موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّالِثُ: المَسْرَحيَّةُ الشِّعْريَّةُ


عَرَف المَسْرَحُ الغَرْبيُّ المَسْرَحيَّاتِ الشِّعْريَّةَ قَبْلَ النَّثْريَّةِ؛ إذ كان العَمَلُ المَسْرَحيُّ عِبارةً عن قَصيدةٍ تمثيليَّةٍ تُلقى على المُستَمِعينَ، تحمِلُ قِصَّةً ومَضمونًا مُعَيَّنًا، غَيرَ أنَّ المَدْرَسةَ الرُّومانتيكيَّةَ حينَ ثارت على القواعِدِ الكلاسيكيَّةِ الغَربيَّةِ، أحلَّت النَّثْرَ محَلَّ الشِّعْرِ في المَسْرَحيَّاتِ، وقد مهَّد شِكْسِبيرُ لهذا في مَسْرَحيَّاتِه، حينَ بَدَأ يتغاضى عن القَوافي، كما أدخَلَ في مَسْرَحيَّاتِه بَعْضًا مِنَ الشِّعْرِ المَنْثورِ.
وقَدِ انتَقَل هذا الفَنُّ المَسْرَحيُّ إلى العَرَبِ، فألَّف الكُتَّابُ مِنَ المَسْرَحيَّاتِ النَّثْريَّةِ الشَّيءَ الكَثيرَ، وصارَت فنًّا عَربيًّا.
إلَّا أنَّ بَعْضَ الشُّعَراءِ دفَعَتْه بواعِثُ التَّجْديدِ والثَّوْرةِ على القَديمِ إلى استِحْداثِ المَسْرَحيَّةِ الشِّعْريَّةِ، فكان قَصَبُ السَّبْقِ في هذا للشَّاعِرِ اللُّبنانيِّ خَليل اليازجي؛ حيث كَتَب مَسْرَحيَّةَ "المُروءة والوَفاء" في ألفِ بَيتٍ تقريبًا، غَيْرَ أنَّها جاءت سَقيمةَ العِبارةِ، رَكيكةَ الأُسلوبِ، أشبَهَ بالمُتونِ المَنْظومةِ منها إلى الشِّعْرِ والأدَبِ.
ثمَّ تلاه بَعْدَ ذلك عَبدُ اللهِ البُستانيُّ، فنَظَم خَمْسَ مَسْرَحيَّاتٍ شِعْريَّةٍ كذلك، غَيْرَ أنَّها جاءت ضَعيفةً، ثمَّ جاء محمَّد عَبدُ المُطَّلِب بَعْدَ ذلك، فنَظَم مَسْرَحيَّاتٍ عَديدةً تتضَمَّنُ قِصَصًا تاريخيَّةً عَرَبيَّةً، سَواءٌ في الجاهِليَّةِ أو الإسلامِ؛ منها: المُهَلْهِلُ، وامرؤُ القَيسِ، وقد جاءت هذه المَسْرَحيَّاتُ مَتينةَ الأُسلوبِ، قَوِيَّةَ الدِّيباجةِ، إلَّا أنَّ فيها كثيرًا من تعابيرِ البَدْوِ وأخيِلَتِهم، بما يَصعُبُ على الجُمْهورِ فَهْمُه واستيعابُ كَلامِه، كما أنَّ عَبدَ المُطَّلِبِ كان يَنقُصُه مَعرِفةُ الفَنِّ القَصَصيُّ.
ثمَّ عَمَد أحمد شوقي إلى ذلك النَّوعِ مِنَ الشِّعْرِ، فألَّف في بدايتِه مَسْرَحيَّة "علي بك الكَبير"، نظَمَها أثناءَ وُجودِه في فَرَنْسا سَنةَ 1893م، غَيْرَ أنَّها لم تكُنْ على المُستوى المَطلوبِ؛ إذ لم تَكُنْ مَوهِبتُه الشِّعْريَّةُ قد بلَغَتِ الغايةَ، كما أنَّ وَسائِلَ التَّأليفِ المَسْرَحيِّ لم تَكُنْ تهيَّأَتْ له، فانصَرَف شوقي عن المَسْرَحيَّاتِ الشِّعْريَّةِ، مُنثَنيًا عنها على عَقِبِه.
وعندما بُويِعَ شَوقي أميرًا للشُّعَراءِ، هيَّأ ذلك فيه أسبابَ الثَّوْرةِ والتَّجْديدِ، فحَمَل على عاتِقِه مَسْؤوليَّةَ المَسْرَحيَّةِ الشِّعْريَّةِ مِن جَديدٍ، فعاد يَنْظِمُ المَسْرَحيَّاتِ الشِّعْريَّةَ مُنذُ سَنةِ 1927م، فأخرَجَ مَسْرَحيَّاتِ: "مجنونُ لَيْلى، قَمْبِيز، عَنْترة، السِّتُّ هُدى"، كما أعاد كِتابةَ مَسْرَحيَّتِه الأُولى: "علي بك الكبير" على نحوٍ يَرتَضيه ويتلاءَمُ مع مُسْتواه الشِّعْريِّ والأدَبيِّ.
وقد نَهَج عزيز أباظة نَهْجَ شَوقي، فألَّف في المَسْرَحيَّاتِ الشِّعْريَّةِ، مُعتَمِدًا على المَوضوعاتِ الإسلاميَّةِ والعاطِفيَّةِ، فألَّف: "قَيْس لُبنى"، "عبد الرحمن النَّاصِر"، "أوراق الخَريف"، كما اشتَهَر محمود غنيم أيضًا بذلك الشِّعْرِ المَسْرَحيِّ، فكَتَب "المُروءة المُقنِعة" و"غرام يَزيد".
ولهذا فإنَّ شوقي -بحَقٍّ- رائِدُ الفَنِّ المَسْرَحيِّ في العالَمِ العَرَبيِّ [873] يُنظر: ((تطور الأدب الحديث في مصر)) لأحمد هيكل (ص: 285)، ((الأدب العربي الحديث)) لمسعد العطوي (ص: 82)، ((في الأدب الحديث)) لعمر الدسوقي (2/ 321). .

انظر أيضا: