موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّالثُ: مَدْرَسةُ أبولُّو


ويُطلَقُ عليها عَدَدٌ مِنَ المُصطَلَحاتِ، وهي: أبولُّو، والرُّومانسيَّةُ، والتَّجديدُ، والوِجدانيَّةُ، وهي مِن أهَمِّ المدارِسِ الأدَبيَّةِ في العَصْرِ الحَديثِ، وسُمِّيَت ب"أبولُّو" الَّذي هو اسمٌ إغريقيٌّ، مأخوذٌ مِن إلهِ الشَّمْسِ والفُنونِ والعُلومِ، مأخوذٌ مِن جَبَل "أولمب"، والذي يقال أنَّه مَوطِنُ الوَحْيِ الشِّعْريِّ، يُعادِلُ عِنْدَ العَرَبِ "عَبْقَر"؛ ذلك الواديَ الجِنِّيَّ الَّذي يَنسُبُ إليه الشُّعَراءُ الوَحْيَ الشِّعْريَّ.
وتَسْميتُها بالرُّومانسيَّةِ وبالوِجْدانيَّةِ لأنَّها تَدُلُّ على الشِّعْرِ الذَّاتيِّ الانْفِعاليِّ [845] يُنظر: ((الأدب العربي الحديث)) لمسعد العطوي (ص: 97). .
وقد تسَبَّبَ في ظُهورِ تلك المَدْرَسةِ الجَديدةِ عِدَّةُ أسبابٍ:
- الصِّراعُ بَيْنَ الاتِّجاهَينِ: المحافِظِ مُتمَثِّلًا في الإحياءِ والبَعْثِ، والتَّجديديِّ العَقْليِّ مُتمَثِّلًا في الدِّيوانِ؛ ولهذا احتَوَت تلك المَدْرَسةُ الجَديدةُ على أعلامٍ مِنَ الاتِّجاهَينِ؛ إذ كان رَئيسُها الأوَّلُ أحمد شوقي رائِدَ مَدْرَسةِ الإحياءِ.
- التَّأثُّرُ بالشِّعْرِ الرُّومانسيِّ الغَربيِّ.
- التَّأثُّرُ بشِعْرِ المَهْجَرِ في انطِلاقِ الخَيالِ والعاطِفةِ، والحَنينِ إلى الوَطَنِ، والتغَنِّي بالألِم والوِجْدانِ.
- التَّأثُّرُ بشِعْرِ جَماعةِ الدِّيوانِ؛ حيث جاءