مقالات وبحوث مميزة

 

أسمارُ "النَّقدِ التَّاريخيِّ"، وزخارفُ "البحثِ العِلميِّ".

قِراءةٌ نَقْديَّةٌ لمقالةِ الأسْتاذِ عَبْدِ اللهِ الغِزِّيِّ
عن صِفةِ الكَلامِ للباري سُبْحانَه.

(الحَلْقةُ السادسةُ)

عُقدةُ الأجنبيِّ

الشَّيخُ الدُّكتور بَنْدر بن عبدالله الشُّويقيُّ

2 ربيع الآخر 1444هـ

 

من العيوبِ الكبرى القادحةِ في منهجِ البحثِ العِلميِّ النُّزولُ في المصادرِ، وذلك بأن يدَعَ الباحثُ المصادرَ العاليةَ المتقدِّمةَ، ثمَّ ينزلَ إلى المصادرِ الأدنى المتفرِّعةِ عنها، وبخاصةٍ حين يتعلَّقُ البحثُ بمعلومةٍ شائعةٍ رائجةٍ في المصادرِ العاليةِ.

هذا الخَللُ المنهجيُّ لا يتعلَّقُ بشرطٍ شكليٍّ كما قد يتوهَّمُ بعضُ الناسِ، بل لأنَّ نزولَ الباحثِ إلى المصادرِ الأدنى يجعلُه أكثرَ عُرضةً للتورُّطِ في أخطاءِ وأوهامِ الناقلِ المتأخِّرِ.

ومن أسوأِ نماذجِ هذا النوعِ من الخَللِ: اعتمادُ الباحثِ على مصدرٍ قريبٍ في توثيقِ واقعةٍ أو معلومةٍ تاريخيةٍ عتيقةٍ، فإن اجتمع مع هذا كلِّه التعويلُ على مصدرٍ متأخِّرٍ هزيلٍ، لا مزيَّةَ له سوى كونِ مؤلِّفِه أجنبيًّا، فلن يكون لهذا تفسيرٌ سوى انكسارٍ في الشخصيةِ العِلميَّةِ للباحثِ، ومؤشِّرٍ على استلابٍ له دَلالاتُه المُخلَّةُ بمنهجِ التفكيرِ قبل منهجِ البحثِ!

لستُ هنا أَعيبُ النقلَ من المصدرِ الأجنبيِّ متى وُجِد فيه ما يُفيدُ؛ فالحِكمةُ ضالَّةُ المؤمِنِ، والحقيقةُ مطلبُ الباحثِ، وإنما أتحدَّثُ عن منهجِ الزَّخارفِ والأسمارِ الذي يسوقُ الباحثَ إلى التزيُّنِ بالمصدرِ الأجنبيِّ، لا لأجلِ وزنِه العِلميِّ، بل لمجرَّدِ كونِه أجنبيًّا لا أكثَرَ.

هذا العيبُ في منهجِ البحثِ رأيتُه في كتاباتِ الأستاذِ الغِزِّي الأخيرةِ؛ حيث يتعمَّدُ العزوَ لمصدرٍ أجنبيٍّ متأخِّرٍ من أجلِ توثيقِ معلومةٍ شائعةٍ في المصادرِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ الأقدمِ!

من ذلك مثلًا أن تراه يتناولُ محنةَ الإمامِ أحمدَ في مسألةِ خَلقِ القرآنِ، فيقولُ: "ينتمي الظرفُ الذي عاشَ فيه الإمامُ (أحمدُ) إلى حدثٍ تاريخيٍّ مؤثِّرٍ في الإسلامِ، وهو ما يُعرَفُ بـمحنةِ خَلقِ القرآنِ، التي ارتبطت باسمه [باتون-أحمد35-36]"(1).

فالأستاذُ هنا يوثِّق ارتباطَ اسمِ الإمامِ أحمدَ بمحنةِ خلقِ القرآنِ من كتابِ المُستَشرِقِ الأمريكيِّ والتر باتون (أحمد بن حنبل والمحنة) الصَّادرِ سَنةَ (1897م)، متجاوزًا بذلك أكثرَ من عشَرةِ قرونٍ مملوءةٍ بالمراجعِ التاريخيةِ العاليةِ التي وثَّقَت هذا، والتي أخذ منها المستشرقُ معلومتَه!

في بعضِ المواضِعِ ربَّما يذكرُ الأستاذُ مصدرًا متقدِّمًا، ثمَّ لا تطيبُ نفسُه حتى يَقرِنَ معه مصدرًا أجنبيًّا زُخرُفيًّا متأخِّرًا، كما فعل لَمَّا ذكر أنَّ المأمونَ ابتدأ المحنةَ من بلدةِ الرَّقَّةِ، ثمَّ قال: "قبل أن ينتقِلَ المأمونُ -صاحبُ القرارِ- منها إلى طَرَسُوسَ التي كانت إحدى الثُّغورِ الإسلاميَّةِ في تلك الحِقبةِ التاريخيَّةِ لحربِ الرُّومِ البِيزنطيِّينَ [الطبري-التاريخ 8/645، باتون-أحمد: 119]"(2).

فالأستاذُ قفز من ابنِ جريرٍ الطَّبريِّ إلى والتر باتون، وكأنَّما كان يعاني شُحًّا في المعلوماتِ التاريخيَّةِ اضطُرَّ بسببِه إلى خلقِ هذه الفجوةِ الهائلةِ في اختيارِ المصادرِ العِلميَّةِ!

هذا المسلَكُ النازلُ في توثيقِ المعلومةِ التاريخيةِ إذا اجتمع معه ضَعفٌ في الحِسِّ النَّقديِّ، أو انكسارٌ أمامَ المصدرِ الأجنبيِّ؛ فإنَّه يسوقُ صاحبَه ليقعَ في أسْرِ المصدرِ المتأخِّرِ، فيتابِعُه على أخطائِه حتى لو كانت ظاهرةً جليَّةً.

وسوف أخَصِّصُ هذه الحَلقةَ من سِلسلةِ (الزَّخارفِ والأسمارِ) لعرضِ أنموذجٍ مُفصَّلٍ يشرحُ هذه المُعضِلةَ التي أتمنَّى لو يتنبَّهُ الأستاذُ الغِزِّيُّ لآثارِها على كتاباتِه ومنهجِه.

يقولُ الأستاذُ وهو يتكلَّمُ عن تشكُّلِ المذهَبِ الحنبليِّ: "بالنَّظَرِ إلى سياقِ المَذهَبِ الحنبليِّ الفِقهيِّ، سنجِدُ أنَّ هذا المَذهَبَ لم يَنَلِ الاعترافَ بأنَّه مَذهَبٌ فِقهيٌّ إلَّا في مُدَّةٍ متأخِّرةٍ عن وفاةِ من يُنسَبُ إليه، تُقدَّرُ بقرنينِ ونصفٍ [مِتْس-العصر: 282]"(3).

الأستاذُ هنا يذكرُ أنَّ مَذهَبَ الإمامِ أحمدَ (لم ينَلِ الاعترافَ بأنَّه مَذهَبٌ فقهيٌّ)، إلَّا بعد وفاةِ الإمامِ بقرنينِ ونصفٍ، أي في حدودِ سنة (500هـ)! والمرجِعُ الذي وثَّقَ منه الأستاذُ هذه المعلومةَ: كتابُ (عصر النهضةِ في الحضارةِ الإسلاميَّةِ)، للمُستَشرِقِ السويسريِّ آدم مِتْس!

هذا ما قاله الأستاذُ -عفا اللهُ عنه-، وكلامُه هنا يبعثُ على الكثيرِ من الأسفِ والأسى! لكن قبلَ تفصيلِ الكلامِ وتفريعِه: أرجو أن يتَّسعَ صدرُ الأستاذِ لما سيقرؤُه من نقدٍ مهما كانت صرامتُه، فهذا الموضعُ من كلامِه لا ينتمي لعالَمِ البحثِ العلميِّ، بقَدرِ ما ينتمي لحقلِ الكتاباتِ الصَّحفيَّةِ السَّاذَجةِ الخاويةِ من أيِّ نَفَسٍ عِلميٍّ؛ فبعدَ دعاوى النَّقدِ التاريخيِّ والتميُّزِ البحثيِّ، وبعدما أكثَرَ الأستاذُ واستكثَرَ من تعييرِ مخالِفيه بجَهلِهم بالمذهَبِ الذي ينتسبون له، نراهُ هنا يبني لنفسِه تصوُّرًا ظاهِرَ الفسادِ عن تاريخِ المَذهَبِ الحنبليِّ الذي نشأ عليه، والذي ينسُبُ نفسَه له، معتمِدًا على فُتاتِ كَلمةٍ عابرةٍ قذَف بها قَلمُ مُستَشرِقٍ في كتابٍ متأخِّرٍ هزيلٍ محدودِ المصادِرِ!

وسوف تزدادُ هذه الصُّورةُ قَتامةً إذا عَلِمْنا أنَّ هذا المُستَشرِقَ السويسريَّ -في الموضع الذي اعتمد عليه الأستاذُ- كان ينقُلُ نقلًا محرَّفًا لا أصلَ له!

وتزيدُ الصُّورةُ ظُلمةً وسوادًا إذا عرَفْنا أنَّ هذا المُستَشرِقَ السويسريَّ كان ينقُلُ معلومتَه المحرَّفةَ عن مُستَشرِقٍ آخرَ ألمانيٍّ!

ثمَّ تتعاظمُ الحُلكةُ والبَلِيَّةُ إذا تبيَّن أنَّ المُستَشرِقَ الثَّانيَ الألمانيَّ كان ينقُلُ عن كتابِ (إحياء علوم الدين) الموجودِ قُربَ يدِ الأستاذِ وتحتَ أنفِه!

فالأستاذُ ترَك كتابَ الغزاليِّ الموجودَ تحتَ يدِه، ثمَّ طوَّلَ الطريقَ على نفسِه، فذهب إلى كتابِ السويسريِّ، الذي كان ينقُلُ عن الألمانيِّ، الذي كان يحكي عن الغزاليِّ، ثمَّ في النهايةِ سيتبيَّنُ أنَّ النقلَ محرَّفٌ، وأنَّ الغزاليَّ لم يتكلَّم بتلك المعلومةِ التاريخيةِ الفاسدةِ!

فعن أي تميُّزٍ؟! وعن أيِّ منهجٍ بحثيٍّ أو نقدٍ تاريخيٍّ يحدِّثُنا الأستاذُ؟!

الذي يذهبُ إلى كتابِ السويسريِّ آدم مِتْس يجدُه يقولُ: "لم ينَلِ الحنابلةُ الاعترافَ بأنَّهم فقهاءُ إلَّا أخيرًا". ثمَّ يعلِّقُ في الحاشيةِ بهذه العبارةِ: "حوالَي عام (500هـ-1107م) كما يقولُ الغزاليُّ: (انظر كتاب اختلاف الفقهاء للطَّبري، طبعة كرن (ص14)".

ولْنلحَظْ هنا الفرقَ بين عبارةِ المُستَشرِقِ وبين نَقلِ الأستاذِ لها؛ فالأستاذُ عدَّل عبارةَ المُستَشرِقِ لتبدوَ أكثَرَ قَبولًا؛ فالمُستَشرِقُ يقولُ: إنَّ الحنابلةَ [لم ينالوا الاعترافَ بأنَّهم فُقهاءُ]، فجاء الأستاذُ وعدَّل العبارةَ لتُصبِحَ: [لم يَنَلْ (مَذهَبُ الحنابلةِ) الاعترافَ بأنَّه مَذهَبٌ فقهيٌّ]، وفرقٌ كبيرٌ بين العبارتَين، وإن كانتا كلتاهما خطأً محضًا.

الأستاذُ أحالنا على كتابِ المُستَشرِقِ آدم مِتْس، والذي يذهب لذاك الكتابِ يجِدُ صاحبَه ينسُبُ الكلامَ لأبي حامدٍ الغزاليِّ، ويُحيلُ في الحاشيةِ إلى مقدِّمةِ المُستَشرِقِ الألمانيِّ فريدريك كِرْن لكتاب (اختلاف الفقهاء) لابن جريرٍ الطَّبريِّ.

فإذا ذهَبْنا إلى مقدِّمةِ الألمانيِّ فريدريك كِرْن فسنكتشِفُ أنَّ السويسريَّ وقع في تحريفٍ بَشِعٍ لكلامِ الألمانيِّ، جمع فيه بين سوأتينِ: الخطَأِ في فهمِ عبارةِ الألمانيِّ، ثمَّ إلصاقِ هذا الخطأِ بالغَزاليِّ!

المُستَشرِقُ السويسريُّ آدم مِتْس زعم أنَّ الحنابلةَ لم ينالوا الاعترافَ بأنَّهم فُقهاءُ إلَّا حوالَي عام (500هـ)، ثمَّ نسَب هذا الكلامَ للغزاليِّ، وأحال على مقدِّمةِ كتابِ (اختلاف الفقهاء).

وبمراجعةِ كتابِ (اختلاف الفقهاء) نجِدُ محَقِّقَه المُستَشرِقَ الألمانيَّ فريدريك كِرْن يقولُ في مقدِّمتِه: "قال الشَّيخُ أبو حامدٍ محمَّدُ بنُ محمَّدِ بنِ محمَّدٍ الغزاليُّ: كان سُفيانُ وأحمدُ بنُ حنبلٍ من أشهَرِ الأئمَّةِ بالوَرَعِ، وأقَلِّهم أتباعًا. وأمَّا الآن فمَذهَبُ سُفيانَ الثَّوريِّ من بَعدِ الخَمسِمئةِ متروكٌ، وقد أجمع المُسلِمون على الأربعةِ المعلومينَ".

وهذا الكلامُ كُلُّه -كما نرى- ليس فيه أيُّ إشارةٍ إلى أنَّ مَذهَبَ الحنابلةِ لم يُعترَفْ به إلَّا نحوَ سنةِ خمسِمئةٍ؛ فليس فيه سِوى أنَّ مذهَبَ الثَّوريِّ انقرَض بعدَ الخَمسِمئةِ؛ ليبقى الإجماعُ بعدَ ذلك على المذاهِبِ الأربعةِ (مَذهَبِ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ).

يضافُ لهذا التحريفِ في النَّقلِ: أنَّ من يراجِعُ كتابَ الغزاليِّ سيكتشِفُ أنَّ كلامَه ينتهي عند قَولِه: (أقلِّهم أتباعًا)، وباقي الكلامِ إمَّا أن يكونَ تعليقًا من المُستَشرِقِ الألمانيِّ، أو هو إقحامٌ في كلامِ الغزاليِّ ناشئٌ عن خطأٍ في النقلِ.

فكما نرى: نحن أمامَ نَقلٍ مُحرَّفٍ مُشوَّهٍ، بُنيت عليه معلومةٌ تاريخيةٌ فاسدةٌ، سحَب فيها المُستَشرِقُ السويسريُّ -بكُلِّ يُسرٍ وسهولةٍ- أقدامَ الناقدِ التاريخيِّ الأميَزِ!

ما الذي قاله وقصَده الغزاليُّ؟

أبو حامدٍ الغزاليُّ قال في كتابِه (إحياء علوم الدين): "الفُقهاءُ الذين هم زُعماءُ الفقهِ وقادةُ الخَلقِ -أعني الذين كَثُر أتباعُهم في المذاهِبِ- خمسةٌ: الشافعيُّ، ومالكٌ، وأحمدُ بنُ ‌حنبلٍ، وأبو حنيفةَ، وسفيانُ ‌الثَّوريُّ، رحمهم اللهُ تعالى"(4).

وبعدما قرَّر أنَّ هؤلاء الخمسةَ هم زُعماءُ الفقهِ الذين لهم أتباعٌ، شرَع في التفصيلِ، فتكلَّم أوَّلًا عن (أبي حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعيِّ)، ثمَّ انتقلَ للكلامِ عن الثوريِّ وأحمدَ، فقال: "أمَّا الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ وسفيانُ الثَّوريُّ -رحمهما اللهُ- فأتباعُهما أقلُّ من أتباعِ هؤلاء، وسفيانُ أقلُّ أتباعًا من أحمدَ، ولكنَّ اشتهارَهما بالوَرَعِ والزُّهدِ أظهَرُ"(5). هذا كلُّ ما ذكره الغزاليُّ، فهو يذكرُ أنَّ الثوريَّ وأحمدَ لهما مذهَبٌ وأتباعٌ، لكِنَّ أتباعَهما أقلُّ من أتباعِ الثلاثةِ، غيرَ أنَّهما أشهرُ بالزُّهدِ والورَعِ منهم، فأين هذا الكلامُ من دعوى أنَّ الحنابلةَ لم يُعترَفْ بفقهِهم إلَّا سنةَ الخَمسِمئةِ؟!

وحتى تعليقُ الألمانيِّ فريدريك كِرْن الذي خلَطه آدم مِتْس بعبارةِ الغزاليِّ، ليس فيه أيُّ إشارةٍ إلى هذا المعنى، هو يذكُرُ فقط أنَّ مذهَبَ الثوريِّ انقَرض بعدَ الخَمسِمئةِ؛ ليبقى الإجماعُ بعدها منعقِدًا على المذاهِبِ الأربعةِ المعلومةِ.

فأين في الكلامِ كُلِّه أنَّ الحنابلةَ لم يُعترَفْ بفقهِهم إلَّا بعدَ الخَمسِمئةِ؟!

ولْنفتَرِضْ أنَّ الألمانيَّ قال ذلك، أو حتى أبو حامدٍ الغزاليُّ، فأين غاب نقدُ الأستاذِ الحنبليِّ عن تلك الجُملةِ المنافيةِ للحقيقةِ التاريخيَّةِ التي تُشبِهُ البَدَهيَّاتِ؟!

كلامُ المُستَشرِقِ السويسريِّ زيادةً على كونِه نقلًا محرَّفًا، فإنَّ فيه إشكالاتٍ ظاهرةً يُفترَضُ أن تستوقِفَ من يقولُ عن نفسِه: إنَّه من أصحابِ التخصُّصِ المشهودِ لهم بالتميُّزِ!

فهل يُوجَدُ في تاريخِ الإسلامِ كُلِّه مَذهَبٌ فِقهيٌّ يبقى غيرَ مُعترَفٍ به قرنينِ ونصفَ القرنِ، ثمَّ يحصُلُ بعد هذا على الاعترافِ؟!

هذه الصورةُ لا وجودَ لها في تاريخِ التشريعِ الإسلاميِّ، وأوَّلُ ما كان ينبغي على الأستاذِ التوقُّفُ عنده، عبارةُ: (لم يُعترَفْ بأنَّهم فُقَهاءُ)، فمهما كانَ المعنى المقصودُ هنا فإنَّ الغزاليَّ لا يمكِنُ أن يتكلَّمَ بهذه اللُّغةِ الكَنَسِيَّةِ التي استعملها المُستَشرِقُ انطلاقًا من خلفيَّتِه الثقافيَّةِ وتاريخِه الدِّينيِّ؛ حيث كانت الكَنيسةُ تَعترفُ ببعضِ المذاهِبِ النصرانيَّةِ، وتأبى الاعترافَ بمذاهِبَ أخرى، ثمَّ مع الوقتِ يتغيَّرُ الحالُ، فترجِعُ لتُقِرَّ وتعترفَ بما كانت تُنكِرُه وتأباه.

وكنتُ سأجدُ للأستاذِ (بعضَ) العذرِ لو أنَّه كان ينقُلُ نصَّ عبارةِ المُستَشرِقِ، لكِنَّ الواقعَ أنَّ الأستاذَ كان يستخدمُ تعبيرَه الخاصَّ عن الفكرةِ، ومع ذلك حافَظ على تلك اللَّفظةِ النَّشازِ.

أمرٌ آخرُ كان ينبغي أن يتوقَّفُ عندَه الأستاذُ: فالغزاليُّ -لسببٍ تاريخيٍّ- لا يمكنُ أن يذكُرَ في كتابِ (الإحياء) أنَّ مَذهَبَ الحنابلةِ لم يُعترَفْ به إلَّا نحوَ سنةِ (500هـ)، فرُغمَ أنَّ الغزاليَّ تُوفِّي سنةَ (505هـ)، إلَّا أنَّ (الإحياء) من كتُبِه المتقَدِّمةِ نِسبيًّا؛ فهو ممَّا صنَّفه أثناءَ إقامتِه بالشَّامِ(6) ما بينَ سنةِ (488ه-490هـ)، وقد ذكَر تلميذُه أبو بكرِ بنُ العربيِّ أنَّه قرأ الكتابَ عليه في بغدادَ سنةَ (490هـ)(7)، فكيف يمكِنُ أن يتحدَّثَ الغزاليُّ في كتابِه هذا عن سَنةِ (500هـ)؟!

أمرٌ ثالثٌ أهمُّ من ذلك كُلِّه: فهل يُمكِنُ لمن شمَّ رائحةَ تاريخِ الفقهِ الإسلاميِّ -فضلًا عن منتَسِبٍ للمذهَبِ الحنبليِّ يكتُبُ باسمِ النقدِ التاريخيِّ- قَبولُ دعوى ذاك المُستَشرِقِ السويسريِّ: أنَّ مَذهَبَ الحنابلةِ لم يُعتَرَفْ به إلَّا نحوَ سَنةِ (500هـ)، قريبًا من مطلَعِ القرنِ السَّادِسِ؟!

هذا الهَذَيانُ السويسريُّ الذي استروح له الأستاذُ معناه أنَّ القاضيَ أبا يَعلى وتلاميذَه وشيوخَه ومن فوقَهم من فُقهاءِ الحنابلةِ، كانوا جميعًا ينتَسِبون لمَذهَبٍ فقهيٍّ غيرِ مُعتَرَفٍ به!

ذاك التخليطُ السويسريُّ معناه أنَّ جميعَ الفقهاءِ المترجَمِ لهم في (طبقات الحنابلة) كانوا ينتَسِبون لمَذهَبٍ فقهيٍّ غيرِ مُعترَفٍ به؛ فكلُّهم -عدا نَفَرٍ قليلٍ ربَّما لا يجاوِزُ أصابعَ اليدِ- تُوفُّوا قبل الخَمسِمئةِ، وحتى هذا النفَرُ القليلُ كانوا حنابلةً قبل الخَمسِمئةِ؛ فآخِرُهم وفاةً أبو الوفاءِ بنُ عَقيلٍ المتوفَّى سنةَ (513هـ)، ومؤلِّفُ الطَّبَقاتِ نفسُه تُوفِّيَ سنةَ (526هـ)! فكيف يمكِنُ قَبولُ خُرافةِ أنَّ المَذهَبَ الحنبليَّ لم يُعترَفْ به إلَّا بعدَ سَنةِ (500هـ)؟!

المُستَشرِقُ السويسريُّ -بموافقةٍ من الأستاذِ- قلَب الصُّورةَ التاريخيَّةَ رأسًا على عَقِبٍ؛ ذلك أنَّ سنةَ الخمسِمئةِ وما تلاها كانت حِقبةَ انحسارٍ وتراجعٍ للمذهَبِ الحنبليِّ بعد فَورةٍ وتمدُّدٍ استمرَّا أكثَرَ من قرنينِ ونصفِ القرنِ. يُبَيِّنُ ذلك قولُ القاضي عِياضٍ المتوفَّى سنة (544هـ): "أمَّا مذهَبُ أحمدَ بنِ حنبلٍ -رحمه اللهُ- فظهر ببغدادَ، ثمَّ انتشر بكثيرٍ من بلادِ الشَّامِ وغيرِها، وضَعُفَ الآنَ"(8)؛ فسنةُ الخمسِمئةِ كانت فترةَ ضَعفٍ نِسبيٍّ لمذهَبِ الحنابلةِ بعدَ حِقبةِ نشاطٍ وتمدُّدٍ.

لأجْلِ ذلك ما زِلتُ أعجَبُ كيف قَبِلَ نقدُ الأستاذِ وعَقلُه -بل ثقافتُه العامَّةُ- أنَّ المَذهَبَ لم يُعتَرَفْ به إلَّا نحوَ سَنةِ خَمسِمئةٍ، مع أنَّ بغدادَ عاصمةَ الخلافةِ وأهمَّ المراكِزِ العِلميَّةِ كانت على مدى قرنينِ سابقَينِ مملوءةً بفُقهاءِ الحنابلةِ يُفتون فيها ويَقضون ويُدَرِّسون؟!

كيف قَبِلَ الأستاذُ ذلك، والرَّحَّالةُ البَشَّاريُّ المتوفَّى سنة (380هـ) يذكُرُ أنَّ مذهَبَ الحنابلةِ كان الغالبَ في بغدادَ، وابنُ الأثيرِ يتحدَّثُ عن رأسِ الثلاثِمئةِ، فيذكُرُ أنَّ الحنابلةَ كانوا "لا يُحصَون كثرةً ببغدادَ"(9)، وأبو سعدٍ السَّمعانيُّ المتوفَّى سنة (562هـ) يتحدَّثُ عن واحدةٍ من مَحَلَّاتِ بغدادَ، فيذكرُ أنَّ "بها أربعة آلاف طاحونة"، في إشارةٍ إلى سَعَتِها وكثرةِ أهلِها، ثمَّ يقولُ: "وكان منها جماعةٌ كثيرةٌ من العُلماءِ والزُّهَّادِ والصَّالحينَ، وكُلُّهم إلَّا ما شاء اللهُ ‌على ‌مذهَبِ ‌أحمدَ بنِ حنبلٍ"(10).

فهل انشقَّت الأرضُ عن هؤلاء بعدما اعتُرِفَ بالمذهَبِ سنةَ (500هـ)؟!

