موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: حالاتُه الزَّمَنيَّةُ


دلالةُ المُضارِع على الحالِ والاستِقبالِ كانت موضِعَ خِلافٍ بين العُلَماءِ، فذهبوا فيها مذاهِبَ شَتَّى:
ابنُ الطَّراوةِ: لا يكونُ إلَّا للحالِ [704] يُنظر: ((تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد)) لابن ناظر الجيش (1/ 186، 187). .
الزَّجَّاجُ: لا يكونُ إلَّا للمُستقبَلِ، وأنكر وجودَ زَمَنِ الحالِ في كَلامِ العَرَبِ؛ لأنَّ الفِعلَ بمُجَرَّدِ النُّطقِ بأحرُفِه صار ماضيًا، فالزَّمَنُ قصيرٌ لا يَسَعُ الفِعلَ أن يكونَ للحالِ الآنيِّ، ولأنَّ فِعلَ الحالِ لو كان موجودًا في كلامِهم لجعلوا له بناءً يخُصُّه [705] يُنظر: ((تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد)) لابن ناظر الجيش (1/ 183). .
الجُمهورُ: للحالِ والاستِقبالِ حَقيقةً، وهو الرَّأيُ الرَّاجِحُ، والدَّليلُ: أنَّ استِخدامَه فيهما لا يتوقَّفُ على مُسَوِّغٍ؛ فقد يُستخدَمُ للحالِ تارةً وللاستِقبالِ تارةً أُخرى دونَ دليلٍ، وقد ذكر سِيبَوَيهِ [706] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (1/ 12). أنَّ المُضارِعَ لِما هو كائِنٌ، ولِما لم يَقَعْ، فدلَّ ذلك على أنَّ المُضارِعَ للحالِ والاستقبالِ معًا [707] يُنظر: ((تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد)) لابن ناظر الجيش (1/ 188). .
الفارسِيُّ -واختاره السُّيوطيُّ-: هو حقيقةٌ في الحالِ مجازٌ في الاستِقبالِ؛ لأنَّه عند انعدامِ القرائِنِ إنما يُحمَلُ على الحالِ، ولدُخولِ السِّينِ عليه لإفادةِ الاستِقبالِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ الاستقبالَ مجازٌ وفرعٌ فيه لا أصْلٌ [708] يُنظر: ((همع الهوامع في شرح جمع الجوامع)) للسيوطي (1/ 37). .
ابنُ طاهرٍ: مجازٌ في الحالِ حقيقةٌ في الاستِقبالِ [709] يُنظر: ((همع الهوامع في شرح جمع الجوامع)) للسيوطي (1/ 36، 37). ورأيُه واهٍ ضَعيفٌ [710] يُنظر: ((تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد)) لابن ناظر الجيش (1/ 189). .
ودَلالةُ المُضارِع على الحالِ تَرجَحُ إذا انعدَمَتِ القرائِنُ [711] يُنظر: ((المساعد)) لابن عقيل (1/ 12). ؛ لأنَّ للماضِي والمستقبَلِ صِيغةٌ تخُصُّهما، وليس للحالِ صيغةٌ تخُصُّه، فرَجَح الحالُ عند التجَرُّدِ مِنَ القرائِنِ [712] يُنظر: ((همع الهوامع في شرح جمع الجوامع)) للسيوطي (1/ 38). .
وهناك قرائِنُ تجعَلُ المُضارِعَ للحالِ، وقرائِنُ تُعيِّنُه للمُضِيِّ، وقرائِنُ تُعيِّنُه للاستِقبالِ على النَّحوِ الآتي:
قرائِنُ تُعَيِّنُه للحالِ:
(الآنَ) وما في معناه، مِثْلُ: الحِينِ أو السَّاعةِ أو (آنفًا): مِثلُ: فُلانٌ يُصَلِّي الآنَ والسَّاعةَ.
نفيُ المُضارِعِ بـ(ليس) أو (ما) أو (إنْ)؛ لأنَّها موضوعةٌ لتنفيَ الحالَ: مِثلُ: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ [الأحقاف: 9] ، وقَولِه عزَّ وجَلَّ: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ [الأنبياء: 109] ، وقَولِ عَبدِ اللهِ بنِ العَبَّاسِ من الطويل:
فلستُ وبَيتِ اللهِ أَرْضَى بمِثْلِها
ولكنَّ من يمشي سيرضَى بما رَكِب [713] يُنظر: ((همع الهوامع)) للسيوطي (1/ 38).
