قراءة ونقد

مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني
book
راشد الغنوشي
عنوان الكتاب: مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني
الناشر: دار المجتهد للنشر والتوزيع – تونس
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 2011م
عدد الصفحات: 159
عرض ونقد: القِسم العِلمي بمؤسَّسة الدُّرر السَّنية

أولًا: عرض الكتاب:

كتابُ هذا الشَّهر يُناقش قضايا كثيرة مهمَّة وشائِكة، متعلِّقة بفلسفة الإسلام السياسيَّة، وبمفهوم الحَدَاثة والديمقراطيَّة والعلمانيَّة، والمجتمع المدني، ودَور المنشآت الأهليَّة، ومسألة الحريَّات العامَّة، والعدل والمساواة والتعايش، والتعدُّد الحضاري، وغير ذلك. غير أنَّ المؤلِّف قد وقَع في أخطاء منهجيَّة عديدة، وفي هذا العرْض والنقد إشارةٌ إلى أهمها بإيجاز:

اشتمل الكتاب - بعد تقديم الشيخ فيصل مولوي -   على  عشر مُقاربات، كالتالي:

المقاربة الأولى:  عن الحريَّات العامة في الإسلام،  وفيها يتحدَّث عن المفهوم الفلسفي للحريَّة، مشيرًا إلى عُقم البحث الفلسفي الغربي، ومتحدِّثًا عن الحرية ما بين الليبرالية والماركسية، والحرية في القانون الطبيعي والرأسمالية الحديثة، وعن الديمقراطية عند القرضاوي وعبد السلام ياسين، وموضِّحًا أنَّ الحرية أمانةٌ ومجاهدة، كما بيَّن الحرياتِ في التصوُّر الإسلامي، فعرَض لحرية المعتقَد، والحريات السياسيَّة، والحريات الاجتماعيَّة، وحريات غير المسلم في الدولة الإسلاميَّة - على حسب تصوُّره.

المقارَبة الثانية:  وكانت عن حقوق الإنسان في الإسلام،   فتكلَّم عن أصالة حقوق الإنسان في الإسلام، مع مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وبين مثيلاتها في الإعلانات الحديثة، فتحدَّث عن حقِّ الحرية، وعن الحقوق الاجتماعية؛ مثل: حق العمل للقادرين والضمان لغيرهم، وحق الرِّعاية الصحيَّة، والحق في بناء الأُسرة، والحق في التربية، والحقوق السياسيَّة، ومدى تحقُّق انطباق هذه الحقوق في تاريخ المسلمين منذ البِعثة النبويَّة وإلى يوم الناس هذا.

المقارَبة الثالثة:  وكانت عن أُسس المجتمع الأهلي في الإسلام،   وتكلَّم فيها المؤلِّف عن علاقة الدِّين بالسياسة عن عهد الخِلافة الراشدة، وعن تحوُّل الحُكم الإسلامي إلى مُلك عضوض، وعن مرحلة غلبة السياسية على الدِّين في التاريخ الإسلامي، ممثِّلًا بإجهاز الغرب على السلطة العثمانيَّة، ومعاهدة لوزان التي فَرَضت على تركيا التخلِّي عن الشريعة، كما تحدَّث عن تاريخ علاقة الدولة بالجماعة عند اليونان. وتحدَّث كذلك عن المجتمع الإسلامي المدني، موضِّحًا عقيدة الاستخلاف التي تحضُّ على المساواة - من وجهة نظره -  وأنَّ السُّلطة في الإسلام نائبةٌ عن الجماعة، موظَّفة عندها، وأنَّ الدولة أداة من أدوات الجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومؤكِّدًا على دَور الوقف في سدِّ ثغرة المجتمع الأهلي، وأشار إلى مرحلة تأميم الوقف وإلغاء الشريعة في الدولة العلمانيَّة الحديثة، واقتران التغريب بالدكتاتورية، ثم تحدَّث عن نظرة السيِّد خاتمي للمجتمع الإسلامي المدني مثنيًا عليها!.

المُقاربة الرَّابعة:  مفهوم المُساواة بين الشَّريعة ومواثيق الأُمم المتَّحدة، و أوضح فيها موقع المساواة في الإسلام، والمساواة في القرآن والسُّنة، وذكَر رأي الإمام الطاهر ابن عاشور، ثم تكلَّم عن التدريب على المساواة، ومشيرًا إلى استدراكٍ على موضوع المساواة.

المُقارَبة الخامسة:  فِكرة المجتمع المَدني بيْن الغرْب والإسلام،   ذكَر فيها المؤلِّف  مفهوم المجتمع المدني، متحدِّثًا عن  توزيع السُّلطة بين الدولة والمجتمع، وعن فلسفة التربية المدنيَّة في الغرب، وفكرة المجتمع المدني باعتبارها أداةً للحرْب ضدَّ الإسلاميِّين في العالم العربي، موضحًا أنَّ الدولة الغربية صنيعةُ التنوير المتطرِّف، وأنَّ الكَنيسة الغربية هي أغنى مؤسَّسات المجتمع المدني. كما تحدَّث عن التِقاء فكرة الديمقراطيَّة مع فِكرة الاختيار في الإسلام، وعن أهميَّة إنشاء مؤسَّسات خِدماتيَّة وتربويَّة مستقلَّة عن الدولة، وموضِّحًا أنَّ السُّلطة الدِّينيَّة في الإسلام مؤسَّسة على حريَّة الاجتهاد والتأسيس، وأنَّ العقيدة الإسلاميَّة ثورةٌ ضد الظلم. كما تحدَّث عن زَيف المجتمع المدني في أمريكا والغرب عامَّةً ... وغير ذلك.

المقاربة السَّادسة:  فلسفة الإسلام السياسيَّة،   بيَّن فيها أنَّ الإسلام نظامٌ شامل للحياة، مستدلًّا بنصوص القرآن والسُّنة، وإجماع الصَّحابة. وتحدَّث عن الاجتهاد إلى جانب الشورى وأنَّه عماد حركة المجتمع الإسلامي، وملقيًا الضَّوءَ كذلك على تاريخ الحُكم الإسلامي وتعرُّض المجتمع الإسلامي لهزَّات واحتياجات عبْرَ تاريخه، وموقع المشروع الإسلامي الحديث من الديمقراطيَّة والمجتمع المدني وسُلطة الأمَّة.

