مقالات وبحوث مميزة


الشُّهرة بين الطَّلَب والـهَـرَب
 

الشيخ الدكتور عُمر بن عبدالله المُقبل

 

 

لا تكادُ تُخطئُ عينُ القارئِ في سِيَرِ السَّلفِ الصالحِ -رحمةُ اللهِ عليهم- الحَديثَ عن كراهيةِ الشُّهرةِ، فنقرأُ أمثالَ هذه العِباراتِ: "لم يكنْ يمنعُني مِن مُجالَسَتِكم إلَّا مَخافةُ الشُّهرةِ"، و"كان فُلانٌ يتوقَّى الشُّهرةَ"، وقال أحدُ الأئمةِ يَعِظُ أخاه: "إيَّاكَ والشُّهرةَ؛ فما أتَيتُ أحدًا إلَّا وقد نهاني عنِ الشُّهرةِ"، وقال آخَرُ: "بُثَّ عِلْمَكَ, واحذَرِ الشُّهرةَ"، ورُوِيتِ هذه الجُملةُ عن غَيرِ واحدٍ: "لم يَصْدُقِ اللهَ مَن أحَبَّ الشُّهرةَ"، وأمثالُها كثيرٌ.
 

ولا ريبَ أنَّ هؤلاء الأئمَّةَ لم تتوارَدْ كلِماتُهم إلَّا وهم يُدرِكون أثَرَ الشُّهرةِ على القَلبِ، وأنَّ الإنسانَ كُلَّما زادت شُهرتُه، صارَتِ التَّبَعةُ على قَلبِه أكبَرَ، مِن جهةِ المُجاهدةِ على الإخلاصِ، والتجرُّدِ للهِ تَعالى، ومُكابدةِ القَلبِ على تَخليصِه مِن حُظوظِه.

وهذا المعنى حقٌّ وظاهِرٌ، ولا يأباه مَن عَرَف سيرةَ القَومِ ومُرادَهم، إلَّا أنَّ الذي رأيتُه في واقِعِ بَعضِ طُلَّابِ العِلْمِ، وبعضِ مَن لديه ما يُمكنُه الانطلاقُ به في الدعوةِ إلى اللهِ تَعالى، أنَّهم يستحضِرون أمثالَ هذه الآثارِ -حقيقةً أو معنًى- كُلَّما عُرِضَ على أحدِهم المُشاركةُ في نَشرِ العِلْمِ، أوِ الدعوةِ إلى اللهِ تَعالى، وكأنَّ هذه الآثارَ نُصوصٌ نبويةٌ قطعيةٌ مُحكَمةٌ غيرُ مَنسوخةٍ!

ولو سأل هؤلاء الإخوةُ -الذين يحتَجُّون بمِثلِ هذه الآثارِ- كيف وصَلَتْ إلينا هذه الآثارُ؟ وكيف عَرَفْنا هؤلاء الأئمةَ؟ بل كيف صاروا أئمةً يُقتَدى بهم، ويشار إليهم بالبَنانِ؟ لم يكونوا كذلك إلَّا ببَذلِهم وعطائِهم، ولو أنَّهم آثَروا الخُمولَ التَّامَّ لَمَا انتَفَعَ الناسُ بعِلمِهم، فهم -لِعظيمِ فِقهِهم- لم يكنْ حَذَرُهم مِن تطلُّبِ الشُّهرةِ مانِعًا لهم مِنَ الإنفاقِ ممَّا وهبَهم اللهُ مِنَ العِلْمِ، وإلَّا فكيف عَرَفناهم؟!
 

ولا يَخفى على طُلَّابِ العِلْمِ أنَّ الشُّهرةَ بالعِلْمِ وطَلبِ الحديثِ أحدُ شُروطِ قَبولِ روايةِ الراوي، وإلَّا كان ذلك ممَّا يَقدَحُ في صحةِ ما يَرويه؛ لِدُخولِه في عِدادِ المَجاهيلِ ومَستوري الحالِ.

وهذا الإمامُ أحمدُ -رحمه اللهُ- أحدُ أشهرِ الأئمةِ الذين كانوا يكرهون الشُّهرةَ، ويهرُبون منها، حتى قال: أُريدُ أنْ أكونَ في شِعبٍ بمكةَ حتى لا أُعرفَ، قد بُليتُ بالشُّهرةِ، إنِّي أتمَنَّى المَوتَ صَباحًا ومَساءً.

وقال مرَّةً: ما أعدِلُ بالفَقرِ شَيئًا، ولو وَجَدتُ السبيلَ، لَـخَرَجتُ حتى لا يكونَ لي ذِكْرٌ.

وقال لِتلميذِه المروذي: قُلْ لِعبدِ الوهَّابِ: أخْمِلْ ذِكْرَكَ؛ فإنِّي قد بُليتُ بالشُّهرةِ. [يُنظر في هذه النُّقولُ عنِ الإمامِ: سِيرُ أعلامِ النُّبَلاءِ ط الرسالة (11 / 216، 226)، الآدابُ الشرعية (2/27)].

