قراءة ونقد

خُطواتٌ في فِقه التعايُش والتَّجديد
book
هاني أحمد فقيه
عنوان الكتاب: خُطواتٌ في فِقه التعايُش والتَّجديد
الناشر: دار الفتح للدراسات والنشر – عمان الأردن
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1431 هـ - 2010م
عدد الصفحات: 163
عرض ونقد: القِسم العِلمي بمؤسَّسة الدُّرر السَّنية
أولًا: عرض الكتاب:

كتابُ هذا الشَّهر يتحدَّث عن مسائل التعايُش والتَّجديد والتعدديَّة، وهو موضوع كثُر اهتمامُ المفكِّرين والكتَّاب به في الآونة الأخيرة؛ نَظرًا لتعلُّقه بحياة النَّاس وتعاملاتهم في شتَّى جوانب الحياة: الدِّينيَّة، والاجتماعيَّة، والسياسيَّة، وأيضًا نظرًا لكثرة الشُّبهات المثارة حوله، والهجمات الشَّرسة الموجَّهة إلى الإسلام في هذا الجانب. غير أنَّ كثيرًا من المتحدِّثين فيه قد وقَعوا في أخطاء وزلَّات. وقد حاول مؤلِّف الكتاب تقديمَ ما يراه من حلول ومقترَحات حول بعض المستجدَّات الإسلاميَّة، وقد أصاب في عددٍ منها، إلَّا أنَّه أخطأ أيضًا في بعض الأمور، وفي هذا العرض والنَّقد إشارة إلى أهمِّها بإيجاز:

وقد تألَّف الكتاب من مُقدِّمة (بين يدي الكتاب)، وعشرين فصلًا: أشار في المقدِّمة إلى أهميَّة مسائل التعايُش والتجديد والتعدديَّة، وأنَّه عالجَها بطريقة تأصيليَّة تفصيليَّة؛ إذ كثيرًا من الدِّراسات التي تحدَّثت عن هذا الموضوع غلَب عليها الخِطابُ التفسيري، منتقدًا مَن يريد توحيدَ جميع الأطراف على رأي واحد في كلِّ مسائل الدِّين والدنيا، كما أشار إلى طريقتِه في الكتاب، وأنَّه حاول التيسيرَ في العبارة، والابتعاد عن التقسيمات الدَّقيقة، والمصطلحات الصارمة.

أمَّا الفصل الأوَّل : فكان الحديثُ فيه عن حقِّ الاختلاف، فنبَّه على أنَّ مسائل الدِّين ليست واحدةً، متحدِّثًا عن الصَّحابة وفَهمهم للنصِّ، وعن المقبول والمرفوض من الخِلاف، ومشيرًا إلى بعضِ التجارِب الفاشلة في توحيد الرأي، ومؤكِّدًا على أنَّ التصحيح مطلوب.

والفصل الثَّاني: كان عن الوَحدة في ظلِّ الاختلاف، ممثلًا ببعض الدُّول المعاصرة، ومشنِّعًا على غيابِ قِيَم التسامح لدَيْنا، وموضِّحًا كيفية تعزيزَ قِيَم التسامُح والتعايش.

والفصل الثالث: كان عن التعدديَّة في التَّجرِبة الأندلسيَّة - كمثال عمَلي من التاريخ - وعَدَّ من مظاهر التسامُحِ تولِّيَ يهود ونصارى الوزارة في دولة الخلافة! وتحدَّث عن مدينة قُرطبة كنموذج، وذكَر من تحضُّرها وتمدُّنها، وكثرة سكَّانها، مع التسامُح الذي كانت تنعم به، وأشار إلى سرِّ بقاء اليهود والنصارى في بلاد الإسلام.

والفصل الرَّابع: صدَّره بقوله: (نحو مجتمع مدني)، وتكلَّم فيه عن كيفيَّة معاملة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع المنافقين واليهود، وعلى وثيقة المدينة ودَلالاتها، مستعرضًا بعضَ النِّقاشات حولها.

الفصل الخامس: حاول فيه الإجابةَ عن بعض إشكالات حول التَّعدديَّة، مثل مسألة موالاة الكافر ومعناها، والتوفيق بين إقرار التَّعدديَّة ووجوب إنكار المنكَر، وبين التعدديَّة وانتشار البِدع.

وفي الفصل السَّادس: كان الحديثُ عن التكفير والتبديع في فروع العقيدة، مؤكِّدًا على وجوب تحقيق منهج الاعتدال والتوسُّط فيه، وكيف حال الأئمَّة مع فروع العقائد، منتقدًا ما سمَّاه شخصنةَ التكفير وتَسيسه، وإشعال المغرِضين للفِتنة.

والفصل السابع: كان عن الوسطيَّة في فِكر الإمام الذهبي، موضِّحًا سبب اختياره للذهبي، ومتحدِّثًا عن إنصافه في تراجمه، وكراهته للإغراق في فروع العقائد، وآرائه في الغلوِّ في مسائل الصِّفات، والاختلافات الفقهيَّة، وأنَّه لم يكن محابيًا ولا متساهلًا، ورغم ذلك لم يُعجِب كثيرين، ثم ختَم هذا الفصلَ بتعريف موجَز به.

والفصل الثامن: عنونه بـ(من أخبار العلماء في الاعتدال)، وذَكَر منهم الإمام مالكًا، ورفْضَه لطلب هارون الرشيد بإلزام الناس بما في الموطَّأ، وذكر مواقف لعُمر بن الخطَّاب وابن مسعود رضي الله عنهما، كما ذكَر نماذج لبعض العلماء دافعوا عن خُصومهم، كالذين ألَّفوا في فضائل أبي حنيفة وهم على غير مذهبه، ومن الصُّور في العصر الحديث الشيخ أحمد شاكر ورده على الشيخ شلتوت بأدبٍ وتواضع واحترام، وختَم هذا الفصل بكلمةٍ جامعة للذهبي وابن تيميَّة، متأسِّفًا على حالنا اليوم.

والفصل التاسع : كان للإجابة عن سؤال: كيف نُصلح العقيدة؟ فذكَر كيف تؤثِّر العقيدةُ على السلوك سلبًا وإيجابًا، واضعًا ثلاثة شروط لإصلاح العقيدة.

والفصل العاشر: كان حولَ جِهاد الطلب، زاعمًا أنَّ كل حروب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وغزواته، وكذلك غزوات الصحابة ومَن بَعدهم وفتوحاتهم، كانت كلها حروبًا دفاعيَّة! منتقدًا ما يَذكُره العلماء من مراحل تشريع الجهاد، ونافيًا النَّسخَ في آيات الجهاد. وذكَر أنَّ الأعداء ينتقدون ويزعمون أنَّ الإسلام دِينُ العنف، وموضِّحًا أنَّ أصل علاقة المسلمين بغيرهم هو السِّلم والتسامح، مستعرضًا الأسباب المشرِّعة للقتال المسلَّح - من وجهة نظره - محاولًا توجيهَ الآيات الآمرة بقتال الكفار مطلقًا بما يتوافق مع ما زَعَمه. وختَم هذا الفصل بالحديث عن فوائد السِّلم.

الفصل الحادي عشر: أكمل الحديثَ فيه عن حقيقة الغزوات النبويَّة، وأنها كلها دفاعية أيضًا، مفسِّرًا السبب العام لتلك الغزوات.

الفصل الثاني عشر: أكمل فيه أيضًا الحديثَ عن حقيقة فتوحات الصَّحابة، وأنَّ مبدأها أيضًا دِفاعي، وذكر ما يراه شواهدَ على ذلك، زاعمًا أنَّ عمر بن عبد العزيز أوقف الفتوحات كأنَّه غير راضٍ عنها، واهتمَّ بالإصلاحات الداخليَّة! ثم ختم هذا الفصل بمقارنة بين حروب الصَّحابة وحروب غيرهم.

الفصل الثالثَ عَشرَ: تكلَّم فيه عن تصحيح مفهوم الجهاد، موضِّحًا أنَّ للجهاد صورًا عديدة وواسعة، وأنَّ مجرد حصره في صُورة القتال المسلَّح هو فَهم قاصر لمفهوم الجهاد، مشيرًا إلى بعض صُوَره؛ مثل تبليغ الدَّعوة، والبناء والإصلاح، خاتمًا هذا الفصل بذِكر حال المسلمين والعرب اليوم.

الفصل الرَّابع عشر: كان حول مسألة الجزية، وزعَم أنها فُرضت على الذِّميِّين مقابل تكفُّلَ الدولة الإسلاميَّة بحِمايتهم وحراسة أوطانهم، وعدم تكليفهم بواجب الخِدمة العسكريَّة! كما تحدَّث عن شُبهة الرقِّ، والرد على ذلك، وأيضًا عن مسمَّى أهل الذمَّة، مستحسنًا إسقاط كلمة الذميِّين من البناء القانوني في العالم الإسلامي والعربي؛ لأنَّ الذميِّين يأنفون من استعماله، وينفِرون منه!

الفصل الخامس عشر: قراءة في التجديد الدِّيني، وأوضَح فيه كيف استفاد المسلمون من منجزات الأمم الأخرى، كما ذكَر شواهدَ لجناية الجمود والتخشُّب، موضِّحًا كيفية الاقتداء بالسَّلف الصالح، مستعرضًا مذاهبَ الناس في التجديد اليوم، وأنها طرفان: مغالٍ في تقديس القديم، ومتنكِّر له. ووسط آخِذ من القديم والحديث ما يُفيد دون تنكُّر أو انتقاص، مصوِّبًا التوسط في ذلك.

الفصل السَّادس عشر: تحدَّث فيه عن المسألة السلفيَّة، مشيرًا إلى تجاذُب العديد لهذا المصطلح، وادِّعاء كل فريق الأحقيةَ به لنفْسه، مقارنًا بين كلام لإمام ابن رجب وكلام للإمام الشوكاني في هذا الصَّدد، كما تحدَّث عن مسألة تغيُّر الحُكم بتغيُّر الزمان والمكان، والمصلحة، ومَن الذي يقدِّر المصلحة.

الفصل السَّابع عشر: عنونه بـ"نحن والغرب والاستعمار"، وتحدَّث فيه عن الغرب المزدوج وأنَّه غير جادٍّ في مطالبة العالم الإسلامي والعربي بالإصلاح، وذكر مظاهر ذلك، ومبرِّرات استعماره الواهية، مندهشًا من عدم وعي الشُّعوب المسلمة للدرس رغمَ تَكرار الحِيلة! كما أوضح أنَّ الغربيِّين ليسوا كلهم سواءً، كما ذكر بعضًا من محاسن الحضارة الغربيَّة.

الفصل الثامن عشر: تحدَّث فيه عن معركة الديمقراطيَّة، ذاكرًا شواهد مراعاة رأي الأغلبيَّة في الإسلام، وموجِّهًا الآياتِ الواردةَ في ذمِّ الكثرة، مع توضيحات مهمَّة في هذا الصَّدد، خاتمًا هذا الفصل ببعض فوائد مراعاة رأي الأغلبية.

الفصل التاسع عشر: كان عن مسألة التفاضُل العرقي بين البَشَر، مشيرًا إلى أنَّ كل أمَّة تزعُم تفضيلَ جنسها على غيرها، ونافيًا أنْ يكون الإسلام فضَّل الجنسَ العربيَّ على غيره، مع مناقشة حديث الاصطفاء.

الفصل العشرون والأخير: وكان للحديث عن قواعد في فِقه التيسير، فذكَر معنى تيسير الفقه، وذكَر عشر قواعد في فقه التيسير، وختَم هذا الفصل بعنوان: ما نريده من فقيه اليوم؟ مجيبًا عن هذا التساؤل، معدِّدًا الصفات المطلوبة في فقيه اليوم، وجِماعُها التمكُّن من فقه الشرع والقُدرة على الاستنباط، والفَهم الجيِّد للواقع، والقُدرة على تنزيل الأحكام على الواقع بما يُسهِم في تقدُّم الأمَّة ونهضتها، مع رجوعه لأهل التخصُّص في كلِّ فن. ونبَّه على ضرورة مراعاة تصرُّفات النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ودَلالاتها التشريعيَّة، وعدم الخلط بين ما فعله صلَّى الله عليه وسلَّم تشريعًا وسُنَّة ملزمة، وبين ما فعله عادةً أو جِبلَّة بشريَّة، أو أمر دُنيوي على سبيل الرَّأي، مثل نهيه عن تأبير النَّخل، وأنَّ هذه الأمور ليستْ مُلزِمةً ولا سُنَّة تُتَّبع.

ثانيًا: نقد الكتاب:

بدايةً تجدُر الإشارةُ إلى أنَّ المؤلِّف قد ذكَر أمورًا في كتابه هذا، هي محلُّ اتِّفاق، ولو التُزم بها لأثمرت ثمارًا يانعة، ولأسهمت في رَأْبِ الصَّدع، ولَمِّ الشَّعث، وفي وإصلاح الأمَّة بقَدْر كبير؛ من ذلك: لزومُ مراعاة أدَب الخِلاف، وحسُن التعامُل معه، والتفريق بين أنواعه. والحرصُ على إظهار رُوح التسامُح وعدم التنازُع المؤدِّي إلى الفُرقة والتطاحُن والتباغُض. ومن ذلك: التأكيدُ على أنَّه من الخطأ محاولةَ إلزام الناس برأي وبمذهب واحد في المسائل الخلافيَّة الاجتهاديَّة. ووجوبُ الإقرارِ بالاختلاف والتنوُّع كواقِع، مع وجوب حُسن التعامل معه برُقي، وإدارته بحِكمة. ومن ذلك: التأكيدُ على لُزوم العدْل والإنصاف عند الاختلاف. ومن ذلك أيضًا: التنبيه على خَطأ التجرُّؤ والمسارعة في التكفير والتبديع، والمبالغة والشَّطط في هذا، وأنَّ الخطأ في العفو أهونُ من الخطأ في العقوبة. ومن ذلك: تأكيدُه على الحِرص على إظهار محاسن الإسلام، والتَّأكيد على لزوم الجِدِّ والعمل، والاستفادة من كلِّ نافع ومفيد، حتى ولو كان عندَ غير المسلمين، ومن ذلك: التأكيد على دَوْر المجامع الفقهيَّة والعلميَّة، وأهميَّة الرُّجوع إليها في الملمَّات والمسائل التي تتعلَّق بمصالح المسلمين العامَّة، وكذلك تأكيده على التيسير المنضبِط بقواعده الشرعيَّة من غير شطط، أو تساهُل، أو تمييع لقضايا الدِّين... إلى غير ذلك من الأمور الجيِّدة والمتَّفق عليها في الجملة.

لكن للأسف، لم يَكتفِ المؤلِّف بذكر هذه المسائل المهمَّة، والتي أحسن في طَرْحها، بل أردفها بمسائلَ أخرى لم يُصِب فيها، وعليها كثيرٌ من المؤاخذات.

وقَبل الحديث عن هذه المؤاخذات، تَحسُن الإشارة إلى بعض الأصول والثوابت ذات الصِّلة بهذا الموضوع، ولكنَّها أحيانًا ما تغيب عن كثيرٍ من المتحدِّثين فيه:

فمِن هذه الثوابت: أنَّ الحقَّ واحدٌ لا يتعدَّد، وأنَّ الدِّين الحقَّ ودِينَ الأنبياء كلهم هو الإسلام، وأنَّ شريعةَ الإسلام هي الشريعةُ الخاتِمة لكلِّ الشرائع، وأنَّه يلزم جميعَ أهلِ الأرض الانقيادُ لها، والنُّزولُ على حُكمها، بعدَ العلم بها وبلوغها إيَّاهم؛ قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقال عزَّ من قائل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((والذي نفسُ محمَّدٍ بيده، لا يَسْمَعُ بي أحدٌ مِن هذه الأمَّةِ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثم يموتُ ولم يُؤْمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كان مِن أصحابِ النارِ))، رواه مسلم (153).

ومن هذه الأصول: وجوبُ مولاة أهلِ الحقِّ المؤمنين، ومعاداة أهلِ الباطل الكافرين؛ درأً للفِتنة، ودفعًا للفَساد العَريض؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}... إلى قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 72- 73]، أي: إلَّا يُوالِ المؤمن المؤمنَ من دون الكافر تكُن شُبهةٌ في الحقِّ والباطل، وظهور الفساد في الأرض.

والمقصود هنا: هو وجوب المفاصَلَة، ومعرفة مَن المحِقِّ ومَن المبطِل؛ حتى لا يختلط الأمرُ على الناس، وحتى لا تحدُث الفِتنة، فنسمع مَن يقول من المسلمين: إنَّ النصارى واليهود الآن إذا صَدَقوا والْتَزموا بدِينهم؛ فهُم من أهل الجنة! أو مَن يقول: إنَّ الآياتِ التي نزلت في كُفر اليهود والنصارى هي في قُدمائهم! وكل هذا قد وقَع بالفِعل!!

ومن هذه الأصول: أنَّ العِزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين فقط، وأنَّ الكافر قد أذلَّ نفْسَه بكُفره، وبُعده عن الحقِّ؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].

وبيان هذه الأصول غيرُ منافٍ للتعايش على أساس البِرِّ والعَدل والإقساط لِمَن لم يُقاتلْنا في الدِّين، ولم يُخرِجنا من دِيارنا، ولم يُظاهِرْ على إخراجنا، كما أمَرنا ربُّنا تبارك وتعالى بذلك.

فكل هذه الأصول والثوابت هي في الحقيقة غَيرُ مناقِضةٍ لفقه التعايش والتجديد، بل الواجبُ هو الانطلاقُ مِن خلالها، والتعايُش على أساسها، وإلَّا وقعتِ الفِتنة والفَساد، والْتَبس الحقُّ بالباطِل، كما أخبَر بذلك ربُّنا تبارك وتعالى؛ {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].

والمَأْخَذ الأخطر في هذا: أنَّ الحديث في هذا الجانب (التعايش السِّلمي- المواطنة...إلخ) كثيرًا ما يَنحَى بالمرء أن يخالف هذه الأصول؛ لتوهُّم أنَّها مخالفةٌ له، والحقيقة على خِلاف ذلك؛ فالواجب هو الاعتزازُ بالحقِّ، ونَصرُه، والتمسُّكُ به، والدَّعوةُ إليه بالحِكمة والموعظة الحسَنة، مع عدم المداهنة (جِهاد البيان)، وأحيانًا بالغِلظة على الظالمين المتكبِّرين، والمعاندين والمانعين مِن تبليغ دعوة الإسلام بجِهاد السِّنان، وكل هذا قد جمَعَه مَن أُوتي جوامعَ الكَلِم صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله: ((... اغْزُوا باسمِ الله، في سبيلِ الله، قاتِلوا مَن كفَر باللهِ، اغْزُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تغدِروا، ولا تُمَثِّلوا، ولا تَقتُلوا وليدًا، وإذا لقِيتَ عدوَّك من المشركين فادعُهم إلى ثلاثِ خصالٍ (أو خلالٍ)، فأيتهنَّ ما أجابوك فاقبلْ منهم وكفَّ عنهم: ثم ادعُهم إلى الإسلامِ، فإنْ أجابوك، فاقبلْ منهم وكفَّ عنهم... إلى أنْ قال: فإن هم أبَوا، فسَلْهم الجزيةَ، فإنْ هم أجابوك، فاقبلْ منهم وكفَّ عنهم، فإنْ هم أبَوْا، فاستعِنْ بالله وقاتِلْهم)) رواه مسلم (1731).

فالغزو هنا ابتداءً؛ طلبًا لنَشر دِين الحقِّ، وإظهارًا له على الدِّين كله، ويكون لمن (كفَر بالله)، ومع ذلك يُلتزَم بأخلاقه الحسَنة؛ فلا غُلولَ، ولا غَدرَ، ولا تمثيلَ بالمقتولين من المحارِبين، ولا قَتْلَ لِمَن ليس أهلًا للقِتال ما لم يُقاتل، ومع ذلك ففي الغَزو لا يُبدأ بالقِتال والحرب! بل يُبدأ بعَرْض الحقِّ، والدَّعوة إلى الإسلام أولًا، فإنْ أبَوا عُرِض عليهم النُّزولُ على حُكمه (دفع الجزية) ثانيًا، فإنْ أبَوا فقدِ اختاروا هم القِتالَ والحَرْبَ؛ دِفاعًا عن باطلِهم، وإباءً للنزول على حُكم الحقِّ، فحقَّ قتالُهم وقتلهم.. وهذا أمْر الله تعالى، وأمْر رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذه حِكمتُه سبحانه وقضاؤه؛ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، و[الصف: 9].

وهذِه بعض المؤاخذات على الكِتاب، ومنهج المؤلِّف، مع التَّعقيب عليها بإيجاز، مع ملاحظة أنَّ بعض التعقيبات قد يكون تأكيدًا على شيء، أو تقييدًا لمطلَق قد يُفهم منه غيرُ المراد:

فممَّا يُؤخَذ على المؤلِّف: قوله (ص: 21): (إنَّ المجتمعات القوية المتماسِكة يمكنها استيعابُ كافَّة الأطياف: الدِّينيَّة والعرقيَّة، والسياسيَّة المعتبَرة داخلَ نسيجها الاجتماعي، بشَرْط أن تكون هذه الاختلافات في إطار التعاون والتفاهم والنزاهة التي تساوي بين جميع الشَّرائعِ في الحقوق والواجبات).

وقوله (ص: 36): (ومن مقتضيات القِسط والعدل: المساواة بين جميع المواطنين في التعامل معهم، سواء كان ذلك في المساواة أمام القانون، أو أمام القضاء، أو أمام تولي الوظائف العامَّة، أو تحمُّل التكاليف والأعباء العامَّة، وغير ذلك).

