مقالات وبحوث مميزة

مُسلسلُ عُمرَ .. رُؤيةٌ شَرعيَّةٌ واقعيَّةٌ

عَلَوي بن عبدالقادر السَّقَّاف

10 من شوال 1433هـ

 

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، والصلاةُ والسلامُ على خاتَمِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، ورِضوانُ اللهِ تعالى على صحابتِه أجمعينَ.

 

أمَّا بعدُ:

فقد تكلَّمَ كثيرونَ عن مُسلسلِ عُمرَ الذي أنتجَتْه شَركةُ O3 بالتعاوُنِ مع MBC وتليفزيون قَطرَ لهذا العامِ (1433هـ - 2012م) ما بينَ مُؤيِّدٍ ومُعارضٍ، ومُجيزٍ ومانعٍ، وحَديثي هُنا ليس عن حُكمِ تَمثيلِ الصحابةِ الكِرامِ، بل عن هذا المسلسلِ بعَيْنه؛ لأنَّني أظُنُّ أنَّه بدايةُ فَتحِ بابٍ عريضٍ، لا شكَّ عِندي أنَّه سيُؤدِّي إلى تمثيلِ الأنبياءِ صَلواتُ اللهِ عليهم، وفي مُقدِّمتِهم نبيُّنا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وسيُجيزُ ذلك أقوامٌ همُ الآن مُحجِمونَ، فبالأمسِ كانوا يُحرِّمونَ تمثيلَ أيِّ صحابيٍّ، ثم أجازوا تمثيلَ الصحابةِ عَدا العَشَرة المبشَّرينَ بالجنَّةِ، ثم عَدا الخُلفاء الأربعة، وها هو مُسلسلُ عُمرَ -بمبارَكةٍ منهم- يَظهَرُ فيه أبو بَكرٍ، وعُمرُ، وعُثمانُ، وعليٌّ، وبقيَّةُ العَشَرةِ، وأصحابُ الشجرةِ، وأصحابُ بَدرٍ، وعددٌ من زَوْجاتِهم رضِيَ اللهُ عنهم جميعًا.

 

ولَمَّا كان الحُكمُ على الشيءِ فَرعًا عن تَصوُّرِه،  كان لا بُدَّ لي من الاطِّلاعِ ولو على بعض حَلَقاتٍ مِن هذا المسلسلِ، فكتَبَ اللهُ لي ذلك، وقدَّرَه عليَّ، وذلك بواسطةِ موقِعِ (اليوتيوب)، ومن هُنا جاءتْ هذه الوَقَفاتُ الشرعيَّةُ الواقعيَّةُ:

وقبلَ البَدءِ لا بُدَّ من ذِكرِ جوانِبَ إيجابيَّةٍ في المسلسلِ، قد تَخْفى على البعضِ، خُصوصًا أنَّ هُناك مَن كتَبَ خِلافَها؛ غَيْرةً على هذا الدِّينِ، أو بأحكامٍ مُسبَقةٍ على المسلسلِ، ومن ذلك:

 

أوَّلًا: أنَّ هذا المسلسلَ يُمثِّلُ وِجهةَ نَظرٍ سُنِّيَّةٍ بامتيازٍ، مُقابِلَ وِجهةِ النظرِ الشِّيعيَّةِ، وكلُّ مَن كتَبَ خِلافَ ذلك فقد جانَبَ الصوابَ؛ فهو يوضِّحُ بجَلاءٍ مقصودٍ -وهذا ممَّا يُشكَرُ القائمونَ عليه- العَلاقةَ الحَميمةَ بينَ أبي بَكرٍ وعُمرَ من جِهةٍ، وعليٍّ وآلِ البيتِ من جِهةٍ أُخْرى، وأوضَحَ حُبَّ عليٍّ لأبي بَكرٍ وعُمرَ رضِيَ اللهُ عنهم جميعًا، وتَقديمَه لهما على نَفْسِه، وموقِفَه يومَ السقيفةِ كما في كُتبِ أهلِ السُّنَّةِ، لا كما زوَّرَه الرافضةُ، كما أنَّه أبرَزَ شَجاعةَ عليِّ بن أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عنه، والتي يَشهَدُ بها الطرَفانِ، وهذا مَدْعاةٌ ليَعرِفَ الشيعةُ إنصافَ أهلِ السُّنَّةِ، وحُبَّهم لآلِ البيتِ، ومنها أيضًا تَسميةُ عليٍّ أبناءَه عُمرَ وعُثمانَ، وزواجُ عُمرَ مِن أُمِّ كُلثومٍ ابنةِ عليٍّ.. وغيرُ ذلك، وكُنتُ أتعجَّبُ من تخوُّفِ الشيعةِ وتَحذيرِهم منَ المسلسلِ، وصُدورِ الفَتاوى تِلوَ الفَتاوى، والبياناتِ في تحريمِ مُشاهَدَتِه، والحربِ الإعلاميَّةِ الشرِسةِ التي قاموا بها، والتشويهِ والتضليلِ وغيرِ ذلك، ولكنْ بعدَ رُؤْيَتي لبعضِ حَلَقاتِه أدرَكْتُ كم هو خطيرٌ عليهم، خُصوصًا أنَّ هُناك فِئامًا منَ الناسِ - أكثرُهم منَ العوامِّ - يَتأثَّرونَ بما يُشاهِدونَ أكثَرَ ممَّا يَقرَؤونَ، أو يَسمَعونَ.

ثانيًا: الأحداثُ التاريخيَّةُ في الجُملةِ صحيحةٌ، وموافِقةٌ لكثيرٍ من كُتبِ التاريخِ السُّنِّيِّ، بخِلافِ مَن طعَنَ فيها جُملةً وتَفصيلًا، وهذا لا يَعْني عدمَ وُجودِ مُخالَفاتٍ، قد يَأْتي ذِكرُها عَرَضًا، كان يَنْبَغي ألَّا تَفوتَ على المراجِعينَ.

ثالثًا: أظهَرَ المسلسلُ بجَلاءٍ شَجاعةَ عُمرَ، وقُوتَه، وفَضلَه، وعَدلَه، وشِدَّتَه على نفْسِه وأهلِه وأبنائِه، ورَحمتَه برَعيَّتِه، وجِهادَه، وفُتوحاتِه الإسلاميَّةَ، وأنَّه قاهرُ نَصارى الرومِ، ومجوسَ فارسَ، حتى قُتلَ على يدِ واحدٍ منهم، وهو أبو لُؤلُؤةَ المجوسيُّ الفارسيُّ -لعَنَه اللهُ-، كما أبرَزَ شَجاعةَ عددٍ منَ الصحابةِ، وبَلاءَهم وجِهادَهم في سَبيلِ اللهِ، كخالدِ بنِ الوليدِ، وأبي عُبَيدةَ بنِ الجرَّاحِ، والمُثنَّى بنِ حارثةَ، وسعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ، وغيرِهم رضِيَ اللهُ عنهم أجمعينَ.

 

إنَّ تأثيرَ المَشاهِدِ التاريخيَّةِ المجسَّدةِ كبيرٌ جدًّا، وقد لَمَسْتُ ذلك مِن سُؤالي لبعضِ مَن شاهَدَ هذا المسلسلَ، وغَيرَه منَ المسلسلاتِ الشَّبيهةِ، وهذه حقيقةٌ لا بُدَّ منَ الاعترافِ بها. وثَمَّ حقيقةٌ أُخْرى وهي أنَّ هذا النوعَ منَ المسلسلاتِ -أَعْني تمثيلَ الصحابةِ الكِرامِ- سيَكثُرُ في المستقبَلِ القريبِ، وسيَلْقى رَواجًا كَبيرًا؛ ممَّا يَدْعو العُلماءَ والدُّعاةَ لوَقفةِ تأمُّلٍ وتأنٍّ، لا تقتَصِرُ فقط على ذِكرِ أقوالِ المانِعينَ، وهم كبارُ عُلماءِ الأُمَّةِ، والمجامِعِ الفقهيَّةِ قاطبةً؛ لأنَّه سيُقابِلُها أقوالُ المُجيزينَ، ولو كانوا قِلَّةً، فكثيرٌ منَ الناسِ -وللأسفِ- لا يُفرِّقُ بينَ هؤلاء وأولئك، بل هُناك دَعَواتٌ لتعميمِ هذا المسلسلِ وأمثالِه في قاعاتِ التَّعليمِ، كما نادَى كثيرونَ، منهم عبد الرحمن آل الشَّيخ، كما في صَحيفةِ الرياضِ عددَ (16125) بتاريخِ (29) رمضانَ تحتَ عُنوانِ: (مسلسلُ عُمرَ.. الشاشةُ أبلَغُ منَ الكِتاب!!)، وممَّا قالَه: (مسلسلُ عُمرَ نتطلَّعُ إلى إعادةِ عَرضِه في كلِّ القَنواتِ الفضائيَّةِ بتَكرارٍ، ونتطلَّعُ أكثرَ إلى عَرضِه في كلِّ قاعاتِ التعليمِ الأوَّليِّ والعالي، ونأمُلُ من أساتذةِ التعليمِ أنْ يحُثُّوا ويُشجِّعوا الطلابَ والطالباتِ على مُشاهَدةِ هذا العملِ لمَن لم يُشاهِدْه، فهو أبلَغُ وسيلةِ تَعليمٍ لهم).