المقاربة السَّابعة:  الثقافة والسُّلطة وحقوق الإنسان،   تحدَّث فيها عن  العلاقة بين الثقافة والسُّلطة وحقوق الإنسان، وعن المثقَّف المسلم والسلطة عبْرَ التاريخ، موضِّحًا تصورات حقوق الإنسان في الإسلام، والعدل في المنظور الإسلامي كقيمة إنسانية مطلَقة، كما نعَى ما وصفه بتنازُل العلماء عن دَورهم بحُجَّة اتقاءَ الفتنة نحوَ مصالحة تاريخيَّة بين فئات المثقفين.

المقاربة الثامنة:  وعنْونها بسؤال: أية حداثة؟!

وتحدَّث فيها عن نموذجَيِ التعامُل مع الحركة الإسلاميَّة عند الأنظمة، ممثِّلًا بنظام الأقلية الحاكمة في تونس المتسترة وراءَ الحداثة، وشِعارات محاربة الأصوليَّة، والديمقراطية، وحرية المرأة والمجتمع المدني. وتحدَّث كذلك عن الإسلام والديمقراطية، والإسلام والمجتمع المدني، والإسلام والمرأة، والإسلام والتعدُّد الدِّيني والحضاري.

المقاربة التاسعة:  (شَعْب الدَّولة) أم (دولة الشَّعب)؟

قسَّم فيها الحُكَّامَ صِنفين في علاقتهم بالشعوب:  الأوَّل:  صنف يحكُم بالقهر والغلبة ويحوِّل الشعب إلى (شعب الدولة).  والثاني:  صِنف يحوِّل الدولة إلى (دولة الشعب)  وإلى حُكم الشَّعب، أو حُكم القانون، ثم وضَّح  كيف السَّبيل إلى دولة الشعب. وختَم هذه المقاربة بحديثه عن البُعد عن الفوضويَّة.

المقاربة العاشرة والأخيرة:  جاءتنا العلمانية على ظهْر دبَّابة وبقِيت تحت حمايتها

وتحت هذا العنوان الجذَّاب تحدَّث عن محاربة الإسلام والمسلمين تحتَ سِتار محاربة الأصوليَّة، وعن العلاقة بين الإسلام والغرب، مشيرًا إلى أوهام الغرب الخبيثة في النَّظرة إلى الإسلام، وإلى وجود تيَّار منصِف وعاقل داخلَ الغرب، ثم تحدَّث عن إشكالية المرجعيَّة في الساحة الإسلاميَّة، وأوضَح أنَّ الاضطهاد من التخلُّف الحضاري، وأنَّ مراهنات الغرب على الحلِّ الأمني خاسرة، ثم ختَم بالحديث عن أنَّ الأمَّة ما زالت تقاوم، وستظلُّ.

ثانيًا: نقد الكتاب:

مؤلِّف هذا الكتاب هو شخصيةٌ شهيرة، وزعيم حزب النَّهضة التونسي، وقد عُرِف عنه صِدق الكلمة، وصراحته في أقواله، وجُرأته في عرض قناعاته، وعدم التلوُّن كما يتلوَّن بعض السياسيِّين من الإسلاميِّين وغيرهم، وأنَّه لديه وعي إسلامي جيِّد، وإنصافٌ في كثيرٍ من أقواله، غير أنَّه لديه شطحٌ وشططٌ، وعقلنةٌ، وبُعدٌ عن المنهج الحق، وهو متأثرٌ تأثرًا بالغًا بالديمقراطية الغربية، مع نقْده لكثير من تصرُّفات الغرب ومنهجيته، ومتأثرٌ بالثورة الإيرانيَّة على يد الخميني، وبالحركة السُّودانيَّة بقيادة الترابي، وبالمودودي مؤسِّس الجماعة الإسلاميَّة بباكستان، وبالفِكر العقلاني المعتزلي، وبالمنهج المميِّع المتساهِل، والذي يُسمُّونه (الوسطي المعتدل). يُنظر للتوسع: مقال: ( فوز حركة النهضة و المفاهيم الإسلامية).

وهذه بعض المؤاخذات على المؤلِّف في هذا الكتاب:

فمِن هذه المؤاخذات: قوله (ص: 19):  (والأصل العام في هذا الصَّدد هو مبدأ حرية الاعتقاد الذي قَطعت به بشكل حاسم آية  {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}  [البقرة: 256]، ويترتَّب على ذلك حرية الإنسان في اختيار عقيدته وممارستها، والدعوة إليها. ويترتَّب على ذلك في المجتمع الإسلامي القَبول بالتعدُّد الديني والثقافي والسياسي من باب الأَوْلى؛ فالدولة الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي، وابتداءً بدولة المدينة عَرَفت تعدُّد الأديان، واعترفت بها، وأعطتْها الحماية الضروريَّة).

وقوله (ص: 107):  (كما تجب للإنسان ضمانات العيش، والتربية، والصحة، وإقامة الأسرة، والحماية من الجور، والمشاركة في الشؤون العامة  {وَأَمْرُهُم شُورَى بَيْنَهُمْ}  [الشورة: 28]، ومِن ذلك حقُّه في اختيار عقيدته، والتعبير عنها، والدعوة لها، والانتقال في الأرض، وإقامة الجماعات السِّلميَّة، ومقاومة المظالم والشرور... وهي بالنسبة للمسلم ديِن وثقافة، وبالنسبة لغير المسلم من مواطني الدولة الإسلاميَّة، ثقافة يتمتع في إطارها بالعدل والمساواة وسائر حقوق المواطنة...).

التعقيب:

هذا الكلام خطأ من وجوه:

أولًا:  أنَّ عدَم الإكراه لا يعني إطلاقَ حريَّة الكُفر، أو أنَّ من حقِّ الإنسان يؤمن أو لا يؤمن، بل الواجب هو الاستسلام لله ربِّ العالمين، والحذر من الكفر به؛ فليس أحدٌ حُرًّا في ذلك، بل مَن اختار الكفر على الإيمان مهدَّد ومتوعَّد على عدَم إيمانه، وإنْ كان لا يُكره عليه بالقوَّة، وقوله تعالى:  {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}  هو نهي عن الإكراه العمَلي وغير متصوَّر في الإكراه القلبي العَقدي، وقد نصَّ العلماء والمفسِّرون على أنَّ هذه الآية: إمَّا أنَّها مكيَّة، وأنَّها من آيات الموادعة التي نسختْها آيةُ السَّيف التي فيها الأمْر بقِتال أهل الكِتاب في سورة براءة. وإمَّا أنَّها مُحكَمة، ولكنَّها خاصَّة فيمَن تُقبل منهم الجزية من أهل الكتاب ومَن جرى عليهم حُكمُهم فيبذلُونها ويؤدُّونها عن يدٍ وهم صاغرون. [((تفسير ابن عطية)) (1/ 343)]، فعلى هذا؛ فالاستدلالُ بها على حريَّة الاعتِقاد ليس في محلِّه.

وكذلك بقيَّة الآيات التي في معناها، والتي يُستدلُّ بها على هذا المعنى؛ قال الإمام الطبريُّ في تفسير قوله تعالى:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}: (وليس هذا بإطلاقٍ من الله الكفرَ لمن شاء، والإيمانَ لمن أراد، وإنما هو تهديدٌ ووعيد. وقد بيَّن أنَّ ذلك كذلك قولُه:  {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا}  والآيات بعدها) [تفسير الطبري (18/ 10)، وينظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/ 343)، و((تفسير ابن كثير)) (1/ 682)، و((تفسير البغوي)) (5/ 317) وغيرها].

ثانيًا:   أنه لو صحَّ أنَّ كلَّ إنسان حرٌّ في اختيار الكفر؛ فلا يجوز بحال الرِّضا بذلك أو قَبوله، فضلًا عن السَّماح له بممارسة شعائره الكفريَّة - عدا أهل الذِّمة في دُور عِبادتهم- فضلًا عن السَّماح لهم بالدعوة إليها، ونشْر الكفر والباطل! فمن المعلوم من الدِّين بالضرورة أن مجرَّد الرِّضا بالكفر كفرٌ؛ فكيف بالدَّعوة إليه ونشْره، وما يستلزم ذلك من تيسير لسُبل الدعوة وتسهيل لطرقها؟!

والجائز في هذا هو إقرارُ أهل الذِّمَّة على ما هم عليه فقط، مع منْعهم من إظهار شعائر الكُفر، ولا يُسمح لهم بإحداث دار عبادة جديدة لهم (كنيسة أو بيعة) في ديار الإسلام.

ومن المآخذ على المؤلِّف: قوله (ص: 21):  (الأصل أنَّ المواطنين في الدولة الإسلامية يتمتَّعون بالمساواة مع المواطنين المسلمين؛ عملًا بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لهم ما لنا، وعليهم ما علينا)، ويُستثنى من ذلك الوظائف ذات العلاقة الخاصَّة بالشأن الدِّيني كرئاسة الدولة والإفتاء).

وقوله (ص: 59):  (أمَّا الذين لم يستجيبوا لنداء الإسلام في دار الإسلام؛ فإنَّهم بحُكم الاشتراك في أصل الخِلقة وسُكنى الأرض، وباعتبار أنَّ الشريعة خطاب للناس كافة، وأن مقاصِدها الكبرى التي جاءتْ بها في حِفظ الدِّين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، تشملهم بالتساوي على قاعدة الحديث: (لهم "غير المسلمين" ما لنا وعليهم ما علينا). ولقد نص دستور المدينة على أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين؛ أي: شركاء في الدولة وفي المواطنة. ولقد كانت تحذيرات القرآن والسنة شديدةً من خرْق قاعدة المساواة، من مثل عدم التماثُل في العقاب إذا تماثلت الجريمة، كقضية المرأة المخزومية التي سرقت، فكثر الشفعاء؛ بسبب مكانة قبيلتها، فصرخ فيهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّما هلَك مَن كان قبلكم بأنه إذا سرَق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرَق فيهم الضَّعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمةُ بنت محمَّد لقطعت يدَها) [رواه البخاري]. فالأصل عدم التمييز أمام القانون على أساس الدِّين والجنس).

التعقيب:

هذا الكلام خطأ من وجهين:

الأول:  أنه ليس الأصل أنَّ كل المواطنين في الدولة يتمتعون بالمساواة مع المسلمين، وهناك مِئات الأحكام يختلف فيها المسلمون عن أهل الذِّمة، وكتُب الفقه مليئة بهذا؛ قال ابن القيِّم في ((أحكام أهل الذمة)) (1/ 596 - 597): (فإنَّ قياس الكافر على المسلِم من أفسد القياس...؛ فإن الذِّميَّ يُستحق عليه القصاص، ولا يَستحقُّه هو على المسلم، ويُستحَقُّ عليه حدُّ القذف ولا يستحقه، وكذلك المُطلِّق في مرَض الموت يُستحق عليه الميراثُ ولا يستحقه، وكذلك المسلِم يَستحق تعليةَ البنيان على الذِّمي ولا يَستحقه الذميُّ عليه، والمسلم يستحقُّ نِكاح الكافرة وشراء الرَّقيق الكافر، ولا يستحق الذمي نكاح المسلمة ولا شراء الرقيق المسلم، والمسلم يستأجر الكافر للخِدمة دُون العكس...).

ثانيًا: قول المؤلِّف: ( عملًا بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا").

خطأٌ فاحش؛ فلم ترِدْ هذه الجملة - فيما علمنا - من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنَّما المشهور على ألْسنة الخُطباء والكتَّاب أنَّه حديث للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّه قاله في أهل الذِّمَّة، وهكذا ذكَره المؤلِّف في الموطن الآخَر على أنَّه حديث قائلًا: (على قاعدة الحديث: (لهم "غير المسلمين" ما لنا وعليهم ما علينا)! فزاد فيه "غير المسلمين" هكذا على عمومها! ومعلوم أنَّ عبارة غير المسلمين تختلف معنًى ومضمونًا وأحكامًا مع كلمة "أهل الذِّمَّة" التي اشتهر الحديثُ بها.

 والحقُّ أنَّ حديث:  ((لهم ما لنا، وعليهم ما علينا - يعني أهل الذِّمة))  باطلٌ، ولا أصل له في كتُب السُّنة.والصحيح:   أنَّ جملة  ((لهم ما لنا، وعليهم ما علينا))  قطعةٌ من حديث صحيح، ورَد فيمَن أسلم من المشركين، وهم الذين قال فيهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:  ((لهم ما لنا، وعليهم ما علينا))، وهكذا هو في سُنن الترمذي وغيره من حديث سلمانَ رضي الله عنه، وفي صحيح مسلم وأبي عوانةَ، وابن حبَّان، وابن الجارود من حديث بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه.

ومثله حديث:  ((أُمرتُ أن أقاتلَ الناس حتى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله..  فإذا فعَلوا ذلك،  فقد حرُمتْ علينا دماؤهم وأموالهم، إلَّا بحقِّها،  لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين)). وغيرها من أحاديثَ تشهد لهذا المعنى؛ فهذا نصٌّ صريحٌ على أنَّ الذين قال فيهم الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الجملة، ليس هم (المواطنين) من أهل الذِّمة الباقين على دِينهم أو غيرهم، وإنَّما هم الذين أسْلموا منهم، ومِن  غيرهم من المشركين.

ويتَّضح بهذا الخللُ المنهجي في الاستدلال؛ إمَّا بالاعتماد على الأحاديث والآثار التي لا تصحُّ، وإمَّا بالتوجيه الخاطئ للأحاديث الصَّحيحة، والاستدلال بها على غير وجهها، وقطعها عن سياقها.

- ومن المؤاخذات في هذا الجانب : أنَّ غالب الأحاديث التي ذكَرها المؤلِّف في كتابه  - على قِلَّتها - لا تصحُّ نسبتها أصلًا للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وكمثال على ذلك:

ذكر المؤلِّف في (ص: 46): حديث  ((الخلق عيال الله))، ثم قال في التخريج: (رواه البزَّار والحاكم)!.

وهو حديثٌ ضعيف؛ ضعَّفه جمْعٌ من الأئمَّة كابن عَديٍّ، والبيهقي، وابن حبَّان، والطبراني، وابن الجوزي، وغيرهم، وقال عنه النوويُّ في ((المنثورات وعيون المسائل المهمات)) (ص: 288):  (ضعيف باتِّفاق). وقال الإمام البزَّار نفسُه بعد إخراجه له: (لا نعلم رواه عن ثابت، عن أنس إلا يوسف بن عطيَّة  وهو ليِّن الحديث).

- وما ادَّعاه المؤلِّف مِن (أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين؛  أي: شركاء في الدولة وفي المواطنة)!

فيَكفي للردِّ عليه قولُ مَن أخْرَج هذِه الرِّوايةَ - شارحًا لها على خِلاف ما فسَّرها بها المؤلِّف - وهو الإمامُ أبو عُبَيد القاسم ابن سلَّام؛ حيث قال: (وقوله: ((وإنَّ يهود بني عوف أمَّة من المؤمنين)) إنَّما أراد نَصرَهم المؤمنين ومعاونتَهم إيَّاهم على عدوِّهم بالنفقة التي شرَطها عليهم، فأمَّا الدِّين فليسوا منه في شيء؛ ألَا تراه قد بيَّن ذلك فقال: لليهود دِينُهم وللمؤمنين دِينُهم ... وإنَّما كان هذا الكتاب فيما نرَى حدثانَ مَقدَم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة قبل أن يَظهر الإسلام ويقوى، وقبل أن يُؤمَر بأخْذ الجزية من أهل الكتاب، وكانوا ثلاثَ فرق: بنو القينقاع، والنضير، وقريظة فأول فرقة غدرت ونقضت الموادعة بنو القينقاع، وكانوا حلفاء عبد الله بن أُبي، فأجلاهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن المدينة، ثم بنو النضير، ثم قريظة، فكان من إجلائه أولئك، وقتْله هؤلاء، ما قد ذكَرْناه في كتابنا هذا). [((الأموال)) للقاسم بن سلام (ص: 266)، ونقله عنه ابن زنجويه في ((الأموال)) (2/ 472)].

ومن المؤاخذات على المؤلِّف: كلامه (ص: 29 - 30)  عن مسألة الرِّدَّة  باعتبارها من الإشكاليات التي تُثار حول حريَّة العقيدة. وملخَّصه (أنَّ ثمة اختلافًا في طبيعة جريمة الردَّة: هل هي جريمة عقيديَّة، أم هي جريمة سياسيَّة. واختلافًا آخر  في عقوبتها: هل هي حدٌّ منصوص عليه هو القَتْل، أم هي عقوبة تعزيريَّة يُحدِّدها الإمام؛ أي: الدولة، حسب ما يقتضيه الوضع.  وأنَّ جمهور العلماء  اعتبروا الردَّة حدًّا ملزمًا جاء النص عليه في السنةوأجمع عليه المسلمون. غير أنَّ عددًا من المفكِّرين السياسيِّين لم يرَوْا في الرِّدَّة جريمةَ اعتقاد وحدًّا من الحدود، وإنَّما جريمة سياسيَّة تتمثَّل في الخروج المسلَّح عن الدولة الإسلامية العادلة، ومتروك للإمام أمر معالجة الردَّة في صورتها العقدية بما هو مناسب من وسائل التعزير...) .

وقد سبَقت الإشارةُ إلى هذه الشُّبهة في بعض كتب الأسبوع التي عرضنا لها، وردَّ عليها كثيرٌ من الباحثين رُدودًا مفصَّلة، مثل: سلطان بن عبد الرحمن العميري في كتابه (( فضاءات الحرية  -بحث في مفهوم الحرية في الإسلام وفلسفتها وأبعادها وحدودها ))، وعبد الله بن صالح العجيري في كتابه (( ينبوع الغواية الفكرية ))، وسعد بن بجاد بن مصلح العُتيبي في رسالته للدكتوراه (( موقف الاتِّجاه العقلانيِّ الإسلاميِّ المعاصِر من النصِّ الشرعيِّ ))، وغيرها.