كيف قَبِل الأستاذُ تلك الخُرافةَ، وأبو بكرٍ النَّجَّادُ الحنبليُّ المتوفَّى سنةَ (348هـ) "كانت له حَلقةٌ بجامِعِ المنصورِ يُفتي ويُدرِّسُ فيها على مذهَبِ أحمدَ"(11)، ومثلُه أبو إسحاقَ بنُ شاقْلا (369هـ)، وأبو الحسَنِ بنُ سَمعون (387هـ)، والشَّريفُ أبو عليٍّ الهاشميُّ (428هـ)، وأبو عليِّ بنُ البناءِ (471ه)، ورزق الله التميميُّ (488هـ)(12)، وأبو إسحاقَ البَرمكيُّ (445)(13). وفي تاريخِ جُرْجانَ يتحدَّثُ المؤلفُ عن سنةِ (371هـ)، فيذكُرُ أنَّ أبا الحسَنِ التميميَّ (371هـ) وأبا الحسَنِ بنَ سَمعونَ (387هـ) فينسُبُهما لمَذهَبِ أحمدَ، ويذكُرُ أنَّهما من مشايخِ أهلِ السُّنةِ ببغدادَ(14)؟ فهل كانا من مَشايخِ أهلِ السُّنَّةِ مع انتسابِهما لمذهَبٍ فِقهيٍّ غيرِ مُعتَرَفٍ به؟!

كيف يُقالُ: إنَّ المَذهَبَ لم يُعتَرَفْ به إلَّا نحوَ سنةِ خمسِمئةٍ، والخليفةُ العباسيُّ يبعثُ سنةَ (444هـ) إلى أبي يَعلى الحنبليِّ يُلِحُّ عليه ليَقبَلَ وِلايةَ القضاءِ في دارِ الخلافةِ(15). وقبل أبي يَعلى شيخُه أبو عبدِ اللهِ بنُ حامدٍ المتوفَّى سنة (403هـ) الذي -كما يقولُ البغداديُّ-: "كان مُعَظَّمًا في النفوسِ مُقدَّمًا عند السُّلطانِ والعامَّةِ"(16)، وقَبْلَهما حربٌ الكَرمانيُّ، كان السلطانُ قد فوَّضَ له أمرَ الحُكمِ في بَلدِه(17)، وقَبْلَه صالحُ بنُ الإمامِ أحمدَ، وليَ قضاءَ أصبهانَ بأمرِ الخليفةِ(18).

فأيُّ اعترافٍ بالمَذهَبِ الفقهيِّ فوقَ هذا؟!

كيف قَبِل عَقلُ الأستاذِ وفَهمُه ونقدُه التاريخيُّ (!!) أن يكونَ مذهَبُ أحمدَ غيرَ مُعتَرَفٍ به في الحِقبةِ التي عاشَ فيها الإمامُ نفسُه، ومِن بَعدِه أعيانُ أصحابِه: صالحٌ ابنُه (266هـ)، وعبدُ اللهِ (290هـ)، والأثرَمُ (نحوَ 260هـ)، والمرُّوذيُّ (275هـ)، وحربٌ الكَرمانيُّ (280هـ)، وأبو داودَ السِّجِستانيُّ (273هـ)، ثمَّ الخَلَّالُ (311هـ)، وأبو عبدِ اللهِ الخِرَقيُّ (299هـ)، وابنُه أبو القاسمِ (334هـ)، وأبو بكرِ بنُ أبي داودَ (316هـ)، وأبو بكرٍ الصَّيدلانيُّ (320هـ)، والآجُرِّيُّ (360هـ)، وغُلامُ الخَلَّالِ (363هـ)، وابنُ شاقْلا (369هـ)، وابنُ بطَّةَ (387هـ)، وأبو حفصٍ البَرمكيُّ (387هـ)، وأبو عبدِ اللهِ بنُ مَنْدَه (395هـ)، وأبو عبدِ اللهِ بنُ حامدٍ (403هـ)، وابنُ أبي موسى الهاشميُّ (428هـ)، وأبو إسحاقَ البَرمكيُّ (445هـ)، ورزق الله التميميُّ (448هـ) وقَبْلَه أبوه وعمُّه وجدُّه(19)، والقاضي أبو يَعلى (458هـ)، وأصحابُه مِن بَعدِه، وغير هؤلاء كثيرٌ.

أهؤلاء جميعًا كانوا ينتَسِبون لمَذهَبٍ فقهيٍّ غيرِ مُعتَرَفٍ به؟!

كيف يَقبَلُ وعيُ الأستاذِ أنَّ مَذهَبَ الحنابلةِ لم يُعترَفْ به مَذهَبًا فقهيًّا إلَّا قريبًا من القرنِ السَّادسِ، والمَذهَبُ حاضرٌ في كتُبِ الخلافِ المصنَّفةِ في القرنِ الثالثِ والرابعِ؟ ولم ينتَصِفْ القرنُ الخامسُ إلَّا والمَذهَبُ يُحكَى في مصنَّفاتِ علماءِ الأندلسِ بأقصى المغرِبِ؟!

كان المنتظَرُ من الأستاذِ ابنِ المَذهَبِ الحنبليِّ وربيبِ البيئةِ العِلميَّةِ الإسلاميَّةِ، أن يرفَعَ هامَتَه أمامَ ذاك المُستَشرِقِ الأعجَمِ؛ ليقومَ معه مقامَ المعلِّمِ لا مقامَ التابعِ المقلِّدِ، فيُصَحِّحَ له سوءَ فهمِه وخطَأَه التاريخيَّ الفادِحَ، غيرَ أنَّ الأستاذَ اختار عِوَضًا عن ذلك منهجَ التسليمِ والانقيادِ والانكسارِ!

وبعدما كان الأستاذُ يَعيبُ من يأخُذُ مذاهِبَ الطَّوائفِ من غيرِ مصادرِها الأصيلةِ، إذا به يَنكِصُ بشدَّةٍ إلى الوراءِ، فيقرأُ تاريخَ المَذهَبِ الحنبليِّ من روايةِ سويسريٍّ، عن ألمانيٍّ!

من أين دخل الخَلَلُ على الأستاذِ؟

أصلُ الإشكالِ أنَّ الألمانيَّ فريدريك كِرْن كان يكتُبُ مقدِّمةً لكتابِ ابنِ جريرٍ الطَّبريِّ (اختلاف الفقهاء)، ومن المعلومِ أنَّ ابنَ جريرٍ في كتابِه هذا لم يذكُرْ أقوالَ الإمامِ أحمدَ واختياراتِه الفِقهيَّةَ، وممَّا يُروَى عن ابنِ جريرٍ -واللهُ أعلمُ بصحَّتِه- أنَّه سُئل عن ذلك، فقال: "إنَّ أحمدَ لم يكُنْ فقيهًا، وإنَّما كان محَدِّثًا"، ويُقالُ إنَّ كلامَ ابنِ جريرٍ هذا أثار عليه الحنابلةَ ببغدادَ(20).

هذه الرِّوايةُ عن ابنِ جريرٍ ليس لها سَنَدٌ -فيما أعلمُ- ولدَيَّ شكٌّ كبيرٌ في صِحَّتِها عنه، أو على الأقَلِّ في دقَّةِ نَقلِها. ولو قُدِّرَت صحَّتُها فلا يمكنُ أن يكونَ مقصودُ ابنِ جريرٍ نفيَ الفقهِ عن أحمدَ وإسقاطَ الاعتبارِ عن مَذهَبِه، (أو عدَمَ الاعترافِ به، كما عبَّر المُستَشرِقُ والأستاذُ)، ذلك أنَّ ابنَ جريرٍ أكبرُ مِن أن يخفى عليه محلُّ أحمدَ في الفقهِ، ومقامُ ابنِ جريرٍ مع أحمدَ مقامُ التلميذِ مع الأستاذِ، وقد رأيتُه يقولُ في رسالتِه في السُّنَّةِ لمَّا جاء لمسألةِ (اللَّفظُ بالقرآنِ): "أمَّا القولُ في ألفاظِ العبادِ فلا أثَرَ فيه نعلمُه عن صحابيٍّ مضى ولا تابعيٍّ قضى، إلَّا عمَّن في قولِه الغَناءُ والشِّفاءُ -رحمةُ اللهِ عليه ورضوانُه-، وفي اتِّباعِه الرُّشدُ والهدى، ومن يقومُ قولُه لدينا مقامَ قولِ الأئمَّةِ الأولى؛ أبي عبدِ اللهِ أحمدَ بنِ حنبلٍ -رضي اللهُ عنه-"(21). هكذا ينظُرُ ابنُ جريرٍ للإمامِ أحمدَ، وهكذا يتحدَّثُ عنه، والمسألةُ المقصودةُ هنا وإن كانت مسألةً عقَديَّةً، فإنَّ تلك الطَّبقاتِ المتقدِّمةَ لا يوجَدُ فيها هذا الفصلُ الذي يجعَلُ الإمامَ رأسًا في مقامِ الأئمَّةِ الأولى في الاعتقادِ، و(غيرَ مُعتَرَفٍ به) في الفِقهِ!

نرجِعُ إلى الألمانيِّ فريدريك كِرْن، فهو لَمَّا حقَّق كتابَ (اختلاف الفقهاء) أرادَ أن يُثبِتَ أنَّ ابنَ جريرٍ لم يكُنْ وحدَه الذي لم يذكُرْ أقوالَ أحمدَ، فوضع في مُقدِّمةِ الكتابِ عُنوانًا نصُّه: "فصلٌ فيمن لم يَذكُرْ أقوالَ أحمدَ بنِ حنبَلٍ في كتُبِه، أو لم يَعُدَّه من العُلماءِ الكِبارِ(!!)"(22)، وتحتَ هذا العنوانِ ساق الألمانيُّ عددًا من المصنِّفين الذي سلكوا مسلَكَ ابنِ جريرٍ، فلم يذكُروا أقوالَ أحمدَ، فعدَّ فِعْلَهم هذا دليلًا على أنَّ أحمدَ لم يكُنْ عندهم من العُلماءِ الكِبارِ!

كلُّ هذا ممَّا لا غرابةَ فيه؛ فكتاباتُ أكابرِ المُستَشرِقينَ يقعُ فيها مثلُ هذا وأسوأُ منه، وكثيرٌ منهم لديه جُرأةٌ عجيبةٌ في إطلاقِ أحكامٍ مبنيَّةٍ على قصورٍ شديدٍ في الفَهمِ والتصَوُّرِ، وممَّا شجَّعهم على هذه الجُرأةِ مبالغةُ بعضِ المُسلِمين في الحفاوةِ بكتاباتِهم دونَ تمحيصِها ونَقدِها!

لكِنْ مع ذلك، فالألمانيُّ فريدريك كِرْن لم يقُلْ قطُّ: إنَّ مذهَبَ أحمدَ لم يُعترَفْ به إلَّا سنةَ الخمسِمئةِ، هو فقط ساقَ أسماءَ عددٍ من المصنِّفين الذين مشَوا على طريقةِ ابنِ جريرٍ، فجاء السويسريُّ آدم مِتْس وحَرَّف في النقلِ، وبدَّل في كلامِ الألمانيِّ، ثمَّ نسَبه للغزاليِّ؛ ليأتيَ -بعد ذلك- أستاذُ النقدِ، فينقُلَ لنا التحريفَ مُؤمِّنًا على صحَّتِه!

لكِنْ حتى نعرِفَ لماذا لا يُذكَرُ مَذهَبُ أحمدَ في بعضِ كتُبِ الخلافِ المتقَدِّمةِ، سنحتاجُ قبلَ ذلك لعَرضٍ موجَزٍ عن تاريخِ مَذهَبِ الحنابلةِ؛ كي يتَّضِحَ حَجمُ الكارثةِ التي جناها الأستاذُ وهو يقرأُ تاريخَ الفقهِ الإسلاميِّ بالعينِ السويسريَّةِ الكليلةِ!

نشأةُ مَذهَبِ الإمامِ أحمدَ بنِ حَنبلٍ:

الإمامُ أحمدُ هو الذي شَهِد له الإمامُ الشافعيُّ بالتقدُّمِ في الفقهِ، لَمَّا ذَكَر أنَّه خرجَ من بغدادَ ولم يخَلِّفْ فيها أعلمَ ولا أفقهَ من أحمدَ(23)، وقد عاشَ أحمدُ بعدَ هذه الشَّهادةِ العاليةِ نحوَ أربعينَ عامًا ازداد فيها عِلمًا وفِقهًا وخيرًا، وامتُحِنَ خلالَ ذلك فزاد ذلك في منزلتِه وأعلى من ذِكْرِه بَينَ أهلِ الإسلامِ؛ فصارَ في حياته إمامًا مُتَّبَعًا اسمُه يملأُ الدُّنيا، وصار له أصحابُه الكِبارُ الجامِعون لأقوالِه المتفقِّهون على طريقتِه.

لكِنْ تَبَعًا لطريقةِ التصنيفِ الغالبةِ في تلك الحِقبةِ، فإنَّ أقوالَ الإمامِ وفتاواه كانت مُدَوَّنةً عند أصحابِه، يروونَها ويتدارسُونَها ويتَّفِقونَ عليها كما يَروونَ الأحاديثَ؛ فصالحٌ ابنُ الإمامِ له مسائِلُ عن أبيه مُصنَّفةٌ على أبوابِ الفقهِ تزيدُ على (1700) مسألةٍ، ولعبدِ اللهِ نحوُ ذلك من المسائِلِ المبوَّبةِ، وقريبٌ منها مسائِلُ أبي داودَ السِّجستانيِّ، ولابنِ هانئٍ مصنَّفٌ فيه نحوُ (3400) مسألةٍ مبوَّبةٍ على فروعِ الفقهِ أيضًا، وأمَّا حربٌ الكَرمانيُّ فكانت عنده (4000) مسألةٍ عن أحمدَ وإسحاقَ، وتقرُبُ منها مسائلُ إسحاقَ بنِ منصورٍ الكَوسَجِ(24)، التي كتب أبو حفصٍ البَرمكيُّ (387هـ) شرحًا على بعضِها(25). وهناك غيرُ هؤلاء كثيرٌ ممَّن كانوا يَروونَ مسائِلَ الإمامِ واختياراتِه الفقهيَّةَ ممَّن ذكَر ابنُ أبي يَعلى أنَّهم يزيدونَ على المئةِ وعشرينَ نفسًا من أصحابِ الإمامِ(26).

فبهذه الطريقةِ كان مَذهَبُ الإمامِ يُنقَلُ ويُتداوَلُ أوَّلَ الأمرِ تَبَعًا لطريقةِ التصنيفِ الدَّارجةِ في ذلك الوقتِ، ولم يقُلْ أحدٌ: إنَّ المَذهَبَ آنذاك لم يكُنْ "مُعتَرَفًا به" حتَّى وإن تأخَّر التصنيفُ الشَّاملُ المنظَّمُ لمسائِلِه على طريقةِ كُتُبِ الفِقهِ؛ فحالُ مَذهَبِ أحمدَ آنذاك كان كحالِ مذاهِبِ فُقهاءِ المحَدِّثينَ، كالثَّوريِّ، والأوزاعيِّ، واللَّيثِ بنِ سعدٍ، وأبي ثَورٍ، وغيرِهم من أصحابِ المذاهِبِ الفِقهيَّةِ التي بَقِيت مدَّةً، ثمَّ لم يُكتَبْ لها البقاءُ والاستمرارُ، فهؤلاء كان لهم أتباعٌ يتفقَّهون على طريقتِهم، وكانت مذاهِبُهم واختياراتُهم معتَبَرةً تُحكى في كتُبِ الخلافِ، مع أنَّها لم تُدوَّنْ في مصنَّفاتٍ جامعةٍ على طريقةِ كتُبِ الفقهِ، لكِنْ تأخُّرُ هذا التدوينِ الجامعِ نتج عنه تراجُعٌ في تلك المذاهِبِ إلى أن اختفت، وهذا ما لم يحصُلْ لمَذهَبِ الإمامِ أحمدَ -رحمه الله-.

فبواسطةِ تلك المسائِلِ المرويَّةِ عن الإمامِ صارَ هناك مَذهَبٌ قائمٌ، وصارت أقوالُ الإمامِ تُذكَرُ في كتُبِ الخلافِ المتقَدِّمةِ، كما في كتابِ (اختلاف الفقهاء) لمحمَّدِ بنِ نصرٍ (297هـ)، وكتابِ (اختلاف العلماء) لأبي جعفرٍ الطَّحاويِّ (321هـ)، وكتُبِ ابنِ المنذِرِ (319هـ): (الأوسَط في السُّنَن والإجماعِ والاختلاف)، و(الإشراف)، و(الإقناع)، فضلًا عن كتُبِ الرِّوايةِ المحضةِ التي عُنِيَ أصحابُها بذِكرِ مذاهبِ العُلماءِ في تعليقاتِهم على فقهِ الأحاديثِ، كما في جامعِ الإمامِ التِّرمذيِّ (279هـ)، و(مختصر الأحكام) لأبي علي الطُّوسيِّ (312هـ)، وغيرِهما.

