مقالات وبحوث مميزة


 

الأهواءُ المُتَديِّنةُ!

د. فهد بن صالح العجلان

 

احتَفلَ بعِيدِ (الكريسمس) مع زَوجَتِه وأطفالِه، وهَنَّأ فيه خادِمَتَه النَّصرانيَّةَ، وتَبادَلَ فيه التَّهانيَ والتَّبريكاتِ والهَدايا بهذا "العيد المَجيد"!

لم نَصِلْ إلى مَحَلِّ الاستِغرابِ بَعدُ..

اللَّافت للنَّظرِ أنَّ هذا المُحتَفِلَ كان مُستَحضِرًا لِجَمالِ هذا الاحتِفالِ، وبَثَّ في وَعيِ أطفالِه أنْ يَحمَدوا اللهَ على هذا الاحتِفالِ، ويَشكُروه على هذه النِّعمةِ! فهو لا يُمارِسُ هذا الاحتِفالَ مُمارَسةَ المُقَصِّرِ المُفَرِّطِ، ولا حتى مُمارَسةَ مَن يَراه مِنَ الأُمورِ المُباحةِ، بل يُمارِسُه مُستحضِرًا مَعانيَ الطَّاعةِ والتَّديُّنِ والتَّقرُّبِ إلى اللهِ تعالَى!

هذا نَموذجٌ لِمَا يُمكِنُ أنْ نُسَمِّيَه (الأهواء المُتَديِّنة)، وفي واقِعِنا المُعاصِرِ نَماذِجُ عِدَّةٌ لِهذه الظَّاهِرةِ، كحالةِ مَن يَقَعُ في مُخالَفةِ أحكامِ الإسلامِ ولا يَكتَفي بمُخالَفةِ الحُكمِ، بل لا يَتعامَلُ معه على اعتِبارِه مِنَ المُباحاتِ، بل يُضفي عليه مَعانيَ التَّدَيُّنِ والتَّقرُّبِ والطاعةِ التي تُحَقِّقُ المَفهومَ الحَقيقيَّ لِلدِّينِ؛ فأحَدُهم يَسمَعُ المُوسيقَا بدَعْوَى أنَّها أداةٌ لِتَهذيبِ الأخلاقِ، وتَطهيرِ النَّفسِ، والسُّمُوِّ بالرُّوحِ، الذي يُزكِّيها ويُقَرِّبُها إلى الفِطرةِ والسُّلوكِ الإيجابيِّ المُعتَدِلِ؛ فلم تَعُدِ الموسيقا مَنهِيًّا عنها، ولا مُجَرَّدَ فِعلٍ مُباحٍ، أو مُجرَّدَ أداةِ استِمتاعٍ ولَهوٍ، بل أصبَحتْ وَسيلةَ تَهذيبٍ وتَزكيةٍ!

وثانٍ يَزعُم أنَّ وُجودَ المُحَرَّماتِ وإشاعَتَها هو الذي به يَختَبِرُ الإنسانُ إيمانَه، ويَبلو به تَدَيُّنَه؛ فوُجودُها ضَروريٌّ لأجْلِ أنْ تَظهَرَ هذه المَعاني، وبِدونِها لا وُجودَ لهذا الإيمانِ الحَقيقيِّ!

وثالثٌ يَزعُم أنَّ التَّساهُلَ في كَثيرٍ مِنَ الأحكامِ عَلامةٌ على الوَسطيَّةِ والاعتِدالِ، ويَراهُ ضَرورةً لِمُواجَهةِ التَّطَرُّفِ والتَّشدُّدِ!

ورابِعٌ يَدَّعِي أنَّ تَعطيلَ الشَّريعةِ وتَرْكَ الحُكمِ بها، والاحتِكامَ إلى النِّظامِ الدُّنيَويِّ المُحَيِّدِ لِلدِّينِ، هو الذي يُحَقِّقُ مَقصِدَ الدِّينِ وغايةَ رِسالتِه!

وخامِسٌ.. وسادِسٌ..

مِن نَماذِجَ كَثيرةٍ لافِتةٍ لِلانتِباهِ مِن هذه الأهواءِ المُتَديِّنةِ.. نَماذجَ تُسبِلُ على السُّلوكيَّاتِ والاعتِقاداتِ المُخالِفةِ لِلشَّريعةِ صِفةَ التَّقرُّبِ والتَّزكيةِ والطَّهارةِ، التي تُعَبِّرُ عن مَفهومٍ حَقيقيٍّ لِلدِّينِ.
 

ما الإشكالُ في هذا إذن؟

الإشكالُ أنَّ تَرْكَ الالتِزامِ بالأحكامِ -الذي هو مِن جِنسِ التَّقصيرِ والهَوى- أصبَحَ مُحَسَّنًا مُزَيَّنًا في نَفْسِ المُسلِمِ، مُتوافِقًا مع الدِّينِ، مُقَرِّبًا إلى الحَقِّ؛ فلم تَعُدِ تِلكَ المخالفاتُ مُتَضَمِّنةً مَفْسدَةَ المُخالَفةِ فَقَطْ، بل أُضيفَ لها مَفسَدةُ التَّحسينِ والتَّزيينِ للهَوَى والباطِلِ.

ولهذا كان مَوقِفُ الشَّريعةِ شَديدًا مِنَ البِدَعِ.

لِمَ؟

لِأسبابٍ عِدَّةٍ، نَذكُرُ منها هنا سَببَينِ أساسَيَّينِ:

الأوَّلُ: أنَّ البِدعةَ مُحَسَّنةٌ في عَينِه، يَفعَلُها تَدَيُّنًا واعتِقادًا، وهذا يُقَوِّي تَمسُّكَه به؛ ولِهذا قال بَعضُ السَّلَفِ: إنَّ صاحِبَ البِدعةِ لا يَتوبُ مِن بِدعَتِه.

الثاني: أنَّ الاجتِهادَ في البِدعةِ يُضعِفُ الاجتِهادَ في السُّنَّةِ؛ فما في النَّفْسِ مِن تَدَيُّنٍ وطاعةٍ واجتِهادٍ إذا صُرِفَ في البِدعةِ، لم يَعُدْ في النَّفْسِ بَقيَّةٌ مِن نَشاطٍ لصَرْفِه في اتِّباعِ السُّنَّةِ؛ فمِشكِلةُ البِدعةِ أنَّ مَفسَدَتَها مِن جِهَتَينِ: الأُولى: أنَّها تُوقِعُ العَبدَ في مُخالَفةِ الشَّريعةِ، والثانية: أنَّها تُضعِفُه عنِ الطَّاعةِ.
 

كُلُّنا خَطَّاءٌ، لكِنَّ خَيرَ الخَطَّائينَ التَّوابونَ، وإنْ لم يَتوبوا لم يُجاهِروا، واعتَرَفوا بتَقصيرِهم، وسألُوا اللهَ العَفوَ والمَغفِرةَ، وهو ما عليه أكثرُ الناسِ بحَمْدِ اللهِ تعالَى، إلَّا إذا جاءتِ "الأهواءُ المُتَديِّنةُ"؛ فإنَّ الوَضعَ حينَئذٍ يَنقَلِبُ رأْسًا على عَقِبٍ، بل تَتَزَيَّنُ المَعصيةُ في القَلبِ، ويَستَميتُ في الدِّفاعِ عنها، ويُسبِلُ عليها المَحاسِنَ والمَزايا؛ حتى يَنقَلِبَ المَعروفُ مُنكَرًا، والمُنكَرُ مَعروفًا!
 

واللهُ يقولُ الحقَّ وهو يَهدي السَّبيلَ.