قراءة ونقد

تحرير الإسلام ورسائل زمن التحوُّلات
book
فهمي جدعان
الناشر: الشَّبكة العربيَّة للأبحاث والنشر - بيروت - لبنان
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 2014م
عدد الصفحات: 463
تاريخ الرفع: 1/5/1436هـ
عرض ونقد: القِسم العِلمي بمؤسَّسة الدُّرر السَّنية

أولًا: عرض الكتاب:
كِتابُ هذا الشَّهر لمُفكِّر وأكاديمي أُردني، عاش زمنًا طويلًا في أوروبا، ودرَس في أفضلِ الجامعات بها، وله رِسالته الفِكريَّة الإصلاحيَّة، وله تلامذتُه والمتأثِّرون به أيضًا، وتَحظَى مؤلَّفاتُه باهتمام بالِغ، وانتشارٍ واسعٍ في الأوساط الفكريَّة والأكاديميَّة العربيَّة، وقد كرَّس لها أغلبَ كتاباته ومشاركاتِه الفكريَّة، مع ما أَسهم به مِن مراجعَ عديدةٍ لها أثرُها في دِراسة الفِكر العربيِّ الإسلاميِّ؛ مِثل: كتاب ((أسس التقدُّم عند مُفكِّري الإسلام في العالم العربي الحديث))، وكتاب ((خارج السِّرب))، وكتاب ((المحنة؛ بحث في جدلية الدِّيني والسِّياسي في الإسلام)) وغيرها. وكتاب هذا الشَّهر "تحرير الإسلام ورسائل في زمن التحوُّلات" يُعدُّ خُلاصةَ فِكره ومشاركاته تلك، ويَعكس خُلاصاتٍ مِن التجرِبة الفِكريَّة البحثيَّة الطويلة الممتدَّة للمؤلِّف، وقد عدَّ البعضُ هذا الكتابَ مرجعًا أساسيًّا ومهمًّا ليس على صعيد الفِكر الإسلاميِّ، ولا على صعيدِ تقديم رؤيةٍ عميقةٍ في خِضمِّ التحوُّلات الأخيرة فقط، بل على صعيدِ بناء فلسفةٍ وطنيَّة عَصريَّة؛ للخروجِ من حالة الاستقطابِ الإسلاميِّ- العلماني على حدِّ وصْفِه، وسؤالِ الدِّيني والمجتمعي؛ لتنبثقَ عنها رسالةٌ إصلاحيَّة هادفة- بحسب تصوُّرات المؤلَّف.
هذا، وقد جاءَ هذا الكتابُ في مرحلةٍ زمنيَّة حرِجة وعصيبة في حياة الأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة، سمَّاها المؤلِّفُ (زمن التحوُّلات)؛ تلك هي المرحلةُ التي قامتْ فيها ما يُعرفُ بثورات الرَّبيع العربي، التي تحلُم بالتحرُّر من الطاغية المستبدِّ.

وقد تألَّف هذا الكتابُ من قِسمين: القِسم الأوَّل: تحرير الإسلام، وقد جاءَ هذا القسم في عشرة فصول، عناوينها كالتالي:
-آمِر التحرير
- عَقِب إخيل
- شيء من المنهج
- شيزوفرينيا الإسلام العربي
- الإغراء السِّحري
- القَبيلة والجِيل المؤسِّس
- التُّراث
- حوَّاء
- عُقدة الأفاعي أو جحيم الآخَرين.
وهذا القِسمُ عبارةٌ عن مقالاتٍ للمؤلِّف تمَّ ترتيبُها ووضْعُها في الكتاب، وبعضُها عبارة عن مفاتيحَ لقِراءاتٍ ودراساتٍ أوسعَ وأعمقَ في القِسم الثَّاني من الكتاب.

القِسم الثاني: رسائل زمن التحوُّلات، وقد اشتَمَل على ثلاثةَ عشرَ فصلًا، موزَّعةً على العناوين التالية:
- تأمُّلات في حال الإسلام اليوم
- العدل في حدود ديونطولوجيا عربيَّة
- في العَدالة والشُّورى والديمقراطيَّة
- نحن والديمقراطيَّة
- هل يمكن قيام علمانيَّة إسلاميَّة؟
- الحريَّة في المدينة
- الحريَّة في الثقافة العربيَّة الحديثة
- المقدَّس والحريَّة
- السَّلفيَّة حدودها وتحوُّلاتها
- في الحداثة والحداثة العربيَّة
- في الطَّاعة والاختلاف
- نظريَّات الدَّولة في الفِكر العربيِّ الإسلاميِّ المعاصِر
- ضميمة: أفكار موجَّهة من أجل إستراتيجيَّةٍ ثقافيَّة لهذا العصر.

ثانيًا: نقْد الكتاب:
يَحسُن في بداية هذا النَّقد الإشارةُ إلى أنَّ الكتاب قد اشتَمَل على فِقرات جيِّدة، مع ما وُصِف به المؤلِّف من دِقَّةِ التوصيفِ وعُمق التَّحليل، والموضوعيَّة والمعرفة العَميقة بالتُّراث الإسلاميِّ والفلسفة الغربيَّة؛ إلَّا أنَّ المؤلف قد وقَع في عِدَّةَ مزالقَ وأخطاءٍ عِلميَّة ومنهجيَّة خطيرة، تُنبئ عن الجهلِ ببعضِ أمور الدِّين، بل وببعض أصولِه العِظام! وسارَ على منهجٍ فِكريٍّ خاطئ، مُستخدمًا أسلوبَه الفلسفيَّ في الطرح والنِّقاش والبرهنة والردِّ، وفي هذا العَرضِ والنَّقد ذِكرٌ لأهمِّ تلك النِّقاط، مع التَّعليق والتعقيبِ عليها باختصار.

وفي بدايةِ هذا النَّقد نُشيرُ إلى مقصودِ المؤلِّف مِن كتابِه، ثم بيان سُبله التي اتَّخذها أو رأى أنَّها هي السَّبيلُ لتحقيق هذا المقصود؛ لأنَّ جُلَّ المؤاخذات ستكون تابعةً له؛ فقد نصَّ المؤلِّفُ في مقدِّمة كتابه (ص: 16) على أنَّه ليس مقصودُه تقديمَ (إسلام جديد)، بحيث يُستبدَل بدِين الإسلام دِينٌ جديد، وليس المقصودُ شَجْبَ (التجرِبة التاريخيَّة الإسلاميَّة) والتنكُّر لها بإطلاقٍ، وليس المقصود التجمُّل بـ(إسلام ليبرالي) أو (إسلام علماني) أو (إسلام تنويري)، فقال موضِّحًا ذلك: (الذي أقصده هو الدفاعُ عن صورة للإسلام، ماهيتُها صادرةٌ عن منطوقِ كِتابه المنزل العظيم، وعن الغائيات والمقاصِد العُظمى التي أتبيَّنها فيه؛ صورة نقيَّة، أصليَّة، جاذبة، مُتحرِّرة من الاختلاطات والاختلالات، والتجاوزات والحيدات الزمنيَّة، التاريخيَّة، البشريَّة؛ سبيلي إلى ذلك لا الذَّهابُ إلى استخلاص أو استنتاج أو تبيُّن عقائِدَ وتصوُّرات ومواقِف (مُبتدَعة) في هذا الدِّين، وإنَّما الذَّهاب إلى تحريره من جملة العقائد والتصوُّرات والفُهوم والمواقف التي أعتقد، وأرَى، وأجزم أنها سالبةٌ؛ وتجريد الصُّورة الجاذِبة لهذا الدِّين، بردِّ الأمور إلى نِصابها، وبذْل الوُسع مِن أجْلِ صون الإسلام، اليوم وغدًا، من التعديات والفُهوم المغلوطة التي تُولِّد إساءاتٍ حقيقيَّةً له ولأهله. وليس يغيب عن بالي أنَّني في ما أقصد إليه أُعبِّر عن "اجتهاد إنساني").

فالمؤلِّف هنا ألْمَحَ إلى مقصودٍ ظاهرُه حسنٌ، وهو تحريرُ الإسلام من المفاهيم والتصوُّرات والممارسات الخاطئة، الممتدَّة من التاريخِ إلى الواقِع، وتحريره ممَّا تحمِله بعض الحرَكاتُ الإسلاميَّة من رُؤًى أيديولوجيَّة، وممارسات تنحرِف عن جوهرِ المقاصد الإسلاميَّة العُليا- بحسب رؤية المؤلِّف- وكذلك تحرير الأرضية المشترَكة الصُّلبة التي تَجمَعُ بين مقاصدِ الإسلام وغاياتِه الأساسية من جهةٍ، وبين القِيَم الإنسانيَّة العُليا من جهةٍ أخرى، مثل: الحريَّة، والعدل، والكرامة الإنسانيَّة، والرفاهيَّة، والخير العام، والديمقراطيَّة (الحقيقيَّة)، كما كرَّر ذلِك في أكثرِ مِن موضعٍ.
لكن مع هذا؛ فإنَّ هذا المقصودَ مع أنَّ ظاهره حسنٌ، إلَّا أنَّ فيه طعنًا في عُصورِ الإسلامِ في تاريخ الأمَّة كلِّها، وكأنَّ الإسلامَ لم يكُن متحرِّرًا، ولن تتضح معالِمُه إلَّا بتحرير المؤلِّف له؛ ممَّا يدلُّ على ذلك قولُه (ص: 175): (أمَّا الحُكم العادل المستند إلى الشُّورى فلم يخرُجْ في التجرِبة التاريخيَّة الإسلاميَّة الوضعيَّة عن أن يكون مجرَّد (مثال) تلهج به الألْسنةُ والنُّصوص دون الأفعال والواقِع، على الرغم من توجيه النُّصوص الدِّينيَّة إليه والحِرص الشديد عليه، وعلى الرغم من الانتقادات العنيفة التي كان يُوجِّهها بعضُ العلماء أو المثقَّفين المتكلِّمين من الخوارجِ وبعضِ أجنحة الاعتِزال وأصحابِ الحديث- إلى الملك والملوك. وفي العَصر الحديث أَسهمت الديمقراطيَّةُ الغربيَّةُ منذ حملة نابليون على مصر في تنشيط مبادِئ الحريَّة والعدالة والشُّورى، ونجح التيارُ الوسطيُّ القويُّ في الإسلام الحديث في أن يُصوِّر الشورى مكافئًا بديلًا للديمقراطيَّة الغربيَّة).

هذا الكلامُ بهذا الإطلاقِ وبدون استثناءٍ- مع خُطورتِه وطَعنِه في الأمَّة كلِّها- خطأٌ وعارٍ عن الصَّواب تمامًا؛ إذ تاريخ الأمَّة منذ عهد الخلفاء الراشدين حافلٌ بنماذجَ بلَغَ فيها الحُكمُ العادلُ والشُّورى في المجتمع الإسلامي أقْصى ما يُمكن أن يصِلَ إليه البشرُ في العدل والشُّورى، وضَربوا أروعَ الأمثلة في ذلك، وفي تاريخِ الإسلام الممتدِّ أكثرَ من أربعة عشرَ قرنًا وُجِدت نماذجُ كثيرةٌ من الخُلفاء والقُضاة وغيرهم ممَّن اشتَهَر بالعَدْل، مع وجودِ كثرةٍ كاثرةٍ من العُبَّاد والفقهاء والمصلِحين يُقوِّمون الحُكَّام، ويأخذون على أيديهم، ويُواجهون الظُّلم والطُّغيان، مع وجودِ الشُّورى أيضًا، وما أخبارُ أميرِ المؤمنين الخليفةِ الرَّاشد العادِل عُمر بنِ الخطَّاب وبقيَّة الخُلفاءِ الأربعة ببعيدة، حتى إنَّ عُمر جعَلَ الأمْرَ بعدَه في أصحاب الشُّورى كما هو معروف، وسليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين، الذي كان حسَنَ السِّيرة في الرعيَّة، وكان مُؤثِرًا للعدلِ، وافتَتحَ خلافتَه بالخيرِ واختتمها بالخيرِ في توليةِ الخليفةِ العادلِ عُمرَ بن عبد العزيز، الذي ذاع عدلُه وانتشَر في الآفاقِ، وكان من سيرته أنْ جعَل مجلسَ شورى، وإذا وقَع أمرٌ مُشكِلٌ جمَعَ فُقهاءَ المدينة ولم يَقطع أمرًا دونهم، وطريقةُ معالجته الحكيمةِ للخوارجِ وكِتابُه إلى أوليائه ممَّا يُضرَب به المثلُ في معالجةِ مِثل هذه الأمور [ينظر: ((حلية الأولياء)) (5/ 310)، وغيرها]، وهارون الرَّشيد الذي كان يتحرَّى العدل، ويتولَّى بنفسه الحُكمَ بين الناس والفَصل بينهم، حتى إنَّه كان يَحكُم بالحقِّ على ابنِه لآحادِ الرعيةِ الضُّعفاءِ! وأمير المؤمنين المعتضِد بالله، الذي كانتْ أيامه طيبةً كثيرةَ الأمن والرَّخاء، وأسقط المكوس، ونشَر العدْل، ورفع الظُّلم عن الرعية [((تاريخ الإسلام)) للذهبي (6/ 679)]، والسلطان ألب أرسلان محمَّد بن داود السلجوقي، الذي كان عادلًا ومِن أحسن الملوك سِيرةً؛ ولذلك كان يُلقَّب بالسلطان العادل، والملك العادل نور الدِّين محمود بن زنكي الذي لم تزلِ الملوكُ تُجدِّد في محاسِنِه، ولم يجرؤ أحدٌ أن يَظلمَ أحدًا في عهده! وأخبار الوزير ابن هبيرة الذي كان مِن أبعدِ الناس عن الظلم ويُذكر من أخباره أعاجيبُ في ذلك، وصلاح الدِّين الأيوبي، وعدْله وحُسن تَعامُله حتى مع الصليبيِّين بعدَما انتَصَر عليهم، ونجم الدِّين أيوب الذي حَكَم فعدَل، والملك المجاهد أسد الدِّين شيركوه الذي صارتِ البلادُ في عهده في غايةِ الأمن والعدل والاستقرار، وتاريخ الإسلام حافلٌ بذلك ممَّا يتأبَّى على الحَصر، بل إنَّه كان يَتميَّز بعضُ أفاضل الحُكَّام من غيرِ المسلمين بأنَّه تَشبَّه بسِيَر الخلفاء المسلمين في سيرِه بالعدل، وسياسته في الحُكم.

مع الاعترافِ بأنَّ بعضَ الخلفاء والأمراء قد انحرَفوا عن سواءِ الصِّراط، وفشَا الظلمُ والاضطهاد في بعضِ مراحلِ التَّاريخ، ولكن كان الغالبُ الأعمُّ في عصور الإسلام هو انتشارَ العَدْل والشُّورى، وكان ذلِك من ضِمن الأسبابِ في استقرارِ المجتمعات وازدهارِها وتطوُّرها على مدَى أكثر من ألف عام، وهذا ما شَهِدتْ به الأعداءُ قبل الأصدقاء، والفضل ما شَهِدتْ به الأعادي!
وعليه؛ فهذا المسلكُ الذي سلَكَه المؤلِّفُ من أخطر ما يكون؛ إذ يُظهر عمومَ المسلمين في تاريخهم وحاضرِهم في وادٍ ومنهجِ الإسلامِ في وادٍ آخَر، وأنَّه مجرَّد (مثال) تلهجُ به الألسنة والنصوص دون الأفعال والواقِع، على الرغم مِن توجيه النصوص الدِّينيَّة إليه والحرص الشديد عليه- على حدِّ قول المؤلِّف! وهذا عينُ الظلم لتاريخِ أُمَّة بأكملِها؛ فكيف يدعو إلى العدلِ مَن يظلم أُمَّةً بأكملِها؟!

وفي زعْمِ المؤلِّفِ أنَّ حملة نابليون على مصرَ قد أسهمتْ في (تنشيط مبادِئ الحرية والعدالة والشورى، ونجَح التيَّار الوسطيُّ القويُّ في الإسلام الحديث في أن يُصوِّر الشورى مكافئًا بديلًا للديمقراطيَّة الغربيَّة) مغالطة؛ إذ هذه الأمور مجرَّد شعارات كما هو معلومٌ، وإلَّا فدراسةُ تاريخ حملة نابليون دراسةً مُتجرِّدةً تُنبئ أنَّها مَن كانتْ البِدايات الفِعليَّة لتنحيةِ الإسلامِ والحُكمِ بما أَنزل اللهُ تعالى، ولعملية التغريب المشؤوم، ونَشْر مبادِئ العلمانيَّة القَبيحة، وهو ما زالتِ الأمَّةُ تُعاني من آثارِه إلى يومِ النَّاسِ هذا!

هذا بعضُ حديثٍ عن مقصود المؤلَّف، وأمَّا الحديثُ عن وسائلِه الذي أراد أن يَتوصَّل بها إلى الغايةِ التي أرادها، فقد أدَّت به باختصارٍ شديدٍ إلى تصوُّرات (مُبتدَعة) في هذا الدِّين! بل بعضها مخالفٌ لجوهرِه وأصلِه، وغائياته ومقاصدِه العُليَا أيضًا، ولم يصلْ به إلى الصورة النقيَّة الأصلية ولا الجاذبة ولا المتحرِّرة من الاختلاطات والاختلالات...إلخ، وسوف يتبيَّن أنَّ كثيرًا مِن العقائد والتصوُّرات والفُهوم والمواقِف التي يعتقدها المؤلِّف ويراها سالبةً، هي في حقيقةِ الأمر إيجابيَّةٌ ونقيَّةٌ وأصليَّة، إضافةً إلى اتِّساقها مع غائيات هذا الدِّين ومقاصدِه العُليا.

فقد رأى المؤلِّفُ أنَّ أهمَّ الوسائلِ لذلِك هو طرْحُ ما سمَّاه بالمنهجِ الظاهريِّ والحرفيِّ في قِراءة النُّصوص، والاعتمادُ على ما سمَّاه منهج التأويل أو المنهج التأويليِّ، حيث يقول (ص: 33- 34): (... ففي اعتقادي أنَّ تعلُّق التيَّار الإسلامي الأغلبي بمنظور (ظاهري) (حرفي) في مقاربة وفَهم النصوص الدينيَّة (المتشابهة) وفي تمثُّل القضايا الاجتماعيَّة والكونيَّة الخطيرة لا يُمكن أن يَحمِلَ إلى دِين الإسلام وأهله إلَّا أسبابَ الضعف والعجز والإساءة والتخلُّف، وأنَّ منهجَ التأويل -الذاهب إلى توجيه (النُّصوص) عن ظاهرها الماديِّ الحرفيِّ إلى معانيها المجازية أو العقليَّة التي تُسوِّغها أساليبُ اللُّغة العربيَّة في الفَهم والتجوُّز، أو منطق الأوضاع التاريخيَّة، أو تقديم المنظور الهولستي في قِراءة النصوص على المنظور الفردي، أو الضرورة والمصلحة واعتبار مقاصد الشَّريعة- هو المنهجُ السديد. وبكلمة: لن يتقدَّم الإسلام في الأزمنة الحديثة إلَّا بالتحرُّر من الرؤية الاتِّباعية الحرفيَّة للنُّصوص المتشابهة، وباختيار قِراءة لها معزَّزة بالتأويل والفَهم العقلي الموافِق لأحكام الزَّمن وطبائعه ومتطلَّباته المصلحية)، ويقول (ص: 147): (... لا أتردَّد في المسألة، فأنا أعتقد أنَّ المنهج الهولستي التأويلي هو الذي ينبغي أن يُتَّبع، وأنَّ المبادئ والمقاصد هي التي ينبغي أن تُطلَب، لا في موضوع العدالة فقط، وإنما في جميع الموضوعات الأخرى؛ لذا كانت نظرية (المصلحة) التي نوَّه بها فقهاءُ المقاصد هي التي ينبغي الوقوفُ عندها من جملة الموروث العربيِّ الإسلاميِّ، ومضاهاتها بجملة النظريَّات الغربيَّة في العدالة، وهذا التقاطُع أو (التضايف) ضروريٌّ؛ لأنَّنا لا نعيش وحْدَنا في هذا العالم).

فهنا يعدُّ المؤلِّف (منهج التأويل الذَّاهب إلى توجيه (النُّصوص) عن ظاهرها الماديِّ الحرفيِّ إلى معانيها المجازية أو العقلية ...) يعدُّه هو المخرجَ مِن الأزمة المترتِّبة على عدمِ انسجام النصِّ مع متطلَّبات رُوح العصر والمجتمع المعاصِر، ويَعدُّه هو المحقِّقُ للمقصود الذي يقصده والغاية التي يتغيَّاها، وسوف يتَّضح من خلال تمثيله ببعضِ مَن أخذوا بمنهج التأويل أنَّه يعني التأويلَ المنحرِفَ غيرَ المنضبط الذي يدخُل في القول على الله تعالى بلا عِلم، والذي يَدخُل في الرأي المذموم.

وتأصيلُ هذه المسألة مبسوطٌ في غير هذا المقام، ولكن يُكتفى هنا فقط بالتَّنبيه عليها والإشارةِ إليها؛ فالمقصودُ بظاهر النُّصوص مدلولُها المفهومُ بمقتضى الخِطاب العربي، لا ما يُقابل النصَّ عند متأخِّري الأصوليِّين، الذي يَعني الظاهرُ عندهم: ما احتمل معنًى راجحًا وآخَر مرجوحًا، والنصُّ هو: ما لا يحتمل إلَّا معنًى واحدًا. والواجب في نصوصِ الوحي إجراؤُها على ظاهرِها، وهو الذي يُقصَد مِن اللَّفظ عند التخاطُب، ولا يتمُّ التفهيمُ والفهمُ إلَّا بذلك المتبادِر من كلام المتكلِّم، واعتقادُ أنَّ هذا المعنى هو مرادُ المتكلِّم، وأنَّ نفيَه يكون تكذيبًا للمتكلِّم، أو اتِّهامًا له بالعِيِّ وعدم القُدرة على البَيان عمَّا في نفسه، أو اتِّهامًا له بالغَبنِ والتَّدليس وعدم النُّصح للمُكلَّف، وكل ذلك ممتنعٌ في حقِّ الله تعالى وحقِّ رسوله الأمين صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فالمنهجُ السَّديد في هذا هو الأخذُ بظواهر النصوص إلَّا لأدلَّةٍ ملزمةٍ. وأهل السُّنة والحديث وسطٌ بين الذين بالَغوا في الأخْذِ بالظاهرِ ولم يَلتفِتوا إلى معاني الأدلَّة، وبين الذين فرَّطوا في الأخْذ بالظاهر، فردُّوا ظاهرَ الدليلِ بمجرَّد النظر العقليِّ أو الهوس الفَلسفي، وقد أجْمَع جميعُ المسلمين على أنَّ العمل بالظاهرِ واجبٌ حتى يرِدَ دليلٌ شرعيٌّ صارفٌ عنه، إلى المحتمل المرجوح، وعلى هذا كلُّ مَن تكلَّم في الأصول - كما يقولُ العلَّامة الشِّنقيطي رحمه الله.

والأخطرُ في هذا أنَّ التذرُّعَ بمنهج التأويل، وفَهم رُوح النصِّ؛ ليسايرَ العصر، ومقصود الشَّرع ومصالحه، وغير ذلك من الألفاظ إنَّما يُستخدم للانسلاخِ مِن الوحي، وهدْمِ أحكامِ الشريعةِ والأمورِ المُجمَع عليها، بل الأمور المعلومة من الدِّين بالضرورة- كما سيأتي التمثيلُ على ذلك.
وكل ما ورَد عن الأئمَّة في عدم الأخْذ الظاهر في بعضِ النصوص؛ فلأنَّهم علِموا نصوصًا أخرى دلَّت عليه؛ فإنَّهم كثيرًا ما يضطرُّون لترك ما دلَّ عليه ظاهرُ النص لمخالفتِه لنصٍّ آخَرَ، وهو في دلالة نصٍّ قاطع، مِثل ترك مفهوم النصِّ لمنطوقِ نصٍّ آخَر، وترْك العامِّ للخاصِّ...إلى غير ذلك. وكما قال الخطيبُ البغداديُّ رحمه الله في ((الفقيه والمتفقه)) ((1/222)): (يجب أن يُحمَلَ حديثُ رسولِ الله عليه الصَّلاة والسَّلام على عمومِه وظاهرِه، إلَّا أنْ يقومَ الدليلُ على أنَّ المرادَ به غيرُ ذلك، فيعدل إلى ما دلَّ الدليلُ عليه).

وقد ذمَّ العُلماءُ الظاهريَّةَ الحرفيَّة التي يذهب المستدلُّ فيها إلى النصوصِ ويقطع بالحُكم بها، دون تفهُّم ذلك وتطلُّبه من تفسير الصَّحابة والسَّلف الصالح، ودون مراعاةِ مقاصدِ الشَّرع ومُحكماته.
ومِن نفيس كلامِ الحافظِ ابنِ حجرٍ رحمه الله قوله: (وقد توسَّع مَن تأخَّر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالبِ الأمورِ التي أنكرها أئمَّةُ التابعين وأتباعُهم، ولم يقتنعوا بذلك، حتى مزَجوا مسائلَ الدِّيانة بكلام اليونان، وجَعلوا كلامَ الفلاسفة أصلًا يردُّون إليه ما خالَفَه من الآثارِ بالتأويل- ولو كان مُستكرَهًا- ثم لم يَكْتَفوا بذلك حتى زَعَموا أنَّ الذي رتَّبوه هو أشرفُ العلوم، وأولاها بالتَّحصيل، وأنَّ مَن لم يستعملْ ما اصطلحوا عليه فهو عاميٌّ جاهل! فالسعيدُ مَن تمسَّك بما كان عليه السَّلَفُ، واجتنبَ ما أحْدَثه الخَلَفُ) ((فتح الباري)) (13/267).

ويقولُ ابنُ القيِّم رحمه الله مبيِّنًا خُطورةَ التأويلِ الفاسِدِ: (فأصلُ خراب الدِّين والدنيا، إنَّما هو من التأويل الذي لم يُرِدْه اللهُ ورسولُه بكلامِه، ولا دلَّ عليه أنه مُرادُه، وهل اختلفتِ الأممُ على أنبيائهم إلَّا بالتأويل، وهل وَقعتْ في الأمَّة فتنةٌ كبيرةٌ أو صغيرةٌ إلَّا بالتأويل، وهل أُريقت دماءُ المسلمين في الفِتن إلَّا بالتأويل، وليس هذا مختصًّا بدِين الإسلام فقط؛ بل سائر أديان الرسل لم تَزلْ على الاستقامةِ والسداد حتى دخَلَها التأويلُ! فدخل عليها من الفسادِ ما لا يَعلمُه إلَّا ربُّ العباد) ((أعلام الموقعين)) (4/216).
وممَّا يجدرُ التنبيهُ إليه: أنَّ منهج الاتِّباع والأخْذ بظاهِر النُّصوص لا يَعني الجمودَ ولا إلغاءَ ما فيه خيرٌ للأمَّة من الأمور والوسائل الحديثة أو تحريمه- كما يُشاع خطأً لمجرَّد التشنيع على هذا المنهج- وهذه النقطة تحتمل بسطًا وتفصيلًا ليس هذا محلَّه كذلك.

إضافةً إلى أنَّ التوسُّعَ في هذا الباب يجرُّ إلى استسهالِ التأويل في بابٍ آخَر، وهكذا حتى يؤول الأمرُ إلى تأويلِ جملة الشريعة حتى ما يَتعلَّق منها بالأحكام الشرعيَّة كالصَّلاة والزكاة والصيام والحج، وأحكام المِيراث والحدود والجهاد، وغير ذلك، وجَعْلِ ذلك ممَّا يجبُ تأويلُه وعدمُ حمله على الظاهرِ لمجرَّد تنزيلها على واقِعٍ حاليٍّ، أو لتوهُّم معارضتها للمعقول، أو توهُّم موافقتها لقصد الشَّارع.
فزَعْم المؤلِّفِ أنَّ منهجَ الاتِّباع والأخذ بظاهر النُّصوص لا يَحمِل إلى دِين الإسلام وأهله إلَّا أسبابَ الضَّعْف والعجز والإساءة والتخلُّف، وأنَّه (لن يتقدَّم الإسلام في الأزمنة الحديثة إلَّا بالتحرُّر من الرؤية الاتِّباعية الحرفيَّة للنُّصوص المتشابهة، وباختيار قِراءة لها معزَّزة بالتأويل...)، هو زعمٌ مخالفٌ صراحةً لقولِ الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]، ولقولِ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَنْ أَحْدَث في أمْرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ)) متفق عليه، ومخالف لِمَا تواتَر عن السَّلف في أنهم قالوا: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم)! ثم إنَّه مخالف أيضًا للواقِع التاريخيِّ؛ فإنَّ أزْهى عصور أمَّة الإسلام تطورًا وحضارةً ورخاءً ورفاهيةً، وانتشارًا للعدل والشورى واحترامًا للكرامة الإنسانية...إلخ ممَّا لم يصلْ إليه حتى الآن أيَّةُ أمَّة من الأمم حتى الغرب الذي يُدَّعى أنَّه حقَّق من ذلك شيئًا كثيرًا- كل هذه العصور عاشَها المسلمون وهم على منهجِ الاتباع والأخذ بظاهر النُّصوص، وليس على المنهج التأويلي!

ثم إنَّ منهج التأويل المدَّعى ليس له أيَّةُ ضوابط ولا أيَّة حدود إلَّا ما يُخيَّل من أنَّه من مصالحِ العِباد أو أنه من مقاصد الشرع، وقد يكون من أعظم المفاسِدِ ومن أكبر مُناقِضات الشَّرع! وما هو إلا الضَّعفُ والتأثُّر بنظريَّات الغربِ الذي يُتصوَّر أنَّه الغالبُ المنتصر في هذا العَصر!

وممَّا يَلتحِق بالمؤاخذةِ السَّابقة على المؤلِّف، ويُدلِّل على أنَّ منهج التأويل الذي يَتكلَّم عنه هو المنهجُ المنحرِف، وليس منهجَ التأويل المنضبِط أو الذي تَحتمِله النصوصُ على الأقلِّ، وأنَّ هذا المنهج يُؤدِّي إلى انحرافاتٍ عديدة: ما ذَكَره عن أهميَّة التأويل في الخروجِ ممَّا يسمى بمأزق النِّسوية، وما سماه (النِّسوية التأويليَّة)، وما مثَّل به من أسماء لمُفكِّرات نِسويات في هذا المضمار، واصفًا لهنَّ بأنهنَّ صاحباتُ كفاياتٍ علميَّة رصينة متقدِّمة، ومدافعًا عنهنَّ ومُثنيًا على منهجهنَّ بأنَّه لم يقعْ براثنِ القِراءة السلفيَّة الظاهريَّة للنُّصوص الدِّينيَّة! وأنَّ مذهبَهنَّ أقربُ إلى السَّداد والصحَّةِ والعدلِ، وأنَّه يُعيدُ للمرأةِ صورتَها اللائقة، التي اعتقَد البعضُ أنَّ المعنى الظاهريَّ للنصوصِ ربَّما ينتقصُ من قيمتها الإنسانيَّة.

يقول (ص: 84): (بَيدَ أنَّ الفضاء العولمي الحرَّ الذي أسهم في إنتاج هذا الموقف، أنتج في الوقت نفسه موقفًا نِسويًّا آخر، لم يقعْ في براثن القراءة السلفيَّة الظاهرية للنصوص الدِّينيَّة، ولا في جموح الرفض الذي يمدُّ جذوره في تجارب الوجدان الحياتية القاسية، وفي الارتداد على القراءة السلفية للنصوص الدِّينيَّة، وإنما جرّد، بفضل كفايات صاحباته العلميَّة الرصينة المتقدِّمة، مذهبًا أقرب إلى السَّداد والصحة والعدل، هو ما أسميته (النسوية التأويلية). تذهب ممثلات هذه النِّسوية- وكلهن أكاديميات عالِمات بالعلوم الدينية وبمناهج العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة الحديثة: أمينة ودود، وأسماء برلاس، ورفعت حسن - إلى أنَّ التصورات الخاصَّة بالمسألة النسائيَّة، والمنحدرة من التجرِبة التاريخيَّة الإسلاميَّة، إنما هي تصوُّرات من صُنع (الرجال) الذين تستحوذ عليهم الثقافةُ البطريقيَّة - الاستبداديَّة، وأنَّ الفهم السديد للنصوص الدينيَّة ينقض هذه التصورات الذكوريَّة. وحقيقة الأمر عندهنَّ هي أننا لو نظرنا إلى واقع المجتمعات الإسلاميَّة لأدركْنا أنَّ الإسلام النافذ فيها هو بالضرورة، (لا مساواتي)، وأنَّ علة ذلك تَكمُن في أنَّ التفسير التاريخيَّ للدِّين الحاكم لهذه المجتمعات هو تفسيرٌ يُجسِّد مصالحَ ومنافعَ وأذواق وأهواء المفسِّرين الرِّجال أنفسهم. لذا يذهبنَ إلى أنَّه يتعين بالضرورة، في هذا العصر، أن (تتدخل) المرأة (الكفء)، المرأةُ المستحوذةُ على أدوات النظر والبحث والعلم، وأن تشاركَ في عملية التفسير وفي تجريد رؤية مساواتية في المسألة النِّسوية؛ لأنَّ النصَّ القرآني نفسه صريحٌ في إثبات (المساواة الأنطولوجية) بين الجنسين، ولأنَّ دِين الإسلام نفسه (لا يضطهد)... إذ إنَّ مصدر الاضطهاد يأتي من الثقافة ومِن الرجل المستغرِق في هذه الثقافة. ومعنى ذلك أنَّنا نستطيع أن نتكلم على (نسوية إسلامية) حقيقية من منظور قرآني).

ويقول: (ص: 108): (من المؤكَّد أنَّ الثقافة (الأبوية) والتقاليد الذكوريَّة، وانحصار فَهم النصوص من منظور المفسِّرين والمحدِّثين الرِّجال، وإهمال السِّياق التاريخيِّ والاجتماعيِّ والاقتصاديِّ للنصوص، واختلاط فَهم (النصوص) بالثقافة الموروثة، كل ذلك أدَّى دورًا حاسمًا في تحديد وضبط وتوجيه الأحكام المتعلِّقة بالمرأة. لم يحفظ لنا التراث إلا قدرًا ضئيلًا من شهادات الاحتجاج النسائي في وجه عسف الرِّجال وظلمهم للنساء، لكن هذا العصر يشهد أيضًا بأنَّ الرسول نفسه قد مارس حياةً عادلة، وأظهر نزعة (نسوية) نبيلة، بحسب ما أبانت عنه فاطمة المرنيسي).

ويقول (ص: 109): (ما ذهبتْ إليه ثُلَّةٌ من المفكِّرات المسلمات النساء اللواتي هاجَرْنَ إلى الغرب، وتمثَّلْنَ علومه وثقافته وقِيمه العُليا، فقدَّرن، من منظور قرآني... أنَّ القرآن صريح في إقرار (المساواة الأنطولوجية) بين الجنسين، وأنَّ من الضروري، وفقًا لذلك، (إعادة قراءة) النصوص الدينية (المربكة) وتأويلها لتعزيز صورة جديدة تَليق بالمرأة المسلمة وبالإسلام في العصر الراهن وفي الزمن المنظور... ولا يسمح المقام هنا بأنْ أذهب إلى أبعد من القول: إنَّ القراءة التأويلية للنصوص النسائية التي يُفيد ظاهرها التراتبية وغياب المساواة والعدالة بين الرجل والمرأة جديرةٌ بأن تُبدِّد الصورة المتداولة في المخيال الجمْعي الكوني الصورةَ التي تَزعُم أنَّ الإسلام دِينٌ يضطهد المرأةَ ويُجرِّدها من كرامتها الإنسانية)، وأيضًا كرَّر المعنى نفسَه بشيءٍ مِن التفصيل في (ص: 154).

التعقيب:
كلُّ هذا الكلام وغيره مِن المواضِع في الكتاب-مع ما فيه مِن طَعنٍ صريحٍ في أئمَّة الإسلامِ من المفسِّرين والحقدِّثين على مدَى أربعةَ عَشرَ قرنًا بما هم منه براءٌ، واتِّهامٍ لكلِّ هذه الأجيالِ بالخطأِ والظُّلم، وما فيه من طَعنٍ خفيٍّ في نصوصِ الوحي الشريف- كل هذا ذكَره المؤلِّفُ للدِّفاعِ عن النظرةِ التأويليَّة المتعسِّفة للنُّصوص؛ بحُجَّةِ تحريرِ الإسلام!

ونظرةٌ عجلى على بعضِ آراء بعضِ النِّساء اللواتي ذكَر المؤلِّفُ، تَكفي للردِّ عليه، وبيانِ بُطلانِ هذا المسلك الخطير:
فأمينة ودود: كانت أوَّل امرأة في تاريخِ الإسلام تخطُب الجُمُعةَ وتؤمُّ الرجالَ والنساء في صلاة الجمعة في عام 2005 في نيويورك! وهي صاحبةُ الكتاب ذائع الصِّيت "القرآن والمرأة" الذي تناولتْ فيه قراءةَ النُّصوص القرآنيَّة من خلال وجهة نظرٍ نِسائيَّة تطرح فيها حقَّ المرأة في إمامةِ المسلمين، وترى أنَّ عدَمَ إعطاء المرأة المسلمة هذا الحقَّ هو أمرٌ خاطئٌ متجذِّرٌ داخل المجتمعات الإسلاميَّة دون أن يقومَ أحدٌ بمحاولات جادَّة لتصويبه! وترى أنَّه لا يوجد في سلوكيات النبيِّ محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام ما يمنع أن تؤمَّ المرأةُ المسلمين رجالًا ونساءً! وتؤكِّد في كتابها أنَّ الرسول الكريم وافق على إمامةِ المرأة المسلمة، وعدم إعطائِها هذا الحقَّ جعَلَها تفقدُ مكانتَها كقائدةٍ رُوحيَّة وفكريَّة! وهي التي أشارتْ أثناء الخُطبة إلى لفظ الجلالة [الله] بضمير المذكَّر والمؤنَّث وغير العاقِل على أساس أنَّ لفظ الجلالة يَستعصي على النوع- تعالى الله عمَّا يقولُ الظَّالمون عُلوًّا كبيرًا- إلى غير ذلك ممَّا تطفح به كتابتُها من الأمور التي تخالف فيها إجماعَ المسلمين وما استقرَّ عليه دِينُهم، ممَّا يصل إلى مخالفةِ المعلوم من الدِّين بالضرورة، وقد ردَّ على افتراءاتها ردودًا مفصَّلة ثُلَّةٌ من الباحثِين، وكذلك صدرتْ بشأنها عدة فتاوى وبيانات مِن لجان الفتوى والمجامع الفقهية المتخصصة؛ فليراجعها مَن أراد.

وأمَّا أسماء برلاس: فهي صاحبةُ كتاب "المؤمنات في الإسلام: عدم قِراءة التَّفاسير الذُّكورية للقرآن"، الذي تزعم فيه معالجةَ سياسات النَّوع في النصِّ الدِّيني واستغلال المعرفة الدينيَّة لقَمْع المسلمات، والتي تحاول من خلال أعمالها أن تُبيِّن كيف أنَّ التفاسير الذُّكوريَّة للقرآن- على حدِّ وصفها- أسهمتْ في تبرير الإبقاء على بِنيات دِينيَّة واجتماعية تَقمعُ النساء في المجمَل، وتُشدِّد على ضرورة إعادة تفسير القرآن؛ لإبرازِ الموقف القرآني من عِدَّة قضايا ورفضه للنِّظام الذُّكوري واللامساواة بين الجِنسين. وتُؤكِّد على أنَّ القرآن يقرُّ بالمساواة الكاملة بين الجنسين، ويجعلها مُمكنةً! كل هذا بتأويل الآياتِ القرآنية التي يعدُّها المسلمون دليلًا على أفضلية الرِّجال على النساء، وبزعْمِ مُرونةِ اللُّغة وتغيُّر معاني النصِّ بتغير المفسِّر وكيفية التفسير. وترى أيضًا ضرورةَ تجديد قراءة للقرآن بطريقة مختلفة وإيجابيَّة؛ للوصول إلى حقيقة أنَّ الله تعالى لم يُفضِّل الذكور على الإناث وتزعُم أنَّ الدِّين- وخصوصًا الإسلام- استُخدم لتحقيق أغراض سياسيَّة، ومِن ثَمَّ فالأفعال التي تُمارس باسم الدِّين كارتداءِ البُرقع، أو الفصل بين الجنسين، أو الرَّجم حتى الموت، أو قتْل المرأة باسم "الشرف"، أو ممارسات أخرى مُهينة تُنسب للإسلام، لم يَرِد ذكرها في القرآن!! والمهم عندها أنْ يقرأ المسلمون القرآن بأنفسهم في ضوءِ الفَهم الجديد للعالَم! وتحدِّي تلك التفاسير التي أَلصقت التفضيلَ الجنسيَّ بالخطابِ الإلهيِّ! وتُشكِّك في الأحاديث الصحيحة التي تتعارَض مع القرآن- بحسب فهمها طبعًا- وأنَّ هذه الطريقة هي المنهجيَّة الوحيدة التي ستُمكِّن المسلمين عبرَ العالم من المضيِّ قُدمًا نحوَ تحقيق النموذج القرآني للمساواة بين الجنسين!

وكذلك هو الحال بالنسبة لفاطمة مرنيسي الكاتبة النِّسوية المغربية، التي تَطفَحُ كُتبها بالضَّلال والخَنَا! وسيطرة منهجيَّات الفِكر الغربيِّ وأيديولوجياته على فَرَضيات أغلب أطروحاتها وتَحليلاتِها واستنتاجاتِها، وهذا ما جعَل العديدَ مِن الدوائر الغربيَّة تحتفل بكتاباتِها ومواقفِها الثقافيَّة!

فهذه بعضُ سِمات المنهجِ التأويلي الذي يُدافع عنه المؤلِّف، ويرى أنَّه هو المخرجُ مِن الأزمة، وهؤلاء بعض مَن يرَى المؤلِّفُ أنهنَّ مُفكِّراتٌ مسلماتٌ عالماتٌ بالدِّين والواقع، وهذه بعضُ نتائجه!
ومن المؤاخذات على المؤلِّف: قوله (ص: 41): (والأخطر من ذلك كلِّه أنَّني لا أستطيع أن أَقبلَ أن يكون الإسلام إسلامين، أحدهما سُني، والآخر شِيعي. لسببين على الأقل: ... ثانيهما: أنَّ الافتراق الحاصل بين هذين (الإسلامين) هو افتراقٌ (تاريخي) ذو أصول (سياسية) محضة، ... لكن من حقِّي وفي مُكنتي أن أقول وأن أُكرِّر القول: إنَّ هذه القسمة، تاريخيَّة، سياسيَّة، لا أصل لها في النص القرآني، وهي تحمل إساءةً بالغة لوحدة دين الإسلام نفسه، والذي يجب، فرضًا، هو تحريرُ دِين الإسلام وأهله منها، وأنْ يتداعى (عقلاء) الجمعين ويتضافروا من أجل نبْذ هذه القِسمة وإقصائها والعودة إلى توجيهات الإسلام القرآنيَّة ووضْع حدٍّ نِهائي لهذا الفصام النَّكد. وأنا أعتقد بجزم بالغ أنَّه لا أحدَ من المسلمين يستطيع أن يقف أمامَ الله متَّشحًا بثوب يتقدَّم به إليه بما هو سُني أو بما هو شِيعي. واللهُ لن يقبل من المسلمين إلَّا إسلامًا واحدًا).

التعقيب:
مِثل هذا الكلام يحتاجُ إلى تحريرٍ، ولا بدَّ فيه مِن مراعاةِ الأصلِ العظيمِ في ذلك، وهو: أنَّ ثَمَّةً فريقًا على الحقِّ وفريقًا على الباطل، وأنَّهما لا يستويان، وأنَّ الواجبَ هو معرفةُ الحقِّ والخضوعُ له والقَبولُ به، فنُثبت مع مَن الحقُّ أولًا، أمَّا إقصاء هذه القِسمة ونبذها على غيرِ أساس؛ فهو غيرُ ممكن واقعًا، إضافةً إلى أنه منهيٌّ عنه شرعًا؛ فقد عرَض المشركون مثلَ هذا الأمر على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وحكَى الله تعالى عنهم ذلك في قوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، أي: ودُّوا لو تُرخِّص لهم فُيرخِّصون، أو تَلين في دِينك فيَلينون في دِينهم [ينظر: (تفسير الطبري (23/ 532)]، ثم أمَرَه الله تعالى ألَّا يُطيعهم؛ فقال: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } [القلم: 10].

وعليه؛ فلا يَستوي مَن حَكَّم كتاب الله تعالى واتَّبع ما صحَّ عن رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، مع مراعاةِ فَهم الَّذين طبَّقوا هذا الدِّين وشَهِد لهم الوحيُ بالرِّضوان وأثنى عليهم، مع مَن نبَذَ كتابَ الله وراءَه ظِهريًّا، وأخَذَ يَتعسَّف في تأويل نُصوصِه، وردَّ سُنَّة نبيِّه، وسبَّ ولَعَن مَن طبَّقوا هذا الدِّينَ وشُهِد لهم بالخير والصلاح والهداية- لا يَستوي هذا مع هذا، والواجبُ لنبْذ هذه القِسمة وإقصائِها والعودة إلى توجيهات الإسلامِ القرآنيَّة ووضْع حدٍّ نهائيٍّ لهذا الفِصام النكد؛ هو ما ذَكَره النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في جوامع كَلمِه حيث قال مُوصِّفًا الدَّاء، وواصفًا للدَّواء: ((فإنَّه مَن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين، عَضُّوا عليها بالنواجِذِ، وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأُمور...)) [رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيُّ]؛ فالدَّاءُ العضالُ هو الاختلافُ، والدواءُ الناجِعُ هو الرجوعُ إلى السُّنَّة والتمسُّك بهَدْي الخلفاء الراشدين (وهم أبو بكر, وعمر، وعثمان, وعلي - رضي الله عنهم أجمعين) ونبْذُ البِدع ومحدثات الأمور في الدِّين؛ وهذا إخبارٌ منه صلَّى الله عليه وسلَّم بما وقَع في أمَّته بعدَه من كثرة الاختلاف في أصولِ الدِّين وفُروعِه، وفي الأقوالِ والأعمالِ والاعتقادات، وهو موافقٌ لِمَا رُوي عنه مِن افتراق أمَّته على بِضع وسبعين فرقةً، وأنَّها كلَّها في النَّار إلَّا فرقةٌ واحدة، وهي مَن كان على ما هو عليه وأصحابُه). [ينظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/ 120)]، ولئِنْ زعَمت أكثرُ مِن فرقةٍ أنَّها الناجيةُ، وأنَّها على ما كان عليه صحابةُ رسولِ اللهِ، إلَّا أنَّه بإجماعِ العُقلاء تخرُجُ الفرقةُ التي لَعَنتْ وشتَمَتْ صحابتَه مِن أن تكون هي المعنِيَّةَ؛ فالضِّدَّانِ لا يَجتمعان.

وعليه؛ فمَن تَنكَّب عن هذا الطريقِ وهذه السُّنَّة المسلوكة؛ فهو الذي أَوْقَع الأمَّة في الافتراقِ.
أمَّا زعْمُ المؤلِّف بأنَّ تلك الخِلافات نابعةٌ من أصولٍ سِياسيَّة محضة، فهو جهلٌ محضٌ منه بواقِع القومِ ومُعتقَدِهم، ولو سَلَّمنا له -جدلًا- أنَّ بدايةَ الأمرِ كان خلافًا سياسيًّا؛ فهل واقعُ الرافضة اليوم لَعْنٍ لزوجاتِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، واتِّهامٍ لعائشةَ رضي الله عنها، ومِن سَبٍّ للصحابة رضي الله عنهم جميعًا، وقولِ بعضِهم بتحريفِ القرآن، وغيرِ ذلك من العقائد الفاسِدة؛ هل هذا خِلافٌ سياسيٌّ، فضلًا عن أن يكون محضًا؟!

ومِن المؤاخذات على المُؤلِّف: قوله (ص: 50)- بعدَما انتقَد بعضَ المظاهر في الإفتاء والنقولات، وأنَّ (الفضاء الدِّيني) الإسلامي قد اهتزَّ اهتزازًا شديدًا، واضطرب اضطرابًا عظيمًا لِمَا صدَر من الفتاوى الدِّينيَّة من بَعضِ المشتغلين بـ(العلم الدِّيني) من أسفل الهرم إلى قِمَّته- قال: (لكن ما أَحرِص على أنْ أقِفَ عنده من المسألة أمرين [كذا والصَّواب: أمران]: الأوَّل: أنْ أسأل عن هذه (المؤسَّسة الدِّينية)- (مؤسَّسة الإفتاء)- التي أُسلِم أمرها إلى (أفراد) يَزعمون أنهم (مجتهِدون) لكنهم لا يلبثون أن يَنطِقوا بحماقات سفيهة تَثلِم صورةَ الدين نفْسه وتُشوِّهه. ويتعلل هؤلاء وغيرهم بأنَّه (لا كهنوت في الإسلام)، أي: إنه لا وجودَ لسلطة دِينيَّة عقديَّة فيه. وهم بذلك يُسبغون على أنفسهم (الفرديَّة) الذاتيَّة النسبيَّة، السلطة والمشروعيَّة، ويُسوِّغ الواحد منهم حُجيَّتَه بأنه (مفتي البلاد)، أو أنَّه (أستاذ الشَّريعة) أو (التفسير) أو (رئيس قسم الحديث) في هذه الجامعة أو تلك، أو... أو..، وليس هو في حقيقة الأمر إلَّا جاهلٌ (متاجِرٌ بالدِّين) لا إِلَّ له ولا ذِمَّة، يدَّعي (الابتكار في الاجتهاد) والكشفَ عن (جواهر الدِّين المكنونة)! والحقيقة أنَّ مَن يُسَمَّون في الاصطلاح اليوم، أهل السُّنة، أكثر وقوعًا في المحظور من غيرهم من المسلمين. والسَّبب واضح، وهو أنه ليس لديهم (مرجعيَّة عقديَّة) كابحة، مثلما هي الحالُ مثلًا عند الشِّيعة من المسلمين أو في المسيحيَّة الكاثوليكيَّة؛ حيث تَرجِع مثلُ هذه الأمور إلى سُلطة قاطعة لا تُتيح للأفراد (المتحذلقين) أن يَعبَثوا بمعتقدات المؤمنين ويُوجِّهوا حياتهم).

التعقيب:
فمع الاعترافِ بصدور بعضِ الفتاوى الشاذَّة مِن بعضِ مَن ينتسب إلى العِلم، إلَّا أنَّ هذا التعميم من المؤلِّف فيه حيفٌ وظلمٌ، وجهلٌ عريضٌ، وهذا الأسلوب الذي يَتكلَّم به لا يليق مع أهل العِلم، ثم إنَّ تعريضَه بأهل السُّنَّة وأنَّهم أكثرُ وقوعًا في المحظور من غيرِهم من المسلمين! ظلمٌ كبيرٌ أيضًا، وفيه مخالفةٌ للواقع؛ فإنَّ علماء أهل السُّنة المتحقِّقين بها، هم أكثرُ المسلمين ورعًا في الفتاوى، وأكثرهم التزامًا بنصوص الكتاب والسُّنَّة، وذِكر أمثلة ذلك قديمًا وحديثًا ممَّا يطول جدًّا ولا يُناسب هذا المقام، وأهل السُّنَّة في المجمل العامِّ عندهم أفضلُ ما عندَ جميع طوائف المسلمين.

وما ذكَره المؤلِّفُ من المرجعيَّة الكابحة عند الشِّيعة أو عِندَ النَّصارى (المسيحيين) الكاثولكيَّة؛ هو ممَّا يُذمُّ به لا ما يُمدح به؛ لأنَّه تقديسٌ فيه غلوٌّ؛ فمن المعروف عند الشِّيعة عَقيدة عِصمة الأئمَّة، وعند النصارى القِسِّيس الذي يملك صكَّ الغُفران! أفهذه هي السُّلطة الجامحة؟! بل ممَّا يُمدَحُ به أهلُ السُّنَّة أنَّهم لم يُقدِّسوا أحدًا مِن البَشر لدرجة العِصمة، سوى الأنبياءِ والمرسَلي! مع أنَّ المؤلِّفُ ينتقد مسألةَ التقديس بأقلَّ مِن هذا- كما سيأتي في المؤاخذة التالية.
ثمَّ أيُّ الزلَّتَينِ أعظمُ؛ زلةُ عالم سُنِّيٍّ يُمثِّل نَفْسَه ويَتَّبعه بعضُ أهل السُّنَّة ويُخالفه علماءُ آخرون سُنيُّون يتَّبعهم كثيرٌ منهم، أمْ زلَّةُ مَرجعٍ شِيعيٍّ يَنزلق معه كلُّ الشيعة ولا يُخالفه أحد؟! ما لكم كيف تَحكُمون؟!

ومن المؤاخذات: قوله (ص: 54- 55): (ويقرب مِن هذا الواقع واقعٌ آخَرُ يعلق به معنى (المقدَّس)، وهو واقع (الجيل المؤسِّس)، أو ما يُسمَّى في الاستخدام الدِّيني (جيل السلف)، أو (جيل الصَّحابة). لا شكَّ في أنَّ صحابة رسول الله الذين أدَّوا دورًا حاسمًا جليلًا في نصرة الرسول (صلَّى الله عليه وسلَّم) وفي إعلاء شأن الإسلام وتأكيد وجوده في الأرض، يستحقُّون أعظمَ قدْر من التبجيل والاحترام والشُّكر. ومِن المؤكَّد أنَّ الخير الحقيقيَّ الذي ينتظرهم هو ذاك الذي وعَدَهم الله تعالى به. لكن (المخيال الاجتماعي) و(الدِّيني) الإسلامي المتأخِّر لم يقِفْ عند هذه المرتبة من الاعتبار، بل ذهب بتوجيهات صريحةٍ حينًا، وضمنية حينًا آخَر من قِبل المحدثين و(أصحاب الحديث)، إلى مراتبَ أبعدَ من ذلك بكثير؛ إذ أحاطوا هذا الجيلَ بنظر (فوق طبيعي)، وأسبغوا عليه سِمةَ (القداسة) بكل المقاييس. فلا يجوز لأحدٍ أن يَذكُرَهم بغير الرِّضوان عليهم، والإشارة إلى مثالِبِ بعضِهم أو عيوبِهم يمكن أن تَحشُر صاحبها في باب (الضلال)، والنَّقدُ يدخُل في باب (الكفر) أو ما يقرُب من ذلك، ودعاوى الحِسبة يمكن أن تطال أصغرَ (الإشارات) إلى الواحد منهم وهكذا. وإثارة السؤال أو التساؤل حول (الثقة) في هذه الرواية أو تلك ممَّا يُنسَب إلى هذا أو ذاك منهم تُعرِّض صاحبَها لسوء الظنِّ والعاقبة. أمَّا تصوير (الصحابة) في الأعمال الفنية فما زال في الغالب الأعمِّ محظورًا منكرًا محفوفًا أصحابه بالمخاطر الحقيقية. هذا كله ليس من (المنظور الواقعي الإسلامي) في شيءٍ، وهو، بكلِّ تأكيد، جنوحٌ عن طريق الإسلام القويم؛ لأنَّ النصوص الدينية لم تُقدِّس أحدًا ولم تنزه أحدًا.

إنَّ عالَمَنا المعاصر لا يُطيق نسبة (القداسة) إلى أيِّ مخلوق بشري، وإنَّ على المسلمين أن يتحرَّروا من عُقدة التقديس للقدماء، أيًّا كان هؤلاء القدماء. ويترتَّب على ذلك (المراجعة) و(التصفية) لأقوالهم والمساءلة لأفعالهم في حدود النَّقد العلمي الرَّصين، والتقدير والاعتبار والتوقير لا في حدود القدْح والذم والتحقير.. فهم مثلنا، بشرٌ يُصيبون ويُخطئون ويجتهدون، مثلما يمكن أن نجتهد، فنُخطئ ونُصيب. ويكفي لتقديم الدَّليل القاطع على ذلك أن نستحضرَ الاقتتالَ الدامي العنيف الذي وقَعَ فيه الصحابةُ أنفسهم وكان سببًا في نجوم المشكل الكلاميِّ الكبير حول الأحكام والصِّفات وما أثار من جدلٍ واسع حول (مرتكب الكبيرة)؛ هل هو مؤمنٌ أم فاسقٌ أم كافرٌ، أم غير ذلك؟! إنَّ (تحرير) مخيالنا الاجتماعي والدِّيني من رواسب التاريخ يُمثِّل إسهامًا عظيمًا في إعادة الحيويَّة والفاعليَّة والإبداع والتقدُّم بالظاهرة الدِّينيَّة الإسلاميَّة في الحاضر وفي المستقبل).

التعقيب:
مع كونِ كلام المؤلِّف عن الصَّحابةِ الكرامِ رضي الله عنهم أجمعين جيدًا في بِدايته، إلَّا أنه اشتمَلَ على أخطاءٍ عديدة، إضافةً إلى أنَّه خطرٌ يَفتحُ بابَ شرٍّ عظيم أغلقه العلماءُ سلفًا وخلفًا؛ لِمَا يترتَّب عليه من مفاسدَ، ويتَّضح ذلك في الآتي:
أنَّ المحدِّثين (أصحاب الحديث) وأهل السُّنَّة عمومًا لم يُحيطوا هذا الجيلَ بتقديسٍ أو بنظرٍ فوق طبيعي- على حدِّ عبارة المؤلِّف- إذ لم يقولوا بعِصمتهم، ولا أنَّهم ليس لهم أخطاءٌ أو عيوب؛ بل نصُّوا على أنهم بشرٌ ليسوا معصومين، ولكنَّهم خيرُ جيلٍ بعد الأنبياء والمرسَلين، ويجب سلامةُ الصَّدر وسلامةُ الألسن لهم، وعدمُ تتبُّعِ أخطائِهم؛ لأنَّهم إنْ أخطؤوا فصُحبتُهم لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجهادُهم معه، ونُصرتهم الإسلام وتبليغُه للأنام، وأعمالهم العظيمة، كلُّ هذا ممَّا يُكفِّرُ الله تعالى به أخطاءَهم التي تَحقَّق أنهم وقَعوا فيها؛ غير أنَّ كثيرًا ممَّا يُشنَّع به عليهم؛ إمَّا تكونُ أخبارًا مكذوبة لا أصلَ لها، وإمَّا تكون ممَّا زِيد فيه ونُقِص منه وغُيِّر عن وجْهِه، وإمَّا تكون ممَّا اجتهدوا فيه وغايتُه أنْ ينالوا أجرًا واحدًا إنْ أخطؤوا. والواجب هو السكوتُ عن ذلك، وعدمُ التحدُّث فيما نُهينا عن الحديثِ فيه. وأمَّا التَّأصيلُ للجُرأة في الكلام على ذِكر أخطاء الصَّحابة الأكابرِ وإذاعتِها على الملأ؛ بحُجَّة أنَّ (المراجعة) و(التصفية) لأقوالِهم، والمساءلة لأفعالهم في حدودِ النقد العلمي الرَّصين، فإنَّه مِن أكبرِ الأخطاءِ والمخاطرِ في آنٍ، حتَّى وإنْ كانت في حدودِ التقدير والاعتبارِ والتوقير، لا في حدودِ القدح والذمِّ والتحقير- كما يَزعُم ذلك مَن يَزعُم.
وقول المؤلِّف: (فهم مِثلُنا بشرٌ، يُصيبون ويُخطئون ويجتهدون، مثلما يمكن أن نجتهدَ، فنُخطئ ونصيب...) خطأٌ؛ فنَعَمْ هم بشرٌ يُصيبون ويُخطئون، لكنَّهم ليسوا أمثالَنا! ولَسْنَا مِثلَهم! وخَطؤهم ليس كخطئِنا؛ فقد أخبَر الله تعالى أنه رضِيَ عنهم ورضُوا عنه، وكذلك نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وما نالوه من شرفِ الصُّحبة والجهادِ ونَشْر الإسلام ... وغيرِ ذلك، جعَلَهم في منزلة: ((.. فلو أنفقَ أَحدُكم مِثلَ أُحدٍ ذهبًا ما بلَغَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصيفَه))! كما أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

وعبارة المؤلِّف: (ويَكفي لتقديم الدليل القاطع على ذلك أن نَستحضرَ الاقتتالَ الدامي العنيف الذي وقَع فيه الصحابة أنفسُهم..) مع ما فيها مِن عدم الدقَّة- إذ الصحابةُ رضي الله عنهم قد اضطرُّوا إلى هذا، مع اجتهادِ الفريقين رضِي الله عنهم جميعًا- يُوضِّح أنَّه إذا فُتِح الباب للكلامِ عمَّا شجَر بينهم بنفْسِ نفسيَّة المؤلِّف؛ لتصوَّر هذا الجيلُ بأبشعِ ما يكون؛ فلذلك نهى السَّلف عن ذلِك، وذكروا أدلَّة ذلك.
ثم إنَّ مقتضى كلام المؤلِّف أنَّه لا يلزمُ الأخذُ بمنهج الصَّحابةِ رضي الله عنهم في فَهم الدِّين؛ لأنَّهم مجرَّدُ قومٍ فاضلين لهم أجرُهم عند ربِّهم؛ أمَّا نحن فيجب أن نُحرِّر مخيالنا الاجتماعي والدِّيني من رواسبِ التاريخ!
ولا شكَّ أنَّ هذا باطلٌ مخالفٌ لِمَا وردتْ به النصوصُ الكثيرةُ، وما استقرَّ عند المسلمين مِن لُزومِ اتِّباع منهجِ الصحابة في الاعتقادِ والسُّلوك والعملِ، وهذا ليس منافيًا للأخْذ بعلوم العصرِ وكلِّ ما يُفيد الأمَّةَ ويكون سبيلًا في تطورها وازدهارها. من ذلك: قولُ الله تعالى مخاطبًا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابَه رضي الله عنهم: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137]، وقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
وقول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((خَيرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الذينَ يَلُونَهم ثُمَّ الذينَ يَلُونَهم...)) [أخرجه البخاريُّ ومسلم]، وهو يَقتضي أنَّهم مُقدَّمون في كلِّ خير؛ ويجب اتِّباعُهم في طريقتِهم .. إلى غير ذلك من الأدلَّة، وكلامُ السَّلفِ في هذا فوق الحَصر.

ومِن أخطرِ المؤاخذات: قوله (ص: 90- 93): (في الواقع الشاهد العربي والإسلامي يُثيرُ الإسلاميُّون في الأغلبي من اتجاهاتهم شكوكًا وتوجُّسات حقيقيَّة، محليًّا ودوليًّا، في شأن ثُلَّة من القطاعات (الدقيقة) التي أبرزها أربعة: الفضاء المسيحي العربي، والفضاء الليبرالي والعلماني، والفضاء الغربي وثقافته؛ ثقافة الحداثة، والفضاء الفني.
مِن بين هذه القطاعات الأربعة يبدو لي القطاعُ الأوَّل، أدقَّها وأبعدَها أثرًا في (صورة العالم العربي الإسلامي)، وفي مستقبل هذا العالم، وفي الأوضاع المستقبليَّة للإسلام نفْسِه أيضًا. فليس سرًّا أنَّ المسيحيين العرب هم أقدمُ عهدًا بالمواطن التي دخلَها العربُ بالفتوحات الإسلاميَّة. وليس يجهل أحدٌ أن هؤلاء المسيحيين قد انخرطوا في حضارة الإسلام وتمثَّلوا ثقافته العربية والإسلاميَّة أيضًا وأَسهموا ويُسهمون في التقدُّم العربي والإسلامي. بتعبير آخَر هم ممتدُّو الجذور في هذا العالم، وهم منه وله بكلِّ المعاني والمقاييس. بَيد أنَّ الصِّراعات السياسيَّة الحديثة والمعاصرة التي شهِدها العالمُ العربي في علاقاته بالغرب الحديث الذي يُنعَتُ بأنَّه (صليبي)- وهو يُجسِّد في حقيقة الأمر العلمانيَّةَ الراديكالية- ألقت بظِلالها على الوجود المسيحي في هذا العالم. ...لا شكَّ في أنَّ الحالة المصرية هي أدقُّ الحالات العربية وأخطرها؛ لأنَّ المسيحيين المصريين، أي الأقباط، يُشكِّلون قسمًا جليلًا من مجموع سكَّان مصر. وهم حريصون كلَّ الحرص على مواطنتهم المصرية وعلى نَيْل حقوقِهم كاملة. وذلك حقٌّ لهم بكلِّ المعاني والمقاييس. لكنَّ فريقًا من (الإسلاميِّين) المسكونين بهاجس (الدولة الدِّينيَّة) لا يُبدون اهتمامًا حقيقيًّا بهذه الحقوق، وهم يَقِفون عند إعلان (النوايا الطيبة)، بينما لا يَتردَّد المتصلِّبون منهم في التلويح المستمرِّ بأحكام (أهل الذمَّة) التي حدَّدها (الفقهاء). أمَّا الأقنية الفضائية والإعلام الدِّيني والخُطب الدِّينية، وغيرها، فلا تكفُّ عن استحضار المعاني والألفاظ والعبارات الناقدة القادحة في (النصارى)؛ حيث لا يعترف لهم بعقيدة (التوحيد) التي هي، على الرغم من (السرِّ اللاهوتي) الذي يكتنف وجه (التثليث) فيها، لا تُخرج المسيحيةَ من حقل ديانات التوحيد السماويَّة الثلاث. وبكلِّ تأكيد، لا يمكن أن يكون لهذا كله إلا نتيجة واحدة هي الاعتقاد الراسخ عند المسيحيين العرب أن الإسلام عدوٌّ لهم وأنَّ المسلمين لا يرغبون في وجودهم في العالم العربي، أي في موطنهم الأصلي، وأنه ليس لهم من طريق للنجاة من هذا الضِّيق إلا العداء والصدام أو الهجرة.

يقول الإسلاميون الذين يَنعتون أنفسَهم بأنهم (وسطيون معتدلون) إنَّ هذا ليس هو موقفَ الإسلام ولا موقفَ المسلمين، لكنهم لا يفعلون شيئًا لمعالجة المشكل، ويغضُّون الطرف عن الإساءات التي تحدُث، كما إنهم لا يكترثون بواقعة الهِجرة المتعاظمة ولا بالتقديرات التي تُشير إلى أنَّه بعد رُبع قرن لن يكون ثَمَّةَ أيُّ وجود ملموس للمسيحيين العرب في العالم العربي. وذلك واقعٌ كارثيٌّ بكلِّ تأكيد، والحقيقة أنَّ جهل (الإسلاميين)، على اختلاف مذاهبهم، بعِلم الكلام الإسلامي وبالموروث من المناظرات الإسلامية -المسيحية-، أو اجتزاءَهم بمذهب عقديٍّ بعينه، وكذلك جهلهم بعِلم اللاهوت المسيحي، هي أمورٌ تُسهم إسهامًا عظيمًا في سوء الفَهم وفي تعقيد العلاقات الإسلاميَّة المسيحيَّة...
ثم إنَّ من أخطر ما ينبغي التنبيهُ عليه هو أنَّ الغلو الذي يبديه نفرٌ من (الدعاة) و(الإسلاميين) الذين يُطلُّون برؤوسهم من بعض الأقنية الفضائية أو وسائل (التبليغ) الأخرى، إذ يُلحقون مواطنيهم من المسيحيين العرب بالكُفر والكفَّار، هو مما ينبغي وضْعُ حدٍّ قاطع له: لأنَّ المسيحية ديانةُ توحيد سماوية، وليس ينبغي للجدليات اللاهوتية- الكلامية- الفلسفية (الشائكة، المعقدة، الملتبسة، العويصة) الخاصة بماهية الله وصفاته، أن تكون عِلَّةً في إنكار الأصل، أولًا؛ ثمَّ إنَّ الله وحده- لا هذا أو ذاك من أطراف الاختلاف أو (الاجتهاد)- له الحقُّ في أن يُحدِّد، في نهاية الأمر، مَن المؤمنُ ومَن الكافر!).

التعقيب:
هذا الموضِع مِن أخطرِ المسائِل في الكِتاب، ومِن أكبرِ المآخذِ على المؤلِّف؛ فكلامُه عن النَّصارى (المسيحيين) وأنَّهم أقدمُ عهدًا بالمواطَنِ التي دخلَها العربُ بالفتوحات الإسلاميَّة، وأنَّهم أسهموا ويُسهمون في التقدُّم العربيِّ والإسلامي، وأنَّ المسيحيَّةَ ديانةُ توحيدٍ سماويَّة...إلخ، فيه مغالطاتٌ عديدةٌ؛ ويتَّضح بعضُها مِن خلالِ الآتي:

أولًا: أنَّ الأرضَ للهِ يُورثها مَن يشاءُ مِن عبادِه، وأنَّ العاقبةَ للمُتَّقين؛ فلا يَعني قِدمُ العهدِ بالموطنِ الأحقيَّةَ به، بل الأحقُّ به مَن خوَّلَه الله تعالى لوراثةِ هذه الأرضِ؛ بسببِ تقواه وخشيتِه من الله تعالى وقِيامه بحقِّه وإسلامِه له؛ فإنَّ النصارى يَزعُمون أنَّهم أصحابُ الأرض وأنَّه يجب أن تُحرَّر من الغُزاة العرب والمسلمين، وينتظرون هذا اليومَ بفارغ الصبر؛ ولذلك يَرتدي قساوستُهم الملابسَ السَّوداء- كما يُدَّعى!
ثانيًا: أنَّ القرآنَ العظيم ناطقٌ بأنَّهم لا يُحبُّوننا ولا يَودُّوننا وأنَّهم لا يَألون جهدًا في إفسادِ المسلمين، وأنَّ البغضاءَ تظهرُ من أفواههم وأنَّ ما تُخفيه صدورُهم مِن البغضاءِ أكبرُ؛ قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ...} الآيات [آل عمران: 118 - 120]، وقد نهى اللهُ تعالى عن تولِّيهم؛ لأنَّهم في الحقيقة ليسوا أولياءَ لنا؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعض} [المائدة: 51].

ثمَّ التاريخُ والواقعُ المعاصِر شاهدانِ بوقائعَ كثيرةٍ تُظهر أنَّ أكثرَ فسادِ المسلمين وأكثر ما ابتُلي به المسلمون كان بسببِ خِيانةِ النَّصارى وتآمُرهم على المسلمين.
ومن ذلك: استغلالُ نصارى مصرَ الأقباط احتلال نابليون لمصرَ؛ فإنهم قدْ تقرَّبوا إليه، واستعان بهم ليكونوا عيونَ جيشِه حيث كانوا يُرشدون الفرنسيِّين على بُيوت أمراء المماليك ورِجال المقاومة الذين كانوا يُجاهدون الفرنسيِّين، ومِن أشهر خونةِ الأقباط الذين تعامَلوا مع الفرنسيِّين: المعلِّمُ يعقوب حنا القبطي، وملطي، وجرجس الجوهري، وأنطوان الملقَّب بأبي طاقية، وبرتيلمي الملقَّب بفرط الرومان، ونصر الله النصراني ترجمان قائمقام بلياز، وميخائيل الصبَّاغ، وغيرهم من زُعماء النصارى، الذين كانوا يَعملون مع المحتلِّ الفَرنسي لمصر، بل وصَلَ الأمرُ بالمعلِّمِ يعقوب أنْ كوَّن فرقةً من الأقباط لمعاونة المحتلِّ، فقام هذا النصرانيُّ بجمْع ألفي جُندي من نصارى الصعيد وانضمُّوا للحملة الفرنسيَّة وأذاقوا المسلمين المصريِّين الويلات، وأخبارهم كثيرةٌ متوافرةٌ؛ مَن أراد الاطِّلاع عليها وجدَها بسهولة.

ومِن خونةِ الأقباط كذلك: بُطرس نيروز غالي الجَدُّ الأكبر ليوسف بطرس غالي، الذي كان القِبطي الوحيد الذي تولَّى منصبَ رئيس وزراء مصر في الفترة من 1908 -1910، ويَذكُر التاريخ موقفَه الشائن عندما كان قاضيًا في محكمة دنشواي ولعب دورًا كبيرًا في حادثة دنشواي الشَّهيرة، ويذكُر التاريخ أنَّ هذا الرجل قام بتمويلِ الاحتلال الإنجليزيِّ للسودان بالتعاون مع كُرومر، وبسببِ هذا التمويل أفلستِ الخزانةُ المصريَّة؛ ممَّا يدلُّ على أنَّ سياساته كانت شديدةَ الولاء للإنجليز، حتى إنَّ ملكة إنجلترا الملكة فيكتوريا أصدرت مرسومًا ملكيًّا بمَنْحِه وسامَ القِدِّيس ميشيل والقِدِّيس جورج!

وما زالوا في عَصرِنا يتربَّصون بالمسلمين الدوائرَ، خاصَّةً في حالاتِ الضَّعف التي مُنيت به الدولُ الإسلاميَّة، وما أخبارُ أقباط المهجر وأضرابِهم عن النَّظرِ ببعيدة!
هذا، ولا نَنفي أنَّه وُجِد نفرٌ من النصارى كبعض الأطبَّاء النصارى أو غيرهم شارَكوا في بعضِ الإسهامات، وبعضُها كان لمصالح شخصيَّة بحتةٍ كما هو معروف، وكثير منها ظهَر مَكرُه وخيانتُه بعدُ؛ فلا يصحُّ بإطلاقٍ تعميمُ القولِ بأنَّ النصارى أَسْهموا ويُسهمون في التقدُّم العربيِّ والإسلاميِّ!

وأمَّا ثالثةُ الأثافيِّ - التي تُبيِّن جهلَ المؤلف بأصولِ التوحيدِ وأصولِ دِين الإسلام- فزَعْمُه أنَّ النصارى على دِين التوحيد، ولا يَكتفي بذلك بل يُنكِر ما عُلِم من الدِّين بالضَّرورة مِن كُفر النصارى، ويُنكِر على مَن كفَّرهم، ومِن ضِمْن حُججه أنَّ (الله وحْده- لا هذا أو ذاك مِن أطراف الاختلاف أو (الاجتهاد)- له الحقُّ في أن يُحدِّد، في نهاية الأمر، مَن المؤمنُ ومَن الكافر).
ومِن حُجَّته يُردُّ عليه أبلغُ الردِّ؛ فإنَّ اللهَ تعالى هو الذي حَكَم بكُفر النصارى، وبأنَّ عقائدَهم مخالفةٌ للتوحيد، ولا نَدري كيف ذُهِل المؤلِّف عن ذلك؛ فكفرُ اليهود والنصارى من أوضحِ ما يكونُ في القرآن؛ قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72]، وقال:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وغير ذلك من الآيات؛ فإنَّ الله تعالى هو الذي كَفَّرهم؛ وليس هم نفرًا من أهلِ الغُلوِّ من الدُّعاة والإسلاميِّين!

وهذا ممَّا عُلِم بالضرورة من دِين الإسلام، بل نصَّ العلماءُ على أنَّ النصارى أنفسَهم يَعلمون أنَّ مِن أصولِ دِين الإسلام أنَّهم كُفَّارٌ، ونقْل هذا مِن كلام العلماء يطول جدًّا.
فالنَّصارى وإنْ كانوا أهلَ كِتابٍ ويُقرُّون بنبوَّة بعض الأنبياء عليهم السَّلام؛ فإنَّهم لا يُقرُّون بالتوحيد مجرَّدًا، بل يقولون بالتَّثليث.
فكيف يُدافع المؤلِّفُ بعدَ هذا عن (المُثلِّثة أمَّة الضَّلال أو عُبَّاد الصليب، الذين سبُّوا اللهَ الخالقَ مَسبَّةً ما سبَّه إيَّاها أحدٌ مِن البَشر، ولم يُقرُّوا بأنَّه الواحدُ الأحدُ الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفُوًا أحد، ولم يَجعلوه أكبرَ من كلِّ شيء، بل قالوا ما تكادُ السمواتُ يَتفطَّرن منه وتنشقُّ الأرض وتخرُّ الجبال هدا! فقلْ ما شِئتَ في طائفةٍ أصلُ عقيدتها أنَّ الله ثالثُ ثلاثة، وأنَّ مريم صاحبتُه، وأنَّ المسيح ابنُه، وأنَّه نزَل عن كرسيِّ عظمته، والْتَحم ببطن الصاحبة، وجرَى له ما جرَى إلى أن قُتِل ومات ودُفِن، ودِينُها عبادةُ الصُّلبان، ودعاءُ الصُّور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحِيطان)؟! [هداية الحيارى لابن القيم (1/ 228)].
ولعلَّ مِن نافلةِ القَول: توضيح أنَّ الحُكم بكُفرهم لا يَعني ظُلمَهم أو الاعتداءَ عليهم وعلى حُقوقِهم التي شرَعها الله تعالى لهم، وقد عُلِم أنَّ النصارى وغيرهم لم يَنْعَموا بالعدلِ إلَّا في ظلِّ العيشِ تحتَ راية الإسلام؛ حتى إنَّ بعضَ النَّصارى في بعضِ العصور كان يَتمنَّى العيشَ تحتَ حُكم المسلمين العادِل، بدلًا من العيش تحت حُكم ملوكِهم الظالمين المضطهدين لهم، مع كونِهم على مِلَّتِهم ودِينِهم!

وممَّا يَلتحِقُ بهذه النقطةِ قولُه (ص: 94) (... وفي المرحلة الراهنة من زمننا المعاصر، وغداة الصُّعود المفاجئ القويِّ الذي حقَّقه (الإسلاميُّون) في الفضاء العام، يُبدي هؤلاء اهتمامًا خارقًا بالمنتجات الفنية والإبداعيَّة وتشتدُّ مراقبتُهم لها. وقد شَهِدت ساحاتُ القضاء بوجهٍ خاصٍّ حشدًا من الدعاوى القضائيَّة- ومن بينها دعاوى (الحسبة)- التي تنهض في وجه حريَّة الإبداع الفني والأدبي والفِكري. والظاهرة ليستْ جديدة: فقد تفجَّرت في قاسم أمين وكتابه ((تحرير المرأة))، وفي علي عبد الرازق وكتابه ((الإسلام وأصول الحُكم))، وفي طه حسين وكتابه ((في الشِّعر الجاهلي))، وفي صادِق جلال العظم وكتابه ((نقد الفكر الدِّيني))، وفي نصر حامد أبو زيد وجُملة أعماله... كما أنَّ بعض الأدباء الكبار تعرَّضوا لحالات من الإساءة (العنيفة)؛ لعلَّ أبرزها واقعة الاعتداء على نجيب محفوظ. أمَّا التُّهم والافتراءات التي تُلقى جُزافًا بحقِّ هذا المفكِّر أو ذاك ولا يتحرَّج من إطلاقها مُفكِّرون أو كتَّاب يَنسبون أنفسهم إلى الإسلام (الوسطي) أو (المستقل) فلا أوَّلَ له ولا آخِر).

فكل الذين ذكرهم المؤلف، ووصف المعترضين عليهم بأنهم ينهضون في وجه حرية الإبداع الفني والأدبي والفكري- كلهم مما اشتهر عنهم الفساد ومحاربة الدين، ونشر الفساد الفكري مما تزال آثاره الخبيثة تعمل في الأمة عملها.
فقاسم أمين وكتابه ((تحرير المرأة)) كان من أعظم الأسباب في انحلال المرأة المسلمة خصوصا في مصر.

وعلي عبد الرازق وكتابه ((الإسلام وأصول الحكم)): أصَّل للعلمانية وفصل الدين عن الدولة، وأتى منكرا من القول لم يأت به أحد من شيوخ الإسلام! فقد كانت جناية علي عبد الرازق في هذا الكتاب أشد وأخطر من هجمة أتاتورك وجنايته على الإسلام مع ما فيه من الضراوة والقسوة والشراسة؛ ذلك أن صنيع أتاتورك ردَّة صريحة، وخروجٌ على الإسلام بقوَّة السلطان؛ فلا يكون لها أثر إلا بقدر بقاء القوة، أمَّا صنيع علي عبدالرازق فقد كان محاولة للتغيير في أصول الإسلام، ومسلماته بالفكر، وهذا ممتد الأثر، وقد انبرى له علماء المسلمين وفندوا شبهه وردوا عليه بما هو مشهور لا يحتاج إلى تنبيه.

وأما طه حسين: فهو عميد التغريب العربي، وداعية العلماني َّة وعَلمنة الإسلام، وقد نظ َر في كتاب علي عبد الرازق وعد َّل فيه كثيرًا وأ َسهم َ في الق ِسم الخاص ِّ بج َع ْل الشريعة الإسلامي َّة رُوحيَّةً محضهً، لا علاقة لها بالحُكم والتنفيذ في أمور الد ُّنيا! والذي دعا إلى النظر إلى القرآن على أنه كتاب نقدي - وإن ْ كان قد قيل : إن َّ هذا كان في مراحله الأولى و إن َّه تاب بعد َ ذلك، لكن هذا هو المنتشر عنه، والمُتأثَّر به من ق ِب َل أ َت ْباع ِه وتلامذت ِه!

وأما صادق جلال العظم: فهو ملحد سوري لأب علماني وكتابه ((نقد الفكر الديني)) الذي أشار إليه المؤلف يصرح فيه بالفكر الشيوعي والجهر بإلحاده، وخلاصته الزعم بأن الدين- لا سيما الإسلام- يُناقِض العلم الحديث!

وأما نصر حامد أبو زيد: فهو علماني قُحٌّ يُنادي بإخضاع القرآن للنظرية الغربية المادية (الهرمنيوطيقا) التي تُنكِر الخالق وتؤول الوحي الإلهي على أنه إفراز بيئوي أسطوري، ناتج عن المعرفي التاريخي الغارق في الأسطورة، وكان يدعو إلى التحرر من سلطـة النصوص وأولهـا القرآن الكريم! ويكفي أن محكمة القانون الوضعي حكَمتْ بردَّته والتفريق بينه وبين زوجته؛ لظهور كفره ووضوحه أوضح من الشمس في رابعة النهار!

وأمَّا نجيب محفوظ- الذي ذكر المؤلِّف أنَّه من الأدباء الكبار-: فإنَّه وإن كان روائيًّا له باعه في الرواية؛ إلَّا أنَّ أفكاره التي يبثُّها في رِواياته مِن أخبثِ الأفكار؛ فإنَّه تربى على يد سلامة موسى، ذلك النصراني الذي امتلأ حقدًا وحنقًا على الإسلام وأهلِه، وتقوم قصص نجيب محفوظ ورواياته على الحطِّ من قُدسية الدِّين وهيبتِه، ومزْج رموزِه مع الخَمرِ والنساء، واحترام المومِسات، حتى لا تكاد تخلو قصَّةٌ من قصصه من المومسات! وروايتُه الرمزية الشَّهيرة "أولاد حارتنا" التي حصَل بسببها على جازة نوبل وكانت من أحب الرِّوايات إليه! تقوم على فِكرة خبيثة، وهي دعوى الصِّراع بين الدِّين والعِلم، ثم انتصار العلم على الدِّين وقتْل الإلهِ المتسلِّط!...إلخ ممَّا هو معروفٌ عنه.

فهؤلاء هم الذين يَصِفُهم المؤلِّفُ بأصحاب الإبداع الفني والأدبي والفِكري! ويُنكر على مَن يُعارضهم بدَعْوى حرية الفِكر والإبداع! أيُّ فِكرٍ وأيُّ إبداعٍ هذا؟! إنَّها حُريَّة الكُفر ومحاربة دِين الله تعالى وإفسادِ عقائدِ العباد- والعياذُ بالله- وهذا ما لا يُقرُّه دِينٌ صحيحٌ ولا عقلٌ سليمٌ!

ومِن المُؤاخذات عليه: قوله (ص: 94- 95): (لكنَّ نفرًا غير قليل من (الإسلاميين) و(الدعاة) يحتجُّون بالآمر (الأخلاقي) نفسه؛ ليُسوِّغوا إنكارهم وشجبهم لوجهٍ أصيل من هذه (القيم الإنسانية)، أعني الفنَّ بمظاهره وتجلياته المختلفة: الغناء، الموسيقا، السينما، النحت، الشعر، الرواية...، من حيث إنَّ هذه الفنونَ، عندهم لا تلتزم بالخُلق (القويم) الذي يُوجِّه إليه الإيمان، ولا تَطلُب الغايات والأغراض نفسها التي يطلبها (الشرع)... لكنَّه ليس مُسوِّغًا لمحاصرة الفنِّ في ذاته ونبذه، وإطلاق الدعاوى والفتاوى المنكِرة، أو المحرِّمة أو المكفِّرة باسم دِين الإسلام، ولأسباب لا علاقة لها بجوهر هذا الدين)، ثم ذكَر كلامًا عن بعض الدُّعاة ينتقد فيه الشِّعر وبعضَ الشُّعراء، ثم قال: (ثم إنَّه من المؤكَّد أنَّ (شطحات) المتنبي- التي يمكن أن تُجسِّد وجهًا من وجوه (ماهية الشعر) البديعة- لم تكن (كُفريَّة)! وأنَّ (كفريات المعري) المزعومة ليست كفريَّات! وأنَّ (صوفيَّات ابن الفارض) ليستْ إلَّا ضربًا من (الزهد الإسلامي) الرائع! ... في جميع الأحوال هذا وجهٌ من وجوه الإنكار لأكثرِ القطاعات الفنيَّة تداولًا وتناولًا وإقبالًا، يتمُّ إنكاره هنا وهناك باسم (الشرع)، لكن الشرع ودِين الإسلام ينبغي أن يُنزَّهَا عن هذا الإنكار وهذا (التكفير)).

التعقيب:
اشتمل كلامُ المؤلِّف في هذه الفقرة على بعضِ الأمور التي يُوافَق عليها؛ فليس كلُّ الشِّعر حرامٌ كما هو مُقرَّر في موضِعه، ولكن أدْخل المؤلِّف بعضَ الأمور التي مِن المقرَّر أنَّها مُحرَّمةٌ مثل الموسيقا والسينما، التي أغلبُ أعمالها- إن لم تكُن كلها- محرَّمة، وتشتمل على أعمالٍ مُنكَرة يَعرِفُها القاصي والداني!

وبغضِّ النَّظر عن الأحكام التي تضمَّنها كلامُ المؤلِّف؛ فإنَّ المنهج الذي يزعُم أنَّه هو الصواب، ما هو إلَّا انحلالٌ عن ربقة الشرع، واتِّهام للدعاة بأنهم يُحرِّمون أشياءَ بأهوائهم باسم الشرع! وإلَّا فكيف يُنكر مِثلُ هذه الأمورِ، وما هو الضابطُ لإنكارها إذا لم يكُن الآمرَ الأخلاقي، وإذا لم تكُن نصوصَ الشرع الواضحة؟!

وتعليقًا على كلامِ المؤلِّف بأنَّ "(صوفيَّات ابن الفارض) ليستْ إلَّا ضربًا من (الزهد الإسلامي) الرائع" نذكُر بعضًا ممَّا ورَد عن أخباره؛ فقد جاء في ترجمته-بعدلٍ وإنصاف- أنَّه سَيِّدُ شُعراءِ العصر، وشيخُ الاتحاديَّة، وديوان شعره مشهور، وهو في غايةِ الحسن، واللَّطافة، والبراعة، والبلاغة، لولا ما شانَه بالتصريحِ بالاتِّحاد الملعونِ في ألذِّ عبارةٍ وأرقِّ استعارة؛ بحيث يدسُّ السُّمَّ في العسل، ومن ذلك ممَّا يَشهَد بصِدق هذه الدعوى: قولُه - تعالى الله عمَّا يقول - في قصيدة طويلة:


وإنْ عَبَدَ النَّارَ المجوسُ وما انْطَفَتْ ** كما جاءَ فِي الأخبارِ فِي ألفِ حُجَّةِ
فما قَصَدُوا غَيري وإنْ كانَ قَصْدُهم ** سوايَ وإنْ لم يُظْهرُوا عَقْدَ نِيَّةِ


ويُعلِّق الإمامُ الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (14/ 76) قائلًا: (فإنْ لم يكُن في تلك القصيدةِ صريحُ الاتحاد الذي لا حِيلةَ في وجوده، فما في العالم زَندقةٌ ولا ضلالٌ، اللهمَّ ألهِمْنا التقوى، وأعِذْنا من الهوى)!
فهذا هو الذي يقولُ عنه المؤلِّفُ: إنَّه ضربٌ (من الزهد الإسلامي) رائع!! إذنْ فليس في العالم زندقةٌ ولا ضلالٌ!

ومن المُؤاخذات: ما ذكَره (ص: 111- 112) في خِتام الفصل الذي أسْماه (تأمُّلات في حال الإسلام اليوم) وقد عرَض المؤلِّف لعِدة مطالب؛ أَطْلَق على كلِّ مطلبٍ منه اسم (الآمِر)؛ فقال: (وفي تقديري واعتقادي أنَّ (الطرق السالكة) في هذا القصد، وفي ضوء ما كشفتْ عنه تأملاتُ هذا القول، توجِّه إلى اعتبار المطالب التالية والعَمل على إنفاذها: ... الآمِر الثاني: اجتماع أهل المذاهب الرئيسة في الإسلام المعاصر- وأنا أعني على وجه الخصوص مَن يُسمَّون في الاصطلاح (أهل السُّنة والجماعة) و(الشِّيعة)- على اعتماد المبدأ الأخلاقي المتداول في أيامنا، مبدأ (الاعتراف المتبادل)، وهو يعني الاحترامَ الكامل من جانب كلِّ فريق لمسلَّمات الفريق الآخَر الخلافية، (ووضْعها بين قوسين)؛ من حيث هي تتعلَّق بكلِّ واحد في خاصَّة نفسه، وأنَّها حقٌّ له ومتعلَّق من متعلَّقات حريته الاعتقاديَّة التي لا يجوز الافتئاتُ عليها أو جرحها عقديًّا أو أخلاقيًّا أو وجدانيًّا أو دينيًّا. ثم قَبول الفرقاء بمبدأ التوجُّه إلى المسائل العَمليَّة العارضة لدِين الإسلام العامِّ من حيثُ هو دينٌ واحد بإطلاق، والاجتماع التوافُقي العملي على حلِّ هذه المسائل وفقًا لخير الإسلام العام، ومقاصِد الدِّين الإسلامي العليا...).

التعقيب:
ما ذَكَره في الآمر الثاني من (الاعتراف المتبادل) خطأ صريح؛ وهو يعني الاحترامَ الكامل من جانب كلِّ فريق لمسلَّمات الفريق الآخَر الخلافية، وهذا مخالف لِمَا عُرِف من دِين الله تعالى ضرورةً؛ إذ كيف يحترم المسلمون مِن أهل السنة والجماعة مَن يتَّهمون زوجَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الصِّديقةَ المبرَّأة من فوق سبع سموات، ويسبُّون مَن يعتقدون أنَّهم أفضلُ الناس بعدَ الأنبياء والمرسَلين...إلخ؛ كيف يُوضَع هذا بين قوسين- كما يطلب المؤلِّفُ- ويُجعل من باب حريَّة الاعتقاد؟! هذا يُقال في المسائل الخلافية التي تحتمل فيها الأدلَّة كالخلافات الفِقهيَّة مثلًا، أمَّا أن يُقال في أصول الاعتقاد؛ فهذا ممَّا لا يُجوِّزه الشرعُ بطبيعة الحال.
ومن المُؤاخذات الكبيرة على المؤلِّف: كلامُه عن الدِّيمقراطية واللِّيبرالية والعلمانيَّة، وهذه النقطة تَشغل حيِّزًا كبيرًا من فِكر المؤلف وكتاباتِه، وهي إحدى وسائلِه في تحرير الإسلام على حدِّ وصفه؛ فقد تحدَّث المؤلِّفُ كثيرًا عن الدِّيمقراطية والليبراليَّة وتقسيماتهما، وأنَّ للديمقراطية ألفَ وجْه، وأنَّ بعض هذه الوجوه قبيحةٌ من غير شكٍّ، وخلَص إلى أنَّ الحلَّ مِن الخروج من الأزمة: هو ما أسْماه (الليبراليَّة التكافليَّة)، و(الدِّيمقراطيَّة الجماعتيَّة)، وأنَّ قِيَم المدنيَّة الغربيَّة هي التي يَنبغي أن نربطَ ساعتنا عليها، وأنَّ النظام الديمقراطي إنجازٌ إنسانيٌّ رفيعٌ أدَّت إليه مسيرةُ الحضارة الغربيَّة، وهو كافٍ في حُكم البَشرِ للبشر، وفي الاستجابة لتطلُّعاتِ البَشرِ الزمنيَّة، ولكرامةِ الإنسان الأرضيَّة! كما يَميل المؤلِّفُ إلى الجَمْع بين الإسلام وبين الديمقراطيَّة بحيث تُعادُ قراءةُ الإسلام وتفسيرُ نصوصه الدِّينيَّة- القرآن والحديث- قِراءةً نقديَّة تُعزِّز المبادئ الحداثية! ويحاول تبريرَ مصطلح (العلمانيَّة الإسلاميَّة) بوضع بعضِ الحدود والضوابط له، ويُرجِّح بدلًا من ذلك أنَّ الأجدى والأنجع هو الذَّهاب إلى الكلام على (علمانيَّة موافقة للإسلام) أو (إسلام متصالِح مع العلماينَّة) بدلًا من الكلام على (علمانيَّة إسلاميَّة) أو (إسلام علماني)! ويزعم أنَّه بهذا قد يُمكن القولُ: إنَّ التعبيرَ ليس ممَّا يَنقُض آخِرُه أوَّلَه.

وقد ردَّ المؤلِّف على الاعتراضاتِ الواردةِ على هذا الكلامِ بردودٍ غيرِ مقبولةٍ وغيرِ صحيحةٍ عند تدقيق النَّظر فيها. وجديرٌ بالذِّكرِ في هذه النُّقطة أنَّ المسلمين والاتِّجاه السلفي خصوصًا ليسوا هم المعارضين للفِكرِ الدِّيمقراطيِّ واللِّيبرالي وحدَهم، بل في العالم الغربيِّ نفْسِه عددٌ غير قليل من المفكِّرين يُعارِضون النظامَ الديمقراطيَّ، ويُوجِّهون النقدَ إليه والاعتراضاتِ عليه من جِهاتٍ عديدةٍ.
وسوف نَكتفي هنا بنَقْل بعضِ كلامِ المؤلِّف في هذا الصَّدَد، والتعليقِ على بعض جُزيَّئاته، ثم التعقيب على جُملته، ولمستزيدٍ أن يَستزيدَ من نَقضِ هذه الفِكرة في محالِّها.
يقول (ص: 129): (وفي اعتقادي- على الرغم مِن الجدل الذي يمكن أن يُثيره القولُ بردِّ العدل إلى الحقِّ الطبيعي، وأنَّ العدل (مغروز) في الكينونة الإنسانية- أنَّ الليبرالية التكافلية تستحقُّ أن تكون مركزَ الاعتبار في مقاربتنا الديونطولوجية لمبدأ العدل في عالَمنا العربي).

