قراءة ونقد

ما بعدَ السَّلفية - قِراءة نقديَّة للخِطاب السَّلفي المعاصِر
book
أحمد سالم - عمرو بسيوني
عنوان الكتاب: ما بعدَ السَّلفية - قِراءة نقديَّة للخِطاب السَّلفي المعاصِر
اسم المؤلف: أحمد سالم - عمرو بسيوني
الناشر: مركز نماء للبحوث والدراسات
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 2015م
عدد الصفحات: 696
عرض ونقد: القِسم العِلمي بمؤسَّسة الدُّرر السَّنية

"ما بعدَ السَّلفيَّة" إلَّا الضَّلالُ!


تمهيدٌ
كِتابُ هذا الشَّهرِ لكاتبَينِ ومؤلِّفَينِ شابَّينِ، يُحسبانِ على المنهجِ السَّلفيِّ في الجُملة، كما يُشهدُ لهما بسَعةِ الاطِّلاع، والدَّأَبِ في القِراءة وطلبِ العِلم، ولهما اهتمامٌ بالجانب الفلسفيِّ والفِكريِّ والنقديِّ، وقد صدَر هذا الكتاب في هذه الآونةِ العصيبةِ من تاريخ الأمَّة، ولاقَى انتشارًا واسعًا منذُ صدوره في هذا العام 1436ه- 2015م، وسبَّب لغطًا وجدلًا كبيرينِ.
والكتابُ مع ما فيه مِن سَرْدٍ ماتعٍ لتأريخِ المنهجِ السَّلفيِّ، وفوائدَ جمَّةٍ، إلَّا أنَّه بعدَ قِراءته بتأنٍّ يتَّضح أنَّ فيه بعضَ الأخطاءِ العِلميَّة والمنهجيَّة وبعضَ التقريراتِ الخَطيرة أيضًا، التي لا يَسعُ السُّكوتُ عنها. ومنذُ صدورِ الكتابِ تَعدَّدتِ التعليقاتُ عليه، ما بَينَ مُغالٍ في مَدْحِه، ومُفرِط في ذَمِّه، ومُتوسِّط معتدِل.
وفي هذا العرضِ والنقد؛ نشيرُ إلى أهمِّ تلك الأخطاءِ والتقريراتِ الخَطيرةِ التي وقَعَ فيها المؤلِّفان، بما يتناسب مع المقام، فليس الهدفُ مِن هذه الزاوية (كتاب الشَّهر- عَرْض ونقْد) تقديمَ دِراسةٍ عِلميَّةٍ نقديَّة وافية للكتاب، ولا تتبُّعَ كلِّ ما ورَدَ فيه، أو التَّفصيلَ في النقْد- كما يَفعل مَن يقومُ بدراسةٍ نقديَّة لكتابٍ في بحثٍ أو مقال- وإنَّما الهدفُ مِن هذا العرضِ والنقدِ هو بيانُ رَأيٍ مُجمَلٍ في الكتابِ مع بيانِ ما للكتابِ وما عليه على سبيلِ الإجمال الذي يُناسِبُ هدفَ هذه الصَّفحة؛ وذلك لرَسْمِ الخُطوط العريضةِ للنقد، ولتنبيهِ القارئ على بعضِ ما في الكتابِ مِن مآخذ وتوضيحِها؛ ليحذرَ منها، ومن أمثالِها.

أولًا: عرضُ الكتاب
تألَّف الكِتابُ من مقدِّمة، وبعضِ إضاءات، ومفاتيحِ، وسَبعةِ فصول:
شرَحَا في المقدِّمة معنى السَّلفيَّة والمقصود بها، والمقصود بـــ (الما بعد)، والإضاءات عبارة عن صَفحةٍ فيها نصوصٌ ونقولاتٌ في النَّقل عن الصَّحابةِ وضرورةِ الأخْذِ عنهم مع الْتزامِ فَهمِهم، والمفاتيح كانتْ عبارةً عن كلماتٍ لعددٍ من الكتَّاب والمفكِّرين، فبدآ بكلمة لابن عُثيمين، ثم المسيري، ثم بول ريكور، ثم جان بودريار!

والفصل الأوَّل: كان عن السَّلفيَّة: المصطلح والمفهوم، فبيَّن المؤلِّفانِ مُصطلحَ السَّلفيَّة ومفهومَه، مع ذِكر أصول هذا المنهج، وهي: التوحيد، والاتباع، والتزكية، وتعداد قواعد المنهج وخصائصه أيضًا، وذِكْر عددٍ من الاختيارات الفقهيَّة التي صاغتْ هُويَّةً ثقافيَّة للسلفيِّين-بحسب المؤلِّفَينِ-، مثل: تغطية وجْه المرأة، وتقصير الثِّياب للرِّجال، وتحريم حَلْقِ اللِّحية، وتحريم الموسيقا. وتحدَّثَا عن السَّلفيَّة المعاصرة بين صِحَّة النَّسب وكَذِبه، وما يُسمَّى بـ(جدل النِّسبة)، وعن فَهم السَّلف، وعن مفهومِ الفِرقة الناجية، ثمَّ عن تصنيفات السَّلفيَّة المعاصِرة.

والفصل الثَّاني: كان عن تطوُّر السَّلفيَّة، وفيه تحدَّثَا عن ما أَسمياه بالتحقُّقات التاريخيَّة للسلفيَّة لجماعاتٍ وأفراد حاولوا الْتزامَ هذا المنهجِ السَّلفيِّ، منذُ الصَّحابة وإلى الآن، فتحدَّثَا عن القرونِ الثَّلاثة المفضَّلة (جيل الصَّحابة، والتابعين، وتابعي التابعين)، ثم فصَّلَا الحديثَ عن الجيل الرَّابع وبَدْء تأسيسِ مِعمار العقائِد السَّلفيَّة- وعَنَيَا به الجيلَ الذي أخَذَ عن القرون المفضَّلة وعاصَر اكتمالَ تشكُّل مُعظمِ الفِرق البِدعيَّة- كجيل الشافعيِّ وأحمد والثوريِّ وابن عُيينة والدارميِّ والبخاريِّ وغيرهم، وعرَضَا للسلفيَّة بينَ الجِيل الرَّابع وابن تَيميَّة، وفصَّلَا في الكلام عن ابن تيميَّة وأصحابِه ومدَى صِدقِ تمثيلِ ابنِ تيميَّة للمنهجِ السَّلفيِّ، ثم عن الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهاب والدَّعوة النجديَّة ومدى صِدق تمثيلِها للمنهجِ السَّلفيِّ، وختمَا هذا الفصلَ بالحديثِ عن السَّلفيَّةِ بين حِقبتَين، وهو عن الوهابيَّة في الدولةِ السعوديَّة الثانية، وعدَّدَا فيه المتأثِّرين بالدعوةِ بحسَبِ تفاوُتِ ذلك التأثيرِ.

وفي الفصل الثَّالث: تحدَّثا عن السَّلفيَّة المعاصِرة، من حيثُ عواملُ النشأةِ والازدهارِ وظروفُهما، فذكرَا موجزَ تطوُّر السَّلفيَّة المعاصرة، وذكرَا عددًا من الدُّول كالسُّودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب... وغيرها، وآسيا وأوربا. وتحدَّثَا عن الدولة السعوديَّة الثَّالثة التي وَصَفَاها بأنَّها منصَّةُ إطلاق السَّلفيَّة المعاصرة. ثم تناولَا بالحديثِ التلقِّي المصري للسلفيَّة قَبلَ الصَّحوة، وعَلاقة صاحب المنارِ رشيد رضا بالدَّعوة الوهابيَّة -كما يُسمُّونها- وجمعيَّة أنصار السُّنة المحمديَّة التي أنشأها محمَّد حامد فِقي، الذي تَبنَّى أفكارَ ابن تيميَّة وابن القيِّم وابنِ عبد الوهَّاب، وأنَّ هذه الجمعيةَ بمنزلةِ الرَّابطة للسلفيِّين، وتناولَا كذلك الإخوان المسلمين وحرَكة الضُّبَّاط الأحرار. ثم تحدَّثَا عن جِيل الصَّحوة، وازدهار السَّلفيَّة، وسَردَا فيه بعضَ العواملِ التي أثَّرتْ في ازدهارِ السَّلفيَّة، وما كان بين السَّلفيَّة والإخوان، ثمَّ ما حصَل من الظُّهور الكبيرِ للسلفيِّين مع الربيع العربيِّ، وتنظيم صُفوفِهم، وزعَمَا أنَّ هذه الصحوةَ التي تَسبِقُ الأفولَ بسببِ توالي الضرباتِ والانشقاقاتِ والتحوُّلات على السَّلفيَّة.

أمَّا الفصل الرَّابع: فكان عبارةً عن قِراءةٍ في ما أَسْمَوْه الاشتغالَ المعرفيَّ للسلفيَّة، فتكلَّما عن الاشتغالِ السَّلفيِّ الحديثيِّ، والاشتغالِ الأُصوليِّ، وكذا الاشتغال الفِقهي، وعلوم العربيَّة، والعلومِ الإنسانيَّة، مُظهرين -بحسب رأيهما- الفقرَ أو القصورَ المعرفيَّ في هذه العلومِ باستثناءِ الاشتغال الحديثي!

والفصل الخامس: كان للحديثِ عن السَّلفيَّة ومُعضلة الإصلاح، فتحدَّثَا عن الإصلاحِ السِّياسي عندَ السَّلفيَّة، وعن السَّلفيَّة والعمل المسلَّح، والسَّلفيَّة والعملِ الثَّوريِّ، ثم تحدَّثَا عن الإصلاح الثَّقافيِّ عند السَّلفيَّة، وعن علاقة السَّلفيِّين بالمجتمع.

وكان الفصل السَّادس: للكلام عن السَّلفيَّة المعاصِرة وعوامِل الأفول برأيهما ، موضِّحَينِ أنَّهما لا يَعنيان بالأفولِ الموتَ أو والفناءَ، وإنَّما يقصدانِ بالأفول: التَّشظي المرجعي والنَّسقي، وضِيقَ الانتشار، وقِلَّةَ الأنصارِ، وأنَّ فُقدان الرموزِ أهمُّ معالمِ هذا الأفولِ. وسردَا عواملَ هذا الأفولِ، فتكلَّمَا عن داءِ التفرُّقِ، مُبيِّنَينِ خُطورتَه، وعن فُقدان الأجوبةِ لصلاحية السَّلفيَّة أو جاذبيتها. ثم تَكلَّما عن ما أَسْمياهُ (الفقر الرمزي)، ويَعنيانِ به فُقدانَ الأشخاص والرموز المؤثِّرين بعدَ موتِ الشُّيوخ الثلاثة (ابن باز، والألباني، وابن عثيمين) رحمهم الله تعالى. ثمَّ تَكلَّما عن قَنواتِ الدَّعم وعوائقِ التدفُّق، وعن تحوُّلات السُّلطة.

والفصل السَّابع والأخير: خصَّصاه للحديثِ عن (ما بعدَ السَّلفيَّة)، وهو الفصلُ الذي حمَل الكتابُ عنوانَه؛ مُحاولةً منهما لاستشرافِ ما بعدَ أفولِ السَّلفيَّة بزعمِهما، ومَن البديلُ الذي سيَشْغَلُ المساحةَ وسيحلُّ محلَّ السَّلفيَّة؟ وإلى أين ستذهب السَّلفيَّةُ، وما سيناريوهاتُ مستقبلِ الأفول -حسب تعبيرهما-؟ وللجواب عن هذين السُّؤالين ذكرَا نُقطتين؛ الأولى: المركَز بين الوَحدة والتشظِّي، وتحدَّثَا فيها عن: الاتِّجاه الأشعريِّ بطابعِه التراثيِّ الكلاميِّ الصُّوفيِّ، وعن اتِّجاهات الفِعل السياسيِّ والاتجاهات التنويريَّة الإصلاحيَّة. والنقطة الثانية: السَّلفيَّة ومساراتِ زمَن الأفول، وعرضَا أربعَ مساراتٍ يَريانِها بعدَ ذلك.

ثانيًا: نقْد الكتاب
وقَع الكاتبانِ في حُزْمةٍ من الأخطاءِ المنهجيَّة، وسنتناول نقْدَ الكتابِ من خلال سِتَّة مآخِذِ فقط، ونُدلِّل عليها:
1. التعريضُ بكِبار الأئمَّة والعلماءِ.
2. التَّشنيعُ على السَّلفيَّة والسَّلفيِّين.
3. التشنيعُ على مَنهجِ الشيخِ محمَّد بن عبدالوهاب وأتْباعه.
4. أخطاءٌ في مَسائلَ عقديَّة.
5. إثارةُ مسائلَ فقهيَّة خِلافيَّة وخلْطُها بمسائلَ كِبارٍ.
6. الجَهلُ بالواقِع السُّعوديِّ.

ولكن قبلَ البَدءِ لا بدَّ مِن الإشارة إلى عددٍ مِن القضايا:
1- كنَّا نسمعُ في عددٍ من المجالسِ الخاصَّة والمنتديات العامَّة، وبعضِ الأطروحات النَّقديَّة، وخاصَّة في السنواتِ الأخيرةِ مَن يُطالب بمراجعةِ الخِطاب السَّلفيِّ، وتجديدِ الخِطاب السَّلفيِّ، وحاجة الخطاب السَّلفيِّ للنقد، وأنَّه غيرُ صالحٍ لهذا الزمنِ، وقد ظهرتْ على وجهِه تجاعيدُ الهرَم. ونحن نقول: المراجعةُ مطلوبةٌ، والتجديدُ مفيدٌ، والنقدُ ضروريٌّ، لكن ما كنَّا نتوقَّع أنْ تكونَ نتيجةُ هذه المطالبةِ أنْ يَصدُر كتابٌ يُبشِّر بأفولِ السَّلفيَّة، وعنوانه: (ما بعد السَّلفية - قِراءة نقديَّة في الخِطاب السَّلفي المعاصر)؛ فالقِراءة النقديَّة مقبولةٌ، لكنَّ القِراءةَ الهدميَّة بحاجةٍ إلى قِراءة نقديَّة هي الأخرى!

2- لمْ يُوفَّق الكاتبانِ في اختيارِ عنوانِ الكتابِ؛ فمُصطلح (الما بعد) مُصطلحٌ حداثيٌّ دخيلٌ لا يمتُّ للمنهجِ السَّلفيِّ بصلةٍ، وما كان يَنبغي لهما أن يُخضعَا الحديثَ عن السَّلفيَّة لمِثْل هذه المصطلحاتِ العصريَّة الشائِكة التي لها مُكوِّناتها المعرفيَّة الخاصَّة، لكنَّ تأثُّرَ الكاتبَينِ بالكُتَّابِ الغربيِّين وبالأسلوبِ الحداثيِّ الفلسفيِّ أدَّى بهما إلى اختيارِ مِثل هذا العنوان.
ولا أدلَّ على هذا التأثُّرِ مِن كثرةِ النَّقلِ والإشارةِ إلى هؤلاء الكتَّاب من أمثال: هنتر، وكاستوري سين، وتيم موريس، وبول ريكور، وجان بودريار، و(أوليفيه رواه صاحب أطروحة: ما بعد الإسلاموية) وغيرهم.
واستخدامِ عِباراتهم وتَكرارها مرارًا في الكتاب مِن مثل: البراجماتية، الإبستمولوجية، الأيديولوجية، الراديكالية، و(التفاحة المحرَّمة Forbidden Apple تفاحة آدَم، وهي أسطورةٌ يهوديَّة) وغيرها.
ومن النُّصوصِ التي تُوضِّح بجِلاءٍ تأثُّرَهما بكتابةِ الغربيِّين وتسرُّبَ أطروحاتِهم إلى فِكرهما، قولُهما (ص496): (عندما طرَح بعضُ الغربيين مِن دارسي الحركة الإسلاميَّة فِكرة ما بعدَ الإسلاموية = قصَد بها باختصارٍ: أنَّ التيارات الإسلاميَّة غير العنفية، ستندمِج أكثرَ في العملية السِّياسيَّة؛ ممَّا يؤدِّي لتنامي جيل بدأ في الظُّهور بالفِعل، وهذا الجيل يَتخلَّى شيئًا فشيئًا عن المكوِّنات الصُّلبة داخل الإسلاموية؛ سعيًا نحو اندماج أكثرَ في الحداثة، سواء بعد أسلمة هذه الحداثة، أو حتى بعد تنحيةِ فِكرة وجوبِ الأسلمة جانبًا، والقبول بمعاني! أكثرَ اتِّساعًا لفصلِ المُقدَّس الدِّيني عن الممارسةِ السياسيَّة، سواء كان هذا الفصلُ اعتقادًا، أو نوعًا من البراجماتيَّة طويلة المدى.
كانتْ هذه الفكرةُ جذَّابة، وصار الواقع يَحشُد بنفسِه أدلَّةَ صِدقها، خاصَّة مع تأمُّل المسار الذي سارتْ فيه حركةُ النهضة بتونس، ثم حدَثت التطوُّراتُ الأخيرة في مصر، والتي أدَّت لنوع من اهتزازِ الصورة يصعُب معه تحديدُ ما ستؤول إليه)، فالكاتبُ الغربيُّ صاحب فِكرة (ما بعدَ الإسلاموية) الذي نَعَتاهُ بدارسٍ للحركة الإسلاميَّة بَشَّر في كتابه (بأُفول التيَّارات الإسلاميَّة) واندماجِها في الحداثة، وصاحبَا كتابِ (ما بعد السَّلفية) بشَّرا (بأفول التيَّارات السَّلفية) واقترابها مِن الاتجاهاتِ الإصلاحيَّة التنويريَّة!

3- وصْفُ الكاتبَينِ (ص11) أنفسَهما أنَّهما بمثابةِ مُؤرِّخَينِ ومحلِّلَينِ للأفكار لا يُعفيهما من تبِعات ما في هذا الكتابِ من أخطاءٍ منهجيَّة ومُجازفات عِلميَّة، وتقريراتٍ خاطِئة، وغير ذلِك من المآخِذ؛ لأنَّهما لم يَلتزمَا بهذا؛ فأحيانًا يَتناولانِ بعضَ المسائل تناولًا فقهيًّا، ترجيحًا وتقويةً وتضعيفًا، وهذه ليستْ مَهمَّة مؤرِّخ الأفكار. ثمَّ إنَّ مِن أهمِّ صِفات مؤرِّخِ الأفكارِ العدلَ والإنصافَ، ومحاولةَ ذِكر الإيجابيَّات والسلبيَّات، والدوافِع والظروفِ المحيطةِ بالواقِع، وهو ما لم يُلحَظْ بالصورةِ الكافيةِ في الكتاب؛ فقدْ أعطى الكِتابُ تصوُّرًا سلبيًّا جدًّا عن الاتِّجاه السَّلفيِّ المعاصِر، فضلًا عن الاتِّجاهِ السَّلفيِّ في كثيرٍ مِن أطوارِه، كزَمَنِ الإمام أحمدَ وما بَعدَه إلى ابنِ تيميَّة، وما بعدَ ابن تيميَّة إلى ابن عبد الوهَّاب، وما بَعدَ ابن عبد الوهَّاب إلى ازدهار السَّلفيَّة المعاصِرة! وستأتي بعضُ الأمثلةِ على ذلك، وغفَل أو تغافَل عن الظُّروفِ والتحدياتِ التي تُواجهه خاصَّةً في بعضِ البلدان كمِصر.

4- أشار الكاتبانِ (ص15) إلى مَسؤوليتِهما المشترَكة عن كلِّ ما في الكِتاب، ونحن نُلقي العَتْبَ كذلك على إخوانِنا في مركز نماء؛ لأنَّهم يَتحمَّلون جزءًا من هذه المسؤوليَّة؛ فالمراكزُ البحثيَّة التي لها هدفٌ ورسالةٌ في المجال الفكريِّ والثقافيِّ -أو هكذا يَنبغي أن يكونوا- كمركز نماء وغيرِه، عليهم تَوخِّي الحذرِ فيما يَنشُرونه؛ كي يُسهِموا في البِناء والنَّماء.

5- هذا الكتابُ بُني على أساسِ أنَّ السَّلفيَّة آيلةٌ إلى الأفول، وهذه أطروحتُه، ويُلاحِظ القارئُ للكتابِ أنَّ هذه الفكرةَ كانتْ مُسيطرةً ومستصحبةً لدَى الكاتبَينِ مِن أوَّل الكتابِ إلى آخِرِه؛ فقد نصَّا (ص199) على أنَّ أفول السَّلفيَّة تفترضُه أطروحةُ هذا الكتاب، وأكَّدَا ذلك (ص432).

وثمَّةَ عدة أسئلةٍ أو استشكالات تَطرَحُ نفسَها على قارئِ الكتابِ والمتأمِّل فيه:
- هل أُطروحةُ الكتاب أصلًا هي منهجٌ سديد؟ وهل هي مُوافقةٌ للمنهج النبويِّ في مِثلِ هذه الأمور؟
- هل المؤلِّفانِ يَعتقدانِ صوابَ السَّلفيَّة كمنهج؟! وما موقعُهما من السَّلفيَّة بالتَّحديدِ؛ هل هما من الخُصومِ لها، أم الموافِقين كما نَحسبُهما؟ وهل تصوُّرهما عن المنتسبِين إليه تصورٌ صحيحٌ؟
- ماذا قَصدَا بكتابِهما هذا؟
- ألَيْسَ الأَوْلى من ذلك هو النُّصحُ وتلمُّس مواطِن الخلل، والدَّعوة لإصلاحها بالحِكمة بدَلَ التَّصنيف بهذه الطَّريقة، التي نَحسبُها تَصنيفًا كلاميًّا فلسفيَّا من نوعٍ جديد؟
- لو تحدَّثا عن أفولِ تحقُّقٍ مُعيَّن للسَّلفية –كما يُعبِّران- في بعضِ الجِهات أو البُلدان، أو شكلٍ خاصٍّ منها لكان أوسعَ لعُذرهما، ولكنَّ الكاتبين يَتحدَّثانِ عن أُفولِ السَّلفيَّة الفِكرة والمنهَج. وهو أمرٌ لا يَقضي منه العجَبُ مِن سلفيٍّ يَفهمُ معنى السَّلفيَّة!

6- لا يُعفي الكاتبَينِ مِن مَسؤوليتِهما عن التَّعميمِ الجائرِ الذي مارَساهُ ضدَّ السَّلفيِّين بعامَّةٍ قولُهم (ص14): (غرَضُنا مِن معظمِ صِيغ التعميم في الكتاب هو التعبيرُ عن نمطٍ سائدٍ منتشر داخلَ السَّلفيَّة، وإنْ لم يكن مُستغرقًا للسلفيَّة ولا حتى غالبًا، لكنَّه يبقى من الكثرة بحيث يجوزُ في العربية أن يُعبَّر عنه بلا استعمالٍ لعبارات الاستثناء؛ فإنَّ التعميم لا يُساوي الاستغراق، التعميم إشارةٌ إلى الكثير السائد، سواء كان مستغرقًا أم لا).
لأنَّ التعميمَ المستعمَلَ في الكِتابِ هو تعميمُ أحكامٍ، وتعميمُ تصوُّراتٍ معيَّنة على أفرادٍ وجماعاتٍ مَعروفين، ويَنسحِبُ على مَن يُشابههم، ومِن هذه الحيثيَّة لا يجوزُ التعميمُ في الحُكم والتصوُّر؛ لأنَّه يُؤدِّي إلى الظُّلم في الحُكم، والخطأِ في التصوُّر كذلك، خُصوصًا إذا لم يَظهرْ قصدُ التَّخصيصِ والاستثناءِ، أو لم يَكُن التخصيصُ مَعلومًا بداهةً. وأيضًا فإنَّهما يُنازعانِ في أنَّ هذا التَّعميمَ قدْ طبَّقاه على (الكثير السَّائد)؛ إذ بعضُ التصوُّرات التي ذَكرَاها ليستْ مِن هذا القَبيلِ، كما هو الشأنُ في تَصرُّفات حِزب النُّور المصري، التي أنْكَرها عليهم أوَّلَ مَن أنكرها السَّلفيُّون أنفسُهم، وبعضُهم كانوا من الحِزب نفْسِه! وليس حزْبُ النور- بطبيعةِ الحال وواقعِه- من (الكثير السَّائد) في مِصر، فضلًا عن أنْ يكونَ الكثيرَ السَّائد في واقِع السَّلفيَّة في السعودية وبقيَّة الدُّول.

7- تأثُّرُ الكاتبَينِ بالواقعِ المصريِّ والسعوديِّ -الذي كان مُحبِطًا للإسلاميِّين عامَّةً- أثناء كتابتِهما للكتاب كان واضحًا جدًّا على صَفحاتِ الكتاب، وطاغيًا على الفكرة، ولو كانت الكتابةُ في الفترةِ الماضية القريبةِ للحُكم المصريِّ أو الفترة الحالية في الحُكم السعوديِّ، لربَّما كانتْ نظرتُهما ونتيجةُ كتابتِهما مختلفةً، ولأثَّرتْ في أُطروحة قارئ الأفكار، وما هكذا تُقرأ الأفكارُ، وتُرصَد مسيراتُ الدَّعوات.
8- ثَمَّةَ دلالاتٌ عديدةٌ في الكتابِ تدلُّ على العَجلةِ في طَبْع الكتابِ وإخراجِه، دون التَّحريرِ اللَّائِق بمِثل موضوعِه وبِمثل مؤلِّفَيهِ، كالأقوالِ غيرِ المحرَّرة، والقُصورِ في التصوُّرِ والحصرِ لبعضِ الصُّورِ وفي ذِكرِ بعضِ الأعلامِ، أو ذِكرِ ما غيرُه أَوْلَى منه، وإلقاءِ الأحكامِ التي ليس عليها أدلَّةٌ ولا أمثلةٌ من الواقِع، حتَّى كثْرة الأخطاءِ النحويَّة والإملائيَّة والفنيَّة التي لا تُخطِئها عينُ القارئ!
وكان حريًّا بمَن يُريد أن يُخرج مِثلَ هذا الكتابِ ومِثل هذا الطرحِ أنْ يَطويَه لياليَ وأيَّامًا، بل شُهورًا وأعوامًا، قَبلَ أن يَطرَح ما فيه؛ فالتهيُّبُ فيما هو دون ذلك كان سَمْتَ العلماءِ ودأبَهم، وتأخيرُ التَّصنيف، وتأخيرُ إبرازِ بعض الكتُب، ومشاورةُ أهل العِلم- كان من مَنهجِ كثيرٍ مِن أكابرِهم.
فإذا وَقعتِ الأخطاءُ في الإملاءِ والنَّحوِ- وهو أيسرُ ما يُمكن تداركُه- فأخطاءُ استعجالِ النَّظرِ في الفِكرِ والأحكامِ- وهي أدقُّ وأخْفَى- مِن باب أَوْلى.

المآخِذُ على الكِتاب:
المأخذُ الأوَّل: التعريضُ بكِبار الأئمَّة والعُلماء
يَكفي العُقلاءَ أنْ تَنقُلَ لهم الكلامَ الخاطئَ دون الإشارةِ إلى موطنِ الخللِ؛ لظُهوره للعِيان، وهذه بعضُ النقولاتِ من الكِتاب، التي يَصدُق عليها هذا الأمرُ:
1- التَّعريض بالإمامِ أحمدَ واتِّهامه بالبغيِ.
ذَكرَا (ص95) ما جرَى بينَ الإمامِ أحمدَ وبين خُصومِه القائِلين: (لَفْظي بالقرآن مخلوقٌ)، ومنهم الكرابيسي، ثمَّ قالَا: (وقد قادَ هذا البغيُ إلى بغيٍ واسعٍ بعدَ وفاة أحمد رحمه الله حتى صارتِ المسألةُ مسألةَ محنة وفتنة بين القائلين باللفظ ومخالفيهم)!

2- المبالغةُ في وَصْفِ الحنابلةِ بالشِّدَّة على المخالِفين، ونقْلُ تكفيرِ بعضِ الحنابلةِ للأشعريَّة، مع عدمِ نقْل تكفيرِ الأشعريَّة لخُصومِهم.
ومن ذلك قولُهما (ص105): (فقد تكتَّل المنتسبون للحديث من الحنابلة ومَن يُوافقهم، ولم يكونوا يَقبلون أيَّةَ مخالفةٍ- ولو جُزئيَّة- في المسائل التي يُقرِّرون أنَّها السُّنَّة، مهما عظُم قدْرُ ذلك المخالِف، وما يَستدلُّ به مِن أدلَّة، ومهما كان موافقًا لأهل الحديث في مَشربِهم العامِّ في العقيدة والفقه)!
وقولهما (ص138): (لقد دارتِ الدورةُ من بعدِ اضطهاد أحمد، ثم ارتفاع الظُّلم عنه في مُدَّة الواثق، وانكماش الحنابلة بعدَه، ثم استطالتِهم على مُخالفيهم في الاعتقاد، صغيرة، كالطبري، وكبيرة كالأشاعرة وغيرهم، وحتَّى في الفقهيَّات، ثم انتهى الدَّورُ إلى سطوة الأشاعرةِ والمتكلِّمين، وانزواء الحنابلة)!
وفي (ص153 وما بعدَها) أطالَا الكلامَ جدًّا حول بغي الحنابلةِ على الأشعريَّة وتَكفيرِهم لهم، ونقلَا كلامًا لعالِمٍ حَنبليٍّ وصَفَاه بأنَّه (حنبلي مقدسي مغمور، وهو المشهورُ بابن الحنبلي)؛ فهل من العدلِ يا مُؤرِّخَ الأفكار أن تَنقُلَ تكفيرَ حنبليٍّ مغمورٍ للأشاعرةِ وتُحمِّلَ المنتسبين للحديثِ من الحَنابلةِ ومَن يُوافقهم تَبعاتِ كلامِه، ولا تَنقُل تكفيرَ الأشاعرةِ والمعتزلةِ للحنابلة، وبغيَهم عليهم؟! وكلُّ عارفٍ بالسِّياقِ التاريخيِّ يَعرِف وفرةَ ذلك، والكوائِنَ التي جرَتْ بسببِه.
ثمَّ إنَّه قد ذُكر في تراجِم الحنابلةِ منذُ الإمامِ أحمد إلى ابنِ تيميَّة قريبٌ من 1700 عالم أو يزيد- بحسَب ما أوردَه العلَّامةُ بكر أبو زيد في كتابه ((علماء الحنابلة))، وأغلبُهم سلفيُّون كما هو معلومٌ؛ فهل لمْ يَجِد المؤلِّفانِ من الحنابلةِ- مِن الجيل الرَّابع إلى ابنِ تيميَّة- إلَّا مَن ذَكرَا ليؤرِّخاهُ ويَنسُباهُ إلى الحنابلة؟! وهل هذا يليقُ بمؤرِّخ الأفكار؟! وهل هكذا تُقرأ الأفكارُ ويُستقرأ التاريخُ؟!

3- التعريضِ بابن تيميَّة.
ذكرَا (ص47) في مسألةِ صورة الرَّحمن أنَّ ابنَ تيميَّة انتصَرَ لأحمدَ على ابنِ خُزيمة، وأنَّ مِن طُرقِه في تغليطه لابنِ خُزيمة مجرَّد مخالفتِه لأحمد! 


4- الزَّعمُ بأنَّ ابنَ تيميَّة يُمارِسُ سطوةً مذهبيَّة.
قالا (ص163): (فابن تيميَّة يَنقُل بعض الآراء عن السَّلف، ويُسلِّط عليها منظارًا تأويليًّا معينًا، يوافق الخلاصات السَّلفية أيضًا، التي توصَّل إليها في نفْس الباب، وفي بعض تلك الحالات يمارس ابنُ تيمية سطوةً مذهبية أحيانًا، فيما يتعلَّق بالمذهب الحنبلي بخاصة)!

5- تعرضُهما لابن باز في رُدودِه على الخُصوم.
رغْمَ اعترافهما بعِفَّة لِسانِه رحمه الله بقولهما (ص305): (وهو من أعفِّ رموز السَّلفيَّة المعاصرة لسانًا)، إلَّا أنَّه لم يَسلمْ مِن مِنقاش مؤرِّخِ الأفكار؛ لعلَّه يظفرُ بكلمةٍ خادشة منه، وفعلًا ظَفِر بقولٍ للشيخ عن ابن حزم في قولِه في المعازف، وأنَّه: (ممَّن تابَع الهوى وحادَ عن طريق الحقِّ) فعقَّبَا بعد ذلك: (ومِثل هذا إذا قيل في ابن حزم = يَسهُل بعدها أن نتصوَّر ما يمكن أن يُقال فيمَن يقول بقوله من المعاصِرين ممَّن هو أقلُّ هيبةً وحرمةً عند الناس من مِثل ابن حزم)، فهل بهذه الطريقة، وبهذا المعيارِ يُحكمُ على رُموزِ السَّلفيَّة وعُلمائِها ومَنهجِهم؟!
وحتَّى -لو سَلَّمنا جدلًا- أنَّ ابنَ باز أخطأَ في هذا؛ فهلْ لم يَجِدَا له إلَّا هذه الكلمةَ، ولم يَعثُرَا على كلامِه عن ابنِ حزم- كما في فتاوى اللَّجنة الدَّائمة- وأنَّه: (مِن العلماء المبرَّزين في الأصول، والفروع، وفي عِلم الكِتاب والسُّنة، إلَّا أنَّه خالَفَ جمهورَ أهل العِلم في مسائلَ كثيرةٍ أخطأ فيها الصَّواب؛ لجُمودِه على الظاهِر، وعدَم قولِه بالقياس الجليِّ المستوفِي للشُّروط المعتبَرة، وخَطؤه في العقيدةِ بتأويل نصوصِ الأسماء والصِّفات أشدُّ وأعظم). ثمَّ لقائل أنْ يقول: هذه العبارة لابن باز رحمه الله تعالى مِن الشِّدَّة المحمودةِ في مَوضعِها؛ خُصوصًا أنَّه لم يَقُلْ هذه الكلمةَ عن ابنِ حزمٍ وحْدَه صَراحةً هكذا كما تُوهِم عبارةُ المؤلِّفَينِ، بل إنَّ كلامَه كان عن مُبيحِي المعازفِ كابنِ حزمٍ وأبي تُرابٍ الظاهريِّ، وذلك عندَ تقديمِ الشَّيخ لكتابِ الشيخ حمود التويجري "فصْل الخِطاب في الرد على أبي تراب" قال عنها: (... رسالة نفيسة ضمَّنها الردَّ على أبي محمَّد ابن حزمٍ الظاهريِّ ومُقلِّده في إباحةِ المعازف والغناء- أبي تراب- وعلى أشكالِهما وأضرابِهما ممَّن تابَعَ الهوى وحادَ عن طريقِ الحقِّ في هذه المسألةِ العظيمةِ...)، فكأنَّا بالكاتبينِ قلَّبَا صفحاتِ كتُب ابن باز، ولم يجِدَا له إلَّا هذه العبارة!
- كما لم يَسْلَمْ ابنُ باز أيضًا من طَعنِهما في فِقهِه وأنَّه سطحيٌّ وغير متعمِّق في تَرجيحِه، كما في (ص371) حيثُ زعمَا أنَّه يَغلِبُ عليه (الطابعُ المحافظ، والترجيحُ في إطار الأدلَّة القريبة).

المأخذ الثاني: التشنيعُ على السَّلفيَّة والسَّلفيِّين والاستطالة عليهم
1- اتِّهام طائفةٍ من أهل الحديثِ بأنَّهم ادَّعوا لأنفسِهم وراثةَ الجِيل السَّلفيِّ الأوَّل.
حيثُ قالا (ص90): (والناظرُ في كتُب العقائد السَّلفيَّة المسندة يجِد أنَّ هذا الجيلَ وأعلامه: الشافعي وأحمد والثوري وابن عيينة وعبد الرحمن بن مهدي والرَّازيَّينِ والدارمي والبخاري والحميدي وإسحاق بن راهويه ونُظراءَهم= هم أصحابُ الحضورِ الأكبر في المدوَّنة السَّلفية الأثريَّة، وهم المعنيُّون أصالةً إذا قيل: أهل الحديث، وهم الذين ادَّعوا لأنفسهم وراثةَ الجيل السَّلفيِّ الأول: الصحابة والقرون المفضَّلة التي تلتْهم)! هل هؤلاء ادَّعوا لأنفسهم وراثةَ الجيل السَّلفي الأوَّل، أم أنَّ هذه حقيقةٌ ثابتة أجمعتْ عليها الأمَّةُ إلَّا مَن شذَّ مِن أصحابِ الأهواء؟!

2- السَّلفيُّون ظاهريُّون لا يُفرِّقون بين القول بالدليل والأخْذِ بظاهر الحديث.
قالَا (ص356): (السَّلفية تتصوَّر مجرد الأخْذ بظواهر الأحاديث الصَّحيحة هو القول بالدَّليل، دون تصوُّرٍ لحدودِ المفارقةِ بين ما يتبادر لهم وبين مُراد الله من النصِّ) فلا نَدري عن أيِّ سلفية يتحدَّثانِ؟! وقد ملأ السَّلفيُّون المكتبةَ الإسلاميَّة بكتُب الفِقه المذهبيِّ مع الاعتناء بالدَّليل، نعمْ هناك سلفيُّون ظاهريُّون، لكنَّهم قليلون، كما أنَّ هناك مُقلِّدين جامِدين مِن غيرِ السَّلفيِّين؛ فهذا التعميمُ المطلَق ظُلمٌ وجورٌ على السَّلفيَّة.
واتِّهام السَّلفيِّين بالظاهريَّة المذمومةِ تَكرَّر في الكتاب أكثرَ مِن مرَّة؛ مِن ذلك قولهما (ص361): (إنَّ الاشتغالَ السَّلفي المعاصر: تشيعُ فيه نزعةٌ ظاهريَّة، بمعنى: اعتماد المتبادر لأوَّل وهلةٍ من الحديث، أو الآية، واعتماده، ومقابلة كلِّ دليل أو اجتهاد يخالفه بأنَّه مخالف للسُّنة، ومِن ثمَّ فيجب اطراحه، إمَّا بأن يكون ضعيفًا في الثبوت، أو أنَّ القول به هو تأويلٌ يخالف الانقيادَ للدليل الشرعي).

3- السَّلفيُّون تنقصُهم آلةُ الاجتهادِ ولا يهتمُّون بالأصول، ولا اللُّغة العربيَّة، ولا الأدب.
قالا (ص357): (السَّلفيُّون لا يُولُون اهتمامًا كافيًا بالأصول، ولا العربية، ولا التفسير، مع ضَعْفٍ عامٍّ في الاطلاع، بما في ذلك على أقوال السَّلف السابقين؛ لإثباتِ الخلافِ والإجماع، ومِن ثَمَّ فإنَّ السَّلفية تبنَّتْ دعوةً دون امتلاكِ آلاتها)، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ويُسْأَلُونَ}! كتاباتُ ومؤلَّفات ورسائِل السَّلفيِّين الجامعيَّة الصادرة من السُّعودية فقط مَلأَتْ مكتباتِ الدُّنيا في الأصولِ، والعربيَّة، والتَّفسير خاصَّة، ومؤرِّخَا الأفكارِ يقولان: إنَّهم لا يُولُون هذه العلومَ اهتمامًا!! عن أيِّ سلفيَّةٍ وأيِّ سلفيِّين يتحدَّثانِ؟!
وقالَا (ص383): (ولك أن تعلمَ أنه رغم معاصرة معظم رموز السَّلفية المصرية الكبار لمحمود شاكر إلَّا أنَّ أحدًا منهم لم يكُن له اتصال به)، والأديبُ أبو فِهر محمود شاكر نفْسه؛ أليس مِن كِبار أدباء السَّلفيَّة؟!
ثم ذكرَا الألباني ودُروسَه في الشِّعر، وبكر أبو زيد واشتغاله الأدبي، والعَسْكرَ واشتغالَه البلاغيَّ، والأديب الكبير حمد الجاسر، ثم عقَّبَا بقولهما: (كل هذه مجرَّد نتوءات على هامش السَّلفية، لم تنجحْ قط أن تنتقلَ للمركز، أو حتى لمساحة قريبة منه)، وفي (ص390) قالا: (وإهمال السَّلفيَّة بالتحديد لهذا الباب غيرُ مفهوم، فضلًا عن الخَلْط الكثير الذي يقع منهم فيها؛ فإنَّ هذا البابَ هو معتصمُهم في تفسيرِ الوحي على الدَّلالات التي أرادها صاحبُ الوحي وفَهِمها أصحابُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يكُن أحدٌ أدْعى للاعتناء بالعربية من قومٍ يَدْعُون إلى التزامِ دَلالات النُّصوص العربية، وبدلًا من أن يَعتني السَّلفيون بالاجتهادِ في فِقه اللِّسان العربي الأوَّل ودَلالات ألفاظه = صاروا يَعتصمون بظاهرِ ما يتبادر إلى فَهم قومٍ بينهم وبين المتكلِّمِ بالوحي ألفٌ وأربعُ مِئة جدار، وصار هذا الظاهرُ هو الدلالةَ التي يجب أن يُقال بها مع شيء من الاعتصام بالفُهوم المنقولة عن طبقاتٍ مختلفةٍ من الفقهاء، وكل هذا خللٌ كبير، وليس هو الحقَّ الذي ينبغي أن يُعطاه الاشتغالُ باللِّسان العربي، وتحرير دَلالات الألفاظ التي كانت تُستعمل في الوحي للدَّلالة عليها) هذا الاستعلاءُ في الكلام والعِبارات-إضافةً إلى أنَّه خطأٌ ومخالِفٌ للواقِع أصلًا- تَكرَّر كثيرًا في الكتاب وتُجاه أعلامٍ أفذاذٍ، فإذا انتقَد الكاتبانِ عبارةً للشيخ ابن باز عن ابنِ حزم بقولهما: (ومِثل هذا إذا قيل في ابن حزم = يَسهُل بعدها أن نتصوَّر ما يُمكن أن يُقال فيمَن يقول بقوله من المعاصرين ممَّن هو أقلُّ هيبةً وحُرمةً عند الناس من مثل ابن حزم)؛ فكيف الحالُ بعِباراتهم المليئةِ بالتجهيلِ والاستخفافِ بكِبار العُلماءِ السَّلفيِّين؟!

4- السَّلفيُّون لديهم خللٌ في أبوابِ التيسير والمقاصِد والذَّرائع.
وهذه الدَّعوى العريضة ذكَراها (ص306) ولم يُدلِّلَا عليها بكلامٍ لكِبار علماء السَّلفيَّة، ولم يُحرِّراها رغمَ أهميَّتها، وذكرَا في الهامش كتابينِ لسلفيَّينِ فاضلينِ؛ الكتاب الأوَّل لعبدالله الطويل، والثاني لفهد العجلان، ولَمَّا لم يجِدَا ما يَطعُنانِ به في كتابِ العجلان قالا: (فيه دقَّةٌ ليستْ شائعةً في الكتابات السَّلفيَّة من هذا النوع، ولكن يَبقَى أنَّ الكتابَ الأوَّل الأصدق تعبيرًا عن الاتِّجاه السَّلفيِّ العامِّ)! فبِما أنَّ أفولَ السَّلفية تفترضُه أطروحةُ هذا الكتاب، فكان لزامًا أنْ يكونَ الكتابُ الأوَّلُ هو الأصدقَ!! مع تحفُّظنا على انتقاصِ كتاب الطَّويل.

5- فشَل أجوبةِ السَّلفيَّة الثقافيَّة وغير الثقافيَّة في مواجهة الواقِع
استخدَمَ الكاتبانِ أُسلوبًا تَهكُّميَّا وعِباراتٍ لا تَليقُ بمؤرِّخ الأفكارِ غيرِ السَّلفيِّ فضلًا عن السَّلفيِّ أو مَن يُحسَب أنَّه سَلفيٌّ، حيثُ قالَا (ص432)- وهُمَا يُشبِّهان إجاباتِ السَّلفيِّين لمشاكلِ الواقِع بالأدويةِ السَّلفيَّةِ المعلَّبة، وبالبرامجِ الجاهِزة-: (هذا الفصلُ بمثابةِ التطبيق العملي لذلك التكوين العِلمي، حين يتمُّ تشغيلُه في مواجهة الإشكالات الواقعيَّة، والتحديات الآنية بما يُنتج عُلبةَ الأدوية السَّلفية: برنامج السَّلفيَّة وجهاز أجوبتها، التي نرْمي من خلال استعراضها، ونقْدها الكاشفِ عن خللٍ كثيرٍ من مبانيها؛ إلى الكشف عمَّا نعتقد أنه سيكون سببًا فيما نعتقد أنه سيكون أفولًا للسلفيَّة المعاصرة، عن طريق فشَلِ أجوبتها الثقافيَّة- العلميَّة-، وغير الثقافيَّة- الحركيَّة والقِتاليَّة- في تحقيق الفعالية في مواجهة الواقع، وجذْب الجمهور. بما يعني: أنَّنا في حقيقةِ الأمر نُقدِّم مُسوِّغاتِ الأطروحةِ التي نَعرِضها في ذلك العمل)! لكنْ لا عَجبَ من ذلك؛ لأنَّه كما هو واضحٌ من كلامِهما أنَّهما يَعتقدانِ قُربَ أفولِ السَّلفيَّة؛ فهُما يَبحثانِ عن مسوِّغاتِ ذلك، فوجدَا ضالَّتَهما في الأجوبةَ المعلَّبة!! فطُغيانُ هذا الاعتقادِ عليهما جعَلَهما يَطْفَقانِ يَبحثانِ عن أسبابِ هذا الأفولِ، نسأل اللهَ السلامةَ.
مع العِلم أنَّ عدمَ مُطابقةِ الجوابِ والافتراضِ للواقِعِ وعدمِ تحقُّقه فيه؛ قد لا يكونُ بسببِ غلطِ الجوابِ بقَدْر ما هو لفواتِ الشَّرطِ، أو لوجود مانعٍ، وهذه بدهيَّةٌ لا تَخفى على غيرِ مُتحامِل.
كما أنَّ افتراضَ فشَلِ أجوبةٍ سلفيَّة -على التسليم به- لا يَعني ثُبوتَ فشَلِ جميعِ أجوبتِها ولا غالبِها. وإلَّا فكيف نَفهمُ الإقبالَ الكبيرَ على فتاوى العُلماء السَّلفيِّين، الذي لا يحتاجُ إلى جُهدٍ كبيرٍ لمعرفتِه؛ فيكفي مُؤرِّخَ الأفكار أنْ يقلِّب بعضَ القنوات الهادِفة، بل وبعض الهابطة أيضًا؛ ليعرفَ الكمَّ الهائل من الأسئلة التي تُوجَّه لعلماء سلفيِّين في برامجِ الفتاوى؟! وكيف نفهمُ الانتشارَ للسَّلفية في عامَّة بلاد المسلمين؟! وكذلك الاستهداف الغربي للسَّلفية بشَتَّى دوائرِه السِّياسيَّة والثقافيَّة، فضلًا عن أذنابه في العالَمِ الإسلاميِّ؟! أبعُلبِ الأدوية السَّلفيَّة والبرامج الجاهزة؟!

6- السَّلفيُّون لا يَعترِفُ بعضُهم ببعضٍ كأتبْاع المذاهبِ الفقهيَّة.
بعد أنْ تَكلَّم الكاتبانِ عن الخِلافاتِ بين السَّلفيِّين؛ ليُدلِّلَا على تَشظِّي السَّلفيَّة وقُرب أفولها، استدركَا على أنفسِهما بحُجَّةٍ قد يُحاججهم بها مُخالِفوهم، فقالا (ص641): (هناك حُجَّة أساسية يمكن استحضارُها كاعتراضٍ على ما سبق وقرَّرناه في الفقرة السابقة، وهي: لِمَ لا يقال: إنَّه رغم هذا التفرقِ إلَّا أنَّ السَّلفية ستظلُّ محتفظةً بالنصيب الأكبر من الجمهور، بالضبط كما أنَّ الخلاف بين المذاهب الأربعة لم يمنعْ أن الحالة المذهبيَّة عمومًا لا تزال هي الأصلَ المسيطر والغالب، بقَطْع النظر عن تفرُّق الناس في انتماءاتهم المذهبيَّة؟) فكان ردُّهما على ذلك: أنَّ أصحابَ المذاهبِ كانوا يَعترفون ببعضِهم وبصلاحيةِ كُلِّ مذهبٍ للانتسابِ والتقليد، أمَّا السَّلفيُّون فلا يَعترِفُ بعضُهم ببعضٍ. ومَن يَنظُر إلى هذا الكلامِ لأوَّلِ وهلةٍ يظنُّه حقًّا وصوابًا، لكن مَن يَتأمَّلْه يَجِدْه قياسًا مع الفارق؛ فأصحابُ المذاهبِ الفِقهيَّة تَقبَّل بعضُهم بعضًا في المسائلِ الفقهيَّة الفرعيَّة، لكنَّهم اختَلفوا حتى الإيذاءِ والتضييقِ والتبديعِ- حسَب ما أوْرداه من الخِلافات التي حصَلتْ بين الحنابلة وخُصومِهم- وكذلك السَّلفيُّون المعاصِرون فهُمْ لم يختلفوا أو يَتشظَّوا -حسَبَ تعبير الكاتبين- من أجْلِ مَسائلَ فقهيَّةٍ اجتهاديَّة، بل الخلاف بينهم وبين سَلفيِّين انتهجوا نهجَ المرجئةِ، وآخرين نهجوا نهجَ الخوارج؛ فلا غرْوَ أن يَختلِفوا ولا يَعترِفوا ببعضهم، ولو وُجِدَ سلفيُّون تَنافَروا من أجْلِ مَسائلَ فِقهيَّة فرعيَّة، فعندَ غيرِهم مِن المتعصِّبين للمذاهبِ الفقهيَّة أضعافُ ما عِندَهم من الاختلافِ والتنافُر.

7- الزَّعم بأنَّ العُنف والقِتال منتجٌ سلفيٌّ.
حيث قالا (ص645): (ومن خلال الجِهاد الأفغاني والبُوسني والقوقازي، والدَّعم والتواجُد السَّلفي المركزي في كلِّ تلك التجارِب، مع التكوين السَّلفي للحركات القتاليَّة في العالم العربي= ظهَر جليًّا أنَّ رُؤيةَ العُنف والقِتال كحلٍّ للمُشكل الإصلاحيِّ هو إجابةٌ مُنتجَةٌ سلفيًّا بدرجة أساسيَّة)!
أمَّا أنْ يُقالَ عن القِتال في مِثل هذه الأماكنِ: إنَّه مُنتَجٌ سلفيٌّ، فهذه مَنقَبَةٌ للسلفيِّين، وهو جِهادٌ إسلاميٌّ لدَفْعِ الصَّائِلِ، وليس حلًّا للمُشكلِ الإصلاحيِّ، بل جعْل الجِهادِ في مِثل هذه المواطن المستشهَدِ بها من المشكِل هو المشكلُ حقًّا، وأمَّا تَسميةُ الجماعات الجِهاديَّة حركاتٍ قِتاليَّة، وتَسمية الجِهادِ قِتالًا، والخَلْط بينَه وبينَ العُنف، والزَّعْم أنَّ العُنفَ مُنتجٌ سلفيٌّ، فهذا بغيٌ وخلطٌ في المفاهيم، وكلُّ مُنصِفٍ يَعلمُ أنَّ أوَّلَ مَن أَنكرَ الغلوَّ في القِتال هم السَّلفيُّون وعُلماءُ السَّلفيَّة.

8- ادِّعاء أنَّ الفِقه السَّلفي فِقهٌ بسيطٌ أَحوطيٌّ يُبالغ في المَنْع والحَظر.
قالا (ص376): (هناك ميلٌ سلفيٌّ واضحٌ في الاشتغال الفِقهي لجانب الاحتياط والحظْر والمنع، والاستعمال المبالَغ فيه، من دون تحقيقٍ في كثير من الأحيان، لمبدأ سدِّ الذريعة. فهو فقهٌ أحوطيٌّ في الجملة. وهذا ينسجم مع ما ذَكَرْناه من بَساطة الفقه السَّلفي، الذي ينعكس على النَّوازل).

9- تَهكُّم الكاتبَينِ وسُخريتهما بالفِقه السَّلفي.
قالا (ص376): (الفقه السَّلفيُّ يَعرِف فتوى مِثل جواب على سؤال: (هل يجوز لإنسان أن يلعبَ أيَّ لُعبة مع إنسانٍ يرتدي سِروالًا قصيرًا؟), (لا يجوزُ لك اللعبُ مع من ذكرتَ؛ وذلك لانكشافِ العورةِ وخوفِ الفِتنة)، وتحريم التعليم المختلِط بإطلاقٍ خوفَ الفتنة، ولو كانتِ المرأة ملتزمةً بالحجاب أو النِّقاب، دون النظر إلى ضرورةِ ذلك التعليمِ بالنسبة للرجُل أو المرأةِ في العديد من المجتمعات، بعكس بعضِ الفتاوى للعثيمين والجبرين التي تُبدي تسامحًا في التعليم المختلِط؛ لأجْل تلك الضرورات)، أوَ ليس فِقه العثيمين والجبرين مِن الفقه السَّلفي؟! وَألمْ يَجِدَا في الفقهِ السَّلفيِّ إلَّا هذِه المسائلَ فيَزْعُمَا أنَّه يَعرِفها؟! أينَ هما عن فتاوى اللَّجنة الدَّائمة، وفيها مِن مسائلِ النوازلِ ما اللهُ به عليم؟! والمجامِع الفقهيَّة التي يُديرها ويُشارك فيها عددٌ كبيرٌ من السَّلفيِّين؟ ومسائِلِ المعاملاتِ المعاصِرة العويصة، التي يُفتي فيها سَلفيُّون؟! وكتُب ورسائِل جامعيَّة عن كثيرٍ من مسائلَ الفقه؟!
ومِن ذلك قولهما (ص366): (السِّمة المسيطرة على الفقه السَّلفي المعاصِر هي حالة (فقه الدَّليل)، أو (فقه الراجح)، بمعنى الاطِّلاع على السِّمات العامَّة للخلاف الفقهي حول معنى الدليل المعين، وما يُستفاد منه من حُكم؛ وترجيح الحُكم الذي يقترب من فَهم الباحث للدَّليل.
حتَّى مَن يُدرِّسون المذهبَ الحنبليَّ= نجِد أنَّ طرح كثيرين منهم خاصَّة مَن يُدرِّسونه خارج المملكة= لا علاقةَ له بالمذهب الحنبليِّ إلا اسم الكِتاب ومذهب مؤلِّفه، وبعض التقريرات لأقوالِ أحمد وما يُسمونه اختيار المحقِّقين، أمَّا دراسة المذهب وتحقيقه، فلا نقول غير موجودة، بل إنَّ أكثر هؤلاء المدرسين لا يُحسنونها أصلًا)! وفي هذا جهلٌ وبُعدٌ كبيرٌ عن الحالةِ الفِقهيَّة الحنبليَّة في السُّعوديَّة -التي استثنوها جُزئيًّا- من حِفظٍ للمتون، وتدريسٍ للكتُب، وتأليفٍ للرسائل الجامعيَّة.

10- تطاولُهما على السَّلفيِّين الملتزِمين في أكثرَ مِن موضعٍ.
ومن ذلك قولهما (ص599): (هناك حالةٌ من الاستعذاب والالتذاذ في الأوساط السَّلفيَّة بمخالفة المجتمَع، والشُّعور بالعُزلة، والكوجيتو السَّلفي المساعد على النشوة بالشعور بالطهورية والنقاوة)!
وقولهما: (كثيرٌ من الإشكالات والصِّراعات الأُسريَّة تقعُ عند التزام الشابِّ، أو المراهق، السَّلفيِّ، الذي يبدأ بالتطلُّع حوله، وفرْض شرنقةٍ حول نفْسه تُسمَّى (الالتزام)، ويتعامَل مع الجميع بمنطق العُصاة، الذين ينقِم عليهم غفلتَهم وتقصيرهم وقلَّة اكتراثهم بالدين).
وقولهما (ص603): (الإشكال حقًّا أنَّ كثيرًا من الملتزمين يُعاملون الناس معاملةَ الخوارج، فيُبغضون أهل المعاصي أو بعضَهم بُغضًا لو قدَّروا في أنفسهم أن يُبغضوا أدْنى كافر إيَّاه ما قَدَروا)!
ما هذا البغيُ؟! لو أراد خصمٌ للسلفيِّين أن يَطعُنَ فيهم لَمَا جَرُؤَ أنْ يقول (كثيرًا مِن الملتزِمين)، ولقال: (بَعض الملتزمين) أمَّا أنْ يُقال: كثيرٌ من الملتزمين -دون تحديد بلدٍ معيَّن- يُعاملون الناس معاملةَ الخوارج؛ فهذا هو البغيُ والجَورُ.
وقولهما (ص600): (السَّلفي يُنزل كلَّ ذنب في الدين بمنزلة أعظمِ ذنب فيه؛ فالحليقُ والمدخِّن والمقصِّرة في حِجابها، كلُّ هؤلاء عنده من نفْس جنس المنافقين والزُّناة والسَّكارى، إن لم يكُنْ بلسان المقالِ، فبِلسان الحال)!
سبحانَك ربِّي هذا بُهتانٌ عظيمٌ؛ {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ويُسْأَلُونَ}!

11- التَّشكيكُ في نِسبة السَّلفيِّين المعاصرين للسَّلف، وتبرُّؤ الإمامِ أحمدَ منهم.
ذكَر الكاتبانِ (ص34) تحت عنوان (السَّلفيَّة المعاصِرة بين صِحَّة النَّسب وكذِبه: جدل النِّسبة)، افتتحاه بقولِ تاج الدِّين السُّبكيِّ مُشيرَينِ به إلى السَّلفيِّين المعاصِرين: [فهذه عقيدتهم، ويَرَوْن أنَّهم المسلمون وأنَّهم أهل السُّنة، ثم يَعتزُون إلى الإمامِ أحمد بن حنبل رضي الله عنه وهو منهم بريءٌ].
وهذا كلامٌ مجتزأٌ من كلامٍ طويلٍ للسُّبكيِّ المعروف بعَداوتِه لشيخِ الإسلامِ ابن تيميَّة وتلامذتِه وللمنهجِ السَّلفيِّ، وقدْ أوردَ هذه العبارةَ في ((طبقات الشافعيَّة الكبرى)) ضِمن قاعدةٍ في الجرح والتعديل (2/9- 17)، فيقول- بعد كلامٍ في تَقريرِ هذه القاعدة، وبعدَ الحطِّ مِن شيخِه الذهبيِّ ووصْفِه بالتعصُّبِ المفرِط وما يعفُّ اللِّسان عن ذِكرِه في مِثلِ الإمام الذهبيِّ رحمه الله- قال: (وقد تَزايدَ الحالُ بالخطَّابية وهم المجسِّمة في زَماننا هذا، فصاروا يرَوْنَ الكذبَ على مُخالفيهم في العقيدة لا سيَّما القائِم عليهم بكلِّ ما يَسوءه في نفْسه ومالِه، وبلَغني أنَّ كبيرَهم استُفتي في شافعيٍّ: أَيشهَدُ عليه بالكذبِ؟ فقال: ألستَ تعتقدُ أنَّ دمَه حلال؟ قال: نعمْ، قال: فما دون ذلك دون دمِه، فاشهدْ وادفَعْ فسادَه عن المسلمين؛ فهذه عقيدتُهم، ويَرَوْن أنَّهم المسلمون، وأنَّهم أهلُ السُّنَّة، ولو عُدُّوا عددًا لَمَا بلغ عُلماؤُهم ولا عالمٌ فيهم على الحقيقة مبلغًا يُعتبر، ويُكفِّرون غالِبَ عُلماء الأمَّة، ثم يَعتزُون إلى الإمامِ أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وهو منهم بريءٌ) ا.هـ؛ فهل الذي ذكَره السُّبكيُّ واستتفتَح به الكاتبانِ الفصلَ بعد الحَذْفِ والاجتزاءِ ينطبقُ على (السَّلفيَّة المعاصرة)؟! {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}.

المَأخذ الثَّالث: التشنيعُ على مَنهجِ الشيخِ محمَّد بن عبد الوهَّاب وأتْباعه.
1- زَعْمهما غلوَّ الوهابيَّة في التكفيرِ والقِتال.
ويُمكن تحتَ هذا العنوان نَقْلُ بعضِ عِباراتِهم وموقفِهم مِن الوهابيَّة -كما يُسمُّونها-، قالا (ص181): (والقول الذي نُريد تقريره هنا: أنَّ هذه الممارسةَ التي قامتْ بها الوهابيةُ من تكفير المعيَّنين الواقعين في تلك الأفعال وقتالهم قِتالَ المشركين كانتْ ممارسةً جديدةً لا تُساعد التصرفاتُ السَّلفيَّة السابقةُ لهم وَفْقَ معرفتنا لها، على أنْ نَعُدَّ الوهابيةَ مماثلةً لها من هذا الوجه، وإنْ كان هذا لا يُخرجهم من كونهم أحدَ التحقُّقات التاريخيَّة للسلفيَّة).
وقالا (ص189 ) -ولاحِظ التناقض-: (إنَّنا في كتابتنا هذه التي نرجو فيها أن نعدلَ بين الناس، وألَّا نبخسَ الناس فيه أشياءَهم = لا نرى أنَّ الوهابية في ممارساتها للتكفير والقتال كانتْ تحقُّقًا مماثلًا للتحقُّقات السَّلفيَّة السابقة عليها، ولا نرى نمطَ التحقُّقات السَّلفية السَّابقة، وأنواع الانحرافات التي واجهوها ممَّا يمكن أن يُخرَّج عليه فِعلُ الوهابيَّة، وأقربُ شيءٍ لِمَا عاصره الوهابيَّة، هو ما شَهِده ابنُ تيمية، وهو لم يَسلُكْ مسالكَهم، ومِثل هذا النوع مِن الخَلَل متوقَّعُ الحدوثِ؛ فإنَّ ضَعْفَ العِلم كان عامًّا، يشمَل الجميعَ، وتحقيق ما كانتْ عليه السَّلفية في دَقائق مِثل تكفيرِ المعيَّنين وقتالهم لا يَكاد يَتهيَّأ إلَّا للخاصَّة من كِبار الأئمَّة المجتهدين، ولم تكُن طبيعةُ هذه العصور المتأخِّرة لِتَجودَ بهذا الجنس، وإنْ كنَّا مع كلِّ ذلك لا نرَى خطأَ الوهابيَّة في ذلك من جِنس ضلالةِ الخوارج [كثَّر خيركم]، ولا نرَى خطأَهم هو مجرَّد التكفير والقتال، وإنَّما نرَى خطأَهم هو في نموذجٍ كُليٍّ تمَّ بناؤه على مَراحلَ وقعتْ فيه مجموعاتٌ من التجاوُزات في التكفير والقتال، مع قِلَّةٍ في الاحتراز، وضَعْفٍ في سَدِّ ذرائع الغلوِّ؛ كان مجموعُ ذلك توفيرَ بذرة صالحةٍ للغَرْسِ ولإنتاجِ ثمارٍ غاليةٍ، وهذه الفكرة؛ فِكرة أنَّ إشكالية الدعوة الوهابية في اقتران الخَلل بالتكفير مع الخلل في القتال مع قِلَّة نصوص الاحترازِ من الغلوِّ، مع كون الدَّعوة نَسيجًا متعدِّدًا مرَّ بمِحنٍ وأوضاع متغيرة، مع تأخُّر الزمان وقلَّة العلم= هي التي تُبيِّن الفرقَ بين نموذجِها وبين بعضِ النَّماذج التاريخيَّة السَّلفيَّة وغير السَّلفيَّة التي وقَع فيها انحرافٌ جُزئيٌّ في التكفير أو القِتال.
نحن- إذن- لا نرى هذا الخطأَ في تحقيق السَّلفيَّة، مع عِظَم آثارِه التي امتدَّتْ إلى الممارسات المنحرِفة لإخوان من طاع الله، وبعض ممارسات الجماعات القتاليَّة= مجرَّد خطأ هامشي، وقد لا يَتحمَّل قولٌ وهابيٌّ منفصلٌ، أو عالمٌ من علماء الدَّعوة لوحْده مَسؤوليةَ هذا الغلو، لكن الممارسة الوهابيَّة في مجموعِها وقِلَّة نصوص التحرُّز من الانحرافِ في التكفير والقِتال فيها= كانتْ مرجعًا أساسيًّا من مراجِع الغلوِّ منذ إخوان من طاع الله إلى الآن، وهو مَرجعٌ يختلف عن ابن تيميَّة مثلًا الذي تحتوي نصوصُه على احترازات، وتَخلو مِن اقتران التكفيرِ بالتوسيعِ في تَكفير المعيَّنين أو بالقتال، وتخلو أيضًا من نصوصٍ صريحةٍ في التكفير ببعضِ ما تُكفِّر به الوهابيَّة.
ولا يَعني هذا أنَّ حُكم الوهابيِّين في الميزان كحُكم الغُلاة الذين يلتحقُ بعضُهم بالخوارج، بل قد أدرك بعضُ علماء الدعوة أنواعًا من هؤلاء الغُلاة الذين يَتَّكأون [يَتَّكِئون] على نُصوصِهم فحَكموا بضلالهم.
لكن هذا لا يَعني أيضًا تخلُّصَ الدعوة كمجموعٍ من المسؤولية، وهي شيءٌ يشبه المسؤولية الجزئيَّة التي يَتحمَّلها أحمدُ رحمه الله في بعضِ تصرُّفاته تجاهَ أهل البِدع أو حتى أهل السُّنة الذين نطَقوا في المحنة، وهي التصرُّفات التي أعانتْ بعدَ ذلك على تطوُّر تيَّار الغُلوِّ الحنبليِّ في القرنين الرابع والخامس، والمسؤولية الجزئيَّة لا تعني المسؤولية التامَّة، ولا تَعني المساواةَ في الحُكم بين مَن أَنتج أفكارًا أو تصرُّفات هي أخطاءٌ في نفسها، وبين مَن أخَذَ هذه الأخطاءَ فدَمجها وبنَى عليها؛ ليصنعَ صورةً أشدَّ خطأً، وأبعدَ ضلالةً، وأقلَّ في مسوِّغات الإعذار.
وقاعدة هذا الباب: أنَّ الأخطاء (تكون في أولها شِبرًا، ثم تكثُر في الأتْباع حتى تصيرَ أذرعًا وأميالًا وفراسخ) انتهى.

وخُلاصةُ هذا الكلام الطويل-المليء بالتجاوزات- أنَّ الإمامَ أحمد بذَرَ بذرةَ الغلوِّ؛ بسببِ تصرُّفاته تُجاهَ أهل البِدع، بل وتُجاه أهل السُّنَّة الذين نطَقوا في مِحنة خَلْق القرآن، وأنَّ هذه التصرُّفاتِ مِن أحمد أعانتْ على تطوُّر تيارِ الغلوِّ في القرنين الرابع والخامس، حتى وصَلَ إلى قرنِ محمَّد بن عبد الوهَّاب الحنبليِّ، ففشا في أتْباعه الغلوُّ في التكفير والقتال، لكن الحَمْد لله برَّأهم الكاتبانِ مِن أنْ يكونَ ضلالُهم كضلالِ الخوارج!
والخلاصة: أنَّ الإمامَ أحمد بدأَ بغُلوِّ التبديعِ شبرًا، فوصَل به الإمامُ محمَّد بن عبد الوهاب إلى التكفير فراسِخ، أو بدَأَه الإمامُ محمَّد بن عبد الوهاب شِبرًا، فوصل به داعشُ فراسخ- حسبَ القاعدةِ التي ذَكرَاها!!

2- مُكافحةُ الوهابيَّة لعلماء الحنابِلة التقليديِّين.
قالا (ص324) بعدَ الكلامِ عن الاشتِغال الفِقهي: (يُلاحظ أنَّ الوهابيَّة، وبخاصَّة في الدولة السعودية الثانية (1818-1891م)؛ قد حرَصت على مكافحة علماء نجد الحنبليِّين التقليديِّين، غير الوهابيِّين، مثل عبد الله أبا الخير (1835م)- وعثمان بن منصور (1865م)، ومحمد بن حميد (1878م)).
والتعبير بالمكافحةِ بعد الكلامِ عن الاشتغال الفقهيِّ عن علماء نجد يُوحي للقارئ أنَّه ظُلمٌ وعدوانٌ في حين ما جرَى بينهم سببُه دعوةُ التوحيد لا الخِلافات الفقهيَّة! فلا يختلِف فيه حنبليٌّ عن شافعيٍّ أو مالكيٍّ أو حنفيٍّ؛ فمبنى المؤاخذة غلطٌ من أصلِه.

المَأخَذ الرَّابع: أخطاءٌ عقديَّة ومنهجيَّة
وقع الكاتبانِ في عددٍ من الأخطاءِ في مسائلِ العقيدة التي كنَّا نودُّ لو أنَّهما لم يُقحِمَا أنفسَهما فيها؛ فمَن ذلك:
1- مفهوم الفِرقة الناجية
زعَم المؤلِّفان في (ص56) أنَّ مفهومَ الفرقة الناجية يَشملُ أبوابَ العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، ولا يَقتصرُ على مسائلِ الاعتقاد والكفرِ والإيمان؛ لذلك خرجَا بنتيجة لم يسبقْهما أحدٌ -فيما نعلم- مِن أهل العلمِ، وابتدعَا قولًا جديدًا، وهو كما قالا: (النجاة حقًّا هي لِمَن أصاب الحقَّ كلَّه قولًا وعملًا -يعنون العقائدَ والعبادات والمعاملات- لم يخرمْ منه شيئًا) وهذا جَرَّهم إلى قولٍ شنيع ذكراه في هامش الصفحة (56)، وهو: أنَّ النَّجاةَ يمكنُ أن تتحقَّق في أيِّ فرقةٍ: (سواء أكانت هذه الفرقة هي أهل السُّنة والجماعة، أو أهل الحديث، أو المعتزلة، أو الأشاعرة، أو الشِّيعة، أو غيرهم؛ فكلُّ فِرقة وافقتِ النبيَّ في باب من أبواب ما جاء به، فهي ناجيةٌ في هذا الباب، وكلُّ فرقة خالفتِ النبيَّ في باب من الأبواب، فهي من الهالكة- هي في النار، يعني مُتوعَّدة- في هذا الباب. وَفقَ هذا التصور فقد يكون أحمدُ بن حنبل [إمام أهل السُّنة] من الفرقة الناجية في باب، والقاضي عبد الجبَّار [شيخ المعتزلة] من الفرقة الناجية في باب أو مسألةٍ، وكِلاهما من الفِرقة المتوعَّدة بالنار في أبوابٍ أخرى حصَل فيها الذنبُ المحض، أو الخطأ الموقوفةُ مغفرتُه على العُذر، وإنَّما تكون إمامةُ أحمد باعتبارِ كثرةِ صوابِه وهِدايته المشهودِ بها، لا باعتبارِ نجاةٍ بالتصوُّر الافتراقي)!.
وهذا ما لم نعلمْ قاله أحدٌ من عُلماءِ السُّنَّة المعتبَرين! ولازِمه أنَّ بعضَ الصحابة- وَفقَ هذا التصوُّر- يكونُ من الفِرقة الناجية في بابٍ، ومِن الفرقة المتوعَّدة بالنَّار في بابٍ آخَر؛ لأنَّ الصحابيَّ ليس معصومًا مِن الخطأِ والذنبِ؛ فقد يقَعُ في المعصيةِ، بل الكبيرة، وبهذا يكونُ خالفَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم في بابٍ من أبوابِ ما جاءَ به، وهذا مِن أبطلِ الباطِل.

2- المطالبةُ بمراجعة بعضِ القضايا العقديَّة التي تمَّ تعظيمُها منذُ أحمد.
فبعدَ أنْ نقَلَا كلامًا لشيخ الإسلام ابن تيميَّة عن الإجماعِ القطعيِّ والإجماعِ الظنِّي، عقَّبَا (ص50) بقولهما: (وهذا تقريرٌ كما تظهر قِيمتُه في الفقه والأحكام- تظهر قيمتُه في العقائد؛ فإنَّه يوجب مراجعةَ بعض قضايا الاعتقاد التي تم تعظيمُها وتبديعُ المخالف فيها في التحقُّقات السَّلفية المتتالية منذ أحمد رحمه الله، والحال أنَّها مجرَّدُ نظرٍ اجتهاديٍّ، لا يُمكن القطعُ بأنَّ الصحابة كانوا سيَنظُرون نظرًا مثله، وغاية ما يُمكن هو تصحيحُ هذا القول دِينًا مع تجويزِ خطئِه، لا أن يُساقَ مساقَ أصول الاعتقاد الثابتة)، ولم يُمثِّلَا ولو بمثالٍ واحدٍ؛ حتى ننظرَ ما هي قضايا الاعتقاد هذِه التي تمَّ تعظيمُها وتبديعُ المخالِف فيها خطأً منذُ الإمام أحمد حتى يومِنا هذا؟
وهذه الطريقةُ وهذا المنهجُ خَطيرٌ جدًّا في التشكيكِ في مَسائلِ الاعتقاد التي استقرَّ عليها الأمرُ من القرونِ الأولى.

3- صِفة الرِّجلِ للهِ عزَّ وجلَّ.
زعَم الكاتبانِ (ص93) أنَّ بعضَ السَّلفيِّين المعاصرين يُثبتون صِفاتٍ لله عزَّ وجلَّ بلا دليلٍ مِن الكتاب أو السُّنَّة، أو نقْل عن الصحابةِ، وإنَّما اكتفاءً بما أثبتَه عُلماءُ القرن الرابع، ومثَّلَا بإثباتِ صِفة الرِّجل لله عزَّ وجلَّ قائلينِ: (...آحاد الصِّفات التي لم يثبُتْ فيها نقلٌ عن الصحابة، وأحيانًا عن القرون المفضَّلة جميعها، ومع ذلك أثبتَها الجيلُ الرابع، فيتمُّ ضمُّها لجُملةِ العقائد السَّلفيَّة عند بعض طوائِف السَّلفيَّة المعاصِرة؛ اكتفاءً بإثباتِ الجيل الرابع لها، وأحيانًا لا تكون معتضدةً حتى بأصلٍ صحيحٍ أو صريح من الوحي، ومِثل ذلك ما نجده عندِ ابن خزيمة مِن إثبات صِفةِ الرِّجل لله عزَّ وجلَّ).
وهذا زعمٌ باطلٌ؛ فصِفةُ الرِّجلِ ثابتةٌ لله عزَّ وجلَّ كما في صَحيحي البخاري (4850 ) ومسلم (2846 ) مِن حديثِ أبي هريرةِ رضي الله عنه، في تَحاجُجِ الجنَّةِ والنَّارِ، وفيه: ((فأمَّا النَّار فلا تَمتلِئُ حتَّى يضَعَ اللهُ تبارَك وتعالى رِجْلَه - وفي روايةٍ قَدَمَه- فتقولُ: قَطْ قَطْ...)). وهذا لا يَنفي وُجودَ فئةٍ قليلةٍ توسَّعت وأثبتتْ بعضَ الصِّفات بأحاديثَ فيها ضَعْفٌ أو اختُلف في تَصحيحها.