التعقيب:

قضية المساواة بين كلِّ المواطنين - مُسلِمهم وكافِرهم، وبَرِّهم وفاجرهم، ذَكَرِهم وأُنثاهم...إلخ - في الحقوق والواجبات قد حدَث فيها خلطٌ كثير، والصَّواب: أنَّ المأمور به إنَّما هو العدل، والعدلُ هو إعطاء كلِّ واحد ما يستحقُّه، أمَّا المساواة المطلَقة فليستْ عدلًا؛ فليس من العدل التسويةُ بين المختلفين، أو التفرقةُ بين المتساويين. وإطلاق هذه المسألة على عواهنها يؤدِّي إلى كثير من المفاسد، ومِن جميل كلام ابن القيِّم قوله: (والله سبحانه أحكمُ وأعلمُ من أن يُفضِّل مِثلًا على مِثل من كلِّ وجه، بلا صِفة تقتضي ترجيحَه، هذا مستحيلٌ في خَلْقه وأمْره، كما أنَّه سبحانه لا يُفرِّق بين المتماثلين من كلِّ وجه؛ فحِكمتُه وعدلُه تأبى هذا وهذا. وقد نزه سبحانه نفسه عمن يظن به ذلك، وأنكَر عليه زعْمَه الباطل، وجعله حُكمًا مُنكرًا، ولو جاز عليه ما يقوله هؤلاء لبطلت حُججُه وأدلَّتُه؛ فإنَّ مبناها على أنَّ حُكم الشيءِ حُكمُ مِثلِه، وعلى ألَّا يُسويَ بين المُختلفين؛ فلا يجعل الأبرارَ كالفُجَّار، ولا المؤمنين كالكفَّار، ولا مَن أطاعه كمَن عصاه، ولا العالِم كالجاهل، وعلى هذا مبنَى الجزاء...) [أعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 115)].

فالواجب هو التأكيدُ على العدل، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ولُزوم أحكام الله تعالى وأحكام رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، التي هي العدلُ كلُّه.

 

والأخطر مِن ذلك قول المؤلِّف (ص: 28 - 31): (لقد ذهَب المسلمون الأوَّلون في تسامحهم الدِّيني، واعترافهم بالآخَر، حدَّ أنَّهم عندما فتَحوا بلادَ الأندلس واستقرُّوا بها، لم يكتفوا بمنح السُّكَّان الأصليِّين - من اليهود والنصارى - حقَّهم في العيش بأمان، وفي حرية التعبُّد، وبِناء الكنائس والبِيَع، والبقاء على عاداتهم الموروثة، بل لقد قرَّبوهم، وقلَّدوهم أرفعَ الوظائف والمهامِّ في الدولة، لا فَرْقَ بينهم وبين غيرهم من أبناء المسلمين).

ثم عدَّد مُثنيًا وممتدحًا تولِّي وزراء يهود ونصارى في دولة الخلافة، قائلًا: (وما رأيك في أنَّه قد تولَّى غيرُ واحد من اليهود والنصارى الوزارةَ في زمن الخلفاء الأندلسيِّين مراتٍ عديدةً؟ وما رأيك أنَّه لم يُعرَف عن أحد من العلماء والفقهاء حينها أنَّه أنكر ذلك أو اعترَض عليه؟! ومِن هؤلاء الوزراء: حسداي بن بشروط اليهودي، الذي كان مسؤولًا عن مالية الدولة في عهد الخليفة الأُموي عبد الرحمن الناصر، الذي كانت تُعدُّ خِلافته العصرَ الذهبي للمسلمين في بلاد الأندلس. وكذلك الشاعر حسداي بن يوسف الإسرائيلي، الذي استوزر لسليمان بن الحكم بن سليمان، الملقَّب بالمستعين بالله. ومنهم في القرن الرابع: إسماعيل بن النغريلة اليهودي، وبحر بن إسحاق القرطبي النصراني، الذي تولى الوزارة لدى عبد الرحمن الناصر الثالث، بعد أن كان طبيبَه الخاص... وإسحاق بن شمعون اليهودي كان ملازمًا للفيلسوف المسلم ابن باجة القرطبي، وممَّن أتقن صناعة الغناء والألحان... إلى غير هؤلاء ممَّن لست أريد حصرهم، ولست أستطيعه لو أردت).

ثم ألمح المؤلِّف إلى ما يُذكر عن مدينة قرطبة بعد الفتح الإسلامي حيث (أصبحت من أغنى مُدن العالم، وأجملها، وأكثرها علمًا وعمرانًا، وصناعةً وسكانًا، وإنارة طرقها، وكانت أزقتها مبلَّطة، وقمامتها مرفوعة، كل هذا كان في الأندلس قبل أكثرَ من ألف عام!...).

التعقيب:

المؤلِّف هنا يُقرِّر أنَّ من صور التسامح الدِّيني والاعتراف بالآخر (السَّماحَ للكفَّار اليهود والنَّصارى ببناء كنائسهم وبيعهم، وتَقريبهم، وتقليدهم أرفعَ الوظائف والمهامِّ في الدولة الإسلاميَّة، وأنَّه لا فرق بينهم وبين غيرهم من أبناء المسلمين)، ويؤكِّد على هذا مثنيًا بالأمثلة التي ذكَرها، ويعدُّها من فِقه التعايُش والتسامُح الحسَن، الذي ينبغي فعلُه!

وهذا ما سبَق التنبيهُ عليه من أنَّ الحديث في هذا الجانبِ قد يجرُّ إلى مِثل هذه المزالق، من التصوُّر بأنَّ من صُور التعايش تمكينَ الكفَّار من مقاليد الأمور!

وفي هذا المقام نؤكِّد على أمرٍ مهم، وهو أنَّ الإسلام دِينُ العدْل والرحمة نعمْ، وأنَّ غيرَ المسلمين قد أمِنوا ونعِموا في ظلِّ حُكم الدولة الإسلامية بكلِّ أنواع الأمان والرَّفاهية بما لم ينالوه من الحُكَّام الذين على دِينهم! مِثلَما كان في مصر قَبْلَ الفتح الإسلامي، ومثلما حدَث عندما حَكَم الأسبان الأندلس؛ إذ طردوا كل اليهود منها! والتاريخ حافلٌ بالمواقف المشهودة التي تشهد بعدل المسلمين مع غيرهم، ومعاملتهم الحسنة لهم، ممَّا كان سببًا لإسلام الكثير منهم في كثير من الأحيان، كلُّ هذا قد كان، ولكنَّه كان في حدود الشَّرع.

وتأصيل المؤلِّف وكلامه هذا خطأ مِن ناحيتين: من الناحية الشرعيَّة، وأيضًا من الناحية الواقعيَّة:

فمِن الناحية الشرعيَّة:

فالسَّماح لهم ببناء الكنائس والبيع التي يُقيمون فيها شعائرَ الكفر بالله عزَّ وجلَّ، فإنَّه متَّفقٌ على أنَّه لا يجوزُ استحداثُ بناء كنيسة في دِيار الإسلام، أو البِلاد التي فتحها المسلمون وأقاموا فيها، وصارتْ دار إسلام، والجائز فقط: هو الإقرارُ على ما كان مبنيًّا من كنائسهم وبِيَعهم قبل دُخولِ المسلمين بلادَهم، وترميمُ ما تهدَّم منها وإعادة بنائه فيه خلافٌ مشهور. [ينظر على سبيل المثال: بدائع الصنائع للكاساني الحنفي (4/ 176)، مواهب الجليل للحطاب المالكي (4/ 599)، و المجموع شرح المهذب للنووي الشافعي (19/ 412)، والمغني لابن قدامة الحنبلي (9/ 354)، وغيرها من كتُب الفقه، والتفسير، وشروح الأحاديث].

ولا يُعكِّر على هذا تقصيرُ بعض الولاة والأمراء في هذا الأمرِ في بعض العصور، ولا يَطعن هذا على الحُكم الشرعي، ولا يُعتبر هذا دليلًا على الجواز، فضلًا عن الاستحباب والثَّناء عليه، وعدِّه من محاسن التسامُح الدِّيني!

وأمَّا وتَقريبهم، وتقلديهم أرفعَ الوظائف والمهامِّ في الدَّولة الإسلاميَّة، فقدِ اتَّفقت المذاهبُ الأربعة، وكذلك الظاهريَّة، على النهي عن تولية أهل الذِّمَّة واستعمالهم في أيِّ عمل يكون فيه الذِّميُّ فوقَ المسلم, ومَن أجاز الاستعانة بهم إنَّما أجازها لضرورة، وهي تُقدَّر بقدرها، وتُضبط بضوابطها, مع تحقُّق المصلحة في ذلك، ولهم في ذلك تفاصيل كثيرة؛ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران: 118، 119]، ويقول عزَّ من قائلٍ: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، ينظر: [تفسير الطبري (7/ 138)، والتفسير الوسيط للواحدي (1/ 483)، محاسن التأويل للقاسمي (2/ 393)، وغيرها من التفاسير، وينظر كذلك للتوسع: حُكم تولية أهل الذمة في المذاهب الأربعة، بحث لعبد الفتاح بن صالح قديش اليافعي].

فكيف يُطلق عِنانُ هذا الأمر، ويُعدُّ هذا الأمر من المحاسِن، ومن فِقه التعايُش؟! وهو من الأخطاء الفادِحة التي جرَّت على المسلمين الويلاتِ والنكباتِ في سائر العصور، وهذا ما يتضح في:

ثانيًا:

ومِن الناحية الواقعيَّة؛ فالتاريخ شاهدٌ أنَّه ما ضرَّ الإسلامَ وأهلَه أكثرُ من تقريب اليهود والنَّصارى، وموالاتُهم، واستعمالُهم في أمور المسلمين، خُصوصًا في أمور الوزارة، وما يكون سببًا لإظهار شعائِرهم في بلادِ الإسلام؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة: (فقد عرَف أهلُ الخبرة أنَّ أهلَ الذِّمة من اليهود والنصارى والمنافقين يُكاتبون أهلَ دِينهم بأخبار المسلمين، وربَّما يطلعون على ذلك من أسرارهم وعوراتهم وغير ذلك، وقد قيل:

كُلُّ العَداواتِ قَدْ تُرجَى مَودَّتُها * * إلَّا عَداوةَ مَن عاداك في الدِّينِ

ولهذا وغيرِه مُنِعوا أن يكونوا على ولاية المسلمين، أو على مَصلحة مَن يُقوِّيهم أو يَفضُل عليهم في الخِبِرة والأمانة من المسلمين؛ بل استعمالُ مَن هو دونهم في الكِفاية أنفعُ للمسلمين في دِينهم ودُنياهم، والقليلُ من الحلال يُبارَك فيه، والحرام الكثير يَذهب ويَمحقه الله تعالى) [مجموع الفتاوى (28/ 646)].

بل حتى سقوط الأندلس نفْسها، كان من أحد أهمِّ أسبابه: موالاةُ اليهود والنصارى، والثِّقة بهم، والتحالُف معهم ضدَّ إخوانهم المسلمين، ومؤامرات النَّصارى ومخطَّطاتهم، و(تغلُّب العدو الكافر على الجزيرة بعد صَرْفه وجوه الكَيد إليها، وتضريبه بين ملوكها ورؤسائها بمَكرِه، واستعماله في أمْرِها حيلَ فِكره، حتى استولى - دمَّره الله تعالى - عليها، ومحا منها التوحيدَ واسمَه، وكتَب على مشاهدها ومعاهدها وَسْمَه، وقرَّر مذهبَ التثليث، والرأي الخبيث، لديها) - كما يقول المَقرِّي في نفح الطيب (4/ 350).

وآخِرُ ذلك ما كان من أمْر الدَّولة العُثمانية في آخر عهدها؛ إذ أَسندت كثيرًا من وظائفها الهامَّة والحسَّاسة إلى رَعاياها من غير المسلمين، وكان أكثرُ سُفرائها ووُكلائها في بلاد الأجانب من النَّصارَى، بدَعْوى المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلِم وغير المسلم، مع ذلك لم يرعَ النصارى هذا الأمر، ولم يَخدُموا الأوطان، بل حرَّضوا على الثورات، مثلما حدَث في ثورة اليونان الكبيرة سنة 1821 م - 1237هـ، في عهد محمود الثاني الذي كان من أكثر الخُلفاء تساهلًا معهم، وتمكينًا لهم، وفي هذه الثورة كان النصارى يُهاجرون من بلادهم إلى اليونان؛ للاشتراك في ثورتها ضدَّ الدولة العثمانيَّة، ممَّا أضعف الدولة العثمانية جدًّا، وأدَّى إلى تنازلها عن الكثير من الموانئ والبلاد لروسيا، وانفصال الشام ومصر تحت حُكم محمد علي، وغير ذلك ممَّا كان من أكبر عوامل سقوط الدولة العثمانيَّة في آخِر الأمر!

وأمَّا دَور اليهود في ذلك ومَكرهم ودَسائسهم، وسعيهم بكلِّ مكر خبيث؛ فوضوحه وانتشاره يُغني عن الإشارة إليه! وأيضًا واقعُ الناس اليوم ظاهر لكلِّ ذي عينين!

وأمَّا قول المؤلِّف: (وما رأيك أنه لم يُعرَف عن أحد من العلماء والفقهاء حينها أنَّه أنكر ذلك أو اعترَض عليه؟!).

فغير صحيح؛ فقدْ كثُر إنكارُ الفُقهاء والعلماء في كلِّ عصر ومِصر لهذا الأمر، وهذه مدوَّناتهم مليئة بهذه الأخبار، بلْ لقد اشتدَّ نكير العلماء والفقهاء على الخُلفاء والوُلاة، والأمثلة في هذا أكثرُ من أن تُحصى، وإنكارُ أمير المؤمنين عُمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه على أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه لمَّا اتَّخذ كاتبًا نصرانيَّا، أشهر من أن يُنبَّه عليه، ويَكفي في هذا المقام ذِكْرُ مثالين فقط لعالِمَين وإمامين كبيرين من عُلماء الأندلس- أشبيلي، وقرطبي -، ممَّن أنكر هذا، ونبَّه عليه:

الأوَّل: هو الإمامُ ابن العربي المالكيُّ - الذي وُلد بأشبيليا، وأخَذ العِلم عن أبيه وغيرِه من عُلماء الأندلس (ت: 543 هـ)-: يقول: (لا يَنبغي لأحد من المسلمين وَلِيَ ولايةً أن يتَّخذ من أهل الذمة وليًّا فيها؛ لنهيِ الله عن ذلك؛ وذلك أنَّهم لا يُخلِصون النصيحةَ، ولا يؤدُّون الأمانة، بعضُهم أولياء بعض) [أحكام القرآن (2/ 139)].

والآخَر: عالِمٌ كبير، وإمام شهير من أشهر أئمَّة قُرطبة التي يَمتدحها المؤلِّف بما ذَكَره! ذلك هو الإمامُ أبو عبد الله القرطبيُّ (ت: 671 هـ) يقول: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ...} فيه ست مسائل: الأولى: أكَّد الله تعالى الزَّجر عن الرُّكون إلى الكفَّار... الثانية: نهَى الله عزَّ وجلَّ المؤمنين بهذه الآية أن يتَّخذوا من الكفَّار واليهود وأهلِ الأهواء دُخلاءَ وولجاءَ، يفاوضونهم في الآراء، ويُسنِدون إليهم أمورَهم...) ثم قال الإمام القرطبيُّ: (قلتُ: وقدِ انقلبتِ الأحوالُ في هذه الأزمان باتِّخاذ أهلِ الكتاب كتَبةً وأمناءَ، وتسوَّدوا بذلك عند الجَهلة الأغبياءِ، مِن الولاة والأُمراء). [تفسير القرطبي (4/ 178 - 179) باختصار].

 فانظرْ إليه رحمه الله تعالى - بعدَما أَوضح الحُكمَ الشرعيَّ واستدلَّ له - كيف أنكَر على أهل زمانه ووصفَهم بالجهل والغَباء، مع أنَّهم ولاة وأمراء!

بل ما زال المسلمون يَشكُون من هذا الأمر، حتى قال المؤرِّخ الغربي آدم ميتز في كتابه ((الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)) (1/105): (والشَّكوى من تحكيم أهل الذِّمة في أبشارِ المسلمين شَكوى قديمةٌ)، وإنَّا نشكو إلى الله تعالى أيضًا حالَنَا في زماننا هذا!

وقول المؤلِّف (ص: 40): (ليس المقصود مجرد المحبة والبر الدنيوي وحسن التعامل مع المسالمين المحايدين، أو المتعاطفين مع المسلمين)؛ إجابةً عمَّا استشكل من كون ما ذكَره يتعارض مع ما جاء من النهيِ عن مولاة الكفَّار، وهو صحيحٌ في الجملة، ولكنَّه لم يجب عن الاستشكال، بل زاده تأكيدًا؛ فإنَّ ما ذكَره المؤلِّف من (تقريبهم، وتقليدهم أرفعَ الوظائف والمهامِّ في الدولة الإسلاميَّة، وعدم التفريق بينهم وبين غيرهم من أبناء المسلمين) هو عينُ المولاة المنهيِّ عنها، بل أعظمُ!

وأيضًا فإنَّ ذِكر هذه الأمثلة والثناء عليها في واقِعنا المعاصر قد يُوهم جوازَ الصُّور المعاصِرة من أشكال الذلِّ والمهانةِ، والتنازُل عن أحكام الإسلام وتضييعها، بزعم التسامُح..

والحقُّ أنهم هم الذين لا سماحةَ عندهم، حتى وصَل الحال ببعض المسلمين في بلدٍ إسلامي سُكَّانه المسلمون أكثرُ من 90% - وصل الحال بهم أن يُطالب المسلمون بمساواتهم مع النَّصارى!! هذا هو الواقع الأليم، ومع ذلك فإنَّ اليهود والنصارى غيرُ راضين، وما زالوا يُجعجعون، وما زال أبناءُ جِلدتنا يُطنطنون، وبحقوقهم يطالبون، مع أنَّ الحقيقة الثابتة والمُسلَّمة الرَّاسخة أنَّهم لن يرضَوا إلَّا عند تحقُّق غايتهم التي ذكَرها الله تبارك وتعالى في قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]؛ فلييئس الساعون في ترضيةِ القوم بكلِّ سبيل وغاية! أو ليدْعوا إلى اتِّباع مِلَّتهم إن كانوا يؤمِّلون رِضاهم حقيقةً!

- ومن المُؤاخَذات: قول المؤلِّف (ص: 33 - 34) عن المنافقين الكافرين: (ولم يثبُت عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قتَل رجلًا منهم، أو اضطهده، أو طرَدَه من المدينة، أو اتَّخذ أيَّ إجراء ضده، بل لقد قال عليه الصَّلاة والسَّلام كلمته الشَّهيرة: (لا يتحدَّث الناس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه...).

ويقول عن اليهود: (وأمَّا اليهود، فقد كان بإمكانه عليه الصَّلاة والسَّلام طردُهم من المدينة أو اضطهادهم، وهو القادر على ذلك، لكنَّه عليه الصلاة والسلام لم يفعل، وإنما حرَص منذ قدومه على إقامة علاقة سِلْم مرنة بينه وبينهم، فعامَلهم باحترام، وتواصل معهم، قبل هداياهم...).

والصَّحيح أنَّ عدم قتْل المنافقين، وعدم التضييق عليهم؛ لأنَّهم كانوا يُظهرون الإيمان، ويُبطنون الكفر، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم علَّمنا الحُكم بالظاهر، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لَا يتحدَّث النَّاس أَنه يقتل أَصْحَابه)) (سياسة عَظِيمَة وحزم وافر؛ لأَنَّ النَّاس يرَوْنَ الظَّاهر، والظَّاهرُ أنَّ عبد الله بن أُبي كان من الْمُسلمين، ومن أصحاب الرَّسُول صلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فلو عُوقِبَ مَن يَظنُّ خِلافَ ما يُظْهر، لم يعلم النَّاس ذلك البَاطِن، فينفِرون عَمَّن يَفعل هذا بأصحابه) [كما يقول ابن الجوزي في كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 33)]، وهذا بناءً على القواعد الشرعيَّة في تحصيل المنافع، ودفْع المضارِّ والمفاسد، على أنَّه قد (اختَلف العلماء؛ هل بقِي حُكم الإغضاء عنهم، وترْك قتالهم، أو نُسِخ ذلك عند ظهور الإسلام، ونزول قوله تعالى: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ}، وأنها ناسخةٌ لِمَا قبلها، وقيل قول ثالث : أنَّه إنما كان العفو عنهم ما لم يُظهِروا نفاقهم، فإذا أظهروه قُتِلوا) شرح مسلم للنووي (16/ 139).

وقد تكونُ المصلحة في قتْل مَن أعْلَن بعداوة الإسلام، أو سبَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وآذاه، وهذا ليس منافيًا لقِيَم العدل والتسامُح، بل هذا جزاءٌ لعِظَم جُرمهم، وفيه حِفظٌ لبقيَّة المجتمع، وسدٌّ للباب أمام مَن تُسوِّل له نفسُه الطعنَ على الإسلام وكتابه ورسوله، أو على التجرُّؤ على الله تبارك وتعالى، وهذا ما فعَلَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع كَعْب بن الأَشرف؛ حيث قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن لكَعْب بن الأشرف؛ فإنَّه قد آذَى اللهَ ورسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم؟) فانبرى له محمَّد بن مسلمة وأبو نائلة، وغيرهما، فذهبوا إليه وواعدوه وقتلوه، ثمَّ أتوا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأخبروه. وقد أخرج قصتَه البخاريُّ (4037)، ومسلم (1801).

وأيضًا ما فعَلَه مع أبي رافع عبد الله بن أبي الحُقَيق، وكان أبو رافع يؤذي رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ويُعين عليه، فبَعث إليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم رجالًا من الأنصار فقتَلوه، وهذا أيضًا رواه البخاري (4039).

فليس الأمرُ على إطلاقه هكذا، بل هو موكولٌ إلى نظَر الإمام على حسَب الحال، ورجاء تحقُّق المصلحة من عدمها.

- ومن المؤاخذات كذلك: قول المؤلِّف (ص: 45): (لكنَّك قد تعترِض وتقول: وماذا عمَّا ورد عن بعض العلماء، من وجوب مقاطعة المبتدعة وهجرهم، وترك مكالمتهم والسلام عليهم، والاكفهرار في وجوههم، والأكْل مع اليهود والنصارى وعدم الأكل معهم؟

وأجيبك: بأنَّ هذه اجتهادات ليست ملزمةً، ولا هي صادرةٌ عمَّن يجب قَبول قوله والتسليم له، بل إنَّ بعضها لا يخلو من إسراف وشطط ... هل يُهجر أو يُبدَّع مثل أبي شامة والسيوطي وابن حجر، لكونهم أفتوا بشرعية الاحتفال بالمولد النبوي؟).

التعقيب:

أمَّا قوله: (عما ورد عن بعض العلماء...)، فهذا ورد عن عُلماء الأمَّة المعتبَرين، والأئمَّة المبجَّلين، كأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري... إلخ؛ إذ هذا أصل متَّفق عليه، ومقرَّر في أصول العقائد، اتِّباعًا لأمر الله تعالى، وأمْر نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، [ينظر: تفسير القرطبي (7/ 13)]

قال ابنُ قُدامةَ: (ومن السُّنة: هِجرانُ أهل البدع ومباينتُهم، وترْكُ الجِدال والخُصومات في الدين) [لمعة الاعتقاد (ص: 40)].