هذا الإمامُ -الذي قال عنِ الشُّهرةِ ما قال- لم يَمنَعْه ذلك مِن أداءِ ما أوجَبَه اللهُ عليه مِن إبْلاغِ العِلْمِ، ومُخالَطةِ الناسِ، بل والوقوفِ في وَجْهِ السلطانِ وعُلماءِ السُّوءِ حين دُعيَ إلى المقالةِ البِدْعيةِ الكُفريةِ: القَولِ بخَلْقِ القُرآنِ!!
 

والنظرُ في سيرةِ هذا الإمامِ -وغَيرِه مِنَ الأئمةِ الذين كانوا يكرهون الشُّهرةَ، كابنِ سيرينَ وأيُّوبَ السختياني والثوري- هو الذي يُحدِثُ التوازُنَ في هذه المَسألةِ التي صار فيها كثيرٌ مِنَ الناسِ بيْنَ طَرَفَيْ نَقيضٍ.

ودُونَكَ هذا النَّصَّ البَديعَ مِنَ الإمامِ النوويِّ -رحمه اللهُ- حيث قال في كِتابِ القَضاء مِن "رَوضةِ الطالِبين" (11/92): وأمَّا مَن يَصلُحُ -أيْ لِلقَضاء- فله حالانِ، أحدهما: أنْ يتعَيَّن لِلقضاءِ، فيَجبُ عليه القَبولُ، ويَلزَمُه أنْ يَطلُبَه ويُشهِرَ نَفْسَه عندَ الإمامِ، إنْ كان خامِلًا، ولا يُعذَرُ بأنْ يَخافَ مَيْلَ نَفْسِه وخيانتَها، بل يَلزمُه أنْ يقبلَ ويحتَرِزَ، فإنِ امتنعَ، عَصى".

وقال بعْدَ ذلك بقليل (11 / 93): "وأمَّا الطلبُ، فإنْ كان خامِلَ الذِّكْرِ، ولو تولَّى، اشتُهِرَ وانتَفَع الناسُ بعِلْمِه، استُحِبَّ له الطلبُ، على الصحيح". انتهى.

وهذا -لَعَمْرُ اللهِ- هو الفِقهُ الذي تجتمعُ به الأدلَّة، وقد ازدادَ جمالُه أنَّه صادِرٌ مِن عالِـمٍ عابِدٍ زاهِدٍ.

والذي يَظهَرُ ويُلاحظُ في السِّيَرِ، ويُشاهَدُ في أرضِ الواقعِ، أنَّ الشُّهرةَ كالإمارةِ، مَن طلبها وُكِلَ إليها، وأصابه مِن ضَررِها بحَسَبِ ما في قَلبِه مِنَ الطلبِ، ومَن أتَتْه دُونَ طلبٍ ورَكضٍ، أُعينَ عليها.
 

إذا تبيَّن هذا؛ فإنَّ العاقِلَ يَحذَرُ مِن طلبِ الشُّهرةِ، والرَّكضِ خَلفَ بَريقِها، أو القيامِ في بَعضِ المَواطِنِ بقَصدِ الذِّكْرِ والشُّهرةِ بيْنَ الناسِ، كما ذُكِرَ في ترجمةِ أحَدِهم: "وكان يقرَأُ في التراويحِ بالشَّواذِّ رغبةً في الشُّهرةِ"، أو يَبلغُ به الحالُ أنْ يكونَ كما قيلَ عن أحَدِهم: "له نَفْسٌ شَغفةٌ بالشُّهرةِ، ومُشِفَّةٌ لِلعُلوِّ"؛ فإنَّ مِثلَ هذا أقربُ لِلخِذلانِ، وحِرمانِ بَرَكةِ العِلْمِ، بل وحُبوطِ العملِ -والعياذُ باللهِ!
 

والمسألةُ تَحتاجُ إلى بَسطٍ أكثرَ، تَجنَّبتُه عَمْدًا؛ لِأنَّ القَصدَ الإشارةُ، وإلَّا فهذه المسألةُ وثيقةُ الصلةِ بمسألتَيْنِ كبيرتَيْنِ: الإخلاصِ، ومسألةِ: الخُلطةُ أم العُزلةُ؟ والبحثُ في تَفضيلِ إحداهما على الأخرى ممَّا صُنِّفتْ فيه المُصنَّفاتُ.

والمُوفَّقُ مَن تعاهَدَ قَلبَه، وتفَقَّدَ نيَّتَه، ومَن صَدَقَ صَدَّقَه اللهُ وأعانَه، ومَن تلبَّسَ بما ليس فيه شانَه اللهُ.
 

اللَّهمَّ أعِذْنا مِن شُرورِ أنْفُسِنا، ووفِّقْنا لِمَا تُحبُّه وترضاه.