ولمَّا جاء أبو بكرٍ الخَلَّالُ المتوفَّى سنة (311هـ) تصدَّى لتتبُّعِ مسائِلِ الإمامِ عن أصحابِه، فجمعها في عشرينَ سِفرًا أودعها كتابَه (الجامع)(27)، ثمَّ وضع أبو القاسِمِ الِخرَقيُّ (334هـ) مختَصَرَه في الفِقهِ، المشتَمِلَ على (2300) مسألةٍ(28)، وهو المتنُ الأشهَرُ الذي صار يُقرَأُ في حِلَقِ الحنابلةِ(29) وكُتِبَت عليه الكثيرُ من الشُّروحِ؛ فقد شَرَحَه أبو حفصٍ العُكبَريُّ المتوفَّى سنةَ (387ه)، ثمَّ أبو عبدِ اللهِ بنُ حامدٍ (403هـ)، ثمَّ القاضي أبو يَعلى (458هـ)(30). وكانت هناك مُصَنَّفاتٌ أخرى كُتِبت بالتوازي مع مختَصَرِ الخِرَقيِّ وبُعيدَه، كما في (الشافي)، و(المُقنِع)، و(زاد المسافر)، و(الخلاف مع الشافعي)، و(القولين)(31) لغلامِ الخَلَّالِ، وكتاب (الجامع في المذهب) لابنِ حامدٍ، الذي يذكرُ ابن أبي يعلى أنه أربعمئة جزء(32)، وغيرُ ذلك من المُصنَّفاتِ المتقَدِّمةِ التي اعتمد عليها القاضي أبو يَعلى بَعدَ ذلك في مُؤلَّفاتِه، فهذا التدوينُ هو ما منع من اختفاءِ المَذهَبِ، كما حصل لغيرِه من مذاهِبِ فُقهاءِ أهلِ الحديثِ

كلُّ هذا كان قَبلَ سنةِ الخَمسِمئةِ. وبَعدَ شُيوعِ هذه التصانيفِ تيسَّر للفُقهاءِ من خارجِ المَذهَبِ معرفةُ تفاصيلِ أقوالِ الإمامِ، فتوسَّع نقلُ مَذهَبِه في كتُبِ الخلافِ، حتى صار يُحكى في كُتُبِ المغاربةِ، كما في (الجامع لمسائِلِ المدوَّنةِ) لأبي بكرِ بنِ يونُسَ الصقليِّ (451هـ)، وكما في تَبصِرةِ أبي الحسَنِ اللَّخميِّ (478هـ)، بل وصل المَذهَبُ إلى الأندلُسِ، فظهرت أقوالُ الإمامِ في مصنَّفاتِ أبي الحَسَنِ بنِ بطَّالٍ (449هـ)، وأبي محمَّدِ بنِ حزمٍ (456هـ)، وابنِ عبدِ البَرِّ (463هـ)، وأبي الوليدِ الباجي (474هـ)، وغيرِهم.

وابنُ حزمٍ (456هـ) في كتابِه (إحكام الأحكام) عدَّ الإمامَ أحمدَ مع عَشَرةٍ آخرينَ، ذكَر أنَّهم الفُقهاءُ المُقلَّدون(33)، بل إنَّه صنَّف رسالةً في الموازنةِ بين الخمسةِ (الأربعةِ، وداودَ الظَّاهريِّ)؛ بسبَبِ جَدَلٍ حصل في وقتِه: أيُّهم أفقَهُ وأعلمُ(34)، وقد رجَّح في رسالتِه هذه فقهَ الإمامِ أحمدَ على أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ، لكنَّه عادَ فرجَّح داودَ الظَّاهريَّ على الجميعِ!

كان ابنُ حزمٍ يكتُبُ هذا بعيدًا في بلادِ الأندلُسِ قَبلَ سنةِ الخَمسِمئةِ التي زعَم المُستَشرِقُ أنَّ مَذهَبَ أحمدَ لم يُعترَفْ به إلَّا قريبًا منها!

وفي المَشرِقِ نرى أقوالَ الإمامِ مذكورةً في مِثلِ (التعليقة على مختَصَرِ المُزَنيِّ)، لشيخِ الشافعيَّةِ في خُراسانَ القاضي حُسَينٍ المرُّوذيِّ (462هـ)، وفي بلادِ بُخارى بأقصى المشرِقِ نرى أبا الحَسَنِ السُّغديَّ (461هـ) يذكُرُ أقوالَ الإمامِ أحمدَ في كتابِه (النُّتَف في الفتاوى).

ومع تقدُّمِ هذه النقولِ على سنةِ الخمسِمئةِ، إلَّا أنَّ مِن الخطأِ ومِن سوءِ الفهمِ أن يُجعَلَ هذا بدايةً لبدءِ (الاعتراف!) بالمَذهَبِ الحنبليِّ؛ لهذا لمَّا جاء أبو إسحاقَ الشيرازيُّ الشافعيُّ المتوفَّى سَنةَ (476هـ) وصنَّفَ كتابه (طبقات الفُقَهاء) ذكَر فُقهاءَ التابعينَ ومَن دونَهم، ثمَّ قال: "انتهى الفقهُ بعد ذلك في جميعِ البلادِ التي انتهى إليها الإسلامُ إلى أصحابِ الشافعيِّ، وأبي حنيفةَ، ومالكٍ، وأحمَدَ، وداودَ، وانتشَر عنهم الفقهُ في الآفاقِ، وقام بنُصرةِ مذاهبِهم أئمةٌ ينتَسِبون إليهم، وينصُرون أقوالَهم"(35). ثمَّ ترجَم لأشهرِ فُقهاءِ هذه المذاهِبِ، ومنهم الحنابلةُ، بدءًا من القرنِ الثَّالِثِ فما دونَه.

هذا العَرضُ الموجَزُ ما هو إلَّا جزءٌ يسيرٌ من تاريخِ مَذهَبِ أحمدَ قَبلَ سنةِ (500هـ)؛ ذاك التَّاريخِ الذي محاه الأستاذُ الناقِدُ الباحثُ الأميَزُ تَبَعًا للمُستَشرِق السويسريِّ!

لماذا لم يُذكَرْ مَذهَبُ أحمدَ في بعضِ كتُبِ الخلافِ؟

رأينا فيما سبق نماذِجَ لمصنَّفاتٍ في الخلافِ في القرنينِ الثالثِ والرابعِ والخامِسِ كانت تذكُرُ مَذهَبَ الإمامِ إلى جوارِ أقوالِ غيرِه من الفُقهاءِ، وفي هذا ما يُبطِلُ الدَّعوى السويسريَّةَ التي اعتنَقها الباحِثُ الأميَزُ.

لكِنْ ثمَّةَ مُصنَّفاتٌ أخرى لم تعتَنِ بذِكرِ مَذهَبِ الإمامِ، ككتابِ ابنِ جريرٍ الذي علَّق عليه المُستَشرِقُ الألمانيُّ، ، بل هناك كتاباتٌ قليلةٌ بعدَ الخَمسِمئةِ استمرَّت على هذا النَّهجِ ذَكَر المُستَشرِقُ واحدًا منها (36). لكنْ خلُوُّ تلك المصَنَّفاتِ من ذِكرِ مَذهَبِ أحمدَ له تفاسيرُ عِدَّةٌ ليس منها قَطعًا كونُ مَذهَبِ الإمامِ "غيرَ مُعتَرَفٍ به مَذهَبًا فِقهيًّا".

ولأجْلِ الاختصارِ، سأذكرُ أظهَرَ ثلاثةِ أسبابٍ لتفسيرِ هذا الأمرِ:

السَّببُ الأوَّلُ: أنَّ مَذهَبَ الإمامِ أحمدَ متأخِّرٌ في نشأتِه عن المذاهِبِ الثلاثةِ، وقَبلَ أن يظهَرَ المَذهَبُ ويكثُرَ أتباعُه ومؤلَّفاتُهم، كانت هناك ردودٌ ومصنَّفاتٌ متقدِّمةٌ في الخلافِ بينَ الثلاثةِ، أو بينَ (أبي حنيفةَ ومالكٍ)، أو بينَ (أبي حنيفةَ والشافعيِّ)، أو بينَ (مالكٍ والشافعيِّ). وهذه المصنَّفاتُ فَتَحت بابًا واسعًا للتصنيفِ استمرَّ حتى بعدَ ظهورِ مَذهَبِ الإمامِ أحمدَ.

فأبو يوسُفَ القاضي صاحِبُ أبي حنيفةَ مثلًا له مصنَّفٌ في الرَّدِّ على مالِكِ بنِ أنسٍ(37)، ومحمَّدُ بنُ الحَسَنِ له كتابُ (الحُجَّة على أهل المدينة) يعني مالكًا وأصحابَه، وفي كتابِ الأُمِّ للشافعيِّ نجِدُ عنوانًا عن (اختلاف مالكٍ والشافعيِّ)، و(الرَّد على محمَّدِ بنِ الحسَنِ)(38)، وأبو ثَورٍ له تصنيفٌ مُستقِلٌّ في (خلاف مالكٍ والشافعيِّ)(39)، ولكلٍّ من محمَّدِ بنِ سُحْنون (250ه) وابنِ عبدِ الحَكَمِ المالكيَّينِ (268هـ) مصنَّفٌ في الرَّدِّ على الشافعيِّ، ومُصنَّفٌ في الرَّدِّ على فقهاءِ العِراقِ(40)، والقاضي إسماعيلُ بنُ إسحاقَ المالكيُّ له مصنَّفاتٌ في الرَّدِّ على أبي حنيفةَ، ومُصنَّفٌ في الرَّدِّ على محمَّدِ بنِ الحَسَنِ، ومُصَنَّفٌ ثالثٌ في الرَّدِّ على الشافعيِّ(41)، ولأبي العبَّاسِ بنِ سُرَيجٍ الشافعيِّ (305هـ) مُصنَّفٌ في الرَّدِّ على محمَّدِ بنِ الحسَنِ(42). وهذا بابٌ واسعٌ يطولُ تتبُّعُ أطرافِه؛ فهذه المُصنَّفاتُ التي تناولت الخلافاتِ بينَ أصحابِ المذاهِبِ الثلاثةِ الأقدَمِ والأوسَعِ انتشارًا، وفَّرَت مادَّةً علميَّةً واسعةً وقريبةً اعتمدَ عليها كثيرٌ من المصَنِّفينَ في اختلافِ الفُقهاءِ.

السَّبَبُ الثَّاني: أنَّ المذاهِبَ المتبوعةَ في القرونِ الخمسةِ الأولى لم تكُنْ محصورةً في الأربعةِ التي استقَرَّ الأمرُ عليها بعدَ ذلك كما تقدَّم، بل كانت هناك مذاهبُ أخرى لها أتباعٌ وفُقهاءُ ينتمون إليها، مِثلُ مَذهَبِ الثوريِّ، والأوزاعيِّ، وأبي ثَورٍ، واللَّيثِ بنِ سَعدٍ، وغَيرِهم؛ فمَذهَبُ الثَّوريِّ امتدَّ إلى ما بعدَ القرنِ الخامسِ، بل إنَّ شيخَ الإسلامِ ذكَر أنَّ مَذهَبَه لم يزَلْ باقيًا في وقتِه في القرنِ السابعِ في بلادِ خُراسانَ. ومَذهَبُ الأوزاعيِّ بَقِيَ إلى المئةِ الرابعةِ(43). وأبو ثَورٍ كان له مَذهَبٌ بَقِيَ إلى ما بعدَ الثلاثِمئةِ(44)، بل ذكَرَ النَّديمُ المتوفَّى سَنةَ (384ه) أنَّ أهلَ إِرْمِينيَةَ وأَذْرَبيجانَ في وقتِه كانوا يتفقَّهون على مَذهَب أبي ثورٍ(45). ومَذهَبُ ابنِ جريرٍ الطبريِّ بَقِيَ إلى ما بَعدَ الأربعِمئةِ(46). ومع هذا فإنَّ تلك المذاهِبَ غابت عن تلك الكتُبِ التي اقتصَرت على خلافِ الثلاثةِ أو بعضِهم؛ فمَذهَبُ أحمدَ إذَنْ لم يكُنْ وحدَه الذي أُهمِل ذِكرُه في تلك المؤلَّفاتِ، والذي يَعجَبُ من إغفالِ ذِكرِ مذهَبِ أحمَدَ فقط، وقَع في خطأِ القراءةِ المقلوبةِ للتَّاريخِ؛ فهو لمَّا رأى المذاهِبَ استقَرَّت لاحقًا على المذاهِبِ الأربعةِ، ظَنَّ أنَّ الأمرَ يجِبُ أن يكونَ كذلك فيما مضى، فصار يسألُ فقط عن سببِ إغفالِ مذهَبِ أحمَدَ!

كثيرٌ من الفُقهاءِ الذين صنَّفوا في اختلافِ العُلماءِ في تلك الحِقبةِ لم يكُن مقصودُهم استيعابَ المذاهِبِ أجمعَ، بل كان غَرَضُهم ذِكرَ المذاهِبِ الأشهَرِ والأكثَرِ شيوعًا، وخاصَّةً في أمصارِهم، ولا يعني هذا عدمَ اعتدادِهم بغيرِها. فبينما نجِدُ بعضَ كُتُبِ المشارقةِ تذكُرُ اختلافَ الثلاثةِ (أبي حنيفةَ، ومالكٍ، والشافعيِّ) كما في كتابِ (مختلف الرِّواية) لأبي اللَّيثِ السَّمَرْقَنديِّ (375هـ)، نجِدُ بالمقابِلِ مصنَّفاتٍ مشرقيَّةً أخرى تذكُرُ فقط الخلافَ بينَ أبي حنيفةَ والشافعيِّ، ولا تذكُرُ مالكًا؛ وذلك لقِلَّةِ مَذهَبِ مالكٍ في تلك الأنحاءِ، كما فعَل البيهقيُّ (458هـ) في كتابِ (الخلافيَّات)، وأبو المظَفَّرِ السَّمعانيُّ (489هـ) في كتابِه (الاصطلام)، وأبو إسحاقَ الشيرازيُّ في (نُكَت المسائل وعيون الدلائل)، وأبو الحُسَينِ القُدوريُّ الحنفيُّ (428هـ) في كتابه (التجريد)، ولا يمكِنُ أن يُفهَمَ من تصرُّفِ هؤلاء عدَمُ اعترافِهم بمَذهَبِ الإمامِ مالكٍ.

السَّبَبُ الثَّالثُ: أنَّ تحصيلَ مَذهَبِ الإمامِ أحمدَ واختياراتِه كان فيه عُسرٌ على غيرِ الحنابلةِ، أو مَن كان من أهلِ الأثَرِ المُعْتَنينَ بمذاهِبِ أهلِ الحديثِ، وهذا العُسرُ مَرَدُّه إلى تأخُّرِ المصنَّفاتِ الجامعةِ لفروعِ المَذهَبِ واختياراتِ أئمَّتِه بطريقةٍ تُقرِّبُه لسائِرِ الفُقهاءِ من خارجِ المَذهَبِ. وممَّا يَلحَظُه النَّاظِرُ في كتابِ (قواطِع الأدِلَّة) لأبي المظَفَّرِ السَّمعانيِّ (489هـ) أنَّه إذا حكى مَذهَبَ أحمدَ لا يجزِمُ به، بل يستعمِلُ عباراتٍ من جنسِ: (يقالُ: إنَّ مَذهَبَ أحمدَ كذا)(47).

وممَّا زاد مِن عُسرِ تحصيلِ مَذهَبِ الإمامِ في مراحِلِه الأولى: ضَعفُ انتشارِه في المشرِقِ والمغربِ؛ فأحمدُ -رحمه الله- تُوفِّي، وأصحابُه من الفُقهاء والمُفتينَ منتَشِرونَ في بغدادَ وما قارَبها، ثمَّ توسَّع مَذهَبُه -بعد ذلك- إلى أنحاءِ العراقِ والشَّامِ، لكِنَّ هذا التوسُّعَ لم يتواصَلْ، فبَقِيَ المَذهَبُ شِبهَ محصورٍ في العِراقِ والشَّامِ وما قاربَهما، وقلَّ تمدُّدُه شرقًا وغربًا. وقد بيَّن السُّيوطيُّ أحدَ أكبرِ أسبابِ توقُّفِ تمدُّدِ المَذهَبِ نحوَ مِصرَ، فقال: "لم أسمَعْ بخبرِهم (الحنابلة) فيها إلَّا في القرنِ السابعِ وما بَعدَه؛ وذلك لأنَّ الإمامَ أحمدَ -رضي اللهُ عنه- كان في القرنِ الثالثِ، ولم يَبرُزْ مَذهَبُه خارجَ العراقِ إلَّا في القرنِ الرابعِ، وفي هذا القرنِ مَلَكَت ‌العُبَيديُّون مِصرَ، وأفنَوا من كان بها من أئمَّةِ المذاهِبِ الثلاثةِ، قَتلًا ونفيًا وتشريدًا، وأقاموا مَذهَبَ الرَّفضِ والشِّيعةِ، ولم يُزالوا منها إلى أواخِرِ القرنِ السَّادسِ"(48).

أقولُ: وغَلَبةُ العُبَيديِّينَ على مِصرَ رافَقَها تغلُّبُ البُوَيهيِّينَ الشِّيعةِ على بغدادَ عاصمةِ الخلافةِ ومَهْدِ مَذهَبِ أحمدَ، وقد جاء في ترجمةِ أبي القاسِمِ الخِرَقيِّ (334هـ) صاحِبِ أشهرِ مختَصَرٍ في الفقهِ الحنبليِّ، أنَّه خرج من بغدادَ لَمَّا ظهرَ سبُّ الصحابةِ فيها، وأنَّه تَرَك كتُبَه هناك فاحتَرَقت(49)، لكِنَّ الحالَ في عراقِ البُوَيهيِّينَ لم يكُنْ في سوئِه كما في مِصر العُبَيديِّينَ.

نعَمْ، ذكَر الرَّحَّالةُ البَشَّاريُّ المتوفَّى سنة (380هـ) وجودًا للحنابلةِ بمصرَ، وتحَدَّث عن كثرتِهم بالرَّيِّ (طِهْران حاليًّا)، وذكر وجودًا لهم في خُوزستان (الأهواز)، وفي الدَّيْلَمِ وإِرْمينيَةَ وأَذْرَبيجانَ وأصْفَهانَ(50)، كلُّ هذا قَبلَ سنةِ (380هـ)(51) لا سَنةَ (500هـ)، لكِنَّ وجودَ الحنابلةِ في تلك البلادِ كان ضعيفًا نسبيًّا، وأمَّا ما وراءها من الأمصارِ فلا يكادُ يُذكَرُ المَذهَبُ فيها.

هذا الحالُ نتجَ عنه ضعفٌ في المعرفةِ والاطِّلاعِ على فروعِ المَذهَبِ لِمَن كان بعيدًا عن مَهدِه ومواضِعِ انتشارِه؛ فالبعدُ الجغرافيُّ له أثرُه في اختلاطِ فُقهاءِ المذاهِبِ واطِّلاعِ بعضِهم على ما لدى بعضٍ. وفي بيانِ ذلك يقولُ المؤرِّخُ الحافظُ الذَّهبيُّ: "لو أرادَ الطالبُ اليومَ أن يتمَذهَبَ في المغرِبِ لأبي حنيفةَ لعَسُرَ عليه، كما لو أرادَ أن يتمَذهَبَ لابنِ حَنبَلٍ ببُخارَى وسَمَرقَندَ لصَعُبَ عليه، فلا يجيءُ منه حنبليٌّ، ولا من المغربيِّ حنفيٌّ، ولا من الهنديِّ مالكيٌّ"(52).

فلأجْلِ هذا الحالِ أهمل طائفةٌ من المصنِّفينَ في الخلافِ من أهلِ تلك البلادِ ذِكْرَ مَذهَبِ أحمدَ، بينما يَكثُرُ ذِكرُه في الكتُبِ التي صنَّفها العراقيُّون ومَن ساكَنَهم، كما في كتاب (عيون الأدلَّة في مسائل الخلاف بين فقهاء الأمصار) لأبي الحسَنِ بنِ القَصَّارِ المالكيِّ (397هـ)، ومصنَّفات أبي سُلَيمانَ الخطَّابيِّ (388هـ)، ومصنَّفاتِ القاضي عبدِ الوهَّابِ المالكيِّ البغداديِّ (422هـ)؛ ككتاب (المعونة) و(الإشراف على نُكَت مسائل الخلاف) و(عيون المسائل) و(شرح رسالة ابن أبي زيد)، وكما في كتاب (الحاوي) للماوَرْديِّ الشافعيِّ (450هـ)، وكتاب (الشامل في فروع الشافعية) لابنِ الصَّبَّاغِ البغداديِّ (477هـ)، وكتاب (نهاية المطْلَب) لأبي المعالي الجُوَينيِّ (478هـ)، الذي صنَّفه بعدَ عودتِه من العراقِ إلى بلَدِه نَيسابورَ(53).

تلك أظهَرُ الأسبابِ التي يمكِنُ أن يُفَسَّرَ بها غيابُ مَذهَبِ أحمَدَ عن بعضِ كتُبِ الخلافِ، وقد يأتي الدارسونَ بأسبابٍ أخرى غيرِها، لكِنْ مهما قيل هنا فإنَّ مِن غيرِ الواردِ إطلاقًا ادِّعاءَ أنَّ مَذهَبَ أحمدَ (لم يكُنْ مُعتَرَفًا به) قبلَ الخَمسِمئةِ.

هذه دعوى أجنبيَّةٌ لا أساسَ عِلميًّا لها.

وأختِمُ هنا بتَكرارِ السُّؤالِ المنهجيِّ:

فإذا كان الأستاذُ يَعيبُ على من ينقُلُ مذاهِبَ الطوائِفِ مِن كتُبِ المخالِفينَ، فماذا عسانا نقولُ عمَّن ينقُلُ تاريخَ الحنابلةِ من مُستَشرِقٍ سويسريٍّ؟!

وحيثُ طال الكلامُ عن هذه المسألةِ أقولُ:

للحديثِ عن "عُقدة الأجنبيِّ" بقيَّةٌ تأتي بإذنِ اللهِ...

----------------------------------

(1) قراءة في نص رسالة الرد على الزنادقة والجهمية (ص83).

(2) قراءة في نص رسالة الرد على الزنادقة والجهمية (ص83).

(3) قراءة في نص رسالة الرد على الزنادقة (ص120).

(4) إحياء علوم الدين (1/35).

(5) إحياء علوم الدين (1/41).

(6) انظر: تاريخ دمشق، لابن عساكر (55/201)، والكامل في التاريخ، لابن الأثير (8/396)، وطبقات الشافعية، لابن الصلاح (1/261)، وفهرسة اللبلي (ص32)، والبداية والنهاية، لابن كثير (16/214)، وطبقات الشافعية الكبرى، للسبكي (6/206). ولأجل تقدم تصنيف الإحياء، فإن كتب الغزالي الأخرى مملوءة بالإحالة عليه، مثل كتاب (المستصفى)، و(الوسيط)، و(المقصد الأسنى)، و(المنقذ من الضلال)، و(بداية الهداية)، و(جواهر القرآن)، وغيرها.

(7) العواصم من القواصم (ص24).

(8) ترتيب المدارك (1/66).

(9) الكامل في التاريخ (6/678).

(10) الأنساب (1/180).

(11) تاريخ بغداد (5/309).

(12) انظر: طبقات الحنابلة (3/293، 283، 336، 450، 464).

(13) المنتظم، لابن الجوزي (15/342).

(14) تاريخ جرجان (ص111).

(15) طبقات الحنابلة (3/372).

(16) تاريخ بغداد (8/259).

(17) طبقات الحنابلة (1/389).

(18) طبقات الحنابلة (1/464).

(19) طبقات الحنابلة (4/464).

(20) ذكَر القصةَ ابنُ الأثير في الكامل في التاريخ (6/678)، ولم أجدْها عند غيره من المتقدمين، وابن الأثير يستروح لذكر مثل هذه الأخبار عن الحنابلة.

(21) صريح السنة (ص25).

(22) مقدمة (اختلاف الفقهاء)، (ص13).

(23) تاريخ بغداد (6/90)، طبقات الحنابلة (1/40).

(24) طبقات الحنابلة (1/389).

(25) انظر: طبقات الحنابلة (3/273).

(26) طبقات الحنابلة (1/15).

(27) انظر: إعلام الموقعين (2/49).

(28) انظر: طبقات الحنابلة (3/149).

(29) انظر: طبقات الحنابلة (3/278).

(30) انظر: طبقات الحنابلة (3/291)، (3/309)، (3/384).

(31) ينقل منه ابن تيمية، كما في مجموع الفتاوى: (31/214).

(32) انظر: طبقات الحنابلة (3/309).

(33) إحكام الأحكام في أصول الأحكام (6/120).

(34) هي الرسالة الباهرة في الرد على أهل الأقوال الفاسدة.

(35) طبقات الفقهاء (1/97).

(36) أعني أبا البرَكاتِ النَّسَفيَّ المتوفَّى سنةَ (710ه) في كتابِه (الوافي)، استشهد بصنيعِه فريدريك كِرْن في مُقدِّمتِه لكتابِ (اختلاف العلماء)، (ص15).

(37) الفهرست (3/20).

(38) الأم (7/201)، (7/329).

(39) ذكره ابن عبد البر في: الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء (ص107).

(40) ترتيب المدارك (4/219)، سير أعلام النبلاء (12/500).

(41) الفهرست (3/10)، ترتيب المدارك (4/291).

(42) الفهرست (3/49).

(43) مجموع الفتاوى (20/583).

(44) ترتيب المدارك (1/66)، سير أعلام النبلاء (8/92).

(45) الفهرست (3/43).

(46) ترتيب المدارك (1/66)، سير أعلام النبلاء (8/92).

(47) انظر مثلًا: قواطع الأدلة (1/133)، (1/211)، (1/376)، (2/12).

(48) حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة (1/480).

(49) طبقات الفقهاء، للشيرازي (1/172)، وطبقات الحنابلة (3/148)، وتاريخ دمشق (43/562)، ومناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي (ص686).

(50) انظر: أحسن التقاسيم: (ص202، 395، 407، 365، 378، 384، 388).

(51) طبقات الفقهاء، للشيرازي (1/172)، وطبقات الحنابلة (3/148)، وتاريخ دمشق (43/562)، ومناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي (ص686).

(52) سير أعلام النبلاء (8/91).

(53) تبيين كذب المفتري (ص280-281).