لهذا كان لا بُدَّ من وَقفةٍ واقعيَّةٍ بجانبِ الوَقفةِ الشرعيَّةِ مع هذا النوعِ منَ المسلسلاتِ، وقد حاوَلْتُ ذلك في هذه الوُرَيقاتِ، وذلك بالإجابةِ عن ثلاثةِ أسئلةٍ:

السؤالُ الأوَّلُ: هلِ المسلسلُ إسلاميٌّ؟

السؤالُ الثاني: هل له آثارٌ سَلبيَّةٌ؟

السؤالُ الثالثُ: ما حُكمُ مُشاهدَتِه وأمثالِه منَ المسلسلاتِ؟

أمَّا السؤالُ الأوَّلُ فقد يَبْدو غَريبًا لدَى البعضِ؛  إذ كيف لا يكونُ إسلاميًّا وهو يَعرِضُ تاريخًا إسلاميًّا وأحداثًا تاريخيَّةً -سليمةً في الجُملةِ- راجَعَها عددٌ منَ العُلماءِ والدُّعاةِ.

لكنْ سيُدرِكُ كلُّ مَن يُشاهِدُ حَلَقاتٍ قليلةً منه أنَّه ليس كذلك؛ فالموسيقا تَصحَبُ جميعَ حَلَقاتِه من أوَّلِها إلى آخِرِها، والنِّساءُ سافراتُ الوجهِ، الكبيراتُ منهُنَّ والصغيراتُ، بل هناك مُتبرِّجاتٌ تبرُّجًا قبيحًا، وفي بعضِ الحَلَقاتِ غَرامٌ وعِشقٌ، وغَزلٌ وقِلَّةُ حياءٍ ممَّن يُمثِّلونَ دَورَ الكُفارِ والكافراتِ، منَ المُشركينَ، أو المجوسِ، أو النَّصارى.

ومنَ المُخالَفاتِ الشرعيَّةِ العَقَديَّةِ التي لم أرَ مَن تَطرَّقَ لها -وهي خطيرةٌ جدًّا على دِينِ المرءِ المسلِمِ- الأعمالُ والأقوالُ الكُفريَّةُ التي صدَرَتْ من بعضِ الممثِّلينَ في كثيرٍ منَ الحَلَقاتِ بحُجَّةِ تمثيلِ دَورِ كافرٍ، وأنَّها ضَرورةُ التمثيلِ، بل قُلْ: ضريبةُ التمثيلِ؛ إذ كيف يمثِّلُ دورَ الكافرِ، ولا يُمارِسُ الكُفرَ والعياذُ باللهِ؟! لكنْ هل هذا يَعذِرُه عندَ اللهِ؟!

 

أيُّها الأخُ الغَيورُ على دِينِه: اعلَمْ أنَّه في الحَلَقاتِ التي رَأيتُها؛ شُتِمَ اللهُ عزَّ وجلَّ -تَعالى اللهُ عمَّا يَقولونَ عُلُوًّا كَبيرًا- وشُتِمَ رسولُه الكريمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونِيلَ منه أكثرَ من مرَّةٍ، واستُهزئَ بالقُرآنِ، وسُخِرَ منَ الإسلامِ، وطِيفَ بغَيرِ الكَعبةِ، ورَأيتُ فيها رُكوعًا، وانحناءً، وخُضوعًا أمامَ أصنامٍ وتصاويرَ مجسَّمةٍ، وقَسمًا باللَّاتِ والعُزَّى، وسُجودًا لبَشَرٍ، وصُلبانًا على الصُّدورِ...، وقد أجمَعَ العُلماءُ على عدمِ جوازِ ذلك إلَّا للمُكرَهِ، بل قال بعضُهم بكُفرِ مَن فعَلَ ذلك! نَعم قد يقولُ قائلٌ: هذا نَقلٌ للكُفرِ، وناقلُ الكُفرِ ليس بكافرٍ، وكُتبُ السِّيَرِ والتاريخِ مَليئةٌ بذلك، وأقولُ: نَعم، لكنَّ هُناك فرقًا بينَ مَن يقولُ: قال فلانٌ: كذا وكذا، وينقُلُ عنه كلماتٍ كُفريَّةً، كسَبِّ اللهِ ورسولِه، ويَنسُبُها إليه لا إلى نفْسِه، وبينَ مَن يسُبُّ بنفْسِه، ويركَعُ بنفْسِه، ويسجُدُ بنفْسِه، ويقولُ: إنَّه هو أبو لهَبٍ، أو أبو جَهلٍ، أو كِسْرى، أو قَيصرُ، والعياذُ باللهِ، فهذا ممَّا لا أعرِفُ أحدًا منَ العُلماءِ المحقِّقينَ يُجيزُه، فإذا كان مَنِ ارتكَبَ محرَّمًا في التمثيلِ كتناوُلِ الدخَانِ، أو شُربِ الخَمرِ لا يُعذَرُ، فكيف بمرتكِبِ ما هو مُجمَعٌ على كُفرِه كسَبِّ اللهِ ورسولِه والعياذُ باللهِ؟! والممثِّلُ كغيرِه يُحاكَمُ بالمعاييرِ نفْسِها التي يُحاكَمُ بها سائرُ عبادِ اللهِ، فليس من حقِّه أنْ يَرتكِبَ محرَّمًا، أو أنْ يُظهِرَ الكُفرَ بحُجَّةِ التمثيلِ.

هذا غَيضٌ من فَيضٍ منَ المُخالَفاتِ الشرعيَّةِ التي امتَلأَ بها المسلسلُ.

 

أمَّا الآثارُ السلبيَّةُ لهذا المسلسلِ فكثيرةٌ جدًّا، أُجمِلُها في ثلاثِ نقاطٍ:

الأُولى: أجمَع أهلُ السُّنَّةِ قاطبةً على أنَّ مكانةَ الصحابةِ في نُفوسِهم عظيمةٌ جدًّا؛ فالمرءُ عندَما يَقرَأُ عن شخصيَّةِ أبي بَكرٍ الصدِّيقِ، وعُمرَ الفاروقِ، وعُثمانَ ذي النورَيْنِ، وعليِّ بن أبي طالبٍ، ثم يَرى أشخاصَهم تتجسَّدُ في صورةِ صَعاليكَ -مَهْما كانتْ بَراعتُهم في التمثيلِ- تتقَزَّمُ عندَه هذه الهيْئةُ الذِّهنيَّةُ العظيمةُ، والصورةُ العِملاقةُ في صورةِ هذا الشخصِ الذي يُمثِّلُ أمامَه، وهناك أشخاصٌ بُسطاءُ يَندَمِجونَ مع هذه المسلسلاتِ اندماجًا كبيرًا، حتى سمِعْنا مَن يَضحَكُ ويَبْكي، ويُسَرُّ ويحزَنُ أثناءَ مُشاهدتِه لها، وكأنَّه أمامَ واقعٍ حقيقيٍّ، فهو يتخيَّلُ هذا الصحابيَّ العظيمَ بهذه الصورةِ التي أمامَه بما فيها من عُيوبٍ ونَقصٍ، وقد علَّقَ كثيرونَ في (تويتر)، وبعضِ المواقِعِ عن هذا الأثَرِ النفْسيِّ، من ذلك تعليقُ إحدى المشاهِداتِ كما في موقِعِ (CNN العربية) على الرابطِ الآتي: http://cutt.us/BNEm:  (أعتَرِفُ بأنِّي بعدَ مُشاهدةِ 3 حَلَقاتٍ من مُسلسلِ عُمرَ حزِنْتُ أشدَّ الحزنِ على ضَياعِ الصورةِ العِملاقةِ للفاروقِ من مُخيِّلَتي، ليْتَهم لم يُجسِّدوه، وها أنَذا أتراجَعُ)!

ويَشهَدُ لذلك اللِّيبراليُّونَ أنفُسُهم؛ فهذه واحدةٌ منهم وهي الأُستاذةُ في المعهدِ العالي للسينما بالقاهرةِ ثناء هاشم تقولُ: (إنَّ إظهارَ هذه الشخصيَّاتِ في المسلسلاتِ من شأنِه نَزعُ القَداسةِ عنها، ولا قُدسيَّةَ (للبشَرِ) في الإسلامِ، ومن ثَمَّ يُتيحُ مُناقشةَ هذه الشخصيَّاتِ ودَورِها الدِّينيِّ والتاريخيِّ، مع ما يَعْنيه ذلك من تطوُّرٍ للفِكرِ، وإعمالٍ للعقلِ)، وما تُسمِّيه هي قُدسيَّةً أو قَداسةً هو ما نَعْنيه بعَظمةِ هذه الشخصيَّاتِ ومَكانتِها في النفوسِ.

