مقالات وبحوث مميزة

 

أسمارُ "النَّقدِ التَّاريخيِّ"، وزخارفُ "البحثِ العِلميِّ".

قِراءةٌ نَقْديَّةٌ لمقالةِ الأسْتاذِ عَبْدِ اللهِ الغِزِّيِّ
عن صِفةِ الكَلامِ للباري سُبْحانَه.

(الحَلْقةُ السابعة)

(وَقَفاتٌ أُخرى مع عُقدةِ الأجنبيِّ)

الشَّيخُ الدُّكتور بَنْدر بن عبدالله الشُّويقيُّ

1 جمادى الثانية 1444هـ

 

قبلَ مواصلةِ الكلامِ عن "عُقدةِ الأجنَبيِّ" المتجَلِّيةِ في الكتاباتِ الأخيرةِ للأُستاذِ عبدِ اللهِ الغِزِّيِّ، رُبَّما تحسُنُ التَّوطئةُ ببعضِ النِّقاطِ المتعَلِّقةِ بأبحاثِ المُستشرِقين عن الإسلامِ وتاريخِه؛ للتَّذكيرِ بما ينبغي للباحِثِ التَّفطُّنُ له عندَ التَّعامُلِ معها، وهي في المجمَلِ نقاطٌ لا يُختلَفُ عليها نظريًّا، لكِنْ كثيرًا ما يأتي الخَلَلُ من الذُّهولِ عنها عندَ المُمارسةِ العَمَليَّةِ.

فأقولُ أوَّلًا: إنَّ ممَّا لا يُختَلَفُ عليه أنَّ المعرفةَ فَضاءٌ مفتوحٌ، وأنَّ الإفادةَ من الأبحاثِ العِلميَّةِ لا تتوقَّفُ عندَ حدودِ الانتماءِ الجُغرافيِّ ولا العِرقيِّ ولا حتَّى الدِّينيِّ، غيرَ أنَّ القراءةَ في أبحاثِ الغَربيِّين عن الإسلامِ وتاريخِه لا تصلُحُ إلَّا لعارفٍ مُدرِكٍ لعُيوبِ تلك الكتاباتِ وإشكالاتِها المَنهجيَّةِ؛ فالباحِثُ الغَربيُّ إذا كتَب عن الإسلامِ وتاريخِه فإنَّه مهما بَذَل من جُهدٍ بحثيٍّ، ومهما تجرَّدَ من تحيُّزاتِه وانتماءاتِه، فإنَّه يبقى غريبًا أجنبيًّا عن مَيدانِ العلومِ الإسلاميَّةِ الواسعِ المتشَعِّبِ، وهذه الغُربةُ تجعَلُ من العسيرِ عليه مجاراةَ المختصِّين من أهلِ الإسلامِ، فضلًا عن أن يقومَ معهم مقامَ المعَلِّمِ، وبخاصَّةٍ حينَ يدخُلُ في تفاصيلِ عُلومِ الإسلامِ ودقائقِها.

ثانيًا: هذه الحقيقةُ لا يُغَيِّرُها ما قد يَقِفُ عليه القارئُ من إفاداتٍ وإضافاتٍ عِلميَّةٍ في بعضِ الكتاباتِ الأجنبيَّةِ عن الإسلامِ وتاريخِه؛ فبعضُ الباحثين الغربيِّين قد يؤتَى جَلَدًا وصَبرًا على البحثِ والتَّنقيبِ -وبخاصَّةٍ القُدَماءُ منهم- وبعضُهم قد يتاحُ له مجالٌ لا يتهيَّأُ لغيرِه حينَ يتعلَّقُ الأمرُ مثلًا بالدِّراساتِ المقارِنةِ بَينَ تاريخِ الفِرَقِ الإسلاميَّةِ، وبَينَ الأديانِ والفَلسَفاتِ القديمةِ المكتوبةِ أو المُترجَمةِ إلى لغةِ الغَربيِّ أو لغةٍ قريبةٍ منها.

يضافُ لذلك عنصرٌ آخَرُ؛ فكثيرٌ من الأعمالِ العِلميَّةِ الغربيَّةِ ثَمَرةُ عَمَلٍ جماعيٍّ اشترك في إنجازِه مجموعةٌ من الباحِثين؛ إمَّا أستاذٌ وطلَّابُه، أو باحثون جمَعَهم مشروعٌ علِميٌّ مُموَّلٌ، ثمَّ قد يخرجُ هذا المشروعُ باسمِ المشرِفِ عليه، بينما هو نِتاجُ عَمَلٍ جماعيٍّ تضافرَت في إنضاجِه الجُهودُ، وربَّما استُعين في إنجازِه بباحثينَ من أهلِ اللِّسانِ العَرَبيِّ.

فلأجْلِ هذه الأسبابِ ولأسبابٍ أخرى غيرِها، من الممكِنِ أن يقعَ المُستشرِقُ الغَربيُّ على بعضِ التَّفاصيلِ التي قد تَغيبُ عن نظيرِه ابنِ البيئةِ الإسلاميَّةِ، غيرَ أنَّه يظَلُّ يعاني قُصورًا يصعُبُ عليه الفَكاكُ منه حينَ يخوضُ في علومِ الإسلامِ. وعُجمةُ اللِّسانِ لن تكونَ سوى واحدةٍ من جوانبِ ذلك القُصورِ، وبخاصَّةٍ حينَ يقتَحِمُ علومًا ومعارِفَ تتطلَّبُ لغةً عربيَّةً أكثَرَ عُمقًا من المهاراتِ العامَّةِ للقراءةِ والحديثِ باللِّسانِ العَربيِّ.

ثالِثًا: يُضافُ لما سبَق أنَّ الباحثين الغربيِّين عادةً ما يميلون إلى التَّخصُّصِ الدَّقيقِ في الجزئيَّاتِ؛ فمن المعتادِ أن تجِدَ مُستشرِقًا أفنى عُمُرَه في دراسةِ شخصيَّةٍ إسلاميَّةٍ مثلًا، متتبِّعًا تاريخَها وما قيل فيها، ومؤلَّفاتِها المطبوعةَ والمخطوطةَ والمفقودةَ، وقد تجِدُ باحثًا آخَرَ منصَرِفًا لدراسةِ آراءِ وتاريخِ فِرقةٍ من الفِرَقِ، كالإسماعيليَّةِ أو المُعتزِلةِ، أو دراسةِ تاريخِ دولةٍ أو حركةٍ ما، فتجدُه منصَرِفًا بكليَّتِه للبحثِ والتَّحقيقِ فيما تخصَّص فيه، لا يكادُ يجاوِزُ حدودَه أو يبتعِدُ عنه، وأذكُرُ أنِّي حضرتُ مؤتمرًا علميًّا في جامعةٍ أجنبيَّةٍ، فكان من جملةِ المشاركين فيه عجوزٌ فانيةٌ -أظنُّها ألمانيَّةً- متخصِّصةٌ فقط في تفسيرِ ابنِ جريرٍ الطَّبَريِّ!

هذا التَّخصُّصُ في الجزئيَّاتِ يمنَحُ صاحِبَه -من غير شَكٍّ- قدرةً على الاستيعابِ والتَّنقيرِ، لكِنْ في حدودِ دائرتِه الصَّغيرةِ، وسينتجُ عن ذلك -لا محالةَ- قصورٌ تظهَرُ آثارُه عندَ الخروجِ من تلك الدَّائرةِ، بل ربَّما ظهرت آثارُه عندَ معالجةِ وتحليلِ ما يقِفُ عليه الباحِثُ داخِلَ دائرتِه؛ لأجْلِ هذا فإنَّ هذا النَّوعَ من التَّخصُّصِ غيرِ المتَّزِنِ وإن أفادَ في جانبٍ منه إلَّا أنَّه لا يناسِبُ شخصيَّةَ طالبِ العلمِ الباحِثِ في العلومِ الشَّرعيَّةِ، الذي يحتاجُ إلى بناءِ شخصيَّتِه وأدواتِه العِلميَّةِ وَفْقَ مَنهجيَّةٍ متكاملةٍ مُتَّزنةٍ في مختَلِفِ فنونِ العِلمِ.

وغيابُ هذا الاتِّزانِ في شخصيَّةِ المُستشرِقِ الغربيِّ أحدُ أسبابِ تلك الفضائِحِ والسَّقَطاتِ الكُبرى التي نراها في كتاباتِ أكابِرِهم ومشاهيرِهم، فضلًا عن صغارِهم والمبتَدِئين منهم.

قد لا يكونُ المقامُ هنا مناسبًا للتَّطويلِ في ذِكرِ نماذِجَ من تلك السَّقَطاتِ التي يبلُغُ بعضُها حدَّ الطَّرافةِ، لكِنِّي سأذكُرُ فقط أنموذَجينِ لاثنينِ من أكابِرِهم وأعيانِهم، يشرحانِ طبيعةَ القُصورِ الذي يعانيه الأجنبيُّ من غيرِ أهلِ الإسلامِ حينَ يقتَحِمُ العلومَ الإسلاميَّةَ:

الأنموذَجُ الأوَّلُ: ما وقع للمُستشرِقِ الألمانيِّ الكبيرِ تيودور نولدكه (1930م) -الذي يوصَفُ بشيخِ المُستشرِقينَ الألمانِ- في كتابه (تاريخُ القرآنِ) -أشهَرِ دراسةٍ استشراقيَّةٍ عن القرآنِ الكريمِ-؛ ففي كتابه هذا لمَّا تكلَّم عن الرِّواياتِ التي شرحت طريقةَ نُزولِ الوحيِ على النَّبيِّ ﷺ، ذكر أنَّ الطَّبريَّ والتِّرمذيَّ رَوَيا أنَّ الملَكَ كان يأتي النَّبيَّ ﷺ في صورةِ عائشةَ رضي اللهُ عنها! وهذا فَهمٌ كارثيٌّ لِما روت عائشةُ أنَّ النَّبيَّ ﷺ -قبل زواجِه بها- رأى في المنامِ مَلَكًا يأتيه بصورتِها، ويقولُ له: "هذه زوجتُك في الدُّنيا والآخرةِ"! فشيخُ المُستشرِقين خلَط بَينَ إتيانِ الملَكِ بصورةِ عائشةَ، وبيانِ إتيانِه في صورةِ وهيئةِ عائشةَ(1)!

