قراءة ونقد

"الدين والسياسة تمييز لا فصل"
book
سعد الدين العثماني
عنوان الكتاب: الدين والسياسة تمييز لا فصل
الناشر: المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 2009م
عرض ونقد: القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية

كِتاب "الدِّين والسِّياسة تمييزٌ لا فصلٌ" هو واحدٌ مِن الكُتُب المهمَّة في الساحة الشرعيَّة السِّياسية المعاصِرة، التي حاوَل مِن خلالها مؤلِّفُها تقديمَ وِجهةِ نظرٍ شرعيةٍ أصوليةٍ لسؤالِ: ما العلاقة بين الدِّين والسياسة؟ ويمتاز الكِتاب بِلُغته السَّهلة والواضحة والمباشِرة؛ ممَّا يوسِّع مِن دائرة انتشاره وسهولة تناوُلِ أفكارِه.
 

والكِتاب عبارةٌ عن خَمسة مقالاتٍ سَبَقَ أن نُشِرتْ في الصِّحافة، وعلى شبكة الإنترنت، إضافةً إلى مقالة زائدةٍ قدَّمها المؤلِّف لقُرَّائه في خاتمة الكِتاب، ومؤلِّفُه هو الدكتور "سعد الدِّين العثماني"، الذي يحتلُّ عددًا من المَواقع السِّياسية في المَشْهد المغربي؛ فهو الأمينُ السابقُ لحزب العدالة والتَّنمية المغربيِّ سابقًا، ورئيسُ المجلسِ الوطنيِّ لحزب العدالة والتَّنميَة حاليًّا، ونائبُ رئيسِ مَجلسِ النُّوَّاب للولاية التشريعية كذلك، والدكتورُ متخصِّصٌ في الطب النَّفْسي، إضافةً إلى حصوله على عدد من الشَّهادات في مجال علوم الشَّريعة.
 

والكِتاب بأفكاره يُمثِّل مسألةً شديدةَ الحضورِ في خِطاب الدكتور العثماني؛ فقدْ حَصَلَ على درجة الماجستير في أصول الفقه ببحث (تصرُّفاتُ الرسول صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم بالإمامة وتطبيقاتها الأصولية)، وله بحثٌ منشورٌ بعنوان (تصرُّفات الرسول بالإمامة: الدلالات المنهجية والتشريعية)، إضافةً إلى عَدد مِن المحاضرات والندوات وبعض المشارَكات الفضائية التي تَصُبُّ جميعًا في هذه المسألة.

عَرْض الكِتاب:

الكِتاب -كما سبَق- عبارة عن سِتة مقالات، وهي على النحو التالي:
 

- المقالة الأولى: تصرُّفات الرسول بالإمامة، أو طبيعة الممارَسة السِّياسية في الإسلام:

وهي تَبحث في تصرُّفات النبي صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم السياسية في محاوَلة لتمييزها عن تصرُّفاته الدِّينية، قدَّم لها بجملة من التَّنْويهات الأوَّلية حَوْل واقِع الحركات الإسلاميَّة؛ ليَدْخل بعدها إلى بحثِ التصرُّفات النبوية وأنواعها، فقَسَّمها إلى:

- تصرُّفات تشريعيَّة.

- وتصرُّفات غير تشريعيَّة.

وجَعَل تحت كل قسمٍ تقاسيمَ وأنواعًا؛ ليبني عليها حُكْم تصرُّفات النبي صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم بمقتضى إمامته، والذي جَعَلَ له أربع سمات:

1- تصرُّفات تشريعية خاصَّة:

فهي تصرُّفات مرتَبِطة بتدبيرِ الواقعِ وسياسةِ المجتمعِ، وهي خاصَّة بزمانِها ومكانِها وظروفِها، فليس لها صِفةُ الشَّرْع المُلزِم إلى يوم القيامة.
 

2- تصرُّفات مرتَبِطة بالمصلحة العامَّة:

فتصرُّفاته صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم يُراد منها تحقيقُ المصالحِ العامَّة وتنميتُها وتكثيرُها.
 

3- تصرُّفات اجتهادية:

فهي تصرُّفات ناشئة عن اجتهاد النبيِّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم بوَصْفه إمامًا وقائدًا، لا باعتباره نبيًّا يَصْدُر عن الوحي.
 

4- تصرُّفات في أمور غير دينية:

وقد بيَّن المؤلف أنَّ الدِّين له إطْلاقان: إطلاقٌ عامٌّ يَشمل سائرَ تصرُّفات المكلَّف، وإطلاقٌ خاصٌّ في مُقابِل الدُّنيا، ومقصودُه بالدِّينيَّة في هذه السِّمَة إنَّما هو معنى الدِّينِ الخاصُّ؛ ليَجْعل من سِمات التصرُّف النَّبويِّ بوصف الإمامة أنَّها تعمَل في مجال الدُّنيا لتحقيق مَصالحها لا في مجال الدِّين.
 

بعد ذلك بَحَثَ المؤلِّفُ على نحوٍ مختَصَرٍ عددًا مِن المسائل، أهمُّها:

- الدولةُ في الإسلام دولةٌ مَدنيَّة.

- وثيقةُ المدينةِ: أولُ دُستور للمواطَنة في الإسلام.

- خُلاصاتٌ في قضايا الإصلاح السِّياسي.

- المَرجِعيَّة الإسلامية.

- تصوُّر حزب العدالة والتَّنمية في المغرِب.
 

المقالة الثَّانية: التَّصرُّفات النَّبوية الإرشاديَّة.. سِماتٌ ونماذجُ:

تَكلَّم فيها عن عطاءات العلماء في تمييز مقامات التصرُّف النَّبوي، ثم فصَّل الكلامَ على تصرُّفات النبيِّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم الإرشاديَّة، وهي كما عَبَّر عنها: (التي تُرشِد إلى الأفضلِ مِن منافِع الدُّنيا خاصَّة)، وضَرَبَ لهذا النوعِ جملةً مِن الأمثلة على نحوٍ مفصَّل، وبَحَثَ المسألةَ مِن كلام الأصوليِّين، وحَدَّد لهذه التصرُّفات أربعَ سِماتٍ، وهي:
 

1- أنَّها مطلوبةٌ لمصالح الدُّنيا لا لمصالح الآخِرة.

2- أنَّه لا قُربةَ فيها ولا ثوابَ مِن جهة الأصل، إلا أن تكون على وجه الاتِّباع.

3- أنَّه لا حرَج في عدم الامتِثال لها.

4- أنَّها لا تُسمَّى سُنَّةً بالمعنى الذي استعمَله الصَّحابةُ والعلماءُ في القرون الخمسةِ الأولى.
 

المقالة الثالثة: الدِّين والسِّياسة.. تمييزٌ لا فصل:

وهي المقالة التي اكتَسَب الكِتابُ عنوانَه مِن عنوانِها، وهي المحاوَلة التي قدَّمها المؤلِّف لبَحْثِ الصِّلة بين الدِّينيِّ والسِّياسي، ففَصَّلَ الكلامَ حَوْل معنى الدِّين وإطلاقاته في الكِتاب والسُّنة، وخَلَصَ إلى أنَّ له إطلاقَينِ:

- عامًّا، يَشمل مختَلِفَ أوجُهِ نشاط المسْلِم.

- خاصًّا، وهو التعبُّديُّ مِن الدِّين، مقابِلَ العادات، أو الدُّنيا.
 

ثم بَحَثَ مسألةَ التمييز بين الدِّين والدُّنيا في نصوص العلماء، وعَرَضَ لِنَماذجَ مِن التَّجرِبة التاريخيَّة الإسلاميَّة؛ ليَخْلُصَ بعد ذلك إلى تَمايُزِ الدِّين والسِّياسة كجوابٍ على سؤالِ صِلة الدِّين بالسِّياسة، فلا هو متَّصلٌ به بإطلاق، ولا هو منفصلٌ عنه، بل هو مُتمايِزٌ عنه، وهذه المقالةُ تَشترك مع المقالتَيْن السابقتَيْن في عددٍ مِن النِّقاط.
 

- المقالة الرابعة: حِزب العدالة والتَّنمية تفاعُلٌ خطابيٌّ.. الهُويَّة والتدبير:

ويُحاوِل أنْ يُبيِّن علاقةَ الحزب بالمرجِعيَّة الإسلامية، فابتدَأ الكلام عن جذور تَجرِبة الحزب، وبيَّن طبيعةَ عمَلِه، وأنه ليس حرَكةً دينيَّةً ولا دَعَويَّةً، بل هو حزبٌ سياسيٌّ مَدَنيٌّ، ذو مرجعيَّة إسلاميَّة، ثم فَصَّلَ الكلامَ عن معنى هذه المرجعية وتطبيقاتها في الواقع على:

- مستوى البَرْنامَج السِّياسي.

- مُستوى الخِطاب.

- مستوى الشِّعارات المرفوعة.

- العُضويَّة والشُّروط.

- بَرامج التَّكوين.

- العَلاقة مع المواطنين والنَّاخِبين.
 

المقالة الخامسة: حزب العدالة والتَّنمية بين الهُويَّة والمَرْجعيَّة:

وهي مقالةٌ مختَصَرةٌ لتقديم جُملةٍ مِن الإجابات عن بعضِ الإشكالات التي خلَّفها المقالُ السابق، وتَدور تلك الإشكالاتُ - كما بيَّن المؤلِّفُ - على أمرَيْن:
 

- أنَّ الطَّرْح تَشبَّث بثُنائيَّةٍ مزعومة بيْن الهُويَّة والتَّدبير.

- أنَّ الحزب مِن دون الدِّفاع عن قضايا الهُويَّة يُناقِض مُنطلَقاته، وهذا سيُفقده الكثيرَ.

ويَدور جوابُ المؤلِّف حولَ ضرورة التمييز بين الهُويَّة والمرجعية.
 

المقالة السادسة: تمييز الدِّيني والسِّياسي عند الأستاذ محمد عبده:

وهي مقالةٌ تُنزِل فكرةَ مقالة "الدِّين والسِّياسة.. تمييز لا فَصْل" على مَشروع محمد عبده الفكريِّ السِّياسي، ابتدأَه بالتعريف بمحمَّد عبده وسِياقِه الزَّمني، ثم فَصَّل الكلامَ على مفرَدات الفِكر السياسيِّ لدى محمَّد عبده، مُبرِزًا فكرةَ التَّمييز بين مَقام الدِّين والسِّياسة من خلال فِكرِه في جُملةٍ من المفرَدات والتَّطبيقات، أهمُّها:
 

- نَفْي وجود السُّلطة الدِّينيَّة في الإسلام.

- الحاكِم في الإسلام حاكمٌ مدنيٌّ.

- الوظائف الدِّينيَّة ليست سُلطاتٍ تُمارَس على النَّاس.

- التَّمييز بين الرَّابطة الدِّينية والعقَديَّة والرابِطة السِّياسية.

- عدَم وجود شَكْلٍ محدَّد لممارَسة الحُكْم في الإسلام.

- رَفْض استبدادِ الحكَّام، وطَلَبُ تقييدِ تَصرُّفاتهم بالقانون.

 

النقد:

الكِتاب وأفكارُه جديرةٌ بمُناقَشةٍ مفصَّلة، خُصوصًا وأنَّ كثيرًا منها يُراد أن يَكون مَوضِعَ التفعيلِ في السَّاحة السِّياسية مع التغيُّرات التي هَبَّت على الوطن العربيِّ بثَوراته الأخيرة.

وهذه بعضُ الملاحَظات المختَصَرة على شيءٍ ممَّا اشتَمَل عليه الكِتابُ:
 

العَلمانيَّة بمفاهيمَ أصوليَّة:

أخطرُ ما في الكِتاب أنه يُجَسِّر الهُوَّةَ بيْن الإسلام والعلمانيَّة، ويَفْتحُ البابَ لِقارِع العلمانيَّة للوُلُوج في الحياةِ السِّياسية بوَجْه شرعيٍّ، ويُقدِّم الغِطاءَ الشَّرعيَّ الأصوليَّ اللَّازِمَ للخطاب العَلمانيِّ؛ ففي علاقة الدِّين بالسِّياسة مُستوَيان من الشريعة المُلزِمة:

- القِيَم العامَّة؛ مثل: العدل، الصِّدق، الوفاء... إلخ.

- والأحكام الجزئيَّة التفصيليَّة؛ مثل: إقامة الصَّلاة، تحريم الرِّبا، إقامة الحدود... إلخ.
 

فعلى مستوى القِيَم الإسلامية العامَّة لا توجَد مُشْكلةٌ حقيقيَّةٌ لدى أكثر العلمانيِّين معها، بل هُم يُؤكِّدون دومًا على عَظَمة الجَوْهر الأخلاقيِّ في الإسلام، وإنما أَزْمةُ العَلمانيَّة مع الإسلام غالبًا ما تَكون على مستوى إلزاميَّةِ الأحْكام الجزئيَّة على المستوى التشريعي والقانوني، فهل هذه التشريعاتُ مُلزِمة للسِّياسي؟ أم هي أحْكامٌ تاريخية مربوطةٌ بظُروفها المكانيَّة والزمانيَّة؟ أم هي مُرتَهِنة بالمَصْلحة تَتحرَّك وَفْقها بحسَب ما يراه السِّياسي؟ فالعَلمانيُّون يَدْعون إلى رفع الإلزامية التشريعيَّة القانونية للأحكام القرآنيَّة والنَّبَوية، وهو حقيقةُ مفهومِ (فَصْل الدِّين عن الدولة)، بخِلاف الإسلاميِّين الذين يَرَون وُجوبَ هيمنَةِ الأحكامِ الشرعيَّة على النِّظام السياسي، وأنَّ هذه الأحكامَ لها صِفةُ الإلزاميَّة التي يَجِب على الدَّولة رِعايتُها، والإلزامُ بها في الواقع. فما وَرَد به النصُّ مِن شأن السِّياسة فهو في دائرةِ المُلزِم شرعًا، وما لم يَرِدْ به النصُّ فهو مجالُ اجتهادِ السياسيِّ المَرهونِ بالمصلحةِ المعتبَرة، فالتصرُّف على الرعيَّة مَنوطٌ بالمصلحة.
 

هذا التمهيد ضروري جدًّا لمعرِفة موقع الدكتور سعد الدِّين العثماني من هذه القضايا:

- فأمَّا على مستوى القِيَم الدِّينية العامَّة، فالدكتور يُصرِّح بأنَّ (الدِّين حاضِرٌ في السِّياسة كمبادِئَ موجَّهةٍ، وروحٍ دافِقةٍ دافِعةٍ، وقوَّةٍ للأمَّةِ جامعةٍ، لكنَّ الممارَسة السِّياسية مستقِلَّة عن أيِّ سُلطة بِاسم الدِّين أو سلطة دينية) (ص: 32)، وكرَّر العبارة نفسَها (ص: 113).
 

- وأمَّا على مستوى الأحكام الشَّرعيَّة التفصيليَّة المتعلِّقةِ بالمجال السِّياسي، فهي عند الدكتور خارِجَ دائرة الإلزام؛ فهو يَقول (ص: 40): (ومِن جِهَةٍ أَولى لا يُمكِن بأيِّ حال من الأحوال فَرْضُ قانون على المجتمع. وإذا كان الإسلامُ يقرِّر أنْ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، والذي يَعني أنَّ الإيمان نفْسَه لا يجوز إكراهُ أيِّ أَحدٍ عليه؛ فمِن بابِ أَولى أنْ يَنطبِق الأمرُ على ما دون الإيمان في شعائرِ الإيمان وشرائعِه.
 

ومِن جهةٍ ثانية، فإنَّ إيمان المؤمِن بوُجوب أمْرٍ دينيٍّ عليه لا يُعطيه الحقَّ بفَرْضه على الآخَرين، فهُو مكلَّف به دينًا، وذلك لا يَكفي لجَعْله قانونًا عامًّا في المجتمع، بل عليه أنْ يحاوِل إقناع الآخَرين به؛ حتى يتبنَّاه المجتمعُ بالطُّرُق الدِّيمقراطيَّة، فلا يُمْكن أن تُعطى سُلطة أو يُعطى حاكمٌ حقَّ فَرْض أحكامٍ على الناس بأيِّ مسمًّى كان).
 

ويقول (ص: 41) مُتحدِّثًا عن مُهمَّة الدولة: (ليس مِن مهمَّة الدولة أو أيِّ جِهة سياسية التدخُّلُ في شؤونِ اعتقادِ الناس، وفَرْضُ تصوُّراتٍ أو اجتهادات دينيَّة معيَّنة عليهم، بل مُهمَّتها تدبير الشأنِ العامِّ في إطار نِظام القِيَم العامَّة للمجتمَع)؛ فدائرة الفَرْض والإلزام متعلِّقة بدائرة القِيَم العامَّة دون التفاصيلِ التشريعيَّة، وإنَّما تدخُل هذه حيِّزَ الإلزامِ بالإرادة الشَّعبية، وَفْقَ آليَّات الدِّيمقراطية التي يَقَع عليها توافُقٌ اجتماعي.
 

هذا التصوُّر الذي طَرَحه الدكتور لعلاقة الدِّينيِّ بالسِّياسي يتَوافقُ بشكلٍ كبيرٍ مع كثيرٍ مِن الأُطْروحات العَلمانيَّة؛ الأمْرُ الذي لَفَت نظَر بعضَ الكُتاب، حتى وَصَفه أحدُهم بأنَّه يُقدِّم العلمانيةَ بمفاهيمَ أُصوليَّةٍ، ووَصَفه آخَرُ بأنَّه نِصفٌ إسلاميٌّ ونِصف عَلماني، بل الدُّكتور نفسُه واعٍ تمامًا لحالة التقارُب هذه مع الحالة العلمانيَّة، فيقول في أحد حواراته: (هُناك عَلمانيَّة أقْربُ ما تَكون إلى التَّصوُّر الإسلاميِّ)، بل قال في إحْدى مُناظَراته التِّلفزيونيَّة ما هو أَصْرحُ في بيان حالةِ التَّقارُب هذه: (أقول: إنَّ العلمانيَّة ليست شيئًا واحدًا، هناك علمانيةٌ مُتطرِّفةٌ ضدَّ الدِّين، تُريد إقصاءه فعلًا من الحياة؛ بحيث يُصْبح ممارَسةً مَعزولةً في كَنيسةٍ أو في مسجد، هذا نَموذج معيَّن مِن العلمانيَّة. وهناك العَلمانيَّة التي تَعني تَسْيير المَجالات الدُّنيويَّة؛ انطلاقًا من الموضوعيَّة والبراغماتيَّة، وهذا النَّوع له وُجودٌ معيَّن في الإسلام؛ فالرَّسول صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم جاء إلى المدينة، ووَجَد سُكَّانها يُلقِّحون النَّخل، فقال: (لو ترَكْتُموه لأثمَر)، فتَرَكوه فلم يُثْمِر، فلما جاءوه وحَكَوْا له الأمر، قال: (ما كان في أمر دينِكم فإليَّ، وما كان مِن أمرِ دُنياكم فشأنَكم)؛ فميَّز بيْن مجالَيْن، وهذا فِكْرٌ موجود في الإسلام، وبهذا النصِّ وبنصوصٍ أخرى على أساسِ أنَّ المجال الدُّنيويَّ - بِناءً على هذا التعريف - يجب أن يكون مبنيًّا على الاجتهاد البشَري، وعلى الفِكر اختيارُ أحسَنِ وأفضلِ الوسائلِ لتنظيمه واستثماره واستفادةِ الإنسان منه على أساسٍ مُعَقْلَنٍ؛ إذ كانت العلمانيَّة تَعني كلَّ هذا في إطار المرجعيَّة الإسلاميَّة العامَّة التي هي الإطارُ العامُّ المنظِّم، فهذا الإطار المرجعيُّ الإسلاميُّ العامُّ هو الذي يَجعل هذا المجتمعَ في نِظامه مُسْلمًا، هذا هو الإطار العامُّ وداخِلَه المجالاتُ الدنيويَّة بأقصى درجات الاجتهاد والعقلانيَّة، والابتكار والفِكر).
 

- تفريغ السُّنة النَّبويَّة من مَصدَريَّة الوحي في المجال السِّياسي:

ليس الإشكالُ في فِكرة تقسيم التصرُّفات النَّبوية، وبيانِ ما يَتعلَّق بهذه التصرُّفات مِن أحكام، وقد جرى الأصوليُّون فعلًا على التَّنبيه على صُوَرِ وأشكال التصرُّفات النَّبويَّة، وبيان ما كان منها واقعًا للتَّشريع، وما وَقَع منها بمقتضى العادة أو الجِبِلَّة أو الاجتهاد... إلخ، وبيان درجة كلٍّ مِن الاقتداءِ والالتزام.
 

لكنَّ المشْكلة اللَّافتةَ للنظرِ أنَّ هذه المسألةَ الأصوليَّة أَضْحَت مُنطلَقًا عند البعض لتفريغ السُّنة النَّبويَّة شيئًا فشيئًا مِن دائرة الإلزامِ الشَّرعي؛ ليَتَّسِعَ مع الزَّمَن مجالُ السُّنةِ غيرِ التَّشريعيَّة على حِساب التشريعيَّة، ولِيَغْدُوَ للنَّاظرِ بَعدَ مدَّةٍ وكأنَّ الأصلَ في سُنَّة النبيِّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم عدمُ التَّشريع، فمِن قائلٍ: إنَّ أقوالَ النبيِّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم في المجال الطِّبيِّ جميعًا خارجةٌ عن إطار الوحي، إلى إجراءِ الحُكم نفسِه على تصرُّفات النبيِّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم السِّياسيَّة، يقول الدكتور العثمانيُّ (ص: 28): (تصرُّفات الرَّسول بالإمامة ليست مُلزِمةً لأيِّ جهةٍ تشريعيَّة أو ذاتِ سُلطة، ولا يَجوز الجُمودُ عليها بحُجَّة أنها (سُنَّة)، وإنَّما يجب على كلِّ مَن تَولَّى مسؤوليَّةً سياسيَّةً أنْ يَتَّبِعَه صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم في المنهَجِ الَّذي هو بِناءُ التصرُّفات السِّياسية على ما يُحقِّق المصالحَ المشروعة)، ويقول (ص: 19): (ومِن ثَمَّ فهي ليست شرعًا عامًّا مُلزِمًا للأمَّة إلى يوم القيامة. وعلى الأئمَّةِ ووُلاة الأمور بعد الرَّسول صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم ألَّا يَجمُدوا عليها، وإنَّما عليهم أنْ يَتَّبِعوه صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم في المنهَج الذي بَنى عليه تصرُّفاته، وأن يُراعوا المصالح الباعثةَ عليها، والتي راعاها النبيُّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم زمانًا ومكانًا وحالًا، وهو الأمرُ الذي عبَّر عنه القرافيُّ بأنَّ هذا النَّوع مِن التصرُّف النَّبَويِّ (لا يَجوز لأحدٍ الإقدامُ عليه إلَّا بإذنٍ مِن إمام الوقتِ الحاضر؛ لأنَّه صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم إنَّما فَعَله بطريقِ الإمامة ولا استُبيح إلَّا بإذنه).
 

والمؤلِّف يَتَّكئُ في هذا التقرير على كلامٍ للإمام القرافيِّ في كِتابه «الفُروق والذَّخيرة والإحكام، في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرُّفات القاضي والإمام»، ويُظهِر احتِفاءً كبيرًا به، فيقول (ص: 52): (وهكذا يَكون القرافيُّ قد دَشَّن مرحلةً جديدةً في التَّعامُل مع التَّصرُّفات النبويَّة والتَّمييز بين أنواعها، وبَقي مَن بَعدَه عالةً عليه فيها مِن دونِ مُنازِع).
 

والحقُّ أنَّ القرافيَّ - عليه رحمةُ الله - ما أراد أبدًا تقريرَ ما ذهَب إليه العثمانيُّ مِن إخراج (التصرُّفات السياسيَّة) مِن دائرة الوحيِ والتَّشريع؛ وذلك لعِدَّة اعتبارات:
 

1- أنَّ القرافيَّ إنَّما يَتكلَّم في تمييز تصرُّفات النبيِّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم باعتبارِ مَقاماته؛ إمامًا، وقاضيًا، ومُفتيًا، وهكذا، وتصرُّفات النبيِّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم باعتبار إمامته أَضْيَقُ دائرةً مِن مُطلَقِ خِطابه في مجال السِّياسة؛ فإخراجُ الخِطاب النَّبويِّ السِّياسي مِن دائرةِ التَّشريع مُطلقًا اتِّكاءٌ على تمييزِ مقامِ الإمامة، وتحميلُ ذلك الإمامَ القرافيَّ خطأٌ بيِّنٌ.
 

2- أنَّ القرافيَّ لا يُخرِج تصرُّفات النبيِّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم بمقتضى إمامتِه مِن دائرة التَّشريع مُطلقًا، وإنَّما يَجعل أحكامَها مُختصَّة بالأئمَّة، فما كان منها واجبًا فهو واجبٌ عليهم، وما كان مباحًا فمُباحٌ، وهكذا.
 

3- أنَّ العثمانيَّ جَعَلَ مُستَنَدَ التصرُّف السِّياسي هو المصلحةَ الرَّاجحةَ أو الخالِصةَ فقط، وما مِن شكٍّ أنَّ مِن التصرُّف السِّياسيِّ ما يَكون كذلك، ولكن منه ما يَكون مأخَذُه النصَّ والخبرَ.
 

- حديث: «أنتم أعلَمُ بأمور دُنياكم»:

يَستدلُّ الدُّكتور في تقرير المعاني السَّابقةِ بحديثِ تأبيرِ النَّخل الشَّهيرِ، وهو واحدٌ مِن أكثر الأحاديثِ حُضورًا في الخِطاب العَلْماني، حتى قال الشَّيخُ أحمد شاكر -رحمه الله- في تعليقه على المسنَد (2/ 364، 365): (وهذا الحديثُ ممَّا طَنْطَنَ به مُلْحِدو مِصر، وصنائعُ أوربَّا فيها، مِن عَبيدِ المستشرِقين، وتَلامذةِ المبشِّرين، فجعَلوه أصلًا يُحاجُّون به أهلَ السُّنة).
 

وقصةُ تأبير النَّخل أَخْرَجها الإمامُ مسلِمٌ مِن حديثِ غيرِ واحدٍ من الصَّحابة، رضي الله عنهم:

1- مِن حديثِ طلحةَ بنِ عُبيد الله - رضي الله عنه - قال: مرَرتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم بقومٍ على رُؤوسِ النَّخْل، فقال: "ما يَصنَعُ هؤلاءِ؟" فقالوا: يُلقِّحونه؛ يَجعَلون الذَّكَر في الأُنثى فيَلْقَحُ، فقال رسولُ الله صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم: "ما أظُنُّ يُغني ذلك شيئًا"، قال: فأُخبِروا بذلك فترَكوه، فأُخبِر رسولُ الله صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم بذلك، فقال: "إن كان يَنفَعُهم ذلك فلْيَصنَعوه؛ فإنِّي إنَّما ظنَنتُ ظنًّا، فلا تُؤاخِذوني بالظَّنِّ؛ ولكنْ إذا حدَّثتُكم عن اللهِ شيئًا فخُذوا به؛ فإنِّي لن أكذِبَ على اللهِ عزَّ وجلَّ".
 

2- ومِن حديثِ رافِعِ بنِ خَدِيجٍ رضي اللهُ عنه قال: قَدِم نبيُّ اللهِ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم المدينةَ، وهم يَأبُرون النَّخلَ؛ يَقولون: يُلقِّحون النَّخلَ، فقال: "ما تَصنَعون؟" قالوا: كنَّا نَصنعه، قال: "لعلَّكم لو لم تَفعَلوا كان خيرًا"، فترَكوه فنفَضَت أو فنقَصَت، قال: فذكَروا ذلك له، فقال: "إنَّما أنا بشرٌ، إذا أمَرتُكم بشيءٍ من دينِكم فخُذوا به، وإذا أمَرتُكم بشيءٍ مِن رأيٍ فإنَّما أنا بشرٌ". قال عِكْرِمةُ: أو نحوَ هذا.
 

3- ومن حديث أنسٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم مرَّ بقومٍ يُلقِّحون، فقال: "لو لم تَفعَلوا لصَلُح". قال: فخرَج شِيصًا، فمَرَّ بهم، فقال: "ما لِنَخلِكم؟" قالوا: قُلتَ كذا وكذا، قال: "أنتُم أعلَمُ بأمرِ دُنياكم".

ومناقشةُ هذا الحديثِ تفصيلًا والردُّ على مَن يَجعَلُه أصلًا في إخراجِ الأقوال والأفعال النَّبويَّة المتَّصِلةِ بشأن الدُّنيا عن دائرة التَّشريعِ، ممَّا يَطولُ، لكنْ نَذْكُر ما يَلي مُختصرًا:
 

1- أنَّ مِثلَ هذا التوسُّعِ في ردِّ السُّنَّةِ مُخالِفٌ لهَدْيِ أهل العلمِ وفَهْمِهم لهذا الحديث؛ فقد بَوَّب الإمام النَّوويُّ عليه بقولِه: "بابُ وجوب امْتِثال ما قالَه شرعًا، دونَ ما ذكَره صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم مِن مَعايش الدُّنيا على سَبيل الرَّأي". وقال في شرحِه على مسلم (15/116): (قال العُلماء: قولُه صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم: "مِن رأي"، أيْ: في أمر الدُّنيا ومَعايِشها، لا على سَبيل التَّشريع، فأمَّا ما قاله باجتهادِه ورآه شرعًا يَجِب العملُ به، وليس إبارُ النَّخلِ مِن هذا النَّوع، بل مِن النَّوع المذكور قَبْله... قال العُلماء: ولم يَكُن هذا القولُ خبرًا، وإنَّما كان ظنًّا، كما بيَّنه في هذه الرِّوايات، قالوا: ورأيُه صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم في أمور المَعايِش وظنُّه كغَيرِه، فلا يَمتنِع وُقوعُ مثلِ هذا، ولا نَقْصَ في ذلك، وسببُه تَعلُّقُ هِمَمِهم بالآخِرة ومَعارفِها، والله أعلَم).
 

2- أنَّ الأمور التي يقال فيها: (أنتم أعلَمُ بأمرِ دُنياكم) هي تلك الأمورُ التي لم تَتناوَلْها الأدِلَّة الشرعيَّة تناوُلًا عامًّا أو تناوُلًا خاصًّا، والعبارةُ لها مناسَبة، وجاءت في شأنٍ خاصٍّ  تأبيرُ النَّخل - فما جرى مَجراه مِن شأنِ الدُّنيويَّات فهو إلى البَشَر؛ ككيفيَّة شقِّ الأنفاقِ وبناء المصانع ورَصْف الطُّرق... إلخ، فالأصل في هذه أنَّها داخِلةٌ في دائرة المُباحِ الشَّرعي ومَوْكولةٌ إلى أهل الخبرة في شؤونها، ولا يُفتَّش فيها عن الأدِلَّة الشرعيَّة الخاصَّة لمعرفة التَّفاصيل الفنيَّة المتعلِّقة بها.
 

3- أنَّ الأصْل في كلِّ ما تناولَتْه النُّصوصُ الشرعيَّة - ولو كان متعلِّقًا بأمر الدُّنيا أو المعاش أو السِّياسة أو غيرِه- أنْ يَكون على سَبيل التَّشريع، إلَّا أن يَدُلَّ الدَّليلُ أو القَرينةُ على خِلافِ ذلك، والأدِلَّةُ الشَّرعيةُ الدَّالَّةُ على هذا الأصلِ أكثرُ مِن أنْ تُذكَر؛ فمِنها: قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
 

وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56].

وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].

وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] .

وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] .

وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59].
 

وقال صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم: (فإذا نَهيتُكم عن شيءٍ فاجتَنِبوه، وإذا أمَرتُكم بأمرٍ فأْتُوا منه ما استطَعْتُم) رواه البخاري ومسلمٌ. وروى البخاريُّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله ? قال: (مَن أطاعَني فقد أطاعَ اللهَ، ومَن عَصاني فقد عَصى اللهَ).
 

ويتأيَّد هذا الأصلُ بالتصرُّفات العمَليَّةِ للصَّحابة حِيالَ التَّصرُّفاتِ النَّبويَّة؛ فقد تَركوا رضي الله عنهم تأبيرَ النَّخل، رُغْم خِبْرتِهم السَّابقةِ بأهمِّيَّة ذلك التَّلقيحِ، وإدراكِهم أنَّه أمرٌ مِن أمور الْمَعايِش الدُّنيَويَّة، وهذا يؤكِّد أنَّ الأصل عِندَهم أنَّ أقوالَ النبيِّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم إنَّما هي للتَّشريع ما لم تأتِ قرينةٌ بخِلاف ذلك، لا العَكْس، ويُؤكِّد هذا الأصلَ خبرُ نُزولِ النبيِّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم بِبَدر، ورغبةُ النبيِّ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم في مُصالَحة هَوازِنَ على ثِمارِ المدينةِ في الخندَق، وما جَرى مِن الصَّحابةِ في هذه الوقائعِ وغيرها.
 

4- مَن تَأمَّلَ في حديثِ تأبير النَّخل ظهَرَت له بجلاءٍ قَرائنُ في الحديثِ تُفيدُ خُروجَه عن دائرةِ التَّشريع، فلا يَصِحُّ أنْ يُجعَل أصلًا لعَزْلِ الجانب التَّشريعيِّ عن مجالات الحياة، فالرَّسولُ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم - كما هو بيِّنٌ في الحديث -لم يَأمُرْهم أمرًا مطلَقًا، أوْ لم يَنْهَهم نهيًا مطلقًا - أيْ: بعبارةٍ أخرى: لم يَكُن ما صَدَرَ منه على سَبيل التَّشريع - وألفاظُ الحديثِ ورِواياتُه المتعدِّدةُ تَدلُّ على ذلك، وإن كان مَن سَمِع هذا الموضوعَ مِن الصَّحابة رضي الله عنهم قد غلَّبوا جانبَ التَّشريع وَتوهَّموا ذلك. فقد جاء في ألفاظ الحديثِ ورواياته: (ما أظُنُّ يُغْني ذلك شيئًا)، وجاء: (لعَلَّكم لو لم تَفعَلوا كان خيرًا)؛ ممَّا يُبيِّن أنَّ الرَّسول صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم يتَحدَّث عن ظنٍّ أو خِبْرةٍ دُنيويَّةٍ لا علاقةَ لها بالتَّشريع؛ ولذلك لَمَّا غلَّب بعضُ الصَّحابة رضي الله عنهم جانِبَ التَّشريع في ذلك، بيَّن لهم الرَّسولُ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم أنَّه لم يُرِدْ ذلك، وأنَّ كلامه السَّابِقَ لا يَدلُّ عليه؛ ولذلك قال لهم مُعقِّبًا على تَصرُّفهم إزاءَ مَقالته السَّابقة: (فإنِّي إنَّما ظنَنتُ ظنًّا، فلا تُؤاخِذوني بالظَّنِّ)، وقال: (إذا أمَرتُكم بشيءٍ من رأيٍ فإنَّما أنا بشرٌ)، وقال: (أنتم أعلَمُ بأمر دُنياكم)؛ فالرِّوايات كلُّها في مُبتدئِها ومُنتهاها مُتضافِرةٌ على أنَّ ما ذَكَره الرَّسولُ صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم للصَّحابة كان مِن قَبيل الرَّأي المتعلِّق بأمور المَعاشِ القائمِ على الخبرة البشريَّة التي قد يُتاح منها لبعضِ الناس ما لا يُتاح لغيرهم، ولم يَكُن كلامًا على سبيل التَّشريع.
 

ومِن كلِّ ما تَقدَّم يَتبيَّنُ أنَّ قولَه صلَّى   اللهُ   عليه   وسلَّم: (أنتُم أعلَمُ بأمرِ دُنياكم) لا يتَعارضُ مع النُّصوص الشَّرعية التي جاءَت مُتعلِّقةً بأمور الدُّنيا؛ ومِن ثَمَّ فإنَّه لا يُمْكن أن يُستفاد مِن ذلك الحديثِ أنَّ جميع المسائل المتعلِّقةِ بالنِّظام السِّياسي هي مِن الأمور المتروكةِ للبشَر؛ وذلك لأنَّ النِّظام السياسيَّ جاءَت في شأنِه نصوصٌ شرعيةٌ مِن الكِتاب والسُّنة، عامَّةٌ وخاصَّة، تُبيِّن وتُفصِّل الأحكامَ المتعلِّقة به، فما جاءت به النُّصوص فواجبٌ الْتِزامُه، وما لم تأتِ به النُّصوصُ فالأصلُ إباحتُه، والأصلُ في الشأن السياسيِّ هو السَّعيُ لتوسيعِ دائرة المَصالحِ وتقليلِ المَفاسد بحسَبِ المُمْكِن.
 

5- هذا الحديثُ فيه جانبٌ مِن مَحاسنِ التشريعِ الإسلاميِّ، وإذا تُؤمِّلَ ففيه ردٌّ صريحٌ على مَزاعمِ العلمانيِّين؛ ففيه ردٌّ على ما يستدلُّون به عليه! وبيانُ ذلك: أنَّ في هذا الحديثِ إرشادًا إلى إصلاحِ أُمور الدُّنيا والتطوُّرِ فيها, بالخِبرةِ والتجريبِ، ما لم تُتعَدَّ حدودُ الشرعِ المُطهَّر؛ فهذ الحثُّ على الاجتهادِ في إصلاحِ الأُمورِ الدُّنيويَّةِ وتَطويرِها بما يُناسِبُ وينفعُ فيه ردٌّ على العلمانيِّين الذي يَتصوَّرون أنَّ الدِّينَ يَقتصِرُ فقط على الأمورِ التَّعبديَّةِ بين العبدِ وربِّه، وفيه ردٌّ على الزَّعمِ بأنَّ الدِّين سببُ التأخُّر؛ بل الدِّينُ الحقُّ فيه صلاحُ الدُّينا والآخِرة معًا، وهو أساسُ كلِّ تقدُّمٍ وحضارةٍ وازدهار، إذا طُبِّق كما أرادَه اللهُ تعالى وكما بَلَّغه رسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

- المصطلَحات المُلْبِسة:

جاء في الكِتاب تقريرُ جملةٍ مِن الأحكام بجُملةٍ من المصطلَحات، وبعضُ هذه المصطلحات إمَّا أن يكون مُجْمَلًا أو وافِدًا يَحْمِل في طِيَّاته حَمولةً فِكريَّة للبيئة التي وُلِدت فيها؛ ومِن ثَمَّ فجَعْلُها موضِعَ قَبولٍ بإطلاقٍ فيه قَدْرٌ كبيرٌ مِن الإشكال، فمِن الأمثلة التي جاءت في الكِتاب (الدولة المدنيَّة، القانون المدَني، الدِّيمقراطية، المواطَنة)؛ فهذه جميعًا جاءت في الكِتاب كصِيَغٍ مقبولةٍ في النِّظام السِّياسي الإسلامي، ولا يَخفى أنَّ هناك كتاباتٍ متعدِّدةً في مُناقَشة هذه المفرَدات وبيانِ ما يَحتَفُّ بها ويَندرِجُ فيها مِن مَفاهيمَ مُشْكِلةٍ في التصوُّرِ الإسلاميِّ.
 

ولسْنا هنا بصَدَدِ المناقشةِ تفصيلًا لكلِّ مصطلح؛ فإنَّه طويل، وإنَّما نُنبِّهُ فقط إلى أصلِ إشكالِ استيرادِ هذه المصطلَحات وبَثِّها، وجَعْلِها مُعَبِّرةً عن التصوُّر الإسلاميِّ للنِّظام السِّياسي.
 

واللهُ الموفِّقُ والهادِي إلى سواءِ الصِّراطِ