مقالات وبحوث مميزة

 

 

الأعيادُ المُحْدَثةُ

الشيخ الدكتور لطف الله خوجة

 

في هذا المبحَثِ، ليس القَصدُ بالذَّاتِ تصديرَ حُكمٍ، إنَّما بيانُ كيف بُني الحُكمُ، أي: هو بالأصالةِ جوابُ سُؤالٍ ابتدأ بـ"لماذا"؟، وبالتَّبَعِ جوابُ سؤالٍ ابتدأ بـ"ماذا"؟

لدينا قواعِدُ قعَّدَتْها الشَّريعةُ، تجري الأحكامُ وَفْقَها، تحليلًا وتحريمًا، فمن ذلك:

1- العباداتُ توقيفيَّةٌ، فلا تَعبُدْ إلَّا بما أذِنَ به الشَّارعُ.

2- ما لم يكُنْ في عهدِ النبُوَّةِ مِن متعَلِّقاتِ الدِّينِ، مع توفُّرِ الدَّاعي، وعَدَمِ المانِعِ؛ فهو محظورٌ.

3- مُضاهاةُ المشروعِ نوعٌ مِن التشريعِ، والتشريعُ للهِ وَحدَه.

4- (من تشَبَّه بقومٍ فهو منهم)، وعليه فالتشَبُّهُ بالكافرين ممنوعٌ، حتى لا يكونَ منهم.

5- ما يُفضي إلى محَرَّمٍ فهو محَرَّمٌ، فالعَمَلُ المباحُ إذا تضَمَّن فسادًا حُرِّم.

فكُلُّ عَمَلٍ كان -دينيًّا أو دنيويًّا- وُجِدَت فيه إحدى هذه العِلَلُ المانعةُ، أو أكثَرُ، فهو محظورٌ شَرعًا. وكلُّ هذه دلَّت عليها الأدِلَّةُ الكثيرةُ المعروفة، والتي يعرِفُها المشتغلون بالنُّصوصِ.

والملاحَظُ فيها أنَّها جمعت بين العِلَلِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ، أي: منها ما هو دينيُّ الصِّبغةِ، ومنها ما هو دُنيويُّ الصِّبغةِ، ومنها ما يجمَعُ بينهما.

فالتعَبُّدُ بما لم يَرِدْ، وفِعْلُ ما لم يُفعَلْ في عهدِ النبُوَّةِ: هذه دينيَّةٌ. والفسادُ في الأرضِ هو دنيويٌّ، وأمَّا المضاهاةُ والتشَبُّهُ فإنَّها تكونُ تارةً في الدِّينِ، وتارةً في الدُّنيا.

كلُّ عيدٍ مُحدَثٍ فيه نصيبٌ مِن هذه العِلَلِ؛ بعضِها أو كُلِّها، فهو لا شَكَّ محظورٌ ممنوعٌ شَرعًا. لكِنْ قبل أن نستطرِدَ في هذا البيانِ للحُكمِ، من المفيدِ تشخيصُ حالةِ الأعيادِ المشروعةِ في الإسلامِ بالوَصفِ والنَّعتِ؛ لنعرِفَ منه ما يُشبِهُها، فيكونَ مضاهيًا لها، فالأعيادُ اثنان هما: الفِطرُ، والأضحى. وثمَّةَ عيدٌ ثالِثٌ في معناهما من بعضِ الوُجوهِ: الجُمُعةُ. ووَصْفُنا سيكونُ للعيدينِ بالخُصوصِ؛ لأنَّ الكلامَ يدورُ عليهما، وعلى ما يضاهيهما، فالعيدانِ يَضُمُّ كُلُّ واحدٍ منهما ما يلي من الأحكامِ:

1- الصَّلاةُ: وهي سُنَّةٌ مُؤَكَّدةٌ فيهما على الأعيانِ، فَرضُ كفايةٍ على الأمَّةِ.

2- الصَّدَقةُ: وهي واجِبةٌ في الفِطرِ (زكاة الفطر)، وسُنَّةٌ في الأضحى، الصَّدَقةُ مِن الأُضحِيةِ.

3- الذَّبحُ: سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ في الأضحى.

4- الفِطرُ وعَدَمُ الصَّومِ: واجِبٌ فيهما.

5- التجَمُّلُ والتطَهُّرُ، ولُبسُ الجديدِ فيهما.

6- اللَّعِبُ واللَّهوُ المباحُ.

7- الاجتماعُ على كلِّ ذلك، أي: أنَّ كُلَّ المظاهِرِ السَّابقةِ عامَّةٌ في الجميعِ، إلَّا من كان له عُذرٌ.

8- المعاوَدةُ كُلَّ أُسبوعٍ، أو شَهرٍ، أو عامٍ.

9- ينتجُ مِن كُلِّ ما سبق: أنَّ تلك المظاهِرَ تدُلُّ على مشروعيَّةِ تعظيمِ هذين اليومين بهذه الأفعالِ.

والجُمُعةُ فيها: الصَّلاةُ واجِبةٌ، والتنظُّفُ والتجَمُّلُ سُنَّةٌ، وليس فيها ذبحٌ ولا صَدَقةٌ مأمورٌ بها، وفيها المنعُ مِن الصَّومِ، إلَّا ما كان لسَبَبٍ، وليس فيها اللَّهوُ واللَّعِبُ.

فهناك شعائِرُ واجبةٌ (.. الاجتِماعُ للصَّلاةِ، وصَدَقةُ الفِطرِ، والفِطرُ، وتعظيمُ اليومِ)، ومسنونةٌ (.. الصَّدَقةُ باللَّحمِ وغَيرِه، والتنظُّفُ والتجَمُّلُ)، ومباحاتٌ (.. اللَّعِبُ واللَّهوُ).

قال ابنُ تيميَّةَ في اقتضاء الصراط (1/442): "العيدُ يجمَعُ أمورًا:

- منها: يومٌ عائِدٌ، كيومِ الفِطرِ، ويومِ الجُمُعةِ.

- ومنها: اجتِماعٌ فيه.

- ومنها: أعمالٌ تَتْبَعُ ذلك من العباداتِ والعاداتِ، وقد يختَصُّ العيدُ بمكانٍ بعَينِه، وقد يكونُ مُطلَقًا. وكُلٌّ من هذه الأمورِ قد يُسَمَّى عيدًا".

فإذا عرَفْنا هذه المظاهِرَ فإنَّ الذي يترتَّبُ على ذلك:

أنَّ أيَّ عيدٍ مُحدَثٍ يتضَمَّنُ هذه الشَّعائِرَ كُلَّها، فهو يضاهي أعيادَ الإسلامِ، فيَلحَقُه المنعُ بوَصْفِه مضاهاةً لِما شرع اللهُ تعالى، وفِعلًا لِما لم يَرِدْ به إذنٌ، ولم يُفعَلْ في عهدِ النبُوَّةِ؛ لِقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (من أحدثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ).

فإن تضَمَّن بَعْضَها، فقد يتضَمَّنُ الشَّعائِرَ الواجِبةَ أو المسنونةَ، فوجودُ هذه فيه يحظُرُه ويمنَعُ منه كذلك؛ لأنَّه وافقها في الأصولِ، وكفى بذلك مضاهاةً، فيَلحَقُ النَّوعَ الآنِفَ حُكمًا، لكِنْ إن تجاوز ذلك كُلَّه، فلا مضاهاةَ تامَّةً، ولا في الأصولِ، لكِنْ في اللَّهوِ واللَّعِبِ والطَّعامِ والاجتماعِ، أي: في المباحات، فما هذا؟

هنا خرج عن المضاهاةِ في الدِّينِ، وبذلك خرج من بابِ العباداتِ ليَلِجَ إلى العاداتِ، فهل يَلحَقُه حُكمٌ بالمنعِ، هل ثمَّةَ ما يمنَعُ من عيدٍ يحدِثُه النَّاسُ، ليس فيه إلَّا اللَّهوُ واللَّعِبُ والاجتِماعُ؟

في العِلَلِ الآنفةِ الذِّكرِ نجِدُ أنَّ مِمَّا هو عِلَّةٌ للمنعِ: المضاهاةَ، والتشَبُّهَ. وهاتان عِلَّتان تتعلَّقان بالأمورِ الدِّينيَّةِ، كما تتعلَّقُ بالدُّنيويَّةِ. وثمَّةَ عِلَّةٌ ثالثةٌ للمَنعِ: الفَسادُ المصاحِبُ لهذه الأعيادِ، إن وُجِدَ.

توفُّرُ هذه العِلَلِ أو بَعْضِها في أيِّ عيدٍ، يكفي في الحَظْرِ. فإذا العيدُ المحْدَثُ احتوى على اللَّعِبِ واللَّهوِ والاجتماعِ، فتخصيصُه بهذه الأعمالِ مِن التعظيمِ لذلك اليومِ، فيدخُلُ بهذه الأمورِ الدُّنيويَّةِ تحت عِلَّةِ المضاهاةِ لأعيادِ الإسلامِ؛ لأنَّ فيها كُلَّ ذلك. وإنشاءُ عيدٍ ثالثٍ أو رابعٍ.. إلخ فيها هذه المظاهِرُ: هو مزاحمةٌ لأعيادِ الإسلامِ، وهذا مضادٌّ لمقصَدِ الشارعِ؛ حيثُ أراد ألَّا يكونَ ثَمَّةَ عيدٌ يزاحِمُ أعيادَ الإسلامِ، كما روى أبو داودَ في سُنَنِه، في الصَّلاةِ، بابِ صلاة العيدين، عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه قال: قَدِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ، ولهم يومانِ يلعبون فيهما. فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنَّا نلعَبُ فيهما في الجاهليَّةِ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يومَ الأضحى، ويومَ الفِطْرِ)).

فقد كانوا فيهما يلعبون، أي: أنَّ فِعْلَهم يقَعُ في قِسمِ المباحاتِ، ولم يكونوا فيهما يتعبَّدون، ثمَّ إنَّه نهاهم عنهما، يدُلُّ عليه تَرْكُهم لهما بالكُلِّية، فلم يُؤثَرْ إعادتُهم الاحتفاءَ بهما، فقد فَهِموا المنعَ، ولولا ذلك لبَقِيَ عليهما بعضُهم؛ أولئك الذين يحبُّون اللَّهوَ واللَّعِبَ؛ إذ العاداتُ لا تتغَيَّرُ إلَّا بأمرٍ حاسمٍ.

ثمَّ إنَّ هذا معنى البدلِ؛ فهو يقتضي تَرْكَ المبدَلِ منه؛ إذ لا يُجمَعُ بين البَدَلِ والمبدَلِ منه، كما في قَولِه تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]، {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2]، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59]، وكما في حديثِ المقبورِ: (فيُقالُ له: انظُرْ إلى مَقعَدِك من النَّارِ، قد أبدلك اللهُ به خيرًا منه مقعدًا في الجَنَّةِ) متفق عليه. (انظر: اقتضاء الصراط المستقيم 1/433).

إنَّ مزاحمةَ أعيادِ الإسلامِ ينتُجُ عنها من التهاوُنِ بالعيدِ المشروعِ، واللَّامبالاةِ به، ما يعني تضييعَ وخُفوتَ شعائِرِ الدِّينِ، فالعيدانِ مِن الشَّعائرِ، وهذه طبيعةٌ في البشَرِ والأُمَمِ؛ الإكثارُ من الشَّيءِ وكثرتُه يُورِثُهم اللَّامبالاةَ به، وضَعْفَ الإقبالِ عليه، وهذا خطيرٌ! خُصوصًا وأنَّ العيدين يرتبطانِ برُكنَينِ مِن أركانِ الإسلامِ، هما: الصَّومُ، والحَجُّ. وتعظيمُهما من تعظيمِهما، ومِثلُ هذه الآثارِ قد لا تحصُلُ على المدى المنظورِ، لكِنْ مع فهمِ طبيعةِ النَّفسِ البشَريَّةِ، وتاريخِ الأُمَمِ والمجتَمَعاتِ، والبَحْثِ في أسبابِ التغَيُّراتِ: نُدرِكُ أنَّ النتيجةَ تلك (.. اللَّامُبالاة) حاصِلةٌ قَطْعًا.