المَأخذ الخامس: إثارةُ مسائِلَ فقهيَّة خلافيَّة وخلْطُها بمسائلَ كِبارٍ.
بعدَ أنْ أوردَ الكاتبانِ الخلافَ في مَسألة الديمقراطيَّة والمشاركة السياسيَّة بين السَّلفيِّين وغيرِهم، وبين السَّلفيِّين أنفسِهم، أقْحَموا أنفسَهما في مسائلَ فقهيَّةٍ خلافيَّةٍ اختلف فيها العلماءُ قديمًا وحديثًا مِن السَّلفيِّين وغير السَّلفيِّين، بل خلَطَا بينها وبين ما هو مُجمَعٌ عليه، فقالَا (ص359): (بعض الخيارات الفقهيَّة التي يتمُّ دمجها في الهُويَّة السَّلفيَّة والفرز على أساسها: ومنها الإسبال، وحلق اللِّحية. فالفقه السَّلفيُّ يرى المسبل والحليق: (غير ملتزم)، فهو مخالفٌ للسُّنة، فاسِق، وذلك بغضِّ النظر عمَّا قد يكون في المسألة مِن خلافٍ، أو ما قد يكون عند ذلك المخالِف من أدلَّة واجتهاد).
وعلى هذا الكلامِ مَأخذانِ: الأوَّل: أنَّ مسألة حَلْق اللِّحية مسألةُ اتِّفاقٍ بين العلماء وليستْ مسألةَ خلافٍ، إنَّما الخلافُ في الأخْذ من اللِّحية؛ قال ابنُ حزم في ((مراتب الإجماع)) (ص120): (واتَّفقوا أنَّ حَلْقَ جميعِ اللِّحية مُثْلَةٌ لا تجوزُ). وأقرَّه ابنُ تيميَّة ولم يُعلِّق عليه. والثاني: إنكارهما على السَّلفيِّين اعتبارَهم حليقَ اللِّحية مخالفًا للسُّنَّة!! ولا نَدري؛ هل يُطالبان السَّلفيِّين بأنْ يَعدُّوا حليقَ اللِّحية موافقًا للسنَّة؟!
وهكذا يخلطُ الكاتبانِ مسائلَ فِقهيَّة بعضُها الخلافُ فيها ضيِّق وبعضها فيها خلافٌ واسع، وبعضها مسائل اجتهاديَّة، ويَصِمُون السَّلفيِّين بالتشدُّد إزاءَ هذه المسائل، وأنَّهم يتَّهمون غيرَهم ممَّن يُخالفهم فيها بالتساهُل والتَّمييع، ومِن هذه المسائل التي أثارها الكاتبان: التصوير الفوتوغرافي، والتلفزيوني، سَتْر الوجه والكفَّين للمرأة، مصافحة المرأة الأجنبيَّة، وسَفر المرأة بغير مَحْرَم، الإسبال، تحديد قِيام رَمضانَ بأحدَ عَشرَ ركعةً، السُّبحة، حَلْق اللحية. انظر الصفحات (358-362).

المأخذ السَّادس: الجهلُ بالواقِع السَّلفي السعودي.
ذكَر الكاتبانِ (ص200) أنَّهما سيُركِّزان على السعوديَّة ومصر، حيث قالا: (سيلاحظ القارئ تركيزنا على المملكة العربية السعودية ومصر، وذكر باقي البلاد وتحققات السَّلفية فيها بطريق التَّبَع).
لكنَّ القارئَ السُّعودي لكتاب (ما بعد السَّلفية) يَظهَرُ له جليًّا أنَّ الكاتبَينِ لدَيهما قصورٌ كبيرٌ في فَهمِ ومعرفةِ الواقعِ السَّلفيِّ المعاصِر في السعوديَّة، وأنَّهما لم يُعايشاه، بل تلقَّفاه من أفواه البعضِ، ومِن قِراءة بعضِ ما كُتِب وربَّما مِن زِياراتٍ مُتقطِّعة في السَّنوات الأخيرة للمملكة، فالسَّلفيَّة في السُّعوديَّة تيارٌ عريضٌ عليه أغلبُ الشَّعبِ السعوديِّ المتديِّن، بل وغير المتديِّن في الجُملة، وكثيرٌ مِن المظاهر والانتقادات على السَّلفيَّة المعاصِرة لا تنطبِقُ على الواقِع السُّعوديِّ: مِن مِثل الانفصام بين الملتزِم السَّلفيِّ والمجتمَع، ومعامَلة العاصي مُعاملةَ الخوارج، أو أدْنَى مَراتبِ الكُفر، والتَّسطيح الفِقهي، والظاهريَّة المفرِطة، والضَّعْف المالي! وتوالي الضَّرَبات على السَّلفيِّين، فكلُّ هذه المظاهرِ وغيرها- ممَّا شنَّع به الكاتبانِ على التيَّارِ السَّلفيِّ- ليستْ معروفةً في الوسطِ السُّعودي.

الخاتمة:
ختَم الكاتبانِ كتابَهما في الفصل السَّادس (السَّلفية المعاصرة، عوامل الأفول) بقولهما (ص635): (تتركَّز أطروحةُ هذا الفصل التي نَسعَى لتدعيمها= في أنَّ السَّلفية يبدو أنها تتأهَّب للعودةِ إلى موقع الأفول الذي شغَلتْه منذ زمن أفولها الأوَّل بعدَ القرون الأربعة الهجريَّة الأولى؛ ذلك الأفول الأوَّل الذي كان لحسابِ الاتِّجاهات الكلاميَّة، قاومتْه السَّلفيَّةُ كثيرًا، ونجَحتْ في الخروج منه بصورةٍ جزئيَّة زمنَ ابن تيميَّة وفي نجد الوهابيَّة، ولكن البُزوغ والازدهار الحقيقي للسلفيَّة كان مِن نَصيب نُسختها المعاصرة لنا في النِّصف الأوَّل من القرن الخامسَ عَشرَ الهجري، ويبدو أنَّ السَّلفيَّة ستَكتفي بنِصف قرنٍ من الازدهار؛ لتعودَ مرَّةً أخرى إلى موقِع الأفول، بحيث لن تَشْغَلَ السَّلفيةُ بعد ذلك موقعَ المركز داخلَ التيار الإسلامي، بل ستنتقِلُ إلى الهامش؛ ستكون موجودةً وستستمرُّ أطروحاتها، وستُواصِل إنتاجَ رموزها وأدبياتها، ولكن في صِياغاتٍ وصورٍ وأشكالٍ ومساراتٍ متنوِّعة، ولن تَحظَى بالزَّخم، والكثافة، والانتشار، والازدهار، الذي حَظِيتْ به في حِقبتها السالِفة.
فقد أفَلَتِ السَّلفيةُ من القرن الخامس الهجريِّ وحتى نهايةِ القرن الرابعَ عَشرَ الهِجري، وطوالَ هذه الفترة لم تشهدْ إلَّا فتراتِ ازدهارٍ محدودةٍ جدًّا، ومنحصرة جدًّا، على نحو ما نجِده في حِقبتي شيخ الإسلام ابن تيميَّة، والدعوة الوهابيَّة في ظلِّ الدولة السُّعوديَّة الأولى، وطوالَ هذا التاريخ الطويل، ظلَّتِ السَّلفيةُ مُنحصرةً في علماء مُتفرِّقين يتبنَّوْن آراءَها، ويُحيون تراثَها بحسَبِ ما تُتيحه لهم مِن أدواتٍ ومواردَ).
وهذا تقريرٌ مجحفٌ، ومجازفةٌ خَطيرةٌ، ويحتاج لردٍّ مفصَّلٍ وتتبُّعٍ لمراحلِ هذا التاريخ الطَّويل للسلفيَّة، ولكن لا يُناسِبه هذا المقامُ.
وفي (ص649) عندَ الحديث عن البديلِ عن السَّلفيَّة، وتحت عنوان (البديل التنويري) ذكرَا أنَّه أصبحت: (الرؤية الثقافية التنويريَّة منافسًا حقيقًا وفعَّالًا للسلفية لا تفوقه السَّلفيَّةُ إلَّا في تنوُّع شرائح جمهورها السُّنيَّة وقدرة السَّلفيَّة على التوغُّل في طبقاتٍ اجتماعية أكثرَ تنوعًا).
ليَخْلُصَا في الفصل السَّابع والأخير (ما بعد السَّلفية) لنتيجةٍ ذكرَاها (ص677-685) مفادها: أنَّ السيطرةَ والظهور سيكونانِ من نَصيبِ ثلاثة اتِّجاهات رتَّباها من الأضعفِ إلى الأقوى، وهي: (1- الاتجاه الأشعري بطابعه التراثي الكلامي الصوفي.....، 2- اتِّجاهات الفِعل السياسي....، 3- الاتِّجاهات الإصلاحيَّة التنويريَّة).

بقي أن نقول إنَّ الكاتبين عدَّا جمال الدِّين الأفغاني، وتلميذه محمَّد عبده، رمزين للسَّلفيَّة الإصلاحية (ص 326) مع أنَّه قد اشتهر الخلل الواضح في منهج الرَّجُلين. فهل هذه هي السَّلفيَّة التي يبشران بها؟


ونحن نسألُ الكاتبينِ: ما الجَدْوى مِن نَشْر مِثلِ هذا الكتابِ بهذِه الطريقةِ، وهذا الأسلوبِ، وهذا التناوُل، في هذا الوقتِ العصيبِ الذي تمرُّ به أُمَّتُنا؛ الذي وُجِّهتْ لها فيه السِّهامُ مِن كلَّ صَوْب؟!
ولو أنَّ الكاتبَينِ كتَبَا هذا الكتابَ مِن وِجهةِ نَظرٍ سلفيَّةٍ ناصحةٍ مُشفقةٍ رأتْ مِن خِلالِ استشرافِها لمستقبلِ السَّلفيَّة أنَّها آيلةٌ للأفولِ، فحذَّرَتْ ونصَحَتْ، وأَوْجَدتِ البدائلَ والحلولَ؛ للحيلولةِ دون حدوثِ ذلك- لو أنَّهما تناولَا الكتابَ مِن هذه الزاوية، وتورَّعَا عن بعضِ ما أورداه هنا مِن مجازفاتٍ، لحَمِدْنا لهما هذا الفِعلَ، وإنْ خالَفْناهما في بَعضِ النتائج، لكنَّ طَرْحَ هذا الموضوعِ الخَطيرِ بحُجَّة أنَّهما قارِئَا أفكارٍ لا نرَى فيه مَصلحةً للمَنهجِ السَّلفيِّ، وكم سيفرحُ أعداءُ السَّلفيَّة مِن مِثلِ هذا الطرحِ، وكمْ سيستفيدُ منه خُصومُها!

نسألُ اللهَ لنا وللكاتبَينِ الهدايةَ والصَّلاح، وندعوهما بكلِّ حبٍّ وتقديرٍ أنْ يُعيدَا النَّظر فيما كتَباه، وأنْ يتأمَّلَا فيما وجَّهَه الناصِحون إليهما وإلى هذا الكتابِ مِن نَقْدِ؛ فإنَّ الرُّجوعَ إلى الحقِّ واجبٌ، وهو خيرٌ من التَّمادِي في غيرِه.

 

والحمدُ للهِ ربِّ العالَمين