وهذه الطريقةُ هي الطريقة الناجعة والنافعة مع بعض طوائف المبتدِعة، ومع ذلك فليستْ هي الطريقةَ الوحيدة التي كان يتعامَل بها السَّلفُ مع أهل البِدع؛ فعلى حسَب البِدعة وحسَب حال المبتدع يكون التعامُل؛ فأحيانًا يُعزَّر بالضرب والحبس، كما فعَل عُمرُ مع صبيغ، وأحيانًا يُنهَى عن مجالستهم ومحادثتهم، وأحيانًا يُناظرون ويبيَّن الحق لهم، كما فعل ابن عباس - رضي الله عنهما - مع الخوارج، وأحيانًا بمجالستهم وزِيارتهم وردِّهم عن البدعة، كما فعل أحمدُ بن حنبل مع أحد الرافضة، ومع أحد المرجئة... إلخ؛ فليستْ هناك طريقة واحدة. [ينظر: حقيقة البدعة وأحكامها (1/ 184)].

وقول المؤلِّف: (هل يُهجر أو يبدع مثل أبي شامة والسيوطي وابن حجر...) هذا أيضًا ليس متَّجهًا؛ فما ورد عن الأئمَّة من هَجر وذم و... إنَّما ورد عن الذين عُرِفوا بالبدعة الصريحة، ومجانبة السُّنن الواضحة الصَّحيحة، أمَّا أهل العِلم والأئمَّة المعروفون بكثرة عِلمهم واتِّباعهم للسُّنة، ومع ذلك وقَعوا في بعض الأخطاء والبِدع؛ فمِن القواعد المقرَّرة: أنَّه (ليس كلُّ مَن وقَع في البِدعة مبتدعًا)، وهؤلاء الأئمَّة وأمثالهم، يتأتَّى معهم قولُ الذهبي الذي صدَّر به المؤلفُ كتابَه: (لو أهْدَرنا كلَّ عالم زلَّ، لَمَا سَلِم معنا إلا القليل...) وأمثال هذه الآثار الكثيرة عن العلماء ممَّا ذكره المؤلِّف نفسه، وممَّا لم يذكره.

فينبغي وضْعُ ما ورد عن العلماء والأئمَّة في سياقه الصَّحيح، وساعتَها يتبيَّن أنَّ الصواب غالبًا يكون معهم، ولا يُشنَّع عليهم بالإنكار واللَّمز، من مِثل قول المؤلِّف: (بل إن بعضها لا يخلو من إسراف وشطط)!

ففَرْق بين أصناف البِدع والمبتدعين، وبين زلَّات العلماء والأئمَّة المجتهدين، والأمْر منوطٌ بتحصيل المصلحة ودفْع المفسدة؛ فلا إفراط ولا تفريط.

ومن المؤاخذات الكبيرة على المؤلِّف: إنكارُه لجهاد الطَّلب كُليةً، وزعْمه أنَّ جهاد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وغزواته كلها، وكذلك فتوحات الصَّحابة فمَن بعدهم، كانت كلها حروبًا دِفاعيَّة فقط!

يقول (ص: 78): (لذلك، فقد كان جميعُ حروبه صلَّى الله عليه وسلَّم حروبًا دفاعية اضطراريَّة، قصَد بها حمايةَ جماعة المسلمين، وحماية دِينهم وحقوقهم مِن ظُلم المشركين وقهرهم واستبدادهم).

ويقول (ص: 79): (ومع ظهور هذه الحقيقة ووضوحها، فقد ذَهب جمْعٌ من العلماء إلى أن ابتداء الحرب والمقاتلة هما أصلُ العلاقة مع غير المسلمين، وأنَّ السلِّم والمهادنة إنَّما يُجنح لهما عند الضرورة، إذا لم يكن للمسلمين عليهم قوَّة)!

ثم ينتقد تأصيلَ الفقهاء لمراحل تشريع الجهاد، ثم يقول (ص: 80): (وللأسف! فإنَّ خصومَ الإسلام كثيرًا ما يفرحون بمِثل هذه الأقوال وأمثالها، وكثيرًا ما يجترونها ويستغلونها بقصد تنفير الناس عن الإسلام، واستعدائهم عليه، ووصْفه بأنَّه دِينُ حرب ودماء، وأنه يمثِّل خطرًا إستراتيجيًّا على أمم الأرض!).

ويقول (ص: 81): (وأمَّا الجهاد والقتال المحض، فهذه حالةٌ استثنائيَّة، لا يجوز اللجوءُ إليها إلا في الحالات التالية؛ إما:

أ- لدفْع الاعتداء، وتجنُّب الخطر (الحرب الوقائية)، وتأديب الباغين، وناكثي العهود.

ب- أو لكف مَن يضطهد الناس في دِينهم.

ج- والحالة الثالثة المشرعة للقتال المسلَّح: نُصرة المظلومين وإغاثتهم، ولو كانوا من غير المسلمين، فالإسلامُ لا يرضى عن الظلم ولا يقره بحال؛ {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]).

وفي (ص: 82) يوجه الآياتِ الآمرةَ بقتال الكفار مطلقًا، نافيًا النَّسخ بقوله: (وأجيبك بأنها مقيَّدة بعشرات الآيات: المكية والمدنية التي توضِّح أنَّ المقصود بهم المقاتِلون المعتدون، كقوله تعالى في سورة الممتحنة، وهي مدنية: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]... والواجب حمْلُ المطلَق على المقيَّد، كما هو مقرَّر في علم الأصول.

وأمَّا قول مَن يقول بأنَّ آيات القتال المطلق ناسخةٌ لكلِّ آيات السِّلم والموادعة، ففيه إهدارٌ وإبطالٌ لجزء كبير من القرآن!!).

ويقول (ص: 84): (إنَّ الإسلام هو دِين السلام، وإنَّ الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هي المسالمة ما سالموا، والمحاربة ما حارَبوا، وإنَّ الإسلام إنما انتشر بين الناس بقوَّة الحُجَّة لا بحُجَّة القوة، وإنَّ جميع حروب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم إنما كانت دِفاعًا عن الدِّين وعن النَّفس، لم يلجأ إليها إلا مضطرًّا بعد أن فاتَحَه بها الأعداءُ، وأوجدوا أسبابها).

ثم قال (ص: 87): (والحقُّ أنَّ حروب الصحابة الكرام لم تخرج عن سياق الغزوات النبويَّة، فلم يَبدأْ بها الخلفاء من عند أنفسهم، ولا كانت خيارَهم المفضل، ولكنَّهم اضطرُّوا إليها اضطرارًا، في عالم لم يكن يؤمن وقتَها إلَّا بمبدأ القوة والسَّيف، وبمبدأ إنْ لم تَغزُني أغزُك، وإن لم تحاربْني أحاربْك! لقد ثبَت تاريخّيًا أن فارس والروم كانوا يتحيَّنون الفُرص لغزو المسلمين، بسبب تحريض اليهود عليهم، وبسبب كراهيتهم أيضًا لتوحُّد العرب، وخشيتهم من انتشار الإسلام داخلَ بلادهم، ممَّا قد يهدِّد مُلكَهم ومصالحهم. ثبَت أنَّ ملوك الروم كانوا يتدخَّلون في شؤون المسلمين الداخليَّة، وكانوا يُحرِّضونهم على الردَّة والالتحاق بهم، كما فعَلوا مع كعب بن مالك).

ويزيد قائلًا (ص: 94): (ومعنى هذا أنَّ الجهاد في الإسلام أقربُ ما يكون لعمل حارس الدار، إنَّ حارس الدار لا يُهاجِم الناس في الطُّرقات، وإنَّما يهاجم مَن يهاجم الدار أو يعتدي عليها!

بعض العلماء يقولون: إنَّ الجهاد شُرِع أيضًا لكسر الحواجز، وإزالة العقبات التي قد تقِف حائلًا دون تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس كافة. وهذا الكلام قد يكون صحيحًا في الماضي، عندما كان المسلمون يُمنعون من تبليغ دعوة الله، وإيصالِها إلى الناس بحريَّة، وأمَّا اليوم فالحالة مختلفة كثيرًا؛ إذ أصبح بالإمكان تبليغُ الدَّعوة عبر وسائل الإعلام التي لا تَعرِف القيود والسدود، وكذلك بالاتِّصال المباشِر وغير ذلك من التدابير السِّلمية، دون الحاجة إلى إراقة الدِّماء، وإزهاق الأرواح).

التعقيب:

هذا الذي زعَمَه المؤلِّف مخالفٌ للأدلَّة الصَّريحة من القرآن والسُّنة الصحيحة، ومخالف أيضًا لإجماع الأمَّة المنعقِد على مشروعية غزو الكفَّار في عُقر دارهم، وإن لم يَبدؤونا بقِتال، وإنما الخلافُ فقط في كون جهاد الطلب فرْضَ كفاية - وهو ما اتَّفقت عليه المذاهب الأربعة، وإليه ذهبتِ الظاهريَّة أيضًا، وعامة الفقهاء، وحُكي فيه الإجماع كذلك. أو فرْض عين - وهو قولُ أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ، وأبي طلحة، والمقداد، وبه قال ابن المسيَّب.

أمَّا القول بنَفْي وجودِ جهاد الطَّلب، وأنَّ كلَّ الحروب والغزوات والفتوحات كانت دِفاعيَّةً فقط، فلا قائلَ به إلَّا بعض المعاصرين، ممَّن توهَّموا أنَّ جهاد الطلب منافٍ للسلام والتسامح وقِيم العدل. وقد سبَق تفصيل الردِّ على هذه الشبهة في نقدنا لكتاب ((فقه الجهاد)) للدكتور يوسف القرضاوي،  بما يُغني عن الإطالة بالتَّكرار.

ويكفي فقط نقلُ بعض نصوص الأئمَّة الصريحة في ذلك:

قال الجَصَّاص (ت: 370هـ): (ولا نعلم أحدًا من الفُقهاء يَحظُر قِتالَ مَن اعتزل قِتالَنا مِن المشركين، وإنَّما الخلافُ في جواز ترْك قِتالهم، لا في حَظْرِه؛ فقد حصَل الاتِّفاقُ من الجميع على نَسْخ حظْر القِتال لِمَن كان وصفُه ما ذَكَرْنا) [ ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 191)].

وقال ابن حزم (ت: 456هـ): (والجهادُ فرضٌ على المسلمين، فإذا قام به مَن يدفع العدو، ويغزوهم في عُقر دارهم، ويَحمي ثغور المسلمين، سقَط فرضُه عن الباقين، وإلَّا فلا؛ قال الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41]) [المحلى بالآثار (5/ 340)، وانظر: مراتب الإجماع (ص: 122)، الإقناع لابن المنذر (2/ 449)، السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار (ص: 942 وما بعدها)...].

وقال ابنُ عبد البَرِّ (ت: 463 هـ): (والجهاد عندنا بالغزوات والسَّرايا إلى أرْض العدوِّ فرضٌ على الكفاية، فإذا قام بذلك مَن فيه كِفاية ونكاية للعدوِّ، سقط عن المتخلفين...) ثم ذكر الآيات والأحاديث في فضل الجهاد. [الاستذكار (5/ 130).].

وقال ابن تيميَّة (ت: 728هـ): (واللهُ قدْ فرَض على المسلمين الجهادَ لمن خرجَ عن دِينه وإنْ لم يكونوا يُقاتلوننا، كما كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وخلفاؤه يُجهِّزون الجيوش إلى العدوِّ، وإنْ كان العدوُّ لا يَقصدُهم... وكانوا هم قاصِدين للعدوِّ لا مقصودين... وكذلك إذا تقاعَدوا حتى يطأَ العدوُّ أرضَ الإسلام. والتجربةُ تدلُّ على ذلك، فإنَّه لمَّا كان المسلمون يقصدونهم في تلك البِلاد لم يزالوا منصورين) جامع المسائل لابن تيمية (5/ 302 - 304).

وقال الزَّيلعي (ت: 743هـ): ("الجهاد فرض كفاية ابتداءً" يعني: يجب علينا أن نَبْدَأَهم بالقِتال وإنْ لم يقاتلونا؛ لقوله تعالى {وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29]... وعليه إجماعُ الأمَّة) [تبيين الحقائق (3/ 241)].

وحتى لو صحَّ كلام المؤلِّف ومَن قال بقوله تنزلًّا؛ فهل يا تُرى أسبابُ جهاد الدَّفع ومنع الناس عن دعوة الإسلام وقبولها قد زالت؟! وهل اليهود والنصارى وسائر مِلل الكفر يُسالمون المسلمين، ويَجنحون للسَّلْم، ولا يعتدون على بلادِ الإسلام؟! وهل لا يَتدخَّلون في شؤونها الداخليَّة، ولا يتربَّصون بها الدوائر؟! وهل يَسمحون للدَّعوة أن تُنتشر، وللإسلام أن يُبلَّغ للناس كما ينبغي؟! وهل يسمحون لأتباع مِللهم الباطلة أن يَدخُلوا في الإسلام الحقِّ متى ما أرادوا؟!... إلخ؛ حتى نقول بانتفاء جِهاد الدَّفْع حتى، وانتفاء أسبابه لمجرَّد إمكانية الدعوة إليه عبْرَ بعض الوسائل الحديثة، مع وضْع القيود والعراقيل المعروفة أيضًا عليها؟!

وهل انتفَى ما أكَّد المؤلِّف أنَّه ثبَت تاريخيًّا مِن (أنَّ فارس والروم كانوا يتحينون الفرص لغزو المسلمين؛ بسببِ تحريض اليهود عليهم، وبسبب كراهيتهم أيضًا لتوحُّد العرب، وخشيتهم من انتشار الإسلام داخل بلادهم، مما قد يُهدِّد مُلكَهم ومصالحهم)؟! وهل انتفى ما (ثبَت أنَّ ملوك الروم كانوا يتدخَّلون في شؤون المسلمين الداخليَّة، وكانوا يحرِّضونهم على الردة والالتحاق بهم)؟!

ندَع الجوابَ للقارئ، والواقِع خير شاهد..

ومن المؤاخذات في هذا الصَّدد: ما زعَمَه المؤلِّف من أنَّ عمر بن عبد العزيز قد أوقف الفتوحات؛ لعدم رضاه عنها! يقول (ص: 90): (نعم، نحن لسنا نبرِّئ كل الفتوحات من المآخذ والنقد، خاصَّةً ما وقع منها بعد عهد الخلفاء الراشدين؛ ولذلك، يذكر أهل التاريخ والسير أنَّ الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الأموي أوقف الفتوحات في زمانه، وكتب يأمر الجيش بأرض الروم وغيرها بالتوقُّف والقفول إلى منازلهم، ولما اعترضوا عليه في ذلك، كتب لهم: بأنَّ حسْبَهم الذي فتح الله عليهم! وكأنَّه - رحمه الله ورضي عنه - لم يكن راضيًا عن كل تلك الفتوحات التي كانت في زمانه، فأمر بإيقافها، وتفرَّغ للإصلاح الداخلي، ورد الحقوق والمظالم إلى أهلها).

التعقيب:

ما ذكَره المؤلِّف ليس صوابًا؛ وذلك للآتي:

أولًا:  أنَّ عُمرَ بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لم يُوقِف الفتوحات هكذا جملةً  في الروم وغيرها، كما يذكر المؤلِّف، وما كان له أن يفعل! فسياق ما أشار إليه المؤلِّف كما ورد في تاريخ الطبري: (أنَّ عُمرَ كتَب إلى عبد الرحمن بن نُعيم يأمُره بإقفالِ - أي: برجوع -  مَن وراء النَّهر من المسلمين بذَراريهم، قال: فأبَوْا، وقالوا: لا يَسعُنا مرو، فكتَب إلى عُمرَ بذلك، فكتَب إليه عمرُ: اللهمَّ إني قد قضيتُ الذي عليَّ، فلا تَغْزُ بالمسلمين، فحَسْبُهم الذي قد فتَح الله عليهم). [تاريخ الطبري (6/ 568)].

وورَد كذلك أنَّ عمر أعاد جيشَ مسلمة بن عبد الملك الذي كان يُحاصِر مدينة القسطنطينية؛ بسبب طول مدَّة حِصاره، وبسببِ ما أصابهم من الجهد والجوع، حتى ذُكر أنهم أَكَلوا العذرة، وأكَلوا البشر من شدَّة المجاعة! فلمَّا استُخلف عمرُ أغاث النَّاس، وأذِن لهم في القُفول، ولم يوقف الفتوحات ولا الغزوَ كليةً. [ينظر: تاريخ خليفة بن خياط (ص: 320)، تاريخ الإسلام للذهبي (6/ 274)].

وقد ورد كذلك أنَّ عمر بعَث الجراحَ بن عبد الله الحكمي على إمرة خراسان، وقال له: لا تَغْزُوا، وتمسَّكوا بما في أيديكم، ثمَّ بعد ذلك عزَلَه عمر.

وعلَّل ذلك ابنُ كثير بقوله: (وإنَّما عزله؛ لأنَّه كان يأخذ الجزية ممَّن أسلم من الكفَّار، ويقول: أنتم إنَّما تُسلمون فرارًا منها، فامتنعوا من الإسلام وثبَتوا على دِينهم وأدَّوُا الجزية. فكتَب إليه عمرُ: إنَّ الله إنَّما بعث محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم داعيًا، ولم يبعثه جابيًا) [ينظر: تاريخ الإسلام للذهبي (6/ 273)، البداية والنهاية لابن كثير (12/ 667)].

وهذا كلُّه كان وقفًا لبعض الفتوحات، أو انسحابًا من الغزو، أو توقفًا له في بعض الأماكن لبعض الظروف والأسباب اقتضتْ ذلك، ولم يكن وقفًا عامًّا للفتوحات كلِّها، ولا لعدم الرِّضا عنها كليةً.

ويدلُّ على ذلك أيضًا أنَّ بقية الفتوحات ومسيرة الجهاد ظلَّت مستمرةً في عهد عُمر كما هي، فالسَّمح بن مالك، وهو والي عُمر على الأندلس يُقاتل، ويَفتح المدنَ هناك حتى سقَط شهيدًا رحمه الله. وهذا الوليد بن هشام المعيطي، غزا الصَّائفةَ - أي: غزوة الرُّومِ؛ لأنَّهم يُغزَونَ صَيْفًا لمكان البرد والثلج - سنة مئة قُبَيل وفاة عُمرَ بن عبد العزيز [تاريخ الإسلام للذهبي (6/ 276)].

ثانيًا:  على فرْض صِحَّة ما ذكَره المؤلِّف مِن وقْف الفتوحات؛ فإنَّ الغرض من ذلك إنَّما هو تثبيت دعائم الدَّولة، وتعليم أهلِ تلك البِلاد المفتوحة للإسلام، والإنفاق على الدُّعاة والعلماء لتربيتهم وتعليمهم، وإصلاح الشؤون الداخليَّة؛ لتقوى الدولة أكثر، ولتكون تلك البلاد قويَّةً في ذاتها؛ تَستعصي على مَن أرادها بسوء، وأيضًا لتكون قواعدَ قويَّة تنطلق منها الفتوحاتُ من جديد، بدلًا من البِلاد العربيَّة البعيدة،  وهذا مِن فِقهه رحمه الله، وبُعْد نظره الدِّيني والعَسكريِّ والإداريِّ أيضًا، خُصوصًا وأنَّ الدولة في عهده كانت قد اتَّسعت جدًّا، وقد يضرُّ هذا الاتساعُ في بعض الأحيان إذا أُهمل إصلاحها، ويكون ذريعةً بأن يطمع في أطرافها أحدُ الطامعين. أو حتى لو كان عدم رضاه عن الفتوحات، فليس هو دليلًا على محلِّ النِّزاع مِن نفْي جهاد الطلب، الذي يَزعُمه المؤلِّف، بل هو من أقوى الأدلَّة على انتشار الغزو والفتوحات لعُقر ديار الكفار - لدعوتهم إلى الإسلام، أو ضرْب الجزية عليهم، أو قتالهم، وإنْ لم يبدؤونا بالقتال - وغاية ما في الأمر أنَّ عمر بن عبد العزيز لم يرضَ عن سلوك بعض الفاتحين، فأوقفه لذلك. وإلَّا فماذا عن الفتوحات التي كانتْ قبل الوَقْف، وماذا كان الدافع لها؟! وماذا  يقول المؤلِّف في الفتوحات والغزوات المَرضيِّ عنها من عُمر بن عبد العزيز؛ لموافقتها لأحكام الشَّريعة - وهذا كان هو الغالب بحمد الله تعالى؟! هل كانت للدِّفاع أيضًا؟! 

- ومن المؤاخذات على المؤلِّف: كلامُه عن الجِزية والغرَض منها، وعِلَّة ضرْبها على اليهود والنَّصارى، ومَن لحق بِهم في (ص: 98 - 104):

يقول المؤلِّف: (ومعلوم - لمن تأمَّل تعلَّل الأحكام ومقاصدها - أنَّ الجزية إنما فرضت على الذميين مقابل تكفل الدولة الإسلامية بحمايتهم وحراسة أوطانهم، وعدم تكليفهم بواجب الخدمة العسكرية، حتى لا يضطروا إلى الانخراط في جيش يخوض معارك لا تقنع بها ضمائرهم ولا ثقافتهم، وقد يعرضون أنفسهم للهلاك من أجل دين لا يؤمنون به. يقول الخطيب الشربيني، أحد فقهاء الشافعية: "القتال لا يجب على كافر ولو ذِميًّا؛ لأنه يبذلُ الجزية لنذبَّ عنه، لا ليذبَّ عنَّا". ولذلك، عندما شعَر الصحابة رضي الله عنهم بعجزهم عن الدفاع عن أهل الذمة في أكثر من واقعة، ردوا عليهم جزيتهم وامتنعوا عن أخذها...

ويقول: (وإذًا، فليست الجزية مفروضةً لإذلال غير المسلمين وإهانتهم، كما يزعُم الحاقدون على الإسلام، ولا هي مفروضة أيضًا جَزاءَ كفرهم، أو مقابل إبقائهم على قَيد الحياة، كما يذكر بعضُ الفقهاء في كُتبهم! وهذا التفسير، وإن أوردتْه بعضُ كتب التفسير، إلَّا أنَّه تفسير مردود، لأمور: أولًا: لأنه مخالف لِمَا نصَّ عليه كبار علماء الإسلام في تفسير الصَّغار؛ يقول الإمام الشافعي في كتابه (الأم): "وإذا أخذ منهم الجزية أخَذَها بإجمال، ولم يضربْ منهم أحدًا، ولو ينلْه بقول قبيح. والصَّغار: أن يَجري عليهم الحُكم، لا أنْ يُضربوا ولا يؤذوا". وكلام الإمام الشافعي واضح، فليس معنى الصغار في الآية الإهانة والإذلال، وإنَّما معناه: التسليم، وإلقاء السِّلاح، والخضوع لأحكام الدَّولة الإسلاميَّة.

والأمر الثاني: أنَّ هذا التفسير مخالفٌ لوصايا النبي الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم بأهل الذمَّة، ونهيه عن إيذائهم.

والأمر الثالث: أنَّ هذا التفسير مخالف لما تواتر عن المسلمين جيلًا بعد جيل من حُسن تعاملهم مع أهل الذمَّة، وبرهم بهم وإكرامهم لهم.

ويقول أيضًا: (وقد يقال أيضًا - في سبب ذكر الصَّغار في الآية الكريمة -: إن العادة جرت أنَّ يد المعطي هي العليا، ويد الآخِذ هي السُّفلى، فاحترزت الآية بذِكر الصَّغار، حتى لا يفهم الذمي أنَّ له منة، أو فضلًا في هذا المال الذي يدفعه، بل هو حقٌّ مقابل حق، ومنفعة مقابل منفعة، وقد ألمح إلى هذه العِلَّة الإمام ابن القيم في كتابه "أحكام أهل الذمة").

التعقيب:

وكلام المؤلِّف هذا خطأ من وجوه:

فأولًا: لا يُعلم أحدٌ من الفقهاء ولا المفسِّرين قال بهذا القول الذي قال به بعض المعاصرين المنهزمين، وقول المؤلِّف (بعض الفقهاء في كُتبهم! وهذا التفسير، وإن أوردته بعض كتب التفسير..) غير صحيح؛ فعامَّة المفسِّرين والفقهاء والعلماء على أنَّ هذه الجزية هي عقوبةٌ لهم، وإنزال على حُكم اللهِ تَعالى، وهي نظيرُ الإبقاء على حياتِهم آمنين مع كُفرهم، ولتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السُّفلى، ونظير سُكْناهم في بلاد المسلِمين أيضًا، وليس لدِفاعنا عنهم؛ فإنَّ هذا شرْط مترتِّب على عقد الذمة، ومن مقتضى تَأمنيهم، وليس هو عِلَّةَ ضرْب الجزية عليهم أولًا، وفرْق بين العِلَّة والشَّرْط كما هو معلوم ومقرَّر في موطنه، ولم يعرف قائل بهذا القول الغريب إلَّا في العصر الحديث! عصر الهزيمة النفسية والتبعية!

قال الطبري في تفسيره (14/ 199): (ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراج عن رقابهم، الذي يبذلونه للمسلمين دفعا عنها).

وقال القرطبي في تفسيره (8/ 110): (فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية وهي إعطاء الجزية بدلا عن القتل).

ويقول الخطيبُ الشربينيُّ في تفسيره ((السراج المنير)) (1/ 601 - 602): ({حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ}، وهي الخَراج المضروب على رِقابهم في نظير سُكناهم في بلاد الإسلام آمنين... {عَنْ يَدٍ} حالٌ من الضمير، أي: مُنقادين مقهورين... {وَهُمْ صَاغِرونُ}، أي: أذلَّاء مُنقادُون لحُكم الإسلام، ويكفي في الصَّغار أن يَجري عليهم الحُكمُ بما لا يَعتقدون حِلَّه)، وهو يوضِّح كلامه، وكلام الشافعي الإمام، الذي نقلَه المؤلِّف عنه، واستدلَّ به على غير وجهه.

ويُنظر على سبيل المثال لا الحصر: تفسير البغوي (2/ 335)، و وتفسير الزمخشري (2/ 262)، وتفسير ابن عطية (3/ 23)، وتفسير أبي السعود (4/ 58)، وفتح القدير للشوكاني (2/ 400)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (10/ 166)، و روح البيان للأُلوسي (3/ 413)، وتفسير السعدي (ص: 334)، وغيرها.

ثانيًا: ما ذكَره المؤلِّف عن الشافعيِّ، واستدلَّ به على أنَّ معنى الصَّغار لا يَعني الإهانة والإذلال، لا يُسعِفه في الاستدلال على ما زعَم، بل هو في حقيقة الأمر دليلٌ عليه لا له، فإنَّ معناه: أنَّه يكفي بنزولهم على الحُكم إهانةً وإذلالًا، ولا يُبالغ في ذلك بالضرب أو غيره.. وليُراجع في ذلك كتُب الفقه التي نقلت نصَّ الشافعي هذا، وكيف كان سياقُ الكلام، فسيتضح المقصود جليًّا بإذن الله تعالى!

ثالثًا: ما زعَمه من المخالفة لوصايا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ليس صحيحًا؛ فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو الذي أَوْصَى بهم، وهو الذي أمَر - بأمْر الله تعالى له - بأخْذ الجزية منهم، وأخبر أنَّ الذُّلَّ والصَّغار على مَن خالف أمْرَه. وذُلُّهم وصَغارهم لا يعني ظُلمَهم، والمخالِفُ فقط لوصيته صلَّى الله عليه وسلَّم هو المبالغةُ في الإيذاء، وبعض الصور التي ذكرها بعضُ الفقهاء ممَّا استنبطوه بفَهمهم، وقد أنكره فريقٌ آخر من الفقهاء أيضًا، مثل المشي بها وعدَم الركوب، والضرب على القفا... وأمثال هذا ممَّا ذكره المؤلِّف وانتقده، وهو محقٌّ في ذلك، وفي سِياقه أيضًا  يُفهم كلامُ الشافعيِّ على وجهه الصحيح!

بل نصَّ الحافظُ ابن القيِّم على أنَّ الجِزية عقوبةٌ من العقوبات على كُفرهم، وأنَّها صَغارٌ وَإِذْلَالٌ، وبمنزلَة ضربِ الرِّقِّ، وضعَّف القولَ بأنَّها عِوضٌ عن سُكْنى الدَّار. وكلام ابن القيِّم واضح وصريح، وهو مخالفٌ تمامًا لِمَا نسَبه المؤلِّف له من تعليل لسبب ذِكر الصَّغار؛ فليتأمَّل في ((أحكام أهل الذمَّة)) (1/ 105 - 111).

ويقول المؤلِّف: (وبناءً على هذا، فإنَّ الذميِّين القاطنين اليوم في بلاد المسلمين، إذا التزموا بالخِدمة العسكرية، وتَكلَّفوا أمْر الدِّفاع عن الوطن، وانخرطوا في الجيش كغيرهم من أبناء المسلمين، فإنَّ الجزية تسقُط عنهم، كما هو رأيُ غير واحد من كِبار العلماء المعاصرين كالسيَّد رشيد رضا رحمه الله في مجلة (المنار)، والدكتور الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي)، والدكتور وهبة الزحيلي في كتابه (آثار الحرب في الفقه الإسلامي)... وغيرهم. وهناك تعليلٌ آخر لفرضية الجزية يذكره بعضُ العلماء المعاصرين: وهو أنَّ الجزية إنما فُرضت على الذميِّين مقابلَ فرضية الزكاة على المسلمين).

التَّعقيب:

القولُ بأنَّهم إذا اشتَركوا في الخدمة العَسكريَّة، واشتركوا في الدِّفاع لم تُؤخذ منهم الجزية، مع أنَّه قولٌ غريب عجيب، ففيه أيضًا مخالفةٌ صريحةٌ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فإنِّي لا أستعينُ بمُشرِك)) كما رواه مسلم (1817)، ولِمَا سبَق أيضًا في مسألة استعمال أهل الذِّمَّة في أمور المسلمين؛ فالصَّحيح في مسألة الاستعانة بهم في الحرب: هو عدَمُ الجواز إلَّا لضرورة، مع شرْط التحقُّق من عدم خِيانتهم لجيش المسلمين، أو إبداء أسرار المسلمين لعدوِّهم، وفي المسألة خلافٌ مشهور بين العلماء، ولكنَّهم مع ذلك قالوا: إنِ استُعين بغير مسلِم في الحرب، فإنَّه يَأخُذ المقابِلَ على ذلك؛ فإمَّا أن يُرضَخ له، أو يُسهَم له السَّهمَ التام، على الخِلاف أيضًا، ولم يقلْ أحدٌ من العلماء: إنَّه تسقط عنه الجزية بقتاله مع المسلمين، بل يأخذ نظيرَ قِتاله ويبقَى حُكمه في الجزية كما هو. [ينظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 404)، وشرح النووي على مسلم (12/ 198 - 199)، وغيرها].

وأيضًا يَرِد على هذا القولِ إشكالٌ آخَر، وهو أنَّ من المعروف في واقعنا المعاصر أنَّ الخِدمة العسكريَّة تكون مُدَّةً معيَّنة - من سَنَة إلى ثلاث سنوات، حاشا المتطوِّع الدائم؛ فماذا يكون الحال قبل هذه المُدَّة وبعدها؛ هل يَدفع الجزيةَ قبل التجنيد، وبعدَ انتهاء مدَّته؟! أم أنَّ خِدمته العسكريَّة هذه المدَّةَ كافية لإعفائِه من الجزية طيلةَ حياته بعدُ؟! وماذا عن الذين لم يُصبهم دَورُ التجنيد بالإعفاء منه؟! وماذا عن الذين لا يَصلُحون للتجنيد لسببٍ صحي، كضعف النظر، أو قِصر القامة، أو الوزن الزائد، أو غير ذلك؟! هل يقول المؤلِّف بأنَّ هؤلاء وأمثالهم تُؤخَذ منهم الجِزية؟!

و أبعدُ من هذا وأغرب، وأشدُّ مناقضةً لشريعة الإسلام: التعليلُ بأنَّ الجزية المضروبة على الكفَّار من أهل الكتاب ومَن يلحق بهم، مساويةٌ للزكاة التي على المسلمين! ويَكفي في الردِّ عليه ما سبَق من كلام المفسِّرين والعلماء، ووضوحُ بُطلان هذا القول ومخالفته الصَّريحة للمعلوم من الدِّين بالضرورة.

فهل التعايُش هو التباسُ الحقِّ بالباطل، والتنصُّل من أحكام الشرع، وليُّ أعناق النصوص؛ لتتوافق مع الواقع؟! وهل هو المذلَّة وترك العِزة والتمايُز؟!

فلا ينبغي أن يُعالج الشطط والغلو، بشطَط وغلو آخَر في التساهل والتسامُح، المفضي إلى الميل والركون والموالاة المحرَّمة.

ويقول المؤلِّف: (ويذكر بعض الكتاب المعاصرين أن استعمال كلمة الذميين قد أسقط من البناء القانوني في العالم الإسلامي والعربي منذ صدور أوَّل دستور عثماني سنة 1876م، بعد أن حلَّ بدلًا منه مبدأ المواطنة والحرية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع سُكَّان الدولة، على اختلاف أديانهم وأطيافهم. ثم يعلق قائلًا: (وحسنًا ما فعلوه).