هنا دليلٌ آخَرُ يمنَعُ من الاحتفالِ بالأعيادِ المُحْدَثةِ، لمجرَّدِ أنَّها ليست مشروعةً، أو لكونِها مُضاهيةً للمشروع، هو حديثُ بوانةَ، فقد روى أبو داودَ في سُنَنِه، في الأيمانِ والنُّذورِ، فيما يُؤمَرُ به من الوفاءِ بالنَّذرِ، عن ثابتِ بنِ الضَّحَّاكِ أنَّ رَجُلًا نذر أن يذبحَ إبِلًا ببَوانةَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (هل كان فيها وَثَنٌ من أوثانِ الجاهِليَّةِ يُعبَدُ؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيدٌ مِن أعيادِهم؟ قالوا: لا. قال: أَوْفِ بنَذْرِك؛ فإنَّه لا وفاءَ لنَذرٍ في معصيةِ اللهِ، ولا فيما لا يملِكُ ابنُ آدَمَ).

بحسَبِ مفهومِ هذا الأثَرِ وحدودِه، من دونِ حَصرٍ، فإنَّ:

- العيدَ قد يكونُ زمانيًّا أو مكانيًّا.

- وقد يكونُ قائمًا أو سابقًا.

- والاحتِفالُ به إمَّا باتخاذِه، أو بموافقةِ أهْلِه بتخصيصِ عَمَلٍ ما في ذلك العيدِ.

ففي الأثَرِ نهيٌ عن: التخصيصِ بالذَّبحِ (..عبادة).. مكانًا كان عيدًا.. في السَّابِقِ؛ لأنَّه تعظيمٌ لذلك المكانِ، وموافَقةٌ لأهلِه.

ومنه نستنتجُ: أنَّه إذا كان العيدُ زمانيًّا، فله الحُكمُ نَفْسُه؛ إذ لا فَرْقَ بينهما (..المكانيِّ والزَّمانيِّ) في المنعِ مِن الإحداثِ.. وإذا كان عيدًا قائمًا، فأولى بالمنعِ من السَّابقِ الغابِرِ.. وإذا مُنِعَ من الموافَقةِ، فاتخاذُه أَولى بالمنعِ، ثمَّ إنَّ هذا الحديثَ اختَصَّ بالمنعِ مِن الموافَقةِ في الأعيادِ بالعباداتِ (.. أن أذبَحَ إبلًا..)، والحديثُ السَّابقُ مَنَع من العاداتِ (.. يلعبون فيهما..) . وهكذا تكامَلَا.

فهذا الأثَرُ يمنَعُ من التشَبُّهِ بهم في الأعيادِ، وهذه العِلَّةُ الأخرى للمَنعِ من الأعيادِ، ولو خلت من المظاهِرِ التعَبُّديَّة (..الصَّلاةِ، الذَّبحِ، الصَّدَقةِ)، فعِلَّةُ التشَبُّهِ أيضًا مانعةٌ من إحداثِ عيدٍ جديدٍ؛ لأنَّ هذا العيدَ بالوَصْفِ السَّابقِ المقتَصِرِ على اللَّهوِ واللَّعِبِ والاجِتماعِ:

- إمَّا أن يكونَ إحداثًا خاصًّا بالمسلمين، لم يبتَدِعْه الكُفَّارُ؛ فيدخُلُ حينئذٍ في المضاهاةِ، فيُمنَعُ.

- أو يكونَ ابتدعه الكافِرون، فيكونَ الفاعِلُ له متشَبِّهًا بهم، فيُمنَعُ للعِلَّتين: المضاهاةِ، والتشَبُّهِ.

وهكذا نجِدُ: أنَّ العِلَّتين تتواردان على الأعيادِ المحدَثةِ بالمنعِ، تارةً إحداهما، وتارةً كلتاهما، فإذا صاحبَها الفَسادُ بالإسرافِ، والتبَرُّجِ والاختِلاطِ، ونحوِ ذلك، انضَمَّت إليهما عِلَّةٌ ثالثةٌ للمَنعِ.

فالعيدُ الذي يحدِثُه الكُفَّارُ، لا تجوزُ مُشابهتُهم فيه؛ للحديثِ المشهورِ: (من تشَبَّه بقومٍ فهو منهم)، والتشَبُّهُ في الأمورِ الدينيَّةِ منهيٌّ عنه قطعًا، هذا لا جِدالَ فيه، والعيدُ مِن جملةِ الأُمورِ الدِّينيَّةِ، ولو لم تتخَلَّلْها عباداتٌ مَحْضةٌ؛ فذاتُ الاجتماعِ ومظاهِر الفَرَحِ يُلحِقُها بالشَّعائِرِ؛ ولذلك مَنَع النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن موافَقَتِهم في أعيادِهم باللَّعِبِ والفَرَحِ، وقال: (قد أبدَلَكما اللهُ بخيرٍ منهما). قال ابنُ تيميَّةَ: "الأعيادُ من جملةِ الشَّرعِ والمناهِجِ والمناسِكِ التي قال تعالى عنها: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ}، كالقِبلةِ، والصَّلاةِ، والصِّيامِ؛ فلا فَرْقَ بين مشاركتِهم في العيدِ، وبين مشاركتِهم في سائرِ المناهِجِ؛ فإنَّ الموافَقةَ في جميعِ العيدِ مُوافَقةٌ في الكُفرِ. والموافقةُ في بعضِ فُروعِه موافَقةٌ في بعضِ شُعَبِ الكُفرِ. بل الأعيادُ مِن أخَصِّ ما تتمَيَّزُ به الشَّرائعُ". (اقتضاء الصراط المستقيم 1/470).

قال الشيخُ محمَّدُ بنُ إبراهيم في فتاواه 3/106: "الأعيادُ كُلُّها من بابِ العِبادةِ".

وهكذا نَصِلُ إلى معرفةِ أحكامِ هذه الأعيادِ المحدَثةِ: المولِدِ، والميلادِ، العيدِ الوطنيِّ.

فالمولِدُ مُحدَثٌ في الدِّينِ؛ كونُه مرتَبِطًا بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه مظاهِرُ تعبُّديَّةٌ كالذِّكرِ، ولم يَرِدْ فيه نَصٌّ، ولم يفعَلْه الصَّحابةُ، مع تمكُّنِهم وعَدَمِ المانِعِ، كما أنَّ فيه تشَبُّهًا بالنَّصارى؛ فهم الذين يحتَفِلون بعيدِ ميلادِ المسيحِ عليه السَّلامُ. هكذا تتواردُ على هذا العيدِ أكثَرُ مِن عِلَّةٍ للمَنعِ.

والاحتِفالُ بعيدِ الميلادِ الشَّخصيِّ فيه التشَبُّهُ، وإنْ خلا من المضاهاةِ بالاجتِماعِ.

والعيدُ الوَطنيُّ إن كان فيه اللَّعِبُ واللَّهوُ والاجتماعُ على ذلك، فيكونُ مَظهَرًا عامًّا للجَميعِ، تتعَطَّلُ الأمورُ كُلُّها لأجْلِ ذلك؛ فإنَّه بذلك يضاهي أعيادَ الإسلامِ من حيثُ هذه المظاهِرُ كُلُّها والتعظيمُ، فيدخُلُ في بابِ الحَظْرِ.

كما أنَّه يُحظَرُ لعِلَّةٍ أُخرى هي: التشَبُّهُ، فالأعيادُ الوطنيَّةُ تقليدٌ لم يَعرِفْه المسلمون.

لكِنْ إن كان مجَرَّدَ تذكيرٍ كلاميٍّ بالحالِ قَبلُ وبَعْدُ، وكيف كان قيامُ الوطَنِ خيرًا على النَّاسِ، فذلك لا يدخُلُ في بابِ المضاهاةِ، ولا تحت أيَّةِ عِلَّةٍ من العِلَلِ السَّابقةِ، بل هو كالتَّذكيرِ بالأمجادِ الإسلاميَّةِ. هذا وتنميةُ حُبِّ الوطَنِ وخِدمتُه، له طُرُقٌ كثيرةٌ بديلةٌ ليس فيها شيءٌ مِن المخالَفاتِ الشَّرعيَّةِ.

بَقِيَ التفريقُ بين هذه الأعيادِ المُحْدثةِ الممنوعةِ، وبين تخصيصِ يومٍ أو أيَّامٍ في العامِ لأعمالٍ يعُمُّ نَفْعُها، مِثلُ أُسبوعِ الشَّجَرةِ، أو بدءِ الدِّراسةِ، أو النَّظافةِ، أو المرورِ، ونحوِ ذلك، فهذه لا تدخُلُ تحت العِلَلِ المانعةِ عِبادةً، ولا تدخُلُ تحت التشَبُّهِ كذلك؛ لأنَّ التشَبُّهَ على نوعينِ: في العباداتِ، وهذا ممنوعٌ. وفي العاداتِ، وهو على قسمينِ:

- تشبُّهٌ بهم في خصائِصِهم الدُّنيويَّةِ، مِن دونِ أن يكونَ مِن ورائِه مصلحةٌ راجِحةٌ، فيُمنَعُ؛ لأنَّ مِن مقاصِدِ الشريعةِ مخالفةَ أصحابِ الجَحيمِ.

- تشَبُّهٌ بهم في الخصائصِ الدُّنيويَّةِ، لكِنْ تُجتنى من ورائِه مَصلحةٌ راجِحةٌ؛ فلا مانِعَ، ويدخُلُ في هذا البابِ كُلُّ وسائِلِ العَصرِ التِّقنيَّة وغيرها.

فإذا عَرَضْنا تلك الأعمالَ، فقد لا يكونُ فيها أيُّ تشَبُّهٍ، وليس فيها أيَّةُ مظاهِرَ (..مضاهاة) للعيدِ الشَّرعيِّ، فلا وَجْهَ للمنعِ منها إذَنْ؛ لأنَّ المقصودَ بها التَّنظيمُ، والاستِعانةُ على تحقيقِ مصالحَ راجِحةٍ، ليس فيها لهوٌ ولا لعِبٌ، ولا اجتِماعٌ على ذلك، فإنَّ الذي يَعْتني بها في العادةِ قِطاعاتٌ ومجموعاتٌ تختَصُّ بتلك الأعمالِ. فهي بالمختَصَرِ لا تُشبِهُ الأعيادَ في شيءٍ سِوى تَكرارِها كُلَّ عامٍ، وقد لا تتكَرَّرُ في الوقتِ نَفْسِه. وإن تكَرَّرَت فلأنَّ المصلحةَ لا تتحَقَّقُ إلَّا بذلك، كبدءِ الدِّراسةِ.

وقد وقَفْتُ على فتوى للشيخينِ: ابن باز، وعفيفي، في هذا المعنى، قالا فيها:

"أوَّلًا: العيدُ اسمٌ لِما يعودُ من الاجتماعِ على وَجهٍ مُعتادٍ، إمَّا بعَودِ السَّنَةِ، أو الشَّهرِ، أو الأُسبوعِ، أو نحوِ ذلك، فالعيدُ يجمَعُ أمورًا منها: يومٌ عائِدٌ، كيَومِ الفِطرِ ويومِ الجُمُعةِ. ومنها: الاجتِماعُ في ذلك اليومِ، ومنها: الأعمالُ التي يقام بها في ذلك اليومِ مِن عباداتٍ وعاداتٍ.

ثانيًا: ما كان من ذلك مقصودًا به التنَسُّكُ والتقَرُّبُ أو التعظيمُ كسْبًا للأجرِ، أو كان فيه تشبُّهٌ بأهلِ الجاهليَّةِ، أو نحوِهم من طوائفِ الكُفَّارِ: فهو بِدعةٌ مُحدَثةٌ ممنوعةٌ داخِلةٌ في عُمومِ قَولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (من أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ). رواه البخاري ومسلم.

مثال ذلك: الاحتفالُ بعيدِ المولِدِ، وعيدِ الأُمِّ، والعيدِ الوَطَنيِّ؛ لِما في الأوَّلِ من إحداثِ عبادةٍ لم يأذَنْ بها اللهُ، ولِما في ذلك التشَبُّهُ بالنَّصارى ونحوِهم من الكَفَرةِ، ولِما في الثاني والثالث من التشَبُّهِ بالكُفَّارِ. وما كان المقصودُ منه تنظيمَ الأعمالِ مثلًا، لمَصلحةِ الأُمَّةِ وضَبْطِ أمورِها، كأُسبوعِ المرورِ، وتنظيمِ مواعيدِ الدِّراسةِ، والاجتِماعِ بالموظَّفينَ للعَمَلِ، ونحو ذلك ممَّا لا يُفضي به إلى التقَرُّبِ والعبادةِ والتعظيمِ بالأصالة؛ فهو من البِدَع العاديَّةِ التي لا يشمَلُها قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (من أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ)، فلا حَرَجَ فيه، فيكونُ مشروعًا". فتاوى اللجنة 3/88 (9403).

والله أعلم.