحَديثِ وغَيرِهم، كما حَكاه ابنُ تَيميةَ.

وإذا أرَدْنا أنْ نُحلِّلَ القولَ بجَوازِ الإجراءِ العِقابيِّ على المُبتَدِعِ بالقَتلِ ونَحوِه، ونُفتِّتَ مَنظومَتَه الاستدلاليةَ، ونُجزِّئَ مُكَوِّناتِه المعرفيةَ، نجِدُ أنَّ المَناطَ المؤثِّرَ في بنائِه مَناطٌ مُركَّبٌ من أمرَينِ:

الأولُ: حُصولُ الضرَرِ الدِّينيِّ بسَببِ البِدعةِ.

والثاني: انحصارُ دَفعِ الضرَرِ في القتلِ فقطْ، ولا بُدَّ من تَوفُّرِ هذَينِ الأمرَينِ حتى يَصِحَّ قيامُ المَناطِ المُؤثِّرِ، فإذا لم يحصُلِ الضرَرُ الدِّينيُّ بالبِدعةِ، فلا يَجوزُ المَصيرُ إلى القتلِ، والمُرادُ بالضرَرِ هنا قَدرٌ زائدٌ على مجرَّدِ المُخالَفةِ للشرعِ، وإلَّا جازَ قَتلُ كلِّ مَن وقَعَ في المَعصيةِ، وكلِّ مَن وقَعَ في بِدعةٍ، ولو لم تكُنْ غاليةً، وكذلك إذا أمكَنَ إزالةُ الضرَرِ بغَيرِ القَتلِ، فإنَّه لا يَجوزُ المَصيرُ إليه، وكذلك إذا لم يَزُلِ الضرَرُ بالقتلِ، فإنَّه لا يجوزُ المَصيرُ إليه.

وتَحديدُ تَحقُّقِ هذا المَناطِ المُركَّبِ في الواقِعِ ممَّا يحصُلُ فيه الاجتهادُ، ويَقَعُ الاختلافُ في تحديدِ الظروفِ التي يَتحقَّقُ فيها، ومن الظروف التي لا يَتحقَّقُ فيها -في تَصوُّري-: أنْ تكونَ البِدعةُ شائعةً ومُنتشِرةً، ويَتبنَّاها عددٌ كثيرٌ، ففي هذه الحالة لا يُحقِّقُ القتلُ اندفاعَ المَفسَدةِ، وكذلك إذا كان انتشارُ السُّنةِ التي كان عليها الصحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم ضعيفًا، فالقتلُ لا تَندفِعُ به المَفسَدةُ والحالةُ هذه.

ويُمكِنُ لنا أنْ نُدرِكَ هذا المَناطَ المُركَّبَ من تَقريراتِ كَثيرٍ من الفُقهاءِ، وفي هذا يقولُ ابنُ عابدينَ من الحنفيةِ:"والمُبتدِعُ لو له دَلالةٌ ودَعوةٌ للناسِ إلى بِدعتِه، ويُتوَهَّمُ منه أنْ يَنشُرَ البِدعةَ، وإنْ لم يُحكَمْ بكُفرِه، جازَ للسلطانِ قَتلُه سياسةً وزَجرًا؛ لأنَّ فَسادَه أعلى وأعَمَّ حيثُ يؤثِّرُ في الدِّينِ"، (ابنُ عابدينَ 4/243).

ويقولُ ابنُ فَرحونَ من المالكيةِ:"وأمَّا الداعيةُ إلى البِدعةِ، المُفرِّقُ لجماعةِ المُسلِمينَ، فإنَّه يُستَتابُ، فإنْ تابَ وإلَّا قُتِلَ"، (تَبصرةُ الحُكَّامِ 2/297).

وهذا المَناطُ المُركَّبُ ظاهرٌ في تَقريراتِ ابنِ تَيميةَ، وهو يُعَدُّ من أوضَحِ العُلماءِ الذين حَرَّروا وَجهَ التركيبِ فيه، وفي هذا يقولُ: "ومَن لم يَندَفِعْ فَسادُه في الأرضِ إلَّا بالقَتلِ قُتِلَ، مثلُ المُفرِّقِ لجماعةِ المُسلِمينَ، والداعي إلى البِدَعِ في الدِّينِ"، (الفَتاوى 28/108).

ويقولُ أيضًا: "وأمَّا قَتلُ الداعيةِ إلى البِدَعِ، فقد يُقتَلُ لكفِّ ضَرَرِه عن الناسِ، كما يُقتَلُ المحارِبُ، وإنْ لم يكُنْ في نَفسِ الأمرِ كافرًا، فليس كلُّ مَن أُمِرَ بقَتلِه يكونُ قَتلُه لرِدَّتِه، وعلى هذا قتْلُ غَيْلانَ القَدَريِّ وغيرِه قد يكونُ على هذا الوَجهِ"، (الفَتاوى 23/351).