ويقول (ص: 168): (وتشير كلُّ القرائن إلى أنَّ قِيَم المدنية الغربية هي التي يَنبغي أن نربط ساعتنا عليها، على الرغم من أنَّه قد يكون للمدنيَّة الإسلاميَّة قصبُ السبق في هذا المجال. لكن ذلك لم يكن ليرضي أولئك الذين استقرَّ المصطلح على تسميتهم بالسلفيِّين أو الاتباعيِّين بأطيافهم المختلفة؛ فإنَّ هؤلاء أرادوا أن تكونَ المرجعيَّةُ للبؤرة المركزيَّة الإسلاميَّة لا للبؤرة المركزيَّة الأوروبيَّة)!
ثم يقولُ (ص: 178) محاولًا الردَّ على بعض الانتقادات الموجَّهة إلى هذه الفِكرة: (لا شكَّ في أنَّ هذا المنظورَ يمكن أن يُقابَل بالاعتراض بأنَّ الديمقراطية لا تَستمدُّ قوانين المجتمع والدولة من (الشريعة الإلهيَّة)، وأنَّ قواعدها إنسانيَّةٌ خالصة، وهو اعتراضٌ وجيه. لكن الحقيقة أيضًا هي أنَّ ماهية الديمقراطيَّة لا تتحدَّد بالأصل الذي تَصدُر عنه الأحكامُ والقوانين الناظمة لقطاعات الحياة الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والاقتصاديَّة كافَّةً، وإنما هي تَتحدَّد بطريقةِ إقرار هذه الأحكام والقوانين واختيارها، وبالمنهجِ الذي يَجري عليه تنظيمُ العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبحدود السُّلطة السياسيَّة الوضعيَّة. وبتعبير آخر: ليست الديمقراطيَّة (منظومة مذهبيَّة) وإنما هي طريقةٌ في تنظيم الحُكم ورُوح في توجيه السلوك. ويترتَّب على هذا أنه ليس يقلِّل، في اعتقادي، من السِّمة الديمقراطية للمنظور الذي عرضتُ له أخيرًا أن يكون جزء من الأحكام والقوانين قد تَمَّ أخْذُه من الشريعة على سبيل (التبني)، بينما جاء جزؤُه الآخَرُ من الاجتهاد البشري الخالص. إنَّ جميع الشروط الجوهريَّة المحدِّدة لماهية الدِّيمقراطية متوافرةٌ في هذا المنظور الذي يتجاوز في حقيقة الأمر، وبقدر عظيم، المفهوم التقليدي القديم للشورى، وهو مفهومٌ يشتمل، بحدود وقيود متفاوتة، على عددٍ من العناصر المقوِّمة للديمقراطيَّة، لكنَّه في مجمل وجوهه وكليتها لا يُطابق تمامَ المطابقة مفهومَ الديمقراطيَّة الحديث. وهذا إذا كان للديمقراطيَّة الحديثة نموذجٌ واحد أو مفهوم واحد؛ إذ واقع الأمر أنَّ الديمقراطية (ديمقراطيات) مثلما أنَّ العدالة (عدالات)).

ثم يقولُ (ص: 201) مواصلًا الردَّ على الاعتراضات، والدِّفاعَ عن الديمقراطيَّة: (الحقيقة أنَّ هذه الأنظار النقديَّة لها ما يُسوِّغها، وهي بكل تأكيد وجيهةٌ، لكنها لا تستقيم إلا في حالات وأوضاع ذات خصائص محدَّدة. وهي هنا انخفاض درجة الوعي عند الأغلبية، وغياب كلٍّ من النُّضج الاجتماعيِّ والسياسيِّ والأخلاقيِّ والنفسيِّ عند المجموع، وهيمنة الأهواء والنزوات والعصبيات المتدنية، وافتراض الاعتقاد أنَّ الديمقراطيَّة تعوق تفتُّحَ (الذات) وانطلاق الطاقات الخلَّاقة، ونظرة (جماليَّة) خاصَّة إلى الكائنات البشريَّة. وهذه الأحوال، بجُملتها، تَجعل (الشَّعب) غير كُفءٍ للتمتُّع بالنِّظام الدِّيمقراطي؛ لأنَّ إنفاذ الديمقراطيَّة يَتطلَّب في جميع الأحوال شرطًا ضروريًّا هو (الأهليَّة) أو (الكفاية) الشعبية، وإلَّا فلا ديمقراطية... والدمار والشرور الذاتيَّة والعامَّة. إنَّ توجيه هذه (الأعراض) الخطرة إلى الفضاءات العربيَّة ذو معنًى عظيم؛ فمِن المؤكَّد أنَّ حالة ضحالة الوعي والنُّضج العام هي حالة مُهيمنة في مساحات غير ضيِّقة من العالم العربي. ومن الطبيعي أن تنهضَ هذه الحالة في وجه إنفاذ الديمقراطيَّة وإشاعتها في المجتمعات العربيَّة، وهذا هو ما تعلَّلتْ به على الدوام الأنظمةُ الاستبداديَّة العربيَّة. بَيْدَ أنَّ هناك أيضًا قطاعاتٍ عربيَّةً واسعة قد بلغ النضجُ والوعي عندها حدًّا كافيًا لممارسة هذا النَّمط من الحُكم)!

ثم يَنتهي (ص: 203) إلى التصريح بقوله: (لذا سأقول: إنَّ الخيار الديمقراطي العربي في المستقبل ينبغي أن يتوجَّه إلى نموذج (الديمقراطيَّة الجماعتيَّة)، لا إلى الديمقراطيَّة المشتقَّة من (الليبرالية - الجديدة)؛ ليبرالية السوق الكونيَّة التي تحتقِرُ العدالةَ وجملةَ القِيَم الإنسانية المؤسَّسة لكرامة الذات الإنسانية).

ثم يطرح سؤالًا: (أيُّ الطُّرق في الديمقراطيَّة نتَّبع؟ ...) ويُتابع الإجابة عنه قائلًا: (تتَّفق جميعُ نماذج الديمقراطيَّة- بتفاوت في الدرجة والفهم أحيانًا- حول نقطة أساسية في أمر الديمقراطيَّة، وهي أنَّ غاية الديمقراطيَّة أنْ يَحكُم الشعبُ نفْسَه وفقًا لمصالحه وحاجاته وتطلعاته، وأن يتمَّ ذلك وفق مبادئ الحرية والمساواة. وتتفرد الديمقراطيَّة الليبراليَّة الجديدة المرتبطة باقتصاد السوق بمبدأ الحريَّة على نحوٍ كامل الشطط. وبكلِّ تأكيد تبدو (الغائية الديمقراطيَّة)- خلا صِيغتها الراديكالية المتطرِّفة- غائيةً يتعذر التنكُّبُ عنها أو تجاهلُها أو مناهضتُها من حيث المبدأ).

ثم يُقرِّر (ص: 213- 214) قائلًا: (والقصد هو تصميمُ مركَّب نموذجي يستندُ إلى الجمْع بين الإسلام وبين الديمقراطية بحيث تُعاد قراءةُ الإسلام وتفسير نصوصه الدِّينية- القرآن والحديث- قراءةً نقديَّةً تُعزِّز المبادئَ الحداثية، وتَنْحو نحوَ مدرسة المفكِّر الإصلاحي الباكستاني فضل الرحمن الذي يرى أنَّ القرآن يُجسِّد مجموعةً من الحقائق التي يَتعيَّن البحثُ عن معانيها (الحقيقة)، أي: تأويلها).
ثم يختمُ حديثَه بالدِّفاع عن العلمانيَّة التي تحترم العقائدَ الدينيَّة مقابلَ علمانيَّة الفَصل (ص: 223) بقوله: (إنَّ العلمانية (بما هي حيادٌ) تحترمُ العقائد الدينيَّة ولا تميِّز بين أتْباع الدِّيانات ويمكن لها أن تدعمَ المؤسَّسات التربويَّة والاجتماعيَّة الدينية، معنويًّا وماديًّا- وهو ما تنكره (علمانيَّة الفصل). وهي لا تقبل بإلْحاق الإساءة والضرر بالدِّين ومتعلقاته، أي: إنَّ قوانينها تحمي وتحفظ حياة الدِّين في المجتمع في حدود القانون بطبيعة الحال، وجريًا مع آمِرِ حقوق الإنسان).

يُطالِب المؤلِّف (ص 223): (أن تكون الغايةُ من مقصد (حِفظ الدين) هي ضمان الشروط الضرورة من أجْل ممارسة حياة دِينيَّة طبيعيَّة آمنة، واستمرار وجود الدِّين واجتناب مفسدة إلحاق الضَّرر به وإظهار العَداء له، لا أنْ يكون القصد هو إلزامَ الدولة العلمانيَّة الحياديَّة بتطبيق أحكامه بالضرورة، وإخراجه مِن حظيرة الدِّين إنْ هي وضعتْ أحكامه بين قوسين، أو لم تأخُذْ بها جملةً وتفصيلًا).
وهذا كلامٌ خطيرٌ جدًّا، وهو ضاربٌ في جذورِ العلمانيَّة، ومناقضٌ صراحةً للغايةِ من إرسالِ الرُّسل وإنزالِ الكتُب وشَرْعِ الشَّرائعِ والأحكام؛ إذ اللهُ تعالى أرْسل رُسُلَه ليُطاعوا؛ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]، وأنزل كتبه وأَوْضَح فيها الشَّرائعَ والأحكامَ؛ ليلتزمَ بها العبادُ، ويقوموا بها؛ {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، وذمَّ مَن لم يقوموا بها ولم يَرْفعوا بها رأسًا، وذكَر أنَّهم ليسوا على شيء؛ {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68]؛ فتأصيلُ المؤلِّف أنْ لا يكونَ القصدُ هو إلزامَ الدولة العلمانيَّة الحياديَّة بتطبيق أحكامِه بالضرورة... إلخ؛ هو مِن أبطلِ الباطلِ، ومخالِفٌ للمعلومِ مِن دِين الإسلامِ ودِين الرُّسلِ كلِّهم بالضَّرورة!

ثم ختَم بقولِه: (الأجدى والأنجع هو أنْ نذهبَ إلى الكلام على (علمانيَّة موافقة للإسلام) أو (إسلام متصالح مع العلماينَّة) بدلًا من الكلام على (علمانيَّة إسلاميَّة) أو (إسلام علماني)! وحينذاك قد يمكن القولُ: إنَّ التعبير ليس ممَّا ينقض آخِرُه أوَّلَه!).
وهنا يُحاول المؤلِّفُ أن يُوفِّق بين المختلفَينِ وأنْ يَجمعَ بين المتاضدَّينِ بما يظنُّ أنَّه لا يتناقض! وهو أكثرُ تناقضًا؛ فإنَّ تغييرَ الألفاظِ والمصطلحاتِ لا يُغيِّر من الحقيقةِ شيئًا!

والتعقيبُ على كلِّ ما سَبَق:
أنْ يُقال: إنَّ كلامَه -بغضِّ النَّظرِ عمَّا فيه من أخطاءٍ جزئيَّة- يصبُّ في قضيةٍ واحدة، وهي إمَّا الاستغناءُ عن منهجِ الإسلام أو منهجِ الاتِّباع، والأخْذُ بالمناهج المحدَثة- كـ(الديمقراطية الجماعتية - الليبراليَّة التكافليَّة - العلمانيَّة الحياديَّة، أو علمانيَّة الحياد)-، وإمَّا محاولةُ التوفيق بينهما، وهذا المسلك ظاهرُ البطلان مهما حاول المؤلِّفُ وأضرابُه أن يُوفِّقوا بينهما؛ فالضِّدَّانِ لا يجتمعان؛ فماهيةُ الديمقراطيَّة وحقيقةُ الليبراليَّة وأصلُ العلمانيَّة المبنيَّة على حُكم البَشَر للبَشر، كلُّها مخالفةٌ لأصلِ الإسلامِ المبنيِّ على الخُضوعِ والاستسلامِ للخالِق العلَّام جلَّ وعلا؛ وهذه النقطة تحتملُ تفصيلًا كثيرًا في الردِّ والنَّقد ليس هذا محلَّه، ولعلَّ ما ذُكر كافٍ في نقْد فِكر المؤلِّف، والتنبيهِ على الأخطاءِ التي وقَع فيها؛ حتى لا يَغترَّ ببعضِ كلامِه بعضُ مَن ينتسِبُ إلى العِلم والسُّنَّة.

وختامًا: يتَّضح مِن خلالِ هذا العرضِ والنَّقدِ الإشكالُ الكبيرُ الذي وقَع فيه معظمُ مَن يُسمَّوْن بالمفكِّرين المحدَثين، ألَا وهو ضغطُ الواقعِ وعدمُ تَفهُّم الحقيقة الواضحة أنَّ ثمَّةَ دينًا حقًّا يجب قَبولُه واتِّباعُه والانقيادُ له، وأنَّ ثَمَّة دينًا باطلًا يجب ردُّه واجتنابُه، وأنَّ الدِّينَ الحقَّ هو الذي يجب أن يَعلوَ ويظهرَ على غيرِه من الأديان بالحُجَّة والسُّلطان، ويجب أن يَخضعَ له جميعُ أهل الأرض؛ هذه هي الحقيقةُ التي لا يملك المفكِّرون المحدَثون الشجاعةَ في إظهارِها والجهرِ بها؛ ولكنَّها صريحُ القرآن!
قال عزَّ مِن قائل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].
وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 8، 9]
وقال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 7- 8].
هذا، وقد أمَر اللهُ تعالى بإخلاصِ الدِّين له، والدَّعوةِ إلى ذلِك حتى ولو كَرِه ذلك مَن لا يُؤمِن بحقيقةِ هذه الدَّعوة؛ فقال عزَّ وجلَّ: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14]!
وللحديثِ صِلةٌ الشهرَ القادم- إنْ شاء الله تعالى لعَرْضِ ونقْدِ بقيَّة الكتابِ.