دخولُ لامِ الابتِداءِ عليه، مِثْلُ: قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي [يوسف: 13] .
قرائِنُ تُعَيِّنُه للاستِقبالِ:
الاقتِرانُ بالظَّرفِ المُستقبَلِ، وذلك على شَكلَينِ:
أ- أن يكونَ الفِعلُ عامِلًا في الظَّرْفِ.
ب- أن يكونَ الظَّرفُ مُضافًا إلى الفِعْلِ؛ نَحْوُ: أزورُك إذا تزورُني. الفِعلانِ هنا للاستقبالِ؛ فالأوَّلُ عَمِلَ في (إذا) -وهي ظرفٌ مُستقبَلٌ-، والثَّاني أُضيفَت إليه (إذا).
الإسنادُ إلى متوقَّعٍ: كقَولِه من الوافر:
يَهُولُكَ أن تموتَ وأنت مُلْغٍ
لِما فيه النَّجاةُ من العَذابِ
اقتِضاءُ الطَّلَبِ: مِثلُ: قَولِه تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ [البقرة: 233] .
اقتِضاءُ الوَعدِ: مِثلُ قَولِه تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران: 129] .
أن يَقتَرِنَ بنُونِ التوكيدِ؛ لأنَّها لا تكونُ إلَّا في شَيءٍ لم يحدُثْ بَعْدُ؛ مِثلُ قَولِه تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ... [البقرة: 155] .
أن يَصحَبَ أداةَ تَرَجٍّ؛ نحوُ قَولِه تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ [غافر: 36] .
أن يَصحَبَ أداةَ إشفاقٍ [714] الفَرقُ بين الترجِّي والإشفاقِ: أنَّ الترجِّيَ يكونُ للمحبوبِ، والإشفاقَ يكونُ من مكروهٍ، ولا فَرْقَ بينهما في اللَّفظِ. يُنظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (1/ 24). ، كقَولِه من الوافر:
فأمَّا كَيِّسٌ فَنَجَا ولكِنْ
عسى يَغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ [715] يُنظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (1/ 25)، ((التذييل والتكميل)) لأبي حيان (1/ 97) بلا نسبة.
أن يقتَرِنَ به أداةُ شَرطٍ جازمةٌ أو غَيرُ جازمةٍ؛ نحوُ قَولِه تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ [النساء: 133] .
أن يَقتَرِنَ به حرفُ نَصبٍ ظاهرًا كان أو مُقَدَّرًا [716] حروفُ نَصبِ المضارِعِ هي: أنْ، ولنْ، وكي، وإذَنْ، والنَّاصِبُ المقَدَّرُ كنَصْبِ المضارِعِ بأنِ المُضمَرةِ مع لامِ التعليلِ في مثلِ: جئتُك لتغفِرَ لي، فالتقديرُ: لأنْ تَغفِرَ لي. يُنظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (1/ 24). ؛ فالظَّاهِرُ، مِثْلُ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 184] ، والمقَدَّرُ، مِثْلُ: لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ [النساء: 26] ؛ أي: لأنْ يُبيِّنَ لكم، ولأن يَهْديَكم.
أن يقتَرِنَ بـ(لو) المصدريَّةِ [717] (لو) المصدريَّةُ هي التي يَحسُنُ أن يكونَ في مَوضِعِها (أنْ)، أمَّا (لو) الشَّرطيَّةُ فإنَّها تجعَلُ المضارِعَ للمُضِيِّ لا الاستِقبالِ. يُنظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (1/ 25). ، مِثْلُ: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة: 96] .
أن يقتَرِنَ بحَرفِ تنفيسٍ (السين وسوف)؛ لأنَّهما موضوعان لتخليصِ المُضارِع من ضِيقِ الحالِ إلى سَعَةِ الاستقبالِ؛ مِثلُ قَولِه تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى: 5] ، وقَولِه تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى [الأعلى: 6] [718] يُنظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (1/ 21 وما بعدها)، ((همع الهوامع في شرح جمع الجوامع)) للسيوطي (1/ 37 وما بعدها). .