ومِن أجمَعِ تَقْريراتِ ابن تَيميةَ في هذه القضيةِ قولُه: "فأمَّا قتلُ الواحِدِ المَقْدورِ عليه من الخوارِجِ؛ كالحَروريةِ والرافضةِ ونحوِهم: فهذا فيه قولانِ للفُقهاء، هما رِوايتانِ عن الإمامِ أحمدَ، والصحيحُ أنه يجوزُ قَتلُ الواحِدِ منهم؛ كالداعيةِ إلى مَذهَبِه ونحوِ ذلك ممَّن فيه فَسادٌ؛ فإنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "أينَما لَقِيتُموهم فاقْتُلوهم"، وقال: "لئِنْ أدْرَكْتُهم لأقْتُلَنَّهم قَتلَ عادٍ"، وقال عُمَرُ لصَبيغِ بنِ عِسْلٍ: لو وَجدْتُكَ مَحلوقًا لضرَبْتُ الذي فيه عَيناكَ؛ ولأنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ طلَبَ أنْ يَقتُلَ عبدَ اللهِ بنَ سَبأٍ أولَ الرافضةِ حتى هرَبَ منه؛ ولأنَّ هؤلاء من أعظَمِ المُفسدِينَ في الأرضِ، فإذا لم يَندَفِعْ فَسادُهم إلَّا بالقَتلِ قُتِلوا، ولا يجِبُ قَتلُ كلِّ واحدٍ منهم إذا لم يُظهِرْ هذا القولَ، أو كان في قَتلِه مَفْسدةٌ راجِحةٌ؛ ولهذا ترَكَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَتلَ ذلك الخارجيِّ ابتداءً؛ لئَلَّا يَتحدَّثَ الناسُ أنَّ محمدًا يَقتُلُ أصحابَه، ولم يكُنْ إذ ذاك فيه فسادٌ عامٌّ؛ ولهذا ترَكَ عليٌّ قَتلَهم أولَ ما ظَهَروا؛ لأنَّهم كانوا خَلقًا كَثيرًا، وكانوا داخِلينَ في الطاعةِ والجماعةِ ظاهرًا، لم يُحارِبوا أهلَ الجماعةِ، ولم يكُنْ يَتبيَّنُ له أنَّهم هُم" (الفَتاوى 28/499).

وهذه التَّقريراتُ مِن ابنِ تَيميَّةَ تدُلُّ على أنَّه لا يُعتَمَدُ على قِصَّةِ عُمَرَ معَ صَبيغٍ فقطْ، ولا على مَوقِفِ عَليٍّ من السبَئيَّةِ فقطْ؛ وإنَّما يَنطَلِقُ من أصلٍ كليٍّ في الشريعةِ، وهو أنَّ الشرعَ جاء فيه إباحةُ دمِ المُسلِمِ؛ لأجْلِ أُمورٍ تَتعلَّقُ بالشؤونِ الدُّنيويةِ، فما يَتعلَّقُ بالدِّينِ يكونُ من بابِ أَوْلى، كما سيَأتي بيانُه.

والمُلاحَظُ أنَّ عددًا من المُعاصِرينَ لم يَهتَمَّ بتَحريرِ وتَعيينِ الأدلةِ الشرعيةِ التي استُنبِطَ منها ذلك المَناطُ المُركَّبُ، ولأجْلِ هذا أخَذَ بعضُهم يقولُ: إنَّ دَليلَ هذا القولِ ضعيفٌ؛ لأنَّه مَبنيٌّ على الاستدلالِ بفِعلِ الحجَّاجِ أو هِشامِ بنِ عبدِ المَلِكِ، أو مَبنيٌّ على كَونِ أكثَرِ السلَفِ قال به.

وإذا مارَسْنا مَزيدًا من التحليلِ لتَقريراتِ المُحقِّقينَ من العُلماءِ الذين تَبَنَّوْا هذا الموقِفَ، نَستطيعُ الكَشفَ عن الأدلةِ الشرعيةِ التي كانت وراءَ بناءِ هذا القولِ، وتَتحصَّلُ هذه الدَّلالةُ في قياسِ الأَوْلى.

وصورةُ هذا القياسِ: أنَّ الشريعةَ أباحَتْ دمَ المُسلِمِ المَعصومِ بأُمورٍ عديدةٍ تَرجِعُ إلى الفَسادِ في الأموالِ والمَصالِحِ الدُّنيويةِ، والمُبتَدِعُ الذي يَتبنَّى بِدعةً غاليةً ويَدْعو إليها يُؤدِّي إلى إحداثِ ضَررٍ كَبيرٍ في دِينِ الناسِ، والدِّينُ أعظَمُ من المصالِحِ الدُّنيويةِ، فإباحةُ القتلِ فيه من بابِ أَوْلى.

والأصلُ المَقيسُ عليه في هذا القياسِ أصلٌ كُليٌّ قَطعيٌّ، كما جاء في قَتلِ الزاني المُحصَنِ، وقَتلِ المُفارِقِ للجَماعةِ الشاقِّ لعَصا الطاعةِ، وقَتلِ الصائلِ، وقَتلِ المحارِبِ، وقَتلِ الخَوارِجِ، وقَتلِ الساحِرِ، وقَتلِ مَن أتى ذاتَ المحارِمِ، وقَتلِ تارِكِ الصلاةِ وغَيرِهم.

والعِلةُ في إباحةِ الدمِ في هذه الأمورِ تَحَقُّقُ الفسادِ في دِينِ الناسِ ودُنياهم، وهذه العِلةُ مُتحَقِّقةٌ بصورةٍ أكبرَ في صاحِبِ البِدعةِ الغاليةِ الذي يَسعى إلى الدعوةِ لبِدعَتِه، فإباحةُ دَمِه بناءً على ما سبَقَ تكونُ من بابِ الأَوْلى.

وهذا الأصلُ القَطعيُّ كان مُعتَمَدَ عددٍ من العُلماءِ في الإفتاءِ بالقَتلِ في أُمورٍ لم تَرِدْ في النصِّ الشرعيِّ، ومِن تِلك الأمورِ: الإفتاءُ بقَتلِ فاعلِ اللِّواطِ، ومن الأُمورِ: الإفْتاءُ بقَتلِ الجاسوسِ، من تلك الأمورِ: الإفْتاءُ بقَتلِ شارِبِ الخَمرِ في المرَّةِ الخامِسةِ، فهذه القَضايا أفْتى فيها عددٌ من العلماءِ بالقَتلِ، قياسًا على ذلك الأصلِ الكُليِّ.