الثانيةُ: يُكرِّسُ المسلسلُ مفاهيمَ تحرُّريَّةً، ويُظهِرُ مجتمَعَ الصحابةِ بمظهَرٍ طالَما نادَى به اللِّيبراليُّونَ وأشباهُهم، فالنساءُ مُختلِطاتٌ بالرجالِ -وأحيانًا جَنبًا إلى جَنبٍ- في كلِّ مكانٍ ومَحفِلٍ، في الأسواقِ والطرُقاتِ، والمساجِدِ، وغَيرِها، وهُنَّ سافراتُ الوجهِ دائمًا، لا خِمارَ ولا جِلبابَ، وكأنَّ هذه الملبوساتِ لم تكنْ معروفةً لديهم، وفي هذا مخالَفةٌ شرعيَّةٌ وتاريخيَّةٌ صريحةٌ، ولئن كانوا يعُدُّونَ القولَ بتغطيةِ الوجهِ إقصائيًّا وأُحاديًّا -على حدِّ تعبيرِهم- فإظهارُ جميعِ الصحابيَّاتِ كاشفاتِ الوجهِ دونَ غطاءٍ جِنايةٌ تاريخيَّةٌ، أمَّا لُبسُ النِّساءِ للباسِ الأسودِ، الذي ورَدَ ذِكرُه في أكثرَ من حديثٍ صحيحٍ، فلا أثَرَ له.

ومنَ المفاهيمِ السلبيَّةِ أيضًا حديثُ الصحابيَّاتِ، وضَحِكُهنَّ مع الصحابةِ، ونظَرُ الصحابةِ إليهنَّ وهُنَّ سافراتُ الوجهِ، دون غضٍّ للبصَرِ، وحِفظٍ للحُرُماتِ، بل ظهَرَ بعضُهنَّ كاشفاتٍ لسواعِدِهنَّ، وهُنَّ يتَحدَّثْنَ مع الرِّجالِ وعلى رَأسِهمُ الخُلفاءُ الأربعةُ،  كحديثِهِنَّ مع النِّساءِ والمحارِمِ!

ومنَ المفاهيمِ السلبيَّةِ أيضًا: إظهارُ الصحابةِ مُسبِلي الثِّيابِ، مُقَصِّري اللِّحَى، بل بعضُها ممسوحةٌ مَسحًا، لا تجِدُ فيهم ذا لِحيةٍ وافرةٍ، كما أمَرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلَّا ما ندَرَ، ولم يَسلَمْ من ذلك راوي حديثِ: ((أَعْفوا اللِّحَى. وفي روايةٍ: أَرْخوا اللِّحى)) أبو هُرَيرةَ رضِيَ اللهُ عنه، والحديثُ هُنا ليس عن مسائلَ فقهيَّةٍ خِلافيَّةٍ، بل عن ظاهرةٍ اجتماعيَّةٍ حرَصَ المسلسلُ على تَجسيدِها، تُوحِي للمُشاهِدِ أنَّ هذا هو واقعُ الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم.

 

ومنَ المفاهيمِ التي حرَصَ القائمونَ على المسلسلِ على إبرازِها: عَلاقةُ المسلمينَ بالنَّصارى وأهلِ الذِّمَّةِ، وإنْ كان في هذا جانبٌ إيجابيٌّ يُظهِرُ عدلَ عُمرَ ورحمةَ الإسلامِ، إلَّا أنَّ الإكثارَ منه والمبالَغةَ فيه -حسَبَ ما رأيْتُ وشاهدْتُ- يُوحي أنَّ الهزيمةَ النفْسيَّةَ، وإرضاءَ الآخَرِ قد ألقَتْ بظِلالِها، وأثَّرتْ في القائمينَ على المسلسلِ، ومِن ثَمَّ فهي تُؤثِّرُ  في المشاهِدِ حَتمًا ولا بُدَّ.

وفي المقابِلِ نجِدُ القائمينَ على المسلسل قد أغفَلوا أحداثًا مُهمَّةً في سيرةِ عُمرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه، وأخفَوْها؛ لأنَّها لا تتوافَقُ مع المشرَبِ اللِّيبراليِّ المتحَضِّرِ، حسبَ زَعمِ البعضِ.