الأنموذَجُ الثَّاني: ما وقع للمُستشرِقِ النِّمساويِّ ألويز شبرنجر (1893ه)، في كتابِه الأشهَرِ: (حياةُ محمَّدٍ ﷺ)، حين وجَد في القرآنِ أنَّ مُشرِكي قُريشٍ كانوا يَصِفون الوَحيَ بأنَّه (أساطيرُ الأوَّلين)، فذهَب فَهمُه إلى أنَّ (أساطيرَ الأوَّلين) عنوانُ كتابٍ كان النَّبيُّ ﷺ يأخذُ منه! فكتب يقولُ: "(أساطيرُ الأوَّلين) اسمُ كتابٍ، ولكِنْ ليس لدينا إلَّا معلوماتٌ قليلةٌ جِدًّا بالنِّسبةِ لمصدَرِه ومحتواه ... وهذا الكتابُ من المحتَمَلِ أن يكونَ مُترجَمًا عن الإغريقيَّةِ كما يوحي بذلك عنوانُه"! ثمَّ كرَّر شبرنجر هذا الخطأَ لَمَّا وجَد في القرآنِ أنَّ قومَ عادٍ كانوا يقولون لنبيِّهم هودٍ: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 136- 137]، فذهب يبحَثُ ويفتِّشُ عن كتابٍ آخَرَ عُنوانُه: (خُلُقُ الأوَّلينَ)(2)!

هذان أنموذَجانِ اختَرتُهما لاثنينِ من أكابِرِهم، وبهما يتَّضِحُ طبيعةُ القُصورِ الذي يعانيه المُستشرِقُ، وغرضي من هذا أنَّ الباحِثَ ابنَ البيئةِ العِلميَّةِ الإسلاميَّةِ صاحِبَ اللِّسانِ العَرَبيِّ، إن كان باحثًا حقيقيًّا فعليه ألَّا ينسى أنَّه صاحبُ الدَّارِ؛ فهو أدرى بما فيها، ومن أكبَرِ العيبِ في حقِّه -عندَ توثيقِ المعلومةِ التَّاريخيَّةِ الإسلاميَّةِ- مجاوزةُ مصادِرِه الأصيلةِ إلى كتُبِ المُستشرقين دونَ حاجةٍ؛ لأنَّ هذا يُعَدُّ من أسوَأِ صوَرِ النُّزولِ في المصادِرِ.

ومتى احتاجَ الباحثُ إلى النَّقلِ عن المُستَشرِقِ في شيءٍ لم يجِدْه في المصادِرِ الإسلاميَّةِ الأقدَمِ والأكثَرِ أصالةً، فعليه أن يستحضِرَ دائمًا أنَّ مقامَه مع المُستَشرِق مقامُ الفاحِصِ الخبيرِ الذي يُنتظَرُ منه التَّدقيقُ والتَّحقيقُ؛ لئلَّا يتورَّطَ مع المُستَشرِقِ في قصورِه وسوءِ فَهمِه.

رابعًا: كثيرٌ من كتاباتِ المُستَشرِقين وجهالاتِهم عن الإسلامِ وتاريخِه تُكتبُ بجُرأةٍ ولغةٍ واثقةٍ قد يُغَرُّ بها من لا تمييزَ عندَه؛ فمَثَلًا "تيودور نولدكه" الذي رأينا آنفًا فهمَه لحديثِ إتيانِ الملَكِ بصورةِ عائشةَ، نراه في الكتابِ نفسِه -تاريخِ القُرآن- ينتَقِدُ إمامَ العربيَّةِ أبا عُبَيدةَ مَعمَرَ بنَ المثنَّى في مسألةٍ لُغَويَّةٍ(3)! بل في موضِعٍ آخرَ من الكتابِ نقرأُ استدراكاتٍ لُغويَّةً حتَّى على النَّبيِّ ﷺ(4)! وفي موضعٍ ثالثٍ نقرأُ وصفًا لأسلوبِ النَّبيِّ ﷺ يقولُ فيه: "كان محمَّدٌ ذا أُسلوبٍ متوسِّطِ المُستوى"(5)! ثم يبلغُ الغرورُ -بل الجنونُ- ذِرْوتَه حينَ يمتلئُ المؤلِّفُ انتفاخًا، فيحكمُ -بناءً على ذوقِه اللُّغَويِّ!- بنَقصٍ في النَّصِّ القرآنيِّ، ويُرَجِّحُ وقوعَ أخطاءٍ في تقديمِ بعضِ الآياتِ على بعضٍ، وأنَّ بعضَها وُضِع في غيرِ مكانِه(6)! كُلُّ هذا يقولُه المُستَشرِقُ الأعجميُّ اللِّسانِ معتَمِدًا ذوقَه وحِسَّه وفَهمَه للِّسانِ العَرَبيِّ!

خامِسًا: عندَ البحثِ في التَّشريعِ الإسلاميِّ أو في عقائِدِ أهلِ الإسلامِ، فمن البَدَهيِّ أنَّ الفوائدَ والإضافاتِ العِلميَّةَ التي يمكِنُ أن يأتيَ بها الباحثُ الغربيُّ ستكونُ حولَ تفاصيلَ تاريخيَّةٍ لا تؤثِّرُ في الصُّورةِ الكبرى، ومن البَدَهيِّ أنَّ مِثلَ هذه التَّفاصيلِ لن تضيفَ فِقهًا في الدِّينِ، فضلًا عن أن تصَحِّحَ اعتقادًا فاسدًا، أو تُبطِلَ اعتقادًا صحيحًا!

تلك نقاطٌ أحبَبتُ التَّذكيرَ بها قبلَ العودةِ إلى الأستاذِ الغِزِّيِّ الذي ما نزالُ نستعرِضُ إجراءاتِه البحثيَّةَ: فما حالُ الأستاذِ مع كتاباتِ الباحثين الغربيِّين؟ هل هو صاحبُ نقدٍ وتدقيقٍ؟ أو أنَّ حسَّه النَّقديَّ يذوبُ في حضرةِ الأعيُنِ الملوَّنةِ؟!

تقليدُ المُستَشرِقِ في فَهمِ اللِّسانِ العَرَبيِّ!

لمَّا كان الأستاذُ يَجهَدُ في نسبةِ رسالةِ (الرَّدُّ على الزَّنادقةِ والجَهميَّةِ) لمقاتِلِ بنِ سُلَيمانَ بدلَ الإمامِ أحمدَ، صادفه إشكالٌ في نصِّ الرِّسالةِ يُعكِّرُ صفوَ هذه النِّسبةِ؛ حيث ورد فيها أنَّ الجَهمَ بنَ صفوانَ لَمَّا أحدث قولَه في الصِّفاتِ: "تَبِعه على قولِه رجالٌ من أصحابِ أبي حنيفةَ، وأصحابِ عَمرِو بنِ عُبيدٍ بالبصرةِ"، فهذه الجملةُ نغَّصت على الأستاذِ ما يروم الوصولَ إليه؛ فهي تتحدَّثُ عن (رجالٍ من أصحابِ أبي حنيفةَ)، وظاهِرُها يُشعرُ أنَّ الرِّسالةَ كُتِبت بعد زمنِ أبي حنيفةَ المتوفَّى سنة (150ه)، وهي السَّنةُ نفسُها التي توفِّي فيها مقاتلٌ؛ فهذه العبارةُ -حسَب تعبيرِ الأستاذِ- فيها: "إشكالٌ تاريخيٌّ يَبعُدُ معه نسبةُ الرِّسالةِ إلى (مقاتل)"(7).

وفي سبيلِ حَلِّ هذا الإشكالِ فَزِع الأستاذُ إلى تلفيقٍ أجنبيٍّ، فكتب قائلًا: "اقترح س. بينيس أنَّ (حنيفة) الواردةَ في النَّصِّ هي مُصَحَّفةٌ عن (حُذَيفة)، ويكونُ المرادُ حينئذٍ واصلَ بنَ عطاءٍ، فكنيتُه (أبو حُذيفةَ)، والتَّصحيفُ بَينَ هاتينِ الكلمتينِ: (حَنيفة/حُذَيفة) محتَمَلٌ..."، ثمَّ ساق الأستاذُ ما يفيدُ وجاهةَ هذا الاحتمالِ عندَه!

الأستاذُ هنا اعتمد على تخرُّصٍ ذكره المُستَشرِقُ اليهوديُّ شلومو بينيس (1990م)، في مقالتِه عن (الجَهم والمُعتَزِلة)؛ ففي تلك المقالة كان بينيس يبحثُ عن أيِّ شيءٍ يربطُ بَينَ الجهمِ والمُعتَزِلةِ، فلمَّا وجد قولَ الإمامِ أحمدَ: إنَّ جهمًا "تَبِعَه على قولِه رجالٌ من أصحابِ أبي حنيفةَ" رَغِبَ في وضعِ اسمِ رأسِ الاعتزالِ (واصِلِ بنِ عطاءٍ) مكانَ (أبي حنيفةَ)؛ ليربِطَ بَينَ المُعتَزِلةِ وبينَ آراءِ الجهمِ، فكتبَ يقولُ: "قد يجوزُ أن تكونَ كلمةُ (أبي حنيفةَ) وُضِعَت بدلًا من كلمةِ (أبي حُذَيفةَ)، وهي كنيةُ واصِلِ بنِ عطاءٍ"(8)!

المُستَشرِقُ ذَكَر هذا تخرُّصًا؛ فهو لم يذكُرْ مُستنَدًا عِلميًّا لكلامِه، ولا اعتمَد على أصولٍ خطيَّةٍ تثبتُ دعواه، هو فقط كان (يرغبُ) في الرَّبطِ بَينَ الجهمِ وواصلٍ، فلأجلِ ذلك ولَّدَ هذا الاحتمالَ البعيدَ!

ثمَّ جاء الأستاذُ الغِزِّيُّ، الذي كان (يرغبُ) أيضًا في الخلاصِ من إشكالٍ يعكِّرُ عليه نسبةَ رسالةِ (الرَّد) لمقاتِلِ بنِ سُلَيمانَ؛ فلذلك ركَض وراء المُستَشرِقِ والتَقط تخرُّصَه وقوَّاه دون أدنى تأمُّلٍ أو تحقيقٍ، ولماذا يدقِّقُ الأستاذُ وفي يده كلامُ (أجنبيٍّ) يَدعَمُ (الرَّغبة)؟!

ما ذكره اليهوديُّ هنا غَلَطٌ أُتِيَ فيه من عُجمةِ لسانِه، يدركُ ذلك من يملِكُ أدنى درجاتِ ذوقِ اللِّسانِ العربيِّ؛ فزيادةً على كونِ جميعِ نُسَخِ رسالةِ (الرَّد) متَّفِقةً على ذِكرِ (أبي حنيفة)، فإنَّ العَرَبَ لا تستعمِلُ الكُنيةَ بهذه الطَّريقةِ التي شطَحَت بها رغبةُ المُستَشرِقِ!