التعقيب:

وهذا الكلام خطأ من جِهتين:

الأولى: أنَّه من المعروف أنَّ هذا الدَّستور كان مُقتبسًا عن دَساتير لدول أوربية عديدة، مثل: (بلجيكا وفرنسا وغيرهما)، وكان وضْعُه أصلًا بسببِ النُّفوذ الغربي، وللرغبة في تقليد المعايير الغربيَّة، وأنَّه كان نبتةً خبيثةً لتأصيل الحُكم بغير ما أنزل الله تعالى، وتنحية المحاكم الشرعيَّة في بلاد المسلمين، ورفْض العَمل بالشريعة. وكان هذا المبدأ أيضًا من المبادِئ التي دعا إليه الانقلابيُّون من جمعية (الاتحاد والترقي) عام 1908، مُتعهِّدين بوضْع حدٍّ للتمييز في الحقوق والواجبات بين السُّكَّان على أساس الدِّين والعِرق، وكانوا سببًا لإسقاط الخلافة العثمانيَّة، وإدخال العَلمنة في أحطِّ صورها في بلاد المسلمين، وتولَّى كِبْر ذلك المأفونُ كمال أتاتورك- لا رَحِم اللهُ تعالى فيه مَغرِزَ إبرة.

الثانية: أنَّ العِبرة بالمسمَّيات والحقائق لا بمجرَّد الأسماء، وهذا هو الإشكال الحقيقي في إسقاط تسمية (الذميِّين)؛ فمبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع سُكَّان الدَّولة، على اختلاف أديانهم وأطيافهم، مُصادِمٌ لأصولِ الإسلام؛ يدلُّ على ذلك قول الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36]، وقوله سبحانه: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وغير ذلك من مُحكمات الشريعة وأصولها وثوابتها، وسبَق الحديثُ عن بعضها في كون العدل ليس هو المساواة. ومصادر الفِقه حافلةٌ بمسائل التشريعات والأحكام الفقهيَّة التي تنصُّ على الفرق بيْن المسلم وغيره والذِّمِّي والمعاهَد، ولتفصيلها محل آخر، فكيف تُهدَم كلُّ هذه الأحكام والأصول، ويُسوَّى بين مَن فرَّق الله تعالى بينهم؟! بل كيف يُستحسَن ذلك؟!

- ومن المُؤاخذات كذلك: كلامُ المؤلِّف في مسألة تفضيل الجِنس العربي على غيره من الأجناس؛ يقول (ص: 136): (ومع صِحَّة هذه النصوص وصراحتها في دَلالتها [يعني: على عدم التفضيل بين أجناس البشَر]، فقد جاء من علماء الإسلام مَن يقول: إنَّ جنس العرب أفضلُ من جنس الأعاجم في الجُملة. ومِن هؤلاء: الإمام ابن تيمية رحمه الله، وليتَه وقَف عند القول بالتفضيل فحسب، بل لقد عد المسألة من مسائل الاعتقاد، وذهب يقرِّر بأنَّ العرب هم أكثرُ فهمًا من غيرهم، وأكثر شجاعةً وسخاءً ووفاءً وحِلمًا... إلى غير ذلك ممَّا لا يُوافَق عليه، ولا يُسعفه فيه الدليل.

ويقول الكاسانيُّ - أحد فُقهاء الحنفيَّة - عن حديث: ((لا فَضلَ لعربيٍّ على عجمي))، يقول: إنَّ المراد به في أحكام الآخِرة؛ إذ لا يمكن حملُه على الدنيا؛ لظهور فضْل العربي على العجمي في كثير من أحكام الدُّنيا! وهذا الظهور الذي ذكره ليس عليه دليلٌ حسي، وهو ليس بأَوْلى من قول النازيِّين الألمان بأنَّ الجنس الآري الأبيض أفضل الأجناس البشرية على الإطلاق!...).

التعقيب:

أولًا: أنَّ من حِكمة الله تعالى أن فَاضَل بين خلقه، واصطفى مِن خلقه مَن شاء، وفضَّلهم بما يشاء سبحانه، وليس في هذا ما يُنكَر، بل هي سُنَّة جارية في كلِّ الخَلْق؛ فقد فضَّل بعض الأزمنة على بعض، وبعضَ الأمكنة على بعض...إلخ.

وهذا الرَّأي القائل بتفضيل جِنس العربي ليس هو رأي ابن تيميَّة ولا الكاساني وحْدَهما، ولا رأي قِلَّة من عُلماء أهل الإسلام؛ بل قدْ نصَّ ابنُ تيميَّة على أنَّ هذا ما عليه أهل السُّنة والجماعة اعتقادًا، وأحيانًا حكاه عن الجُمهور، وهذا هو كلامُه الذي أشار المؤلِّف إليه: قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: (فإنَّ الذي عليه أهلُ السُّنة والجماعة: اعتقادُ أنَّ جنس العرب أفضلُ من جِنس العجم، عبرانيهم وسريانيهم، روميهم وفرسيهم، وغيرهم. وأنَّ قريشًا أفضلُ العرب، وأنَّ بني هاشم أفضلُ قريش، وأنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أفضلُ بني هاشم؛ فهو: أفضلُ الخَلق نفْسًا، وأفضلهم نسبًا. وليس فضلُ العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم، لمجرَّد كون النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم منهم، وإنْ كان هذا من الفَضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك يثبُت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أنه أفضلُ نفْسًا ونسبًا، وإلا لزم الدور) [((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 419 - 420)، وينظر: (1/ 435)].

وقال أيضًا: (وجمهورُ العلماء على أنَّ جِنس العرب خيرٌ من غيرهم، كما أنَّ جِنس قريش خيرٌ من غيرهم، وجنس بني هاشم خير من غيرهم...) [مجموع الفتاوى (19/ 29)].

 فأنت تراه حَكَى القولَ عن أئمَّة السُّنة وجمهورهم.

بل أكثر من هذا؛ فقد حَكاه بعضُ العلماء إجماعًا! فالإمامُ الزيلعيُّ يوجِّه قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] بمثل ما ذكَر المؤلِّف عن الكاساني من أنَّ المراد به في حُكم الآخِرة، ويُعلِّق الشَّلبيُّ عليه قائلًا: ("قوله: ... المراد به في حُكم الآخرة)، أي: وإلَّا ففي الدُّنيا ثابتٌ فضلُ العربيِّ على العجمي بالإجماع) [تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (2/ 128)].

ويَبعُد أن يُحكَى الإجماع، وينتشر هذا الرأي بين جمهور علماء الأمَّة وأئمَّتها، وتُؤلَّف فيه المؤلَّفات المُفرَدة، ولا يسعفهم الدَّليل! بل أدلَّتهم متظاهِرة في ذلك، كحديث الاصطفاء الذي اعترض عليه المؤلِّف ووجَّهه على غير ظاهره، وأدلَّة أخرى يطولُ المقام بذكرها، ولكن المشكلة في توهُّم التعارض بين الأدلَّة، وهذا ما يتَّضح:

ثانيًا: أنَّ النصوصَ التي فيها تفضيلُ جِنس العرب على غيرهم، لا تُعارِض النصوص النافية لذلك؛ لأنَّ لهذه وجهة، ولتلك وجهة أخرى، وقد أوْضح ذلك شيخُ الإسلام بأوضح عبارة إذ قال:

{...لكن تفضيل الجُملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كلُّ فرد أفضلَ مِن كل فرد؛ فإنَّ في غير العرب خَلقًا كثيرًا خيرًا من أكثر العرب، وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار مَن هو خير من أكثر قريش، وفي غير بني هاشم من قريش، وغير قريش مَن هو خير من أكثر بني هاشم، كما قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ خير القرون القرن الذين بُعثتُ فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))، وفي القرون المتأخِّرة مَن هو خيرٌ من كثير من القَرن الثاني والثالث، ومع هذا فلم يخصَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم القرن الثاني والثالث بحُكم شرعي، كذلك لم يخصَّ العَربَ بحُكم شرعي، بل ولا خصَّ بعض أصحابه بحُكم دون سائر أمَّته، ولكن الصحابة لَمَّا كان لهم من الفضل أخبَر بفضلهم، وكذلك السابقون الأولون لم يخصَّهم بحُكم، ولكن أخبر بما لهم من الفضل؛ لِمَا اختصُّوا به من العمل، وذلك لا يتعلَّق بالنسب...} [مجموع الفتاوى (19/ 29 - 30)].

فلا يعني الاعترافَ بهذا الفضل للجِنس والعموم احتقارًا لأحد، ولا يَنفي أن يكون كثير من الأفراد خيرًا من الجِنس المفضَّل في الجملة.

ومع ذلك نبَّه على المحاذير؛ فلا يصحُّ أن يَعتمد إنسان على تفضيل جنسه، ويأتي بكل النقائص والمعايب! فإنَّه قد نبَّه مَن انتسب لهؤلاء المُفضَّلون أنْ لا يغتروا بالنسب، ويتركوا الكلم الطيِّب، والعمل الصالح. [ينظر: (اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 435)].

والأمر في هذا قريب؛ فإذا آمن المرء بأنَّ لله تبارك وتعالى فَضَّل مِن خلقه ما شاءَ على مَن شاء بما شاء، واجتهد في كسْب الفضائل، وتحصيل المحامد، فاز وربِح، وقد أشار إلى ذلك مرعي الكرمي في عنوان كتابه المُفرَد في هذه المسألة: ((مسبوك الذَّهب، في فضل العرب، وشرَف العِلم على شَرَف النَّسَب)).

وأيضًا؛ فإنَّ مِن الفضائل التي تُحمَد: الكرم والجود والنُّصرة، وحسن العهد، وصيانة الجوار، والعدل، والغَيرة وحِفظ الأعراض... وغير ذلك من أُسس التعايش الحسن بين الخَلْق، وقد تميَّز العربُ بأوفر هذه الصِّفات؛ فنفيُ هذا لا يخدُم بحثَ المؤلِّف في الحقيقة، وإنَّما الذي يخدمه هو الإقرارُ بفضل كلِّ ذي فضل، والوصية بعدم الاعتماد على مجرَّد فضل الجِنس، وعدم احتقار أيِّ جنس آخر، والقيام بالحقوق والواجبات تجاه الخلق طُرًّا.

بل إنَّ مما يُنافي حُسنَ التعايش، ويؤجِّج الصِّراعات هو إنكارُ الفضل لأهلِ الفَضل، وهذا مِثلما حدَث أيَّام ظهور ما عُرِف بالحركة الشعوبيَّة التي تحتقر العربَ وتزدريهم، وهذا كله مما يضادُّ مقصودَ بحث المؤلِّف وفقه الله تعالى.

نكتة أخيرة:

فهل بتطبيق ما ذكَره المؤلِّف على الواقِع، يتحقَّق فعلًا التسامُح والتعايش المنشود؟! هل بتقريب الكَفَرة من أهل اليهود والنصارى، وتقليدهم أرفعَ الوظائف والمهامِّ، وعدم أخْذ الجزية منهم، ونفْي جهاد الطلب، والاقتصار على الدَّفع فقط، وأيضًا الدفع قد زالت موانعه...إلخ؛ هل بكلِّ هذا يتحقَّق التعايُش؟! وهل هذا هو التجديد المأمول؟! وكيف الأمرُ إذا كان كل ذلك واقعًا وأكثر منه، ومع ذلك لا يوجد جوُّ التسامح المنشود، ولا التعايش المرجو كما هو مشاهد؟! كل ذلك لأنَّ الأمر على خِلاف ذلك، ولا تُحقَّق سعادة البشرية كلِّها إلَّا تحت أحكامِ الإسلام التي شرَعها الحكيمُ الخبير، العليم بخَلْقه، دون حَيف أو زيغ، والله الهادي إلى سواء السَّبيل.