غير أنَّ اللافت للانتباه - وهو ممَّا يُؤخَذ على المؤلِّف - طريقتُه في حِكاية الخلاف؛ إذ حكى عن الجمهور أنَّهم اعتبروا حدَّ القتل مُجمَعًا عليه بين المسلمين! ومع ذلك ذكَر رأيَ عددٍ من المفكِّرين السياسيِّين المخالف له، معتبرًا إيَّاه، إن لم يكن مرجحًا له - كما يظهر!

وهذا مسلك باطلٌ مخالفٌ لنصوص السُّنة الصَّحيحة الصريحة، ولِمَا أجْمَع عليه المسلمون.

وممَّا يُؤخَذ عليه قوله (ص: 31 - 32):  (ويمكن إبراز أهمِّ هذه الحقوق المترتبة على الانتماء إلى المجتمع المسلم، سواء كان المواطن مسلمًا أم كافرًا، على النحو التالي:...

ثم قال:  2-7 الحقوق السياسية:

وتتأطَّر في إطار مفهوم أساسي هو الشورى؛ أي: المشاركة في الشؤون العامَّة. وقد اقترن وُرودها في القرآن بالإيمان والصَّلاة؛ إعلاءً لمكانة هذا الحق، بل هذا الواجب الذي تتأسَّس عليه الدولة الإسلامية، كمؤسَّسة تُنشئها الجماعة على عينها لإقامة الدِّين والدنيا).

التعقيب:

لا ندري كيف يصحُّ كلامُ المؤلِّف هذا مع قوله : (سواء كان المواطن مُسلمًا أم كافرًا)؟!

فالمؤلِّف يَذكر أنَّ الشُّورى قُرِنت في القرآن بالصَّلاة والزكاة... فما دخلُ الكافر في الشورى إذًا؟! وهل يُعقل أنَّ الكافر المبغِض للإسلام أصالةً سيَنصح للمسلمين ويَشور عليهم بما فيه مصلحتُهم، خصوصًا إذا كان في هذا الرأي  (إعلاء لمكانة هذا الحق)، و(إقامة الدين والدنيا)؟!

والمؤلِّف قد كرَّر هذا المعنى ومسألة المساواة بين المسلمين وغيرهم في تولي الشؤون العامة أكثرَ من مرة في كتابه [ينظر: (ص: 86)، (ص: 107)، (ص: 110)، (ص: 138)]، بينما النصوص الشرعيَّة صريحةٌ في النهي عن اتِّخاذ غير المسلمين بطانةً تُشاوَر في الأمور؛ من ذلك قوله تعالى:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}  [آل عمران: 118 - 120]... والنصوص في هذا المعنى كثيرة. فهذا خبَر العليم الخبير بخَلقه عنهم، وهذا أمْرُه لنا.

وسيأتي مزيدُ بيان لهذا النُّقطة، على أنَّ حُكم تولي الكفَّار للوظائف في بلاد المسلمين فيه تفصيلٌ ليس محلُّه هذا العرْض والنقد المختصر.

وممَّا يؤخَذ على المؤلِّف قوله (ص: 47): ( 5- كما أنَّ التصور الإسلامي يُقدِّم أساسًا لوحدة الإنسانية باعتبار وَحدة الأصل، ووحدة الرسالة الإلهيَّة التي أرسل بها كل الأنبياء، بما يُلغي أيَّ أساس للاضطهاد الدِّيني، وللإكراه، وللتعالي القومي، إذ الناس جميعًا من أصل واحد مشمولون بنداء الله ربهم جميعًا  {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، وفي حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة").

وقوله (ص: 54): (ولقد تأسَّس على عقيدة وحدة الربِّ ووحدة الأصل البشري أنَّ البشر كلهم إخوة).

التعقيب:

في هذا الكلام تمييع غير مستساغ، ولا بدَّ من فَصْل الأمور، وتحديد المصطلحات؛ فهناك فَرْق بين الاشتراك في أصل الإنسانية من حيثُ الأصل، ومن حيثُ نداؤهم جميعًا، وبين الأُخوة الإيمانيَّة التي تقتضي حقوقًا أزيد، فالله سبحانه قد شمِل الناس جميعًا بـ{أَيُّهَا النَّاسُ}  فمَن استجاب منهم، ناداه بقوله:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، ومَن أَبى وكفَر، ناداه بقوله:  {يَا أيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا}، وقد حصَر سبحانه الأُخوةَ بين المؤمنين بقوله:  {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10]، ولَمَّا:  {... نَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}  [هود: 45]، نبَّهه سبحانه أنَّ ابنَه قد خرَج من زمرة أهله؛ لكونه كفَر وعمِل غير صالح؛ فقال:{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}  [هود: 46].

فالتصوُّر الإسلامي أنَّ الله تعالى خلَق الخلق؛ فمِنهم مَن آمن ومِنهم مَن كفر؛ ولكلٍّ أحكامه الخاصَّة به، ولا يظلم ربُّك أحدًا؛  {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}  [التغابن: 2].

- والحديث الذي استدلَّ به المؤلِّف؛ لا يصحُّ؛ ضعَّف إسنادَه الشوكانيُّ والأرناؤوط، وضعَّفه الألبانيُّ. وحتى على فرْض صِحَّته فهو مقيَّد بما ذُكِر من الآيات، ويُفهم في سياقها.

ولا يعني ما ذكرنا أن يَظلم أحد أحدًا، أو يضطهده بغير حقٍّ، أو يُكرهه على الدخول في الإسلام، كلَّا! وإنَّما يعني فقط التفريقَ بين الأحكام، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه الذي شرَعه الله تعالى له؛ فلا يُسوَّى بين مَن آمن بالله تعالى واتَّبع رسولَه وصدَّقه، وبين مَن كفَر به سبحانه وكذَّب رسولَه وعصاه.

  ومن المؤاخذات على المؤلِّف : ثناؤه المُطلَق على السيِّد خاتمي - تلميذ الخميني، وابنه أحمد، والذي ترأس جمهورية إيران في مايو من عام 1997م - وعلى مشروعِه للحُكم؛ يقول المؤلِّف (ص: 50): (لقد أجاد السيِّد خاتمي صياغة مشروعه للحكم لَمَّا اعتبر مهمته الأسمى إقامة مجتمع مدني إسلامي في ظلِّ سلطة القانون؛ أي: سلطة الشريعة، بما ينقُل مركز الثقل والقداسة والسلطة من الحاكم إلى المحكوم، ومن الشخص إلى الفكرة، ومن الدولة إلى المجتمع باعتبارها مجرد أداة بسيطة من بين أدوات المجتمع الكثيرة لأداء رسالته؛ لأن الدولة ليست مخاطبة برسالة القرآن ولا مقدسة، وإنما المقدس كما بيَّن سماحة الإمام مهدي شمس الدين، الأفراد والجماعات).

التعقيب:

من المعلوم أنَّ الحِكمة ضالَّة المؤمن، وأنَّ الحقَّ يُقبل ممَّن جاء به كائنًا مَن كان، ولكن لا بدَّ من توضيح أنَّه لا يجوزُ الثَّناء المطلَق على مَن عُرِف بالضَّلال دون تبيِّين ما عنده من ضلال؛ حتى لا يلتبس على الناس أمرُه؛ فكيف يُمدَح مَن يحارب الإسلامَ والسُّنَّةَ، ويُكفِّر حملةَ الدِّين من صحابة النبي الأمين، والخلفاء الراشدين، ويسبُّ أمهاتِ المؤمنين...إلخ ممَّا هو معروف من ضلالهم؛ لمجرد أنَّه (أجاد) فيما ذكَر المؤلِّف - إنْ كان هذا واقعًا أصلًا؟!

لكن هذا من افتتان المؤلِّف بالثورة الخمينيَّة وقادتها - كما سبق أن ذكرنا.

ومن المؤاخَذات على المؤلِّف: حديثه (ص: 53 - 60) عن موقع مفهوم المساواة في الإسلام ، حيث قال ما ملخَّصه: (نظر علماء الإسلام إلى المساواة باعتبارها أصلًا من أصول الشريعة الإسلامية، راعته الشريعة ويراعيه ولاة الأمور ويحملون الناس عليه، وكان مبنى الشريعة الإسلامية على أن المساواة هي الأصل...

والعدل ليس له -كما يظن- معنى آخر غير المساواة، بل المساواة معناه الأصلي، إذ العدل في لُغة العرب ضد الجَوْر، فهو التسوية...

وهكذا يتعامل مبدأ المساواة مع تعقيدات الواقع مهتديًا بمبدأ العدالة، وهو أشمل من مبدأ المساواة، وذلك عند اختلال قاعدة التماثُل في الوضع القانوني، من مِثل تولية غير المسلم بعض المناصب الدِّينيَّة كالإفتاء، وكرئاسة الدولة - حسب رأي معظم الفقهاء - وذهبت بعضُ الدساتير الإسلامية كالدستور السوداني إلى التسوية؛ اعتمادًا على أن مفهوم رئاسة الدولة (الخليفة) كسلطة عُليا تجمع التشريع (الاجتهاد) والقضاء والتنفيد، قد تخطَّاها الزمن بعد أن غدَتْ مؤسَّسةً تتَّخذ القرار بشكل جماعي، وفي دولة إسلاميَّة غالبيتها مسلمون، سيكون أغلب مَن في مؤسساتها مسلمون [كذا، وصوابه: مُسلِمين].

المهم هو رعاية توفُّر قاعدة التماثل، والأصل أنَّ الناس متماثلون، فإذا شهِد الواقع الاجتماعي بغير ذلك، وثبت اختلال قاعدة التماثل في الوضع القانون، فهناك مجال عندئذ للاستدراك على المساواة، بل إنَّه ليس من المساواة التسوية بين غير المتماثلين، كالتسوية في ميزان الله بين التقي والشقي، وبين المجرم والبريء، وبين العالِم والجاهل، قال تعالى {لَا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100]...

لا مساواة إلَّا حيث تتماثل المراكز القانونية كالمساواة أمام القانون، والمساواة في العقاب إذا تماثلت الجرائم المرتكَبة).

التعقيب:

في هذا الكلام تناقُضٌ واضح ودفْع لإشكال ما زال قائمًا؛ فمَن يقول: إنَّ العَدْل ليس هو المساواة يعني به ما ذكَر المؤلِّف بعضًا منه تحت عنوان (الاستدراك على المساواة) حيث قال: (المهم هو رعاية توفُّر قاعدة التماثل والأصل أن الناس متماثلون، فإذا شهد الواقع الاجتماعي بغير ذلك وثبت اختلال قاعدة التماثل في الوضع القانون فهناك مجال عندئذ للاستدراك على المساواة، بل إنَّه ليس من المساواة التسوية بين غير المتماثلين، كالتسوية في ميزان الله بين التقي والشقي، وبين المجرم والبريء، وبين العالم والجاهل، قال تعالى  {لَا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ}  [المائدة: 100])

وهذا كلامٌ حسنٌ في الجُملة، ولكن المؤلِّف نقَضَه بالجملة التي بعدها مباشرةً حيث قال: (لا مساواةَ إلَّا حيث تتماثل المراكِز القانونيَّة، كالمساواة أمام القانون، والمساواة في العِقاب إذا تماثلت الجرائم المرتكَبة)

والسؤال هو:  هل المركز القانوني للمؤمن المسلِم الموحِّد بالله عزَّ وجلَّ والمصدِّق بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، مساوٍ ومماثل للمركز القانوني للكافر المشرِك المكذِّب للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حتى وإن تساوتْ وتماثلت الجرائم المرتكَبة؟!

بالطبع لا! قال الله تعالى:  {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}  [الجاثية: 21]، وقال تعالى:  {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}  [ص: 28].

وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:   ((ولا يُقْتَلُ مُسلِمٌ بِكافِرٍ))  [أخرجه البخاري (6915) باب: لا يُقتل المسلم بالكافر، وأخرجَه في مواضع أخرى].

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم:  ((لا يُقتَل مؤمنٌ بكافِر. دِيةُ الكافر نِصفُ دِية المؤمِن))  [أخرجه أحمد في مسنده (6692)، وابن خزيمة في صحيحه (2280) وغيرُهما وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر والأرناؤوط، وصحَّحه الألباني].

وعلى هذا؛ فالصَّحيح أن يُقال: إنَّ العَدْل إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه بما شرَعه الله تعالى له، والمساواة بين ما سوَّى الشرع بينه، والتفريق بين ما فرَّق الشرع بينه. وشريعة الله تعالى مبناها كلِّها على العدْل، ولا يَظلم ربُّك أحدًا.

- ويُؤخَذ على المؤلِّف أيضًا حكايتُه للخلاف بطريقة فيها تمييع لكبرى القضايا؛  حيث قال: (من مِثل تولية غير المسلم بعض المناصب الدِّينيَّة كالإفتاء، وكرئاسة الدولة - حسب رأي معظم الفقهاء - وذهبت بعض الدساتير الإسلامية كالدستور السوداني إلى التسوية...).

فقوله: (حسب رأي معظم الفقهاء) خطأ، بل هذا أمر مُجمَعٌ عليه بين المسلمين قاطبةً؛ قال ابن حزم: (واتَّفقوا أنَّ الإمامة لا تجوز لامرأة ولا لكافر) [مراتب الإجماع (ص: 126)]، وقال القاضي عِياض: (أجمَع العلماء على أنَّ الإمامة لا تنعقد لكافِر، وعلى أنَّه لو طرأ عليه الكفر انعزل) ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 229).

وحتى لو كان رأي معظم الفقهاء؛ فهل يُسوَّى بين هذا الرأي  وبين رأي بعض الدساتير الإسلاميَّة؟! فضلًا عن أن يرجح عليه -  كما يظهر من طريقة المؤلِّف وتعليله غير المقبول؟!

 

ومن المؤاخذات قوله (ص: 78):  (فالمؤمن إذ يدفع الضريبة التي تسمى في الإسلام زكاة يشعر بأنه لا يؤدي ذلك التزامًا بالواجب تجاه الدولة أو خشية من عقابها، وإنما يشعر بأنه يؤدي واجبًا تجاه الله ويمارس عملًا تعبديًّا).

التعقيب:

هذا الكلام لا يصحُّ إطلاقه هكذا؛ فمن المعلوم أنَّ الضريبة تختلف عن الزكاة حقيقةً وحُكمًا، فالزكاة شُرِعت تطهيرًا وتنميةً للمال، ولها شروط وأحكام؛ فلا تجب إلَّا على مَن ملَك النِّصاب المحدَّد، ومرَّ عليها الوقت المقدَّر فيما يُشترط له الحول منها، ولا تُعطى إلَّا لأصناف معيَّنين (ثمانية). أما الضَّريبة؛ فإنَّها تُؤخذ قهرًا من الناس كلِّ الناس الذين يتَّجرون، أو يتكسَّبون من الحِرف، ولا يعتبر فيها النِّصاب، ولا تُصرَف لمستحقِّيها المنصوص عليهم، بل أحيانًا كثيرة تؤخذ من أناس هم في الأصل مستحقُّون للزكاة! مع المبالغة المعروفة في تقديرها...إلخ ممَّا يَعرفه المتخصِّصون في هذا الجانب.

كما أنَّ كلام المؤلِّف يوهم  من طرْف غير خفيٍّ أنَّ الذِّمي - بدفعه لهذه الضريبة - يستوي مع المسلِم الذي يدفع الزكاة؛ فهي نظيرتها! ومن ثمَّ لا تجب على الذِّميِّ حينئذ دفْع الجزية! وهذا رأي - على شذوذه وخطئه - قد قيل ويُروَّج له في كثير من الأطروحات والكتابات!

يدلُّ على هذا قولُه (ص: 107): (وحتى ما اصطلح عليه الفقهاءُ في العصور القديمة بـ(أهل الذمة) من تمييز بين المسلم وغير المسلِم، هو تمييزٌ اقتضته أوضاع ظرفيَّة غير ملزِمة للأمة مصطلحًا ومضمونًا، لا سيَّما مع حصول الاندماج في عصر الدولة الحديثة كما نصَّ على ذلك فقهاء مُحدَثون كبار).

وهو كلام خطأ مجانِب للصواب، وباطلٌ مجانب للحق.

ويتَّضح ذلك في المأخذ التالي:

قال المؤلِّف (ص: 101):  (4-2 ومن ذلك الموقف من الديمقراطية بما هي سيادة للأمَّة مساواة أمامَ القانون بدون تميُّز دِيني، أو جِنسي، وإقامة للأحزاب.

الموقف الإسلامي لا يزال يغلب عليه التردُّد:   دعاة الشورى والديمقراطية  يؤكِّدون على سيادة الأمة في إطار الشريعة، وعلى حريَّة الصحافة وتكون الجمعيات الثقافية والسياسيَّة، والتنافس الحُرِّ السلمي على السلطة، واعتبار المجال العام مجال تنافس حرٍّ على أساس المساواة، مؤكِّدين على حقِّ غير المسلم في المشاركة في الشأن العام، على أساس المواطنة؛ أي: الاشتراك بالتساوي في امتلاك الوطن وخدمته، وبالنظر للأصل الإنساني المشترك{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}  [البقرة: 30]، بينما يؤكِّد المحافظون على تحديد تلك الحرية، فيرفضون التعدديَّة حتى في الإطار الإسلامي ويرفضون مشاركةَ غير المسلم على قدَم المساواة.

4-3 ومن هذه المسائل المختلفة الموقف من المرأة: المجددون يؤكدون على المساواة مع رعاية مقتضيات الفروق الطبيعية. بينما يؤكد المحافظون على دونية المرأة وقصر نشاطها ودورها على المجال الخاص "المجال الأسري").

التعقيب:

سبَق الردُّ على أمثال هذه النِّقاط أو شبهها، ونزيد هنا تأكيدًا على نقطتين:

الأولى:  أنَّه ليس لأحدٍ كائنًا مَن كان - من دعاة الشورى والديمقراطيَّة! أو من المحافظين - أن يَشرَع في دين الله تعالى ما ليس منه، والواجب على الجميع هو التسليم لِمَا شرعه الله تعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وما أجمع عليه علماءُ الأمَّة وهُداتُها.

وعليه:  فإنَّ ما يؤكِّد عليه المؤلِّف ودعاة الشورى والديمقراطيَّة من (حقِّ غير المسلم في المشاركة في الشأن العام، على أساس المواطنة) هو خِلافُ ما أكَّد الله تعالى عليه، ونهى عنه في كتابه بقوله:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}  [آل عمران: 118].

قال الإمام القرطبي في تفسيره (4/ 178): (فيه ستُّ مسائلَ:   الأولى:   أكَّد الله تعالى  الزَّجْرَ عن الركون إلى الكفَّار، وهو متَّصل بما سبق من قوله:  {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ}  [آل عمران: 100]... الثانية:   نَهَى الله عزَّ وجلَّ  المؤمنين بهذه الآية أن يتَّخذوا من الكفارِ واليهودِ وأهلِ الأهواء دُخلاءَ وولجاءَ، يفاوضونهم في الآراء، ويُسنِدون إليهم أمورهم... ثم بيَّن تعالى المعنى الذي لأجله نَهَى عن المواصلة، فقال:  {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}  يقول: فسادًا، يعني: لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني: أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر؛ فإنَّهم لا يتركون الجهدَ في المكر والخديعة ...).

وهذا هو الواقِع المشاهَد في كلِّ عصر وكلِّ مصر؛ فمتى يُفيق هؤلاء الذي يدعون إلى مخالفة أمر الله تعالى بما يظنونه خيرًا؟!

وليس هذا محلَّ التفصيل في مسألة حُكم تولي الكافر الولايات في الدولة الإسلاميَّة، وإنما المراد هنا الإشارة فقط، ومَن أراد التفصيل في هذا وجَدَه في مظانِّه من كتُب الفقه والتفسير والدِّراسات المتخصِّصة.

الثانية:  أنَّه لا يجوز التشنيعُ على الآراء وأصحابها بهذه الصُّورة غير الدقيقة؛ حيث تُحكَى الآراء بغير دقَّة، وبتوصيف مختزَل غير صحيح. وتُنسَب إلى من يُطلق عليهم (المحافظين)، وهي تسمية تُشير في حقيقة الاستخدام وسِياق الكلام إلى التشدُّد والجمود، ومخالفة الشورى والديمقراطيَّة!

وعليه: فقول المؤلِّف: ( بينما يؤكِّد المحافظون على دونية المرأة، وقصْر نشاطها ودَورها على المجال الخاص "المجال الأسري") غير صحيح، وغير دقيق؛ للآتي:

أولًا:  لا يوجد أحدٌ ممَّن يُطلق عليه (المحافظون) - فيما نَعلَم - أكَّد على دُونيَّة المرأة؛ بل هم أشدُّ تأكيدًا على مكانتها العظيمة، ودَورها الرائد في خِدمة الدِّين وتربية الأجيال، قديمًا وحديثًا، وهم أشدُّ حرصًا على إكرامها، وتهيئة كلِّ الظروف المناسِبة لها.

ثانيًا:  القول بأنَّ قصْر دَوْر المرأة على المجال الأُسري فيه تأكيدٌ على دونيَّة للمرأة؛ هو القصور بعينه لمن تأمَّل ذلك. مع أنَّ المسألة فيها تفصيل، فالذي يؤكِّد عليه مَن يُسمِّيهم المؤلِّف (المحافظين) هو عدم فتْح الباب على مصراعيه لاختلاط المرأة بالرِّجال في كلِّ المجالات - لما في ذلك من فسادٍ شهِد به حتى الكفَّار - بل يؤكِّدون على أن تُضبط الأمور، وتَعمل المرأة في الأماكن المناسِبة والمهيَّأة لها، وفيما يكون فيه مصلحةٌ للأمَّة، مع الالتزام بضوابط الشرع في كلِّ الأحوال والظروف؛ فهل في هذا دونيَّة للمرأة؟!

ومن ذلك أيضًا قول المؤلِّف (ص: 101):  (4-4 ومن هذه المسائل: استخدام القوَّة في حسْم المشاكل الداخليَّة، وفي العلاقات الدوليَّة، فحيث يمنع تيارُ التجديد الإسلامي - وهو التيار الوسطي العريض - استخدامَ القوة في العلاقات الدولية إلَّا دِفاعًا عن أرض الإسلام، مؤكِّدين على أنَّ الأصل هو السلم في العلاقة مع غير المسلمين اعتبارًا لأصل الأخوة الإنسانيَّة، داعين إلى حوار الحضارات والتعاون بين الشعوب، يميل تيار المحافظين إلى استخدام لغة الحرب والغزو والتعبئة ضد الأعداء).

التعقيب:

ما قيل سابقًا يُقال هنا، وقوله: (إلَّا دِفاعًا عن أرض الإسلام) فيه قصرٌ للجهاد على جهاد الدَّفع فقط، ونفيٌ لجهاد الطَّلب، وقد سبَق الردُّ على هذا في نقدنا لكتاب فقه الجهاد للقرضاوي

وما ذكَره المؤلِّف من مسألة استخدام القوة في حسم المشاكل الداخليَّة، وفي العلاقات الدوليَّة، فالأمر ليس مطلقًا هكذا على عواهنه بما ذكَره المؤلِّف من تزيين لرأي دُعاة الشورى والديمقراطيَّة - الذين يُسمِّيهم هنا تيار التجديد الإسلامي، ويصفهم  بأنهم التيار الوسطي العريض - وتشنييع وتنفير من رأي من يُسميهم المحافظين! بل الأمر فيه تفصيلٌ في أحكام الجِهاد والعَهد، ودواعيه وشروطه، بما يراجع تفصيلًا في مظانِّه؛ إذ لا يناسب في هذا المقام، التفصيل في هذه المسائل العِظام. وحسبُنا من القلادة ما أحاط بالعُنق.

والحمدُ لله ربِّ العالَمين،،