واصِلُ بنُ عطاءٍ لم يُذْكَرْ في أيِّ موضِعٍ من رسالةِ (الرَّد)، فلو قُدِّر أنَّ صاحِبَ الرِّسالةِ أراد ذِكرَه في هذا الموضِعِ الوحيدِ لاستعمل اسمَه الذي يميِّزُه، ولم يعدِلْ إلى كنيتِه التي لا تكادُ تُعرَفُ، وإنَّما ساغ استعمالُ الكُنيةِ مع (أبي حنيفةَ)؛ لأنَّ كُنيتَه أشهَرُ وأظهَرُ من اسمِه، شأنُه في ذلك شأنُ أبي هُرَيرةَ، وأبي ذَرٍّ، وأبي طلحةَ، وأبي الدَّرداءِ، ونحوِهم؛ فهؤلاء كلُّهم غلبت عليهم كُناهم حتى صارت أشهَرَ من أسمائِهم، وفي مِثلِهم صنَّف أبو الفتحِ الأزْديُّ كتابَه (أسماءُ من يُعرَف بكُنيتِه)، وصنَّف ابنُ عبدِ البرِّ: (اسمُ من غلبت عليه كنيتُه من أصحابِ النَّبيِّ ﷺ)، فمِثلُ هؤلاء يسوغُ ذكرُهم بالكنيةِ مجرَّدةً؛ لذلك صار من المعتادِ أن نجِدَ في المرويَّاتِ: (عن أبي هُريرةَ)، و(عن أبي الدَّرداءِ)، و(عن أبي ذرٍّ)، لكِنْ لن نجِدَ فيها (عن أبي حفصٍ) بدل عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، ولا نجِدُ (عن أبي محمَّدٍ) بدَلَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ.

وهذا المعنى لا يقتصِرُ على الصَّحابةِ ؛ ففي الفقهاءِ -مثلًا- يقالُ: (هذا اختيارُ أبي يوسُفَ) لشُهرتِه بكنيتِه، لكِنْ لا يقالُ: (هذا قولُ أبي عبدِ اللهِ) بَدَلَ الثَّوريِّ.

وفي الشِّعرِ يقالُ: (أنشد أبو نُواسٍ)، و(قال أبو تمَّامٍ)، لكِنْ لا يُقالُ: (أنشد أبو معاذٍ) ويكونُ المقصودُ بشَّارَ بنَ بُردٍ، وإن كانت هذه كُنيتَه.

فالمرادُ من هذا أنَّ اللِّسانَ العَرَبيَّ لا يُسيغُ أن يُقالَ: إنَّ جَهمًا تبِعَه على قولِه رجالٌ من (أصحابِ أبي حُذيفةَ) هكذا دونَ تعريفٍ وبيانٍ للمقصودِ، ولو فتَّش الأستاذُ ما فتَّشَ في كتُبِ المقالاتِ فلن يجِدَهم يذكُرون واصلًا بكُنيتِه مجرَّدةً بهذه الطَّريقةِ التي ادَّعاها المُستَشرِقُ الذي لم يفهمْ متى يسوغُ استبدالُ الكنيةِ بالاسمِ.

وهنا أمرٌ آخرُ يتعلَّقُ أيضًا بذوقِ اللِّسانِ العَرَبيِّ؛ فالعربُ إذا عَدَلَتْ عن الاسمِ إلى الكُنيةِ، فالأصلُ أنَّها تفعَلُ ذلك لأجلِ التَّوقيرِ والإكرامِ، فكما يقولُ الزَّمخشريُّ: "الذي دعاهم إلى التَّكنيةِ: الإجلالُ عن التَّصريحِ بالاسمِ بالكنايةِ عنه"(9). وفي هذا المعنى يقولُ شاعِرُ فَزارةَ:

أَكْنِيهِ حينَ أناديه لأكرِمَه *** ولا أُلَقِّبُه والسَّوأةَ اللَّقَبَا

فلو قُدِّر أنَّ مُؤلِّفَ رسالةِ (الرَّد) أراد بكلامِه واصِلَ بنَ عطاءٍ، فلن يُفخِّمَه بالعدولِ عن اسمِه إلى كُنيتِه؛ فدعوى التَّصحيفِ التي ولدَتْها عُجمةُ المُستَشرِقِ وأكَّدَتْها تبعيَّةُ الأستاذِ (المشهودِ له بالتَّميُّزِ): فِكرةٌ لا يَقبَلُها اللِّسانُ العربيُّ، لكن إذا كان المُستَشرِقُ اليهوديُّ أُتِيَ من عُجمةِ لسانِه، فأحسَبُ أنَّ الأستاذَ أُتِيَ هنا من عُجمةِ تفكيرِه ونَقْدِه الذي يزيدُ ضعفًا فوقَ ضعفِه عندَما يتعلَّقُ الأمرُ ببني الأصفَرِ!

نقدُ الأستاذِ بَينَ (أندرو ماكلارن)، و(أحمد الغريب):

في الحَلْقةِ الرَّابعةِ من هذه السِّلسلةِ أشَرتُ إلى الوَرَقةِ البحثيَّةِ التي كتَبها الأمريكيُّ أندرو ماكلارن؛ طالِبُ الدُّكتوراه بجامعةِ كولومبيا، وبيَّنتُ هناك واحدةً من الأغلاطِ التي انزلق فيها الأستاذُ بسَبَبِ اعتمادِه على تلك الوَرَقةِ التي ترجمها ونشرَها بالعربيَّةِ (مركز نماء)، تحتَ عُنوانِ: (رسالةُ الرَّدِّ على الجهميَّةِ لأحمدَ بنِ حَنبلٍ: التَّاريخُ النَّصِّيُّ).

مركزُ نماءٍ ترجَم الورقةَ، واستكتب الأستاذَ الغِزِّيَّ، الذي شمَّر عن ساعدِه ليَضَعَ ذيلًا وتكمِلةً للوَرَقةِ في ضِعفِ حَجمهِا، ومن يقرأْ (التَّكْمِلة الغِزِّيَّة على الوَرَقةِ الأمريكيَّة)، ثمَّ يقارِنْها بما كتبه الأستاذُ في نقدِ الفاضِلِ أحمد الغريب، يجِدِ الفَرقَ الظَّاهرَ بَينَ الكتابتَينِ، لا في منهَجِ النَّقدِ ولا في لهجتِه، وسيزيدُ حَجمُ المنافَرةِ إذا عَلِمْنا أنَّ الأستاذَ لم يأخُذْ على الغريبِ خطأً علميًّا واحدًا، بينما جاءت الوَرَقةُ الأمريكيَّةُ مشحونةً بالأخطاءِ الجَلِيَّةِ كما سنرى.

وحتى تكتَمِلَ أجزاءُ الصُّورةِ سنحتاجُ تلخيصَ القصَّةِ من أوَّلِها: فالباحِثُ أحمدُ الغريبُ -الذي لم أسعَدْ بمعرفتِه إلى هذه السَّاعةِ- لَمَّا حقَّق كتابَ (الطَّريقةُ الأثَريَّةُ والعَقيدةُ السُّنِّيَّةُ)، وجد في كلامِ مُؤَلِّفِه عبدِ القادِرِ البَصريِّ الضَّريرِ ما يدُلُّ على تأثُّرِه بتقريراتِ ابنِ تيميَّةَ، فكتَب في مُقَدِّمةِ التَّحقيقِ مبحثًا عن أثَرِ ابنِ تيميَّةَ على مَن بَعدَه من الحنابلةِ في مسألةٍ واحدةٍ.

فالغريبُ كان يكتُبُ مبحثًا موجَزًا في مُقَدِّمةِ تحقيقٍ، وغرضُ المبحَثِ واضحٌ محدَّدٌ. وهل أصاب الغريبُ في إثباتِ ما أراده أم لا؟ الجوابُ نجِدُه في قولِ الأستاذِ نفسِه: "ترتكزُ فكرةُ المحقِّقِ على أنَّ للشَّيخِ تأثيرًا وحضورًا لدى الحنابلةِ الذين أتوا بَعدَه، وقد أصاب في الجملةِ في إثباتِ هذا القَدْرِ من البَحثِ، ورَصدُه مفيدٌ لدراسةِ تطَوُّرِ الأفكارِ الحنبليَّةِ"(10).

هذا رأيُ الأستاذِ فيما كتبه الغريبُ، فما الذي أثارَ حفيظةَ الأستاذِ إذَنْ؟

الأستاذُ فقط كان يرغَبُ ويريدُ من الغريبِ أن يبسُطَ الكلامَ عن تصويرِ ابنِ تيميَّةَ لمذهَبِ الإمامِ أحمدَ، وأن يستوعِبَ الجوابَ عن جميعِ الاعتراضاتِ الواردةِ على كلامِه. يريدُه أن يفعَلَ هذا كلَّه في مبحثٍ موجَزٍ في مقدِّمةِ تحقيقِ كتابٍ لعبدِ القادِرِ البَصريِّ!

وحيثُ لم يفعَلِ الغريبُ هذا، فقد أفردَ الأستاذُ مقالةً تطاول فيها وأطلق وابلًا من الاتِّهاماتِ بالعَبَثِ والاختزالِ، والإسقاطِ الأيديولوجيِّ، والخُضوعِ لضغطِ الانتماءِ المذهَبيِّ والواقعِ الاجتماعيِّ، وتسطيحِ القضايا التَّاريخيَّةِ! ... إلى آخِرِ هَذرٍ كثيرٍ من هذا النَّمَطِ، ختمه بالطَّعنِ في نيَّةِ المحقِّقِ من خلالِ لَمْزِه بتجاوُزِ الإشكالاتِ العِلميَّةِ "استجابةً لمتطَلَّباتِ المجتَمَعِ والمذهَبِ"، ورماه بـ "إضفاءِ صِبغةٍ تحسينيَّةٍ على عَمَلِه؛ من أجْلِ دغدغةِ العواطفِ بإعطاءِ ممارستِه البحثيَّةِ وَصفًا شرعيًّا وبُعْدًا دينيًّا"(11)!

قائمةُ الاتِّهاماتِ هذه لم تكُنْ بسبَبِ تدليسٍ أو تحامُلٍ مارسه الغريبُ، ولا هي بسبَبِ معلوماتٍ غيرِ صحيحةٍ ذكَرها، ولا بسببِ قُصورٍ في إثباتِ ما أراده من أثَرِ ابنِ تيميَّةَ فيمن جاء بعدَه، بل سببُها فقط: أنَّ المحقِّقَ لم يَنزِلْ عندَ الرَّغبةِ السَّاكنةِ في قَلبِ الأستاذِ، فلم يَبسُطْ له الكلامَ فيما يُريدُ ويشتهي!

تلك جنايةُ الغريبِ التي أوجبت تلك الاتِّهاماتِ السَّوداءَ، فلْنحفَظْ هذه الصُّورةَ، ولننتَقِلْ إلى (التَّكمِلة الغِزِّيَّة على الوَرَقةِ الأمريكيَّة)، وسوف نرى كيف يتعاملُ الأستاذُ مع (الأجنبيِّ) بلغةٍ ومنهجيَّةٍ مختَلِفةٍ كُلِّيًّا؛ فهو لا يُدَقِّقُ في دعاواه وأغلاطِه الظَّاهرةِ، بل قد غضَّ الطَّرْفَ عن اتِّهامٍ كبيرٍ وَقِحٍ أطلقه الأمريكيُّ في حقِّ عُلماءِ الإسلامِ، فلم يُعَلِّقْ عليه بحرفٍ! وفي المواضعِ القليلةِ التي خالف الأستاذُ فيها الطَّالِبَ (الأجنبيَّ) سنرى كيف كان يعلِّقُ عليه بلغةٍ ناعمةٍ رقيقةٍ بَخِل بها على إخوانِه من أهلِ دينِه وملَّتِه الذين ادَّخر لهم الاتِّهاماتِ والطَّعنَ في النَّوايا!

الصَّمتُ في حَضرةِ (القِراءة المَذهَبيَّة) الأمريكيَّة:

مِن أظهَرِ جناياتِ الطَّالِبِ الأمريكيِّ أنَّه كان يتحدَّثُ عن الحنابلةِ بناءً على خلفيَّتِه وتاريخِه الدِّينيِّ؛ فهو يتعامَلُ مع الحنابلةِ وكأنَّهم مؤسَّسةٌ كَنَسيَّةٌ تآمرت على اختلاقِ رسالةِ (الرَّد على الزَّنادقةِ والجَهميَّةِ) من أجلِ الرَّفعِ من شأنِ إمامِها أحمدَ بنِ حنبَلٍ!

هو لا يتَّهِمُ شخصًا واحدًا باختلاقِ الرِّسالةِ ونِسبتِها لأحمدَ، بل يُقَرِّرُ أنَّ جزءًا منها اختلقه حنابلةٌ في القَرنِ الرَّابِعِ، ونسبوه لأحمدَ رغبةً في الرَّفعِ من شأنِه! ثمَّ جاء حنابلةٌ آخَرون في القرنِ السَّادِسِ فأضافوا زياداتٍ على نَصِّها، ثمَّ أوصلها حنابلةٌ آخَرون في القرنِ الثَّامِنِ إلى صورتِها الحاليَّةِ التي بَينَ أيدينا، فبهذا التَّواطُؤِ الحنبليِّ تشَكَّلت الرِّسالةُ في رأيِ الطَّالِبِ!

يقولُ الأمريكيُّ: "إنَّ فِكرةَ تأليفِ مُصَنَّفٍ على شاكلةِ (رِسالة الرَّدِّ) ظهرت مع سعيِ الرَّعيلِ الأوَّلِ من أتباعِ ابنِ حنبلٍ إلى تخليدِ مسيرتِه فقيهًا ومحَدِّثًا"(12).

يضيفُ الأمريكيُّ: "يحسُنُ بنا ربَّما أن ننظُرَ إلى رسالة (الرَّدِّ) بوصفِها مؤلَّفًا جماعيًّا، صنَّفه الحنابلةُ جيلًا بعد جيلٍ"(13). ويذكرُ أنَّ "قسمًا من التَّغييراتِ التي طرأت عليها كانت مِن عمَلِ أتباعِ ابنِ حنبلٍ، الذين سَعَوا إلى شرحِ آراءِ مُؤَسِّسِهم جيلًا بعدَ جيلٍ"(14).

ثمَّ يتساءل الطَّالبُ: "هل كان مُعظَمُ الحنابلةِ يَرَونَ صِحَّةَ نِسبتِها إليه؟ وإذا كانوا كذلك فعلى من تقعُ مسؤوليَّةُ تغييرِ مَضمونِ النَّصِّ؟ وهل كان عدَمُ صِحَّةِ نسبتِه إلى ابنِ حنبلٍ سرًّا بينهم؟". ثمَّ يلمِزُ ابنَ القَيِّمِ ويقولُ: "لا يمكِنُ لشخصٍ مشهودٍ له بالاجتهادِ في جمعِ مُصَنَّفاتِ الحنابلةِ على غرارِ ابنِ قَيِّمِ الجوزيَّةِ ألَّا يكونَ على درايةٍ بوجودِ إبرازاتٍ مختَلِفةٍ للنَّصِّ"(15)، يعني بذلك أنَّ ابنَ القَيِّمِ كان يُدرِكُ أنَّ الرِّسالةَ كُتِبَت أكثَرَ من مرَّةٍ، فزِيدَ فيها ما ليس منها!

ثمَّ يَصِلُ التَّحقيرُ والازدراءُ ذِروتَه عندَما يقولُ الأمريكيُّ: "ربَّما كان عَصيًّا على الحنابلةِ وغيرِهم التَّفطُّنُ إلى ما اعترى النَّصَّ من تغييراتٍ جرَّاءَ تسامُحِ الثَّقافةِ السَّائدةِ آنذاك مع مسألةِ التَّصَرُّفِ في النُّصوصِ بالزِّيادةِ والنَّقصِ، وليس أدَلَّ على ذلك ممَّا ذكره الخَلَّالُ بشأنِ إضافةِ المرُّوذيِّ آياتٍ أُخرى لقائِمةِ ابنِ حَنبَلٍ"(16)!

هذا ما قاله (الأجنبيُّ)! ففي رأيِه أنَّ الثَّقافةَ السَّائدةَ عندَ أهلِ الإسلامِ كانت تتسامَحُ في تحريفِ النُّصوصِ وتبديلِها، وقد مرَّ هذا الافتراءُ على الأستاذِ الغِزِّيِّ بردًا وسلامًا! فمع أنَّه وضَع ذيلًا طويلًا لورقةِ (الأجنبيِّ) في قُرابةِ المئةِ صَفحةٍ أثنى فيها أكثَرَ من مرَّةٍ على ذكائِه وجدِّيَّتِه، إلَّا أنَّه لم يتوقَّفْ عندَ هذا السُّخْفِ! ولم يُعَلِّقْ عليه بحرفٍ، ولم يتحدَّثْ هنا عن "عبثٍ"، ولا عن "قراءةٍ مذهبيَّةٍ"، ولا عن "إسقاطٍ أيديولوجيٍّ"، كلُّ ما خرج من الأستاذِ عباراتٌ ناعمةٌ عبَّر فيها عن عدَمِ اتِّفاقِه مع الأمريكيِّ في كونِ الرِّسالةِ مُؤلَّفًا جماعيًّا!

قال الأستاذُ: "لم يتطرَّقِ الكاتبُ إلى تحديدِ هُوِيَّةِ مُؤَلِّفِ النَّصِّ، ويبدو أنَّ هذا عائدٌ إلى ما تبنَّاه من كونِه ابنًا لآباءٍ جماعيِّين". ثمَّ يضيفُ الأستاذُ بلغةٍ مُفعَمةٍ بالرِّقَّةِ: "إنَّنا نخالفُ الكاتِبَ فيما ذهب إليه من أنَّ النَّصَّ عبارةٌ عن مؤلَّفٍ جماعيٍّ"(17)!

هذا كلُّ ما خرَج من الأستاذِ في وجهِ الفِريةِ الأجنبيَّةِ، أمَّا حينَ يختلفُ مع أهلِ مِلَّتِه -ولو في وِجهةِ نَظَرٍ- فلا مكانَ هنا لعبارةِ: (إنَّنا نخالِفُ)، بل لا بُدَّ من حشدِ ما يمكنُ من الشَّناعاتِ والتُّهَمِ التي تشهَدُ أنَّ الأستاذَ غارِقٌ فيما يُسَمِّيه "صراعاتٍ طائفيَّةً"، حتَّى مع محاولاتِه إلباسَ صراعاتِه واتِّهاماتِه لَبُوسَ "النَّقدِ التَّاريخيِّ"!

فِريةُ الأمريكيِّ على تاريخِ الإسلامِ:

الطَّالِبُ الأمريكيُّ لَمَّا زعم تسامُحَ الثَّقافةِ الإسلاميَّةِ مع التَّصرُّفِ في النُّصوصِ، أراد الاستدلالَ على ذلك، فقال: "ليس أدلَّ على ذلك ممَّا ذكره الخلَّالُ بشأنِ إضافةِ المرُّوذيِّ آياتٍ أخرى لقائمةِ ابنِ حَنبَلٍ"(18).

وإذا عرَفْنا مقصودَ الطَّالِبِ بهذا الكلامِ فسيَبرُزُ أمامَنا أنموذَجٌ آخَرُ للجَهلِ وسوءِ الفَهمِ الأجنبيِّ المكتوبِ بلُغةٍ واثقةٍ جازمةٍ.

الطَّالِبُ يشيرُ هنا إلى كلامٍ للخَلَّالِ قَصَرَ عنه فَهمُه؛ فالخَلَّالُ روى في (السُّنَّة) رسالةً كتبها الإمامُ أحمدُ ضمَّنها قائمةَ آياتٍ قرآنيةٍ تنقُضُ قَولَ الجهميَّةِ، وهي رسالةٌ أخرى تختَلِفُ عن رسالةِ (الرَّدُّ على الزَّنادقةِ والجَهميَّةِ) المشتَمِلةِ على جَدَلٍ وحِجاجٍ.

رسالةُ (الآياتِ القُرآنيَّةِ) رواها الخَلَّالُ من طريقينِ:

-رواها مرةً من طريقِ: (الخضرِ بنِ أحمدَ، عن عبدِ اللهِ بنِ الإمامِ أحمدَ، عن أبيه).

-ورواها ثانيةً من طريقِ (أبي بكرٍ المَرُّوذيِّ، عن الإمامِ أحمدَ).

لكنَّ الخلَّالَ لمَّا ذكر روايةَ المرُّوذيِّ قال: "ذكَر المرُّوذيُّ آياتٍ كثيرةً دونَ ما ذكَره الخضرُ بنُ أحمدَ عن عبدِ اللهِ...".

ومقصود الخَلَّالِ: أنَّ روايةَ المرُّوذيِّ أتمُّ، وأنَّ فيها آياتٍ زائدةً على ما في روايةِ عبدِ اللهِ، وهذا التَّفاوُتُ ممَّا يقعُ مثلُه كثيرًا في المنقولاتِ الصَّحيحةِ، ولذلك أسبابُه التي يعرِفُها أهلُ الفَنِّ. لكنَّ فهمَ الطَّالِبِ الأمريكيِّ شَطَح، فظنَّ أنَّ الخلَّال يقصدُ أنَّ المرُّوذيَّ نفسَه أضاف مِن عندِه أشياءَ لم يذكُرْها أحمدُ أصلًا في رسالتِه، فمن هنا جعَل هذا دليلًا على أنَّ الثَّقافةَ السَّائدةَ آنذاك كانت تُسَوِّغ العبثَ في النُّصوصِ بالزِّيادةِ والنَّقصِ!

هذه الدَّعوى الأجنبيَّةُ ليست جديدةً، بل هي نَغْمةٌ لم يَزَلْ طائفةٌ من المُستَشرِقين يتلقَّفونَها عن بعضِهم ويُطلِقونها دونَ حسابٍ؛ فمثلًا الألمانيُّ فريدريك شفالي (1919م) كان يدَّعي أنَّ المفسِّرين المُسلِمين كانوا: "يتخلَّون عن حقِّهم التَّأليفيِّ الخاصِّ، ويَنسُبون إلى شيخِهم ما كانوا قد ابتكروه، إمَّا تواضعًا أمامَ شيوخِهم، أو رغبةً في تكريمِ رأسِ الجماعةِ الأكبَرِ سِنًّا والأكثَرِ اعتبارًا". وكان يزعُمُ أنَّ مُسلِمي القرنِ الثَّاني "كانوا على قناعةٍ بأنَّه يمكنُ للمرءِ أن يختَلِقَ أحاديثَ للنَّبيِّ (ﷺ) وينشُرَها لمنفعةِ الشَّعبِ الأخلاقيَّةِ ولدَعمِ الوَرَعِ". ويضيفُ: "كان تعليلُ أحدِ الآراءِ عن طريقِ اختلاقِ أحدِ أقوالِ النَّبيِّ (ﷺ) أو الصَّحابةِ في ذلك الوقتِ شكلًا مشروعًا للتعبيرِ عن الآراءِ الذَّاتيَّةِ"(19).

هكذا يتحدَّثُ بعضُ هؤلاء باستخفافٍ عن تاريخِ أكثَرِ الأمَمِ تدقيقًا في المرويَّاتِ والمنقولاتِ، وهم في هذا يمارِسون إسقاطًا ينطَلِقون فيه من تاريخِهم المملوءِ بهذه الممارسةِ التي طالت الكتُبَ المنزَّلةَ عليهم من السَّماءِ.

فالسُّؤالُ الذي يَبرُزُ هنا الآنَ:

كيف مرَّر الأستاذُ هذا الكلامَ وصمَت عنه وهو يكتُبُ ذيلًا وتكميلًا لمقالةِ الأمريكيِّ؟ أين اختَفت تشنيعاتُه؟! وأين ذهب نقدُه التَّاريخيُّ؟! هل غيَّبَتْه "عُقدة الأجنبيِّ"؟!

لستُ هنا أخاطِبُ غَيرةَ الأستاذِ وحميَّتَه الدِّينيَّةَ، بل أتساءلُ فقط عن سببِ غيابِ ما سبَق أن حدَّثَنا عنه مِن قَلقِه من "الإجراءاتِ البحثيَّةِ المُختَزَلةِ"!

المُستَشرِقُ ومُعضِلةُ البحثِ في الأسانيدِ:

من المعلومِ أنَّ صَنعةَ (الأسانيدِ) اختراعٌ وإبداعٌ إسلاميٌّ لا عهدَ لسائرِ الأمَمِ به، ولأنَّها ظاهرةٌ غريبةٌ عن التَّاريخِ والعقلِ الغربيِّ، فإنَّ المُستَشرِقين يعانون كثيرًا في فهمِها، ومن يفهَمُ منها طرفًا فإنَّه لا يحسِنُ الدُّخولَ في تفاصيلِها.

والإشكالُ هنا: أنَّ المُستَشرِقَ عادةً ما يكبُرُ عليه الإقرارُ بهذا العجزِ والاعترافُ به، وقد يلجأُ -عِوَضًا عن الإقرارِ بالعَجزِ- إلى التَّقليلِ من شأنِ هذه الصَّنعةِ، وإلى تسخيفِ النَّقدِ الذي يُعلي من شأنِها. وكلامُ المُستَشرِقين المكرورُ عن إغفالِ المسلمين نَقْدَ المتونِ أحدُ مظاهرِ العجزِ والقُصورِ عن فهمِ الأسانيدِ؛ فحينَ يقولُ الإيطاليُّ ليون كايتاني (1935م): "كلُّ قصدِ المحَدِّثين ينحَصِرُ ويتركَّزُ في وادٍ جَدْبٍ مُمحِلٍ مِن سَردِ الأشخاصِ الذين نقلوا المرويَّ، ولا يَشغَلُ أحدٌ نفسَه بنقدِ العبارةِ والمتنِ نفسِه"(20)، حينَ يتحدَّثُ هذا عن "وادٍ جدبٍ مُمحِلٍ مِن سَردِ الأشخاصِ"، فهو إنَّما يعبِّرُ عن جفافِ عَقلِه أمامَ خُصوبةِ النَّقدِ التَّاريخيِّ الذي مارسه أهلُ الإسلامِ.

وقَبْلَ كايتاني أراد جوزيف شاخت أن يحُلَّ هذه المعضلةَ ويرتاحَ منها بضربةٍ واحدةٍ، فأطلق حماقتَه الكبرى، التي زعم فيها أنَّ الأسانيدَ كُلَّها ممَّا اختُلِق ورُكِّب على المتونِ في وقتٍ متأخرٍ! ذكَر هذا في كتابِه (أصولُ الفِقهِ المحمَّديِّ).

هذه الجادَّةُ الاستشراقيَّةُ العمياءُ لم تَزَلْ طريقًا مسلوكًا يختارُه كثيرٌ من الباحثين الغربيِّين، فهَدْرُ السَّنَدِ دونَ حُجَّةٍ طريقةٌ سهلةٌ تريحُهم من عناءِ الدُّخولِ في تفاصيلِه المُربكةِ لعقولهم، وهذا ما مشى عليه الطَّالِبُ الأمريكيُّ أندرو ماكلارن في تعامُلِه مع سنَدِ رسالةِ (الرَّدُّ على الزَّنادقةِ والجهميَّةِ) دونَ أن يستوقِفَ صنيعُه نقدَ الأستاذِ وهو يكتُبُ تكملتَه للوَرَقةِ الأمريكيَّةِ!

سَنَدُ رسالةِ (الرَّد) في ميزانِ الطَّالِبِ الأمريكيِّ:

رسالةُ (الرَّد) رواها مختصَرةً ابنُ أبي يَعلى في (طَبَقات الحنابِلةِ) بسندٍ معروفٍ -على الأقلِّ- إلى أبي بكرٍ الخَلَّالِ(21)، وهذا السَّندُ مُثبَتٌ على جملةٍ من الأصولِ الخطيَّةِ للرِّسالةِ، وهو عينُ السَّنَدِ الذي يُروَى به جزءُ (الأمر بالمعروفِ والنَّهي عن المنكَرِ) عن الخَلَّالِ(22).

وهناك سنَدٌ ثانٍ لرسالة (الرَّد) مثبَتٌ على مجموعةٍ أخرى من أصولِها الخطيَّة، ورجالُ السَّنَدِ الثَّاني إلى الخلَّالِ أيضًا مشاهيرُ معروفون.

السَّنَدانِ يختلفانِ في مبدئِهما، لكنَّهما يلتقيانِ في الأعلى في أربعةِ أسماءَ؛ منها: اسمُ (الخلَّال)، واسمُ (عبدِ اللهِ بنِ الإمامِ أحمدَ).

ومرورُ السَّنَدين بالخَلَّالِ يشهَدُ لِما ذكره كلٌّ من ابنِ تيميَّةَ، والذَّهَبيِّ، وابنِ مُفلِحٍ، وابنِ القيِّمِ، من أنَّ الخلَّالَ روى رسالةَ (الرَّد) في كتابِه (السُّنَّة)(23)، فثبوتُ سَنَدِ الرِّسالةِ إلى الخلَّالِ -على الأقَلِّ- لا مجالَ للتَّشكيكِ فيه ... لكِنَّ الطَّالِبَ الأمريكيَّ له رأيٌ آخرُ!

الطَّالبُ أرادَ أن يُثبِتَ أنَّ سندَيِ الرِّسالةِ المثبَتَينِ على أصولِها الخطيَّةِ رُكِّبا واختُلِقا في زمَنٍ متأخِّرٍ. وفي سبيلِ الوصولِ لهذه النَّتيجةِ شَرَع في إثباتِ أنَّ (الخلَّالَ) و(عبدَ اللهِ) لم يَقِفا أصلًا على الرِّسالةِ، بل لم يكونا على علمٍ بوجودِها، فَعَلَ هذا؛ كي يَصحَّ له -في النِّهايةِ- الطَّعنُ في السَّندَينِ المثبَتَينِ على أصولِها الخطيَّةِ، واللَّذينِ يمرَّان بالخَلَّالِ وعبدِ اللهِ.

وحتى يُقيمَ الطَّالِبُ دعواه سلَك طريقًا طويلًا يستدعي بعضَ التَّركيزِ لفهمِه:

الطالبُ ترك أوَّلًا رسالةَ (الرَّد) جانبًا، وانطلق إلى رسالةِ الإمامِ أحمدَ الأخرى التي تقدَّمَ ذكرُها؛ رسالةِ (الآيات القُرآنيَّة) التي تردُّ قولَ الجهميَّةِ.

تلك الرِّسالةُ رواها الخَلَّالُ من طريقِ عبدِ اللهِ بنِ الإمامِ أحمدَ، وفيها قولُه: "وجدتُ هذا الكتابَ بخَطِّ أبي فيما يُحتَجُّ به على الجَهميَّةِ..."، ثمَّ رواها الخلَّالُ من طريقِ المرُّوذيِّ؛ قال: "هذا ما احتجَّ به أبو عبدِ اللهِ على الجَهميَّةِ من القرآنِ، وكتَبَه بخَطِّه، وكتبتُه من كتابِه"(24).

وكما نرى: فالرِّوايتانِ تتحدَّثان عن رسالةٍ جمعَها الإمامُ نفسُه، وكتبَها بخَطِّه، ومِن خَطِّه نقلَها ابنُه عبدُ اللهِ وصاحِبُه المرُّوذيُّ، ثمَّ جاء الخلَّالُ بعدَ ذلك، فرواها عن كلٍّ منهما.

ومع ذلك فإنَّ الطَّالِبَ لمَّا تكلَّم عن هذه الرِّسالةِ استخدمَ صيغةً مُضَلِّلةً، فذكر أنَّ عبدَ اللهِ والخلَّالَ: "اقتبسا كِلاهما آياتٍ قرآنيةً استند إليها ابنُ حنبلٍ في الرَّدِّ على الجهميَّةِ، بَيْدَ أنَّ كلَيهما لم يشيرا صراحةً إلى النَّصِّ الذي اقتَبَسا منه". ولْنَلحَظْ تَكرارَه عبارةَ: (اقتَبَسا)، فهو لا يريدُ أن يقولَ: إنَّهما (رَوَيا) أو (نَقَلا)، بل يريدُ أنَّ كلًّا منهما أنشأ رسالةً اقتبس فيها من احتجاجاتِ أحمدَ!

يزيدُ الأمريكيُّ في المغالطةِ أو في سوءِ الفهمِ، فيقولُ: "هناك من يذهَبُ إلى أنَّ عبدَ اللهِ والخَلَّالَ استَقَياها من دفاتِرَ كان يستخدِمُها ابنُ حنبَلٍ لكتابةِ مُسَوَّداتِ أعمالِه"(25). يقولُ هذا متجاهِلًا أنَّ الرِّوايتينِ اللَّتينِ نقل نصَّهما تُصَرِّحان بأنَّ الرِّسالةَ منقولةٌ من خَطِّ أحمدَ(26)!

وبَعدَ هذه المناورةِ قال الطَّالبُ بلغةٍ منفوخةٍ: "نُرَجِّحُ أن يكونَ المصدرُ (مصدَرُ الاقتباسِ) هو قائمةً شخصيَّةً أعدَّها ابنُ حنبَلٍ نفسُه، أو أعدَّها أحدُ أصحابِه المقرَّبين منه"(27).

وبعدما مرَّر الطَّالبُ فكرةَ (اقتباس) عبدِ اللهِ والخلَّالِ من كلامِ أحمدَ، انتقل إلى مطلوبِه، فرجع إلى رسالةِ (الرَّد على الزَّنادقةِ) ليقولَ: "منطقيًّا لو كان أيٌّ منهما على درايةٍ برسالةِ (الرَّد) لذكَراها، ولا سيَّما إن كان ابنُ حنبلٍ هو مُصَنِّفَها حقًّا"(28).

فتلك هي النُّقطةُ التي كان الأمريكيُّ يرومُ الوصولَ إليها:

1-فالخَلَّالُ وعبدُ اللهِ لم يَرويا عن أحمدَ رسالةَ (الآيات القرآنيَّة)، بل اقتبساها من كلامِه.

2-وبما أنَّهما كانا (يقتبسانِ) من كلامِ أحمدَ، فمن المفترَضِ أن ينقُلَا في اقتباسِهما شيئًا من رسالةِ (الرَّد على الزَّنادقةِ)، وحيث لم يفعَلَا فمعنى هذا أنَّهما لم يكونا على علمٍ بالرِّسالةِ أصلًا.

3-وعليه، فسنَدُ رسالة (الرَّد) كُلُّه مُركَّبٌ مختَلَقٌ؛ لأنَّه يمرُّ بالخَلَّالِ وبعبدِ اللهِ اللَّذينِ أثبت الأمريكيُّ (ببراعتِه!) أنَّهما لم يكونا على علمٍ بالرِّسالةِ.

قال الطَّالِبُ الأمريكيُّ في خاتمةِ هذه الفَبركةِ: "يبدو -استنادًا إلى جَهلِ عبدِ اللهِ والخلَّالِ بأمرِ الرِّسالة- أنَّ الرِّوايةَ (أ)، والرِّوايةَ (ب) ليستا سوى روايتَينِ وهميَّتين وُضِعَتا لاحقًا"(29)!

هكذا ركَّب المُستَشرِقُ حجَّتَه متجاهِلًا أنَّ الخَلَّالَ نفسَه روى الرِّسالةَ في كتابِه (السُّنَّة)!

ومع ذلك كُلِّه، فهذا الجهلُ والتَّجاهُلُ (الأجنبيُّ) لم يحرِّكْ شيئًا من نَقدِ الأستاذِ الذي كان بالأمسِ يَقلَقُ ويَكترثُ من الإجراءاتِ البحثيَّةِ المُختَزَلةِ!

جَهلُ الأجنَبيِّ ذكاءٌ وإبداعٌ!

رسالةُ (الرَّدُّ على الزَّنادقةِ والجهميَّةِ) موضوعُها تفنيدُ حُجَجِ كُلٍّ من (الزَّنادقة) و(الجَهميَّة) الذين يشتركون منهجيًّا في التَّلبيسِ على النَّاسِ بالمتشابِهِ من القرآنِ، والمقصودُ بالمتشابهِ هنا ما قد يلتَبِسُ فهمُه على بعضِ النَّاسِ.

وقد تضمَّنَت الرِّسالةُ ثلاثةَ أقسامٍ:

القِسمُ الأوَّلُ: مُقَدِّمةٌ في بيانِ دورِ أهلِ العِلمِ في نفي التَّحريفِ والتَّأويلِ الباطِلِ عن كتابِ اللهِ.

القِسمُ الثَّاني: مبحَثٌ في بيانِ (ما ضلَّت فيه الزَّنادقةُ من متشابهِ القرآنِ)، تحدَّث فيها الإمامُ أحمدُ عن تلبيسِ الزَّنادقةِ على النَّاسِ بإثارةِ الإشكالاتِ حولَ مُتشابهِ القرآنِ الكريمِ.

القِسمُ الثَّالِثُ: انتقل الكلامُ فيه من تشكيكاتِ (الزَّنادقة) إلى شُبُهاتِ (الجهميَّةِ). وهذا القِسمُ يبدأُ بهذه العبارةِ: "وكذلك الجَهمُ وشيعتُه دَعَوُا النَّاسَ إلى المتشابِهِ من القرآنِ والحديثِ....".

ولْنَحفَظْ قولَ الإمامِ في مطلَعِ القِسمِ الثَّالِثِ: (وكذلك الجَهمُ وشيعتُه....)، فهذه العبارةُ ستُقَدِّمُ لنا بعد قليلٍ أنموذَجًا آخَرَ يشرَحُ المجازفاتِ الاستشراقيَّةَ التي يجتمِعُ فيها الجهلُ والثِّقةُ المُفرِطةُ؛ فالطَّالبُ الأمريكيُّ قرَّر في ورقتِه أنَّ الحنابلةَ لمَّا اختلقوا الرِّسالةَ مَطلَعَ القرنِ الرَّابعِ كتبوا فقط: (المقَدِّمة)، وكتبوا بعدَها مباشَرةً قِسمَ الرَّدِّ على (الجهميَّةِ)، وأمَّا قِسمُ الرَّدِّ على (الزَّنادقةِ) فهو في رأي الطَّالِبِ: "ليس قِسمًا أصيلًا من رسالةِ (الرَّد)، بل مضافٌ إليها في زمَنٍ لاحقٍ"(30). يعني أنَّه أُقحِم في وقتٍ متأخِّرٍ بَينَ (المقَدِّمة) وقِسمِ الرَّدِّ على (الجهميَّةِ)!

وعلى طريقةِ نولدكه: كان من أكبَرِ حُجَجِ الطَّالِبِ على دعواه: (ذوقُه اللُّغويُّ)؛ فالطَّالبُ تشبَّث بالعبارةِ الواردةِ في صدرِ قِسمِ الرَّدِّ على (الجهميَّة): "وكذلك الجَهمُ وشيعتُه دَعَوا النَّاسَ إلى المُتشابهِ من القرآنِ والحديثِ....".

يقولُ الأمريكيُّ: "يتضمَّنُ المقطعُ كَلِمةَ: (كذلك) التي تشيرُ إلى انتقالٍ من التَّعميمِ إلى التَّخصيصِ؛ فبعد أن ذَكَر ابنُ حنبَلٍ(31) في المقَدِّمةِ بوجهٍ عامٍّ عَمَل أهلِ الضَّلالةِ الذين يتكلَّمون بمتشابِهِ القرآنِ، ها هو الآن يُخصِّصُ ذاكرًا هؤلاء بالاسمِ، وهم الجَهمُ بنُ صَفوانَ وأتباعُه"(32)!

هكذا تكلَّم (خبيرُ العربيَّةِ!) بثقةٍ لا تردُّدَ فيها؛ ليُثبِتَ لنا أنَّ قِسمَ الرَّدِّ على (الزَّنادقةِ) مُقحَمٌ بَينَ المقَدِّمةِ وبَينَ قِسمِ الرَّدِّ على (الجهميَّةِ)، غيرَ أنَّ الخبيرَ لم يُبَيِّنْ لنا أين تعلَّم أنَّ كَلِمةَ (كذلك) تشيرُ في العربيَّة إلى انتقالٍ من التَّعميمِ إلى التَّخصيصِ؟! بل رمى هذه الجهالةَ ومشى دونَ أن يتكلَّفَ عَناءَ إثباتِها، وسنرى كيف أبهرَت هذه الجَهالةُ عَقْلَ الأستاذِ (الباحِثِ الأميَزِ المشهودِ له بالتَّخصُّصِ)!

تصحيحُ العُجمةِ الأمريكيَّةِ:

لفظةُ (كذلك) مركَّبةٌ من (كافِ التَّشبيهِ)، و(اسمِ الإشارةِ)، واقترانُهما كثيرٌ في القرآنِ وفي السُّنَّةِ وفي كلامِ العَرَبِ، وعادةً ما يُستخدَمان في مقامِ التَّشبيهِ؛ فمن ذلك مثلًا قولُه تعالى بعدما أمَر بني إسرائيلَ بذبحِ البَقَرةِ: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73]، أي: أنَّ إحياءَ اللهِ للموتى يومَ البعثِ يُشبِهُ إحياءَ هذا المقتولِ إذا ضُرِب ببعضِ البَقَرةِ.

ومِثلُه قولُه سُبحانَه: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]، أي: إحياءُ النَّاسِ يومَ النُّشورِ يُشبِهُ إحياءَ الأرضِ بالمطَرِ.

وكذلك قولُه: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: 39]، وقولُه: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126]، ونظائِرُ هذا في كتابِ اللهِ ممَّا يكثُرُ ويطولُ تتبُّعُه.

فإذا عُدْنا إلى رسالةِ (الرَّدُّ على الزَّنادقةِ والجهميَّةِ) فسنَفهمُ معنى استفتاحِ قِسمِ الرَّدِّ على (الجهميَّةِ) بلفظةِ: (كذلك)؛ فالإمامُ أحمدُ بعدما شرَح مسلَكَ (الزَّنادقةِ) في التَّلبيسِ بالمتشابهِ من القرآنِ، انتقل إلى الجهميَّةِ فقال: (وكذلك الجَهمُ وشيعتُه)، يعني أنَّ مَسلَكَ جَهمٍ يشبِهُ مَسلَكَ الزَّنادقةِ في التَّلبيسِ بالمتشابهاتِ؛ فترابُطُ الكلامِ هنا ظاهرٌ لأهلِ اللِّسانِ العَربيِّ، ودعوى أنَّ لفظةَ (كذلك) تُستعمَلُ في الانتقالِ من العمومِ إلى الخُصوصِ لا وجودَ لها إلَّا في مُعجمِ العربيَّةِ الأمريكيَّةِ!

هذا التَّحاذُقُ الذي مارسه الأمريكيُّ هنا يعيدُنا إلى ما ذكرتُه أوَّلًا، حينَ قلتُ: إنَّ جهالاتِ المُستَشرِقين المكتوبةَ بلُغةٍ واثقةٍ ربَّما غرَّت من لا تمييزَ عندَه، فبَعدَ وقوفي على تلك الدَّعوى الواثقةِ التي أطلقَها الطَّالبُ ذهبتُ إلى الذَّيلِ الذي كتبه الأستاذُ باحثًا عن تصحيحٍ أو استدراكٍ، وإذا بي أرى الطَّالِبَ يجرُّ وراءَه (الباحِثَ الأميَزَ) الذي انساقَ مشدوهًا دَهِشًا من الذَّكاءِ (الأجنبيِّ) المتجَلِّي في هذا الموضِعِ خاصَّةً!

يقولُ الأستاذُ معلِّقًا على جهالةِ الطَّالِبِ: "هذه الأخيرةُ مُلاحَظةٌ ذكيَّةٌ أُخرى من الكاتبِ؛ فلو دقَّقْنا النَّظَرَ من جهةِ المعاني فإنَّنا سنجدُ أنَّ مُفتتَحَ القِسمِ الثَّاني أليقُ بأن يكونَ تاليًا للمُقَدِّمةِ...فهناك انتقالٌ من عمومٍ إلى خصوصٍ..." (33)!

هكذا مشى الأستاذُ وراءَ الأمريكيِّ مُصادقًا على ذَوقِه اللُّغويِّ المُعْوَجِّ!

توثيقٌ أمريكيٌّ قاصرٌ، ونَقدٌ غِزِّيٌّ غائبٌ.

لمَّا زعم الأمريكيُّ أنَّ قِسمَ الرَّدِّ على (الزَّنادقةِ) أُقحِمَ في الرِّسالةِ في القرنِ السَّادسِ، كان من حُجَجِه التي ساقها لإسنادِ دعواه: عدَمُ وُجود نُقولٍ عن هذا القِسمِ قبلَ القرنِ السَّادِسِ، بل قال بلُغةٍ واثقةٍ مُفخَّمةٍ: "تُعْوِزُنا الأدِلَّةُ على ما إذا كان ابنُ الفَرَّاءِ على درايةٍ بقِسمِ الرَّدِّ على (الزَّنادقةِ)"(34)، يعني بذلك القاضِيَ أبا يَعلى المتوفَّى سنةَ (458ه).

فلأنَّ الطَّالِبَ تُعْوِزُه الأدِلَّةُ على اطِّلاعِ القاضي أبي يعلى على قِسمِ الرَّدِّ على الزَّنادقةِ، حَكَم أنَّ هذا القِسمَ أُقحِمَ في الرِّسالةِ في القرنِ السَّادِسِ، ولم أرَ الأستاذَ علَّق على هذا بشيءٍ، ولو تحَّرك الأستاذُ قليلًا للتحقُّقِ من دعوى الطَّالبِ لوجد بسهولةٍ أنَّ أبا يَعلى ينقُلُ صراحةً عن قِسمِ الرَّدِّ على (الزَّنادقة)، ولَعَرف أنَّ الأمريكيَّ يجازِفُ ويُطلِقُ دعاواه دونَ حسابٍ.

يقولُ أبو يَعلى في كتابِ (العُدَّة): "ظاهرُ كلامِ أحمدَ أنَّ المحكَمَ ما استقَلَّ بنفسِه ولم يحتَجْ إلى بيانٍ، والمتشابهَ ما احتاج إلى بيانٍ؛ لأنَّه قال في كتابِ (السُّنَّة)(35): (بيانُ ما ضَلَّت فيه الزَّنادقةُ في القرآنِ الكريمِ)، ثمَّ ذكر آياتٍ تحتاجُ إلى بيانٍ"(36). فهذا نقلٌ صريحٌ عن قِسمِ الرَّدِّ على (الزَّنادقةِ) يُبطِلُ دعوى أنَّ هذا القِسمَ وُضِع واختُلِق في القرنِ السَّادِسِ.

غَلَطٌ (أجنبيٌّ) مُركَّبٌ على ابنِ تيميَّةَ وعلى الدُّكتور دغش العَجميِّ.

شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ ممَّن نقل وأكثَرَ عن رسالةِ (الرَّدِّ)، غيرَ أنَّ أكثَرَ نُقولِه جاءت عن قسمِ الرَّدِّ على (الجهميَّةِ)، وذلك لأنَّه يستَشهِدُ كثيرًا بنصوصِ الرِّسالةِ في مناقشاتِه لشُبُهاتِ الجَهميَّةِ؛ لذلك كثُر نقلُه عن هذا القِسمِ خاصَّةً، وقلَّ نَقلُه عن قِسمِ الرَّدِّ على (الزَّنادقةِ).

ومن القليلِ الذي نقَله ابنُ تيميَّةَ عن قِسمِ الرَّدِّ على (الزَّنادقة) كلامُ الإمامِ أحمدَ عن وَجهِ التَّعبيرِ بضميرِ الجَمعِ في قولِه تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}؛ فقد قال -رحمه اللهُ-: "هذا في مجازِ اللُّغةِ، يقولُ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: إنَّا سنُجري عليك رِزْقَك..." (37).

فهذا النَّقلُ من ابنِ تيميَّةَ يُفترَضُ أن يكونَ دليلًا على وقوفِ ابنِ تيميَّةَ على قِسمِ الرَّدِّ على (الزَّنادقةِ)، غيرَ أنَّ الطَّالِبَ الأمريكيَّ تشَكَّك في ذلك مُتعَلِّلًا بأنَّ نصَّ أحمد هذا شائعٌ في كتُبِ أصولِ الفقهِ، فمن الجائِزِ أن يكونَ ابنُ تيميَّةَ نقله عنها! قال الأمريكيُّ: "يبدو أنَّ ابنَ تيميَّةَ استقاه من تلك المصَنَّفاتِ، لا من مَصدَرِه الأصليِّ"!

ثمَّ تأتي -بعد هذا- إحدى الأعاجيبِ حينَ يقولُ الطَّالِبُ الأمريكيُّ: "يَذكُرُ العجميُّ أنَّ هذا المقطَعَ هو الاستشهادُ الوحيدُ الذي اقتبسَه ابنُ تيميَّةَ مِن قِسمِ الرَّدِّ على الزَّنادقةِ"(38).

ومقصودُ الطَّالِبِ هنا: محقِّقُ رسالةِ (الرَّدِّ) الدُّكتور دغش العجميُّ؛ فالطَّالبُ يزعُمُ أنَّ الدُّكتور ذكرَ في مقدِّمةِ تحقيقِه أنَّ ابنَ تيميَّةَ لم ينقُلْ عن قِسمِ الرَّدِّ على (الزَّنادقة) إلَّا هذا النَّصَّ الوحيدَ الشَّائِعَ في كتُبِ أصولِ الفِقهِ.

ومرةً أخرى: لم يتحَرَّكِ الأستاذُ للتحَقُّقِ من هذا الزَّعمِ، ومع أنَّه كتَب ذَيلَه على المقالةِ الأمريكيَّةِ معتَمِدًا على طبعةِ الدُّكتورِ العَجميِّ، إلَّا أنَّ يدَه لم تتحَرَّكْ نحوَ النُّسخةِ التي بَينَ يديه للتَّحقُّقِ من دعوى (الأجنبيِّ)، بل إنَّه صادَق عليها وأقرَّها دونَ فَحصٍ(39)، ولو تحرَّكت يدُ الأستاذ قليلًا وفتح الصَّفحةَ (135)، لوجد دعوى الطَّالِبِ على الضِّدِّ من كلامِ الدُّكتورِ العجمي الذي تكلَّم عن قِسمِ الرَّدِّ على (الزَّنادقةِ)، واحتجَّ في تصحيحِه وإثباتِه بنصٍّ لابنِ تيميَّةَ ذكَر فيه الشَّيخُ مقدِّمةَ رسالةِ (الرَّد) كاملةً، ثمَّ قال: "وتكلَّم (أحمدُ) على ما يُقالُ: إنَّه متعارِضٌ من القُرآنِ، إلى أن قال: وكذلك الجَهمُ وشيعتُه دَعَوا النَّاسَ إلى المتشابِهِ من القرآنِ والحديثِ وأضلُّوا كثيرًا..." (40).

فقولُ ابنِ تيميَّةَ: "وتكلَّم أحمدُ على ما يُقالُ: إنَّه متعارِضٌ من القرآنِ"، يعني به قِسمَ الرَّدِّ على الزَّنادقةِ الذي زعَم الأمريكيُّ أنَّ ابنَ تيميَّةَ لم يطَّلِعْ عليه، ثمَّ زادَ فنسَب هذا الزَّعمَ إلى الدُّكتورِ العَجَميِّ الذي قرَّر عَكسَ ذلك!

وبعدما أطلَق الطَّالِبُ دعواه أضاف مؤكِّدًا بلغةِ الباحثِ المجتَهِدِ: "وقد أمعَنْتُ النَّظَرَ في سائِرِ الاستشهاداتِ، فلم أعثُرْ على غيرِه"(41).

والأستاذُ هنا كان في عالَمِ الفناءِ عن شُهودِ ما سوى الإبداعِ الأجنبيِّ!

سقطةٌ أجنبيَّةٌ أُخرى لم تستوقِفِ الأستاذَ.

أحدُ سنَدَي رسالة (الرَّد) جاء من طريقِ أبي زكريَّا السَّلَماسيِّ، الذي ترجم له تلميذُه ابنُ عساكِرَ وذكَر أنَّه لمَّا قَدِم عليهم دِمَشْقَ، "كانت معه كتُبٌ كثيرةٌ، وسماعُه فيها قليلٌ"(42). ومقصودُ ابنِ عساكِرَ أنَّ هذا الشَّيخَ لم يسمَعْ هذه الكتُبَ من شيوخِه، وإنَّما يرويها بغيرِ سماعٍ، إمَّا بالإجازةِ أو دونَها. فكيف فسَّر الأمريكيُّ هذه العبارةَ؟

قال الطَّالِبُ الأمريكيُّ: "يقولُ ابنُ عساكِرَ: (وكانت معه كتبٌ كثيرةٌ، وسماعُه فيها قليلٌ): أي: أنَّ ابنَ عساكِرَ كان يشكُّ في قدرتِه على تدريسِ كُلِّ هذه الكتُبِ"(43)!

هكذا قال الأمريكيُّ، ولم أرَ (الباحِثَ الأميَزَ) توقَّف عندَ هذا الجهلِ، ولا أدري هل السَّببُ هنا يرجِعُ إلى "عُقدةِ الأجنَبيِّ"، أو إلى اشتراكِ الاثنينِ في ضَعفِ المعرفةِ باصطلاحاتِ الرِّوايةِ؟! أقولُ هذا لأنِّي رأيتُ للأستاذِ كَلامًا في موضِعٍ آخَرَ يدلُّ على قُصورٍ في هذا الجانبِ، وذلك أنَّه ذكَر خِطابًا للخليفةِ المأمونِ أيَّامَ المحنةِ ساقه ابنُ جريرٍ دونَ سَنَدٍ، لكِنْ لَمَّا كان في ذلك الخِطابِ شيءٌ يخدُمُ (مذهبيَّةَ) الأستاذِ، أرادَ تفخيمَه والإعلاءَ من شأنِه، فقال: "هذه الوثيقةُ التَّاريخيَّةُ -التي نقلَها ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ وِجادةً- تكتَسِبُ أهميَّةً بالغةً"(44).

هكذا استعمل الأستاذُ مُصطَلَحَ (الوِجادةِ) ظنًّا منه أنَّه اصطلاحٌ ينطَبِقُ على كُلِّ ما يُذكَرُ بغيرِ سَنَدٍ، بينما الوِجادةُ في الاصطِلاحِ تُطلَقُ فقط على ما يجِدُه الرَّاوي بخَطِّ غيرِه، فيقولُ في روايتِه: (وجدتُ بخَطِّ فُلانٍ)، ونحوَ ذلك من العباراتِ(45)، وهذا ما لا وجودَ له في روايةِ ابنِ جريرٍ، ولو صحَّ فَهمُ الأستاذِ لكان لنا اليومَ أن نرويَ ما بَينَ أيدينا من المصنَّفاتِ وِجادةً!

وممَّا يشبِهُ هذا غلطٌ شديدٌ آخَرُ وقع فيه الأستاذُ في فَهمِ عبارةٍ للحافظِ الذَّهبيِّ في (كتاب العَرْش)؛ حيث قال الإمامُ الذَّهبيُّ: "قال الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ -رحمه اللهُ- في كتابِ (الرَّدُّ على الجهميَّةِ) ممَّا جمعه، ورواه عبدُ اللهِ ابنُه عنه"(46).

فالذَّهبيُّ هنا يتحدَّثُ عن كتابٍ جمَعه الإمامُ أحمدُ، ورواه عنه ابنُه عبدُ اللهِ، لكِنَّ الأستاذَ فَهِمَ العبارةَ على أنَّ الذَّهبيَّ يتحدَّثُ عن كتابٍ جمعَه عبدُ اللهِ ورواه عن أبيه!

فالأستاذُ ذكَر احتمالَ أن يكونَ قِسمُ الرَّدِّ على (الزَّنادقةِ) وقِسمُ الرَّدِّ على (الجهميَّةِ) مؤلَّفَين مُنفَصِلَين دُمِج بينهما على يَدِ الخَلَّالِ أو عبدِ اللهِ بنِ الإمامِ، ثمَّ قال مُدَلِّلًا: "يُشعِرُ بذلك ما ذكَره شمسُ الدِّينِ الذَّهبيُّ من أنَّ (الرَّدَّ على الجهميَّةِ) ممَّا جمعه عبدُ اللهِ ورواه عن أبيه"(47)!!

هكذا قال باحِثُنا الأميَزُ!

خاتمةُ الحَلْقةِ السَّابعةِ:

عرَضتُ فيما تقدَّم نماذِجَ لسَقَطاتِ المُستَشرِقِ (الأجنبيِّ) التي لم تستوقِفِ الأستاذَ ولم تحَرِّكْ نقدَه، مع العِلمِ أنِّي إنَّما ذكَرْتُ الأظهَرَ والأهَمَّ، وتركتُ ما سوى ذلك؛ فلم أتوقَّفْ عندَ اضطرابِه في شَخصيَّةِ حَنبَلِ بنِ إسحاقَ؛ حيثُ ذكَر في موضعٍ أنَّه ابنُ عَمِّ الإمامِ أحمدَ، وفي الصَّفحةِ التَّاليةِ ذَكَر أنَّه ابنُ أخيه(48)، ولم أتوقَّفْ عندَ زَعمِه أنَّ مُصطَلَحِ (خرَّج) الشَّائعَ استعمالُه عندَ المحَدِّثين يمكِنُ أن يكونَ معناه (فسَّر)(49)، ونحوِ ذلك من الأخطاءِ الجانبيَّةِ.

والغَرَضُ من هذا كُلِّه: بيانُ مُشكِلةِ ضَعفِ نَقدِ الأستاذِ للكِتاباتِ الأجنبيَّةِ، وسهولةِ انسياقِه وراءَ دعاوى المُستَشرِقين، إضافةً للمُشكلةِ الأخرى المتعَلِّقةِ بشِدَّتِه على إخوانِه ونَزَقِه في التَّعامُلِ معهم، مقابِلَ تلك الرِّقَّةِ والنُّعومةِ الظَّاهِرةِ مع (الأجنبيِّ) مهما أخطأ أو افترى!

لا يزالُ هناك الكثيرُ حَولَ أسمارِ الأستاذِ وزخارِفِه، لكِنْ وصلَتْني رسائِلُ من بَعضِ الأحبَّةِ تستعجِلُ الدُّخولَ إلى المسألةِ الأهَمِّ؛ مسألةِ كلامِ اللهِ سُبحانَه، وطريقةِ السَّلَفِ في إثباتِها، وأودُّ هنا أولًا: أن أشكُرَ كُلَّ من أكرمني بمتابعةِ هذه السِّلسِلةِ، ثمَّ أقَدِّمَ -بعدَ هذا- اعتذاري للجميعِ عن بُطءِ نَشرِ حَلَقاتِها، فلديَّ صوارفُ تحولُ دونَ التَّفرُّغِ الكامِلِ لتحريرِها، لكِنْ نزولًا عندَ رغبةِ الأحبَّةِ سأشرَعُ في الحَلْقةِ المُقبِلةِ -إن شاء اللهُ- في البحثِ العَقَديِّ، وأمَّا المشاكِلُ المتعَلِّقةُ بأسمارِ الأستاذِ وزخارِفِه فرُبَّما أكتفي بما تقدَّم، وقد أعودُ للمواصَلةِ لاحِقًا إن استدعى الأمرُ ذلك، وكان في الوَقتِ والعُمُرِ متَّسَعٌ، مع أنَّ البَحثَ العَقَديَّ لن يخلوَ بَداهةً من مناقَشةِ الإجراءاتِ البحثيَّةِ لدى أخينا الأستاذِ عبدِ اللهِ الغِزِّيِّ، شرَح اللهُ صَدرَه، وأصلَح بالَه، ونوَّر لنا وله طريقَ الهُدى.

ألقاكم في الحَلْقةِ الثَّامِنةِ بإذنِ اللهِ تعالى...

------------------------------------------

(1) تاريخ القرآن (ص22)، حاشية (49).

(2) المرجع السابق (ص15-16)، وانظر: التأويل الحداثي للتراث (ص395).

(3) تاريخ القرآن (ص74).

(4) تاريخ القرآن (ص34).

(5) تاريخ القرآن (ص128).

(6) تاريخ القرآن (ص141)، (316).

(7) قراءة في نص رسالة الرد على الزنادقة والجهمية (ص147).

(8) مقالة (جهم والمعتزلة)، الملحقة بكتاب: (مذهب الذرة عند المسلمين، وعلاقته بمذاهب اليونان والهنود)، (ص126).

(9) ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (2/48/2).

(10) القراءة المذهبية للتاريخ العقدي (ص186).

(11) القراءة المذهبية للتاريخ العقدي (ص188)، (ص190).

(12) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص54).

(13) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص61).

(14) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص23).

(15) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص60).

(16) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص60).

(17) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص77).

(18) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص60).

(19) تنظر هذه النصوص مرتبةً في تاريخ القرآن، لتيودور نولدكه (ص385)، (ص412)، (386).

(20) ذكره هذا في كتابه (الحوليات الإسلامية)، انظر: المستشرقون والحديث النبوي، محمد بهاء الدين (ص129).

(21) طبقات الحنابلة (3/86).

(22) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص87).

(23) مجموع الفتاوى (20/162)، بيان تلبيس الجهمية (1/35)، درء تعارض العقل والنقل (1/221)، الآداب الشرعية (1/207)، رسالة العرش للذهبي (1/250)، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (4/1241)، اجتماع الجيوش الإسلامية (ص208).

(24) السنة، لأبي بكر الخلال (ص48-49)

(25) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص43).

(26) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص47).

(27) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص52).

(28) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص43).

(29) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص52).

(30) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص30).

(31) الطالب لا يسلم بصحة نسبة الرسالة للإمام أحمد، لكنه يقولُ هذا تنزلًا مع مقصود واضعها.

(32) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص29).

(33) قراءة في نص رسالة الرد على الزنادقة والجهمية (ص79).

(34) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص38)، وانظر أيضًا: (ص54).

(35) يُلحَظُ هنا أنه سمَّى الرسالة كتاب (السُّنَّة)، وانظر نحو ذلك في المسَوَّدة في أصول الفقه (ص161)، ولا ريبَ أنَّ المقصودَ رسالة (الرد على الزنادقة والجهميَّة)؛ فالنَّصُّ الذي نقله أبو يعلى موجودٌ فيها. وقد رأيتُ ابنَ حَجَرٍ في فتح الباري (13/381) يُسمِّي الرسالة أيضًا: كتاب (السُّنَّة)، والظَّاهِرُ أنَّ هذا تجوُّزٌ في العبارة، سُميت فيه الرِّسالةُ بموضوعِها وبما تضمَّنتْه.

(36) العُدة في أصول الفقه (2/648).

(37) الرد على الزنادقة والجهميَّة (ص193-195).

(38) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص34).

(39) الأستاذُ الغِزِّيُّ -لأسبابٍ أخرى- لم يسلِّمْ للطَّالِبِ دعواه أنَّ ابنَ تيميَّةَ لم يطَّلِعْ على قِسمِ الرَّدِّ على (الزَّنادقة)، لكنَّه (ص161) سلَّم له أنَّ ابنَ تيميَّةَ لم ينقُلْ عن قِسمِ الرَّدِّ على (الزَّنادقة) إلَّا في مبحثِ المجازِ، وسَلَّم له نسبةَ هذه الدَّعوى للدُّكتورِ دغش العجمي.

(40) مقدمة تحقيق رسالة (الرد على الزنادقة والجهميَّة)، (ص135). وانظر نص ابن تيمية في الفتاوى (4/218).

(41) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص34).

(42) تاريخ دمشق (64/45).

(43) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص42).

(44) القراءة المذهبية للتاريخ العقدي، القدم النوعي لصفة الكلام أنموذجًا (ص170).

(45) مقدمة ابن الصلاح (ص178).

(46) كتاب العرش (2/249).

(47) قراءة في نص الرد على الزنادقة والجهمية (ص159).

(48) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص44)، (ص45).

(49) رسالة الرد على الجهمية لأحمد بن حنبل: التاريخ النصي، أندرو ماكلارين (ص44)، (ص48).