 

ومن تلك الأحداثِ:

1- حادثةُ صَبيغٍ التَّميميِّ الذي ضرَبَه عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه، ومنَعَه من مُجالَسةِ الناسِ؛ خَشيةً عليهم من أفكارِه، وفي هذا مَنعٌ لحُريَّةِ الرأيِ، مع أنَّ القِصةَ مَشهورةٌ، وصحَّحَ إسنادَها جَمٌّ غَفيرٌ من أهلِ العِلمِ، منهمُ ابنُ كَثيرٍ في تفسيرِ أوَّلِ سورةِ الأنفالِ، وابنُ حجَرٍ في الإصابةِ (3/371).

2-  حادثةُ أبي موسى عندَما وفَدَ إلى عُمرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنهما ومعَه كاتبٌ نَصرانيٌّ، فأَعجَبَ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنهُ ما رَأى من حِفظِه، فقال له: قُلْ لِكَاتِبِكَ يَقرَأْ لنا كتابًا، قال: إنَّه نَصرانيٌّ لا يدخُلُ المسجِدَ، فانتهَرَهُ عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه وقال: (لا تُكرِموهم؛ إذ أهانَهمُ اللهُ، ولا تُدْنوهم؛ إذ أَقْصاهمُ اللهُ، ولا تَأْتمِنوهم؛ إذ خوَّنَهمُ اللهُ)، والقصةُ مشهورةٌ، صحَّحَ إسنادَها شيخُ الإسلامِ ابن تَيميةَ في ((اقتضاءِ الصراطِ المستقيمِ)) (1/184)، والألبانيُّ في ((إرواءِ الغَليلِ)) (8/255).

وهذه مُشكِلةٌ بالنسبةِ لهم، تتعارَضُ مع مبدإِ التسامُحِ مع الآخَرِ، وفي المقابِلِ حرَصَ المنتِجونَ للمسلسلِ على إبرازِ قصةِ القِبطيِّ مع ابنِ عَمرِو بنِ العاصِ، وهي مع شُهرتِها إلَّا أنَّها مُنكَرةٌ سَندًا ومَتنًا، وفيها أنَّ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنه طلَبَ منَ القِبطيِّ أنْ يَضرِبَ الصحابيَّ الجليلَ عَمرَو بنَ العاصِ رضِيَ اللهُ عنه لأمرٍ لم يَفعَلْه عَمرٌو، ولم يأمُرْ به، وأحضَرَه من مِصرَ، وكان واليَها آنذاك، وتَبعُدُ مَسيرةَ شَهرٍ عنِ المدينةِ، فيَترُكُ رَعيَّتَه في مِصرَ من أجْلِ أنْ يَقتَصَّ القِبطيُّ منه ومنِ ابنِه! كلُّ ذلك حتى يُظهِروا تعامُلَ الإسلامِ مع الآخَرِ، ليَختِموا القصةَ بالعبارةِ المشهورةِ: (متى استَعبَدْتمُ الناسَ وقد ولَدَتْهم أُمَّهاتُهم أحرارًا).

ومنَ القِصصِ المستَنكَرةِ التي احتَفَوْا بها أيَّما احتفاءٍ، وأوْلَوْها اهتمامًا خاصًّا في المسلسلِ: قصةُ تَوليةِ الشفاءِ بنتِ عبدِاللهِ العَدويَّةِ وِلايةَ الحِسبةِ على الرجالِ في الأسواقِ، وهي قصةٌ مشهورةٌ، لكنَّها لم تثبُتْ بسَندٍ صحيحٍ، وقد ضعَّفَها جمعٌ منَ العُلماءِ منهمُ ابنُ العربيِّ في ((أحكامِ القُرآنِ)) (3/1457)، حيث قال عنها: (وقد رُويَ أنَّ عُمرَ قدَّمَ امرأةً على حِسْبةِ السوقِ، ولم يصِحَّ، فلا تَلتَفِتوا إليه، فإنَّما هو من دسائسِ المبتَدِعةِ في الأحاديثِ).

 ومن حِرصِهم على إظهارِ العُنصرِ النِّسويِّ، وأثَرِه الفاعِلِ في المجتمَعِ، واختلاطِه بالرِّجالِ -كما هو دَيدَنُ دُعاةِ اللِّيبراليَّةِ-: إيرادُهم عَددًا منَ الرواياتِ التي حدَثَتْ مع عُمرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه، ومن ذلك:

1- طلَبُ عاتكةَ زوجتُه الخروجَ إلى الصلاةِ، ومُراجَعتُها لعُمرَ في ذلك، واستشهادُها بحديثِ: (لا تَمنَعوا إماءَ اللهِ مساجدَ اللهِ).

2- وقوفُه أمامَ الرِّجالِ والنِّساءِ مع خَولةَ بنتِ ثَعلبةَ، وهي تقولُ له: كُنتَ تُنادَى عُمَيرًا، ثم عُمَرَ، ثم يُقالُ لك الآنَ: أميرُ المؤمنينَ.

3- قولُ عُمَرَ في قِصَّةِ رَفعِ المهورِ: (امرأةٌ أصابَتْ ورَجلٌ أخطأَ)! مع أنَّ سَندَ هذه القِصَّةِ فيه انقطاعٌ، كما ذكَرَ ذلك ابنُ كَثيرٍ في تفسيرِ الآيةِ العِشرينَ من سورةِ النساءِ، وابنُ حجَرٍ في ((فتحِ الباري)) (9/111).

 

وخُلاصةُ ذلك كلِّه: أنَّ عوامَّ الناسِ عندَما يرَوْنَ كلَّ ذلك، وينطَبِعُ في أذهانِهم، ويُصوَّرُ لهم حالُ الصحابةِ والصحابيَّاتِ بهذا الحالِ، تترسَّخُ في أذهانِهم، وتنطَبِعُ هذه الصورةُ، ثم إذا رأَوْا مَن يَدْعوهم إلى خِلافِها اتَّهَموه بالتشدُّدِ، والإتيانِ بفَهمٍ جديدٍ للدِّينِ، غيرِ الذي كان عليه الصحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم، وفي هذا تشويهٌ ومَسخٌ لمَا أُمِرْنا أنْ نكونَ عليه، وقد مارَسَ هذا التشويهَ في العقودِ المنصَرِمةِ مُمثِّلو الكوميديا والفُكاهةِ بمسلسلاتِ الطَّيْشِ في السنواتِ الأخيرةِ، وذلك بالاستهزاءِ بالتديُّنِ والمتديِّنينَ، ويَبْدو أنَّنا مُقبِلونَ على تشويهٍ من نوعٍ آخَرَ، وهو المسلسلاتُ التاريخيَّةُ الدراميَّةُ الجادَّةُ، وقد يكونُ خطرُ هذه أعظَمَ، خاصَّةً إنْ كان فيها تشويهٌ للتاريخِ الإسلاميِّ؛ لأنَّ الأُولى فيها تحريكٌ للمشاعِرِ، ما يلبَثُ أنْ يَزولَ، مع مُبالَغةٍ في السُّخريَةِ، يُدرِكُها الغبيُّ قبلَ الفَطِنِ، أمَّا الأُخرى فهي ثقافةٌ تُبَثُّ في المجتمَعِ، ومفاهيمُ تُزرَعُ في أذهانِ الناشئةِ، يستغرِقُ تصحيحُها أزمانًا  كثيرةً ، مع ما في بعضِها من جوانبَ إيجابيَّةٍ لا تُنكَرُ.

وهُنا نُكتةٌ أُحبُّ أنْ نقِفَ جميعًا مُنتبِهينَ إليها، وهي أنَّ صحابةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ همُ الذين نَقَلوا لنا هذا الدِّينَ، وأنَّ أفعالَهم وأقوالَهم مُعتَبَرةٌ في التشريعِ، ناهيكَ عنِ الخُلفاءِ الراشِدينَ، الذين قال عنهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (عليكم بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفاءِ الراشِدينَ المهديِّينَ من بَعْدي، عَضُّوا عليها بالنواجِذِ)، فعندَما يَرى المسلِمُ العاميُّ -كما في المسلسلِ- أبا بَكرٍ أو عُمرَ أو غَيرَهما يَطوفونَ، ويَدْعونَ، ويُصلُّونَ بطريقةٍ وهَيئةٍ مُعيَّنةٍ تترسَّخُ في ذِهنِه هذه الطريقةُ، ولا يَبعُدُ أنْ يُقلِّدَها ويتأَسَّى بها، وقد أحصَيْتُ عَشَراتِ الأخطاءِ من هذا القَبيلِ، لا أُريدُ أنْ أُطيلَ بها المقالَ.
 

أخيرًا..

ما حُكمُ مُشاهدةِ مِثلِ هذه المسلسلاتِ للمُتعةِ والفائدةِ؟

وقبلَ الإجابةِ عن هذا السؤالِ يَنبَغي أنْ نُفرِّقَ بينَ القولِ بجَوازِ تمثيلِ الصحابةِ وتجسيدِهم، والقولِ بجَوازِ إنتاجِ مُسلسلِ عُمرَ ومُشاهدتِه، وكذلك التفريقُ بينَ مُراجعةِ النصِّ التاريخيِّ، وإنتاجِ المسلسلِ نفْسِه.

أمَّا القولُ بجوازِ تمثيلِ الصحابيِّ، فنَعمْ، قال به بعضُ المعاصِرينَ، وسبَقَ الحديثُ عنه، لكنِّي لا أعرِفُ ولا أظُنُّ أنَّ أحدًا من أهلِ العِلمِ يقولُ بجَوازِ إنتاجِ مثلِ هذا المسلسلِ بما فيه منَ المنكَراتِ التي ذَكرْتُها آنِفًا، فلا بُدَّ منَ التفريقِ بينَ الأمرَيْنِ؛ فهُناك فَرقٌ بينَ التنظيرِ والتطبيقِ، والقومُ عَهِدْنا منهم أخْذَ الفَتاوى واستثمارَها والاستفادةَ منها حسبَ أهوائِهم، وكذلك مراجعةُ النصِّ التاريخيِّ، لا تَعْني إجازةَ إنتاجِه بهذا الشكلِ.

وبعدَ هذه المقدِّمةِ، يتَّضِحُ الجوابُ: وهو أنَّه لا تجوزُ مُشاهَدةُ المسلسلاتِ التي تَظهَرُ فيها النِّساءُ مُتبرِّجاتٍ، وتَصحَبُها الموسيقا، فَضلًا عن أنْ يُتلفَّظَ فيها بالكُفرِ، ويُجسَّدُ فيها الصحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم، سواءً كان للمُتعةِ -فلا يُستَمتَعُ بمُحرَّمٍ- أو لفائدةٍ تاريخيَّةٍ أو فِكريَّةٍ؛ لأنَّ القائمينَ على هذه المسلسلاتِ لا يُستَأْمَنونَ على دِينٍ.

وقد يقولُ قائلٌ: وأين الذين يُستَأْمَنونَ؟ أين العُلماءُ وطُلابُ العِلمِ والدُّعاةُ؟ أين الأخيارُ من أصحابِ الأموالِ؟ لماذا لا يُنتِجونَ مِثلَ هذه المسلسلاتِ؟ والجوابُ على ذلك من ثلاثِ نِقاطٍ:

 

الأُولى: أنَّه لا يَلزَمُ كلَّما جاءَنا الغَربُ بوَسيلةٍ تَعليميَّةٍ، أو تَرفيهيَّةٍ أنْ نأخُذَ بها؛ فلكلِّ أُمَّةٍ دِينُها وثقافتُها، كما أنَّه لا بُدَّ منَ التحرُّرِ من عُقدةِ إيجادِ البَديلِ.

الثانيةُ: أنَّ الإشكالَ والمانعَ الأساسَ قائمٌ، وهو حُرمةُ تمثيلِ الصحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم وتجسيدِهم؛ لِمَا في ذلك من آثارٍ سلبيَّةٍ مَهْما كانتْ جَودةُ التمثيلِ، وصحَّةُ الرواياتِ والأحداثِ التاريخيَّةِ.

الثالثةُ: أنَّ هذه المسلسلاتِ بحُكمِ أنَّها وافدةٌ منَ الغَربِ جاءَتْنا مُترابِطةً ومُتشابِكةً مع جُملةٍ منَ المحرَّماتِ يصعُبُ الانفكاكُ عنها، كالعنصرِ النِّسويِّ، وتمثيلِ دَورِ الكافرِ، وما شابهَ ذلك، ولسنا مُطالَبينَ بأسْلَمةِ كلِّ وافدٍ، وخيرٌ للمسلِمينَ أنْ يَتميَّزوا بثقافاتِهم، ويُبْدِعوا فيها من أنْ يظَلُّوا تابعينَ لغيرِهم ومُقلِّدينَ لهم.

ولعلَّ اللهَ يُقيِّضُ جِهةً أو جِهاتٍ موثوقًا في دِينِها ومَنهجِها، مُتميِّزةً بعقيدتِها، تستطيعُ أنْ تُبدِعَ في إنتاجِ مسلسلاتٍ تاريخيَّةٍ هادفةٍ من غيرِ مُنكَراتٍ شرعيَّةٍ، ولا تمثيلِ ما لا يجوزُ تمثيلُه وتجسيدُه مقابلَ مسلسلاتِ الفُجورِ، والضلالِ، والتضليلِ.

 

هذا.. وأسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يُريَنا الحقَّ حقًّا، ويرزُقَنا اتِّباعَه، ويُريَنا الباطلَ باطلًا، ويرزقَنا اجتنابَه.

 

وآخِرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ،،