مسألةُ المُضارِعِ المنفيِّ بـ(لا):
اختلف النُّحاةُ في المُضارِع المنفيِّ بـ(لا) من حيثُ الزَّمَنُ:
1- فريقٌ يرى أنَّه مخصوصٌ للاستقبالِ إذا نُفِيَ بـ(لا).
2- فريقٌ يرى أنَّ المُضارِعَ مع (لا) يكونُ للحالِ والاستقبالِ دون تعيينٍ لأحَدِهما، وهو قَولُ الأخفَشِ والمُبَرِّدِ، وصَحَّحه ابنُ مالكٍ في التسهيلِ [719] يُنظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (1/ 21). ؛ إذ دخَلَت (لا) على الحالِ في قَولِه تعالى: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ [هود: 31] [720] يُنظر: ((همع الهوامع)) للسيوطي (1/ 39، 40). [721] يُنظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (1/ 18 وما بعدها). .
قرائِنُ تُعَيِّنُه للمُضِيِّ:
إذا اقترن بـ(لم) أو (لمَّا) الجازِمةِ: فالمُضارِعُ المنفيُّ بهما ماضي المعنى بلا خلافٍ.
أن يقتَرِنَ بـ(لو) الشَّرطِيَّةِ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ... [النحل: 61] ، وذلك في الأعَمِّ الأغلَبِ، لكِنْ قد تأتي (لو) بمعنى (إنْ)، فيكونُ حينَئِذٍ مُستقبَلًا في المعنى؛ كقَولِه تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا [النساء: 9] .
الاقترانُ بـ(إذ)، مِثْلُ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عليْهِ [الأحزاب: 37] .
الاقترانُ بـ(ربما)، مِثْلُ قَولِ الشَّاعِرِ من الخفيف:
رُبَّما تَكرَهُ النُّفوسُ مِنَ الأَمـ
ـرِ له فَرْجةٌ كحَلِّ العِقالِ [722] يُنظر: ((تمهيد القواعد)) لابن ناظر الجيش (1/ 209)، وهو في ديوان ((أمية بن أبي الصلت)) (ص 49)، وأيضًا في ديوان عبيد بن الأبرص (ص 111).
الاقترانُ بـ(قد) التقليليَّةِ: وهو ما نصَّ عليه سِيبَوَيهِ، مِثلُ قَولِ عُبَيدِ بنِ الأبرَصِ من البسيط:
قد أترُكُ القِرنَ مُصْفَرًّا أنامِلُهُ
كأنَّ أثوابَه مُجَّتْ بفِرْصادِ [723] مُصْفَرًّا أنامِلُه: أي: خرَجَت رُوحُه فاصفرَّت أصابِعُه، ومُجَّت: صُبَّ عليها كما يُصَبُّ الماءُ مِنَ الفَمِ، والفِرْصادُ: دِماءُ التُّوتِ، أو التُّوتُ نَفْسُه؛ يَقصِدُ: أنَّ الدَّمَ على ثيابِه كماءِ التُّوتِ. ينظر: ((الكتاب)) لسيبويه (4/ 223، 224)، و((شرح شواهد المغني)) للسيوطي (1/ 494).
فإن لم تكُنْ (قد) للتقليلِ، لم يكُنِ الفِعلُ بَعْدَها للمُضِيِّ؛ مِثلُ قَولِه تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام: 33] .
وقوعُ المُضارِع خَبَرًا لكان، مِثْلُ: كان زيدٌ يقومُ.
الاقترانُ بـ(لَمَّا) الجوابيَّةِ، مِثْلُ: لَمَّا يقومُ زَيدٌ قام عمرٌو [724] يُنظر: ((همع الهوامع)) للسيوطي (1/ 41). يرى ابنُ مالِكٍ أنَّ (لَمَّا) الجوابيَّةَ لا يأتي بعدَها فِعلٌ مُضارِعٌ قطُّ، إنما يأتي بعدَها فِعلٌ ماضي اللَّفظِ والمعنى إن كانت بمعنى (حين)، أو فِعلٌ ماضي اللَّفظِ مُستقبَلُ المعنى إن كانت بمعنى (إلَّا). يُنظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (1/ 28). .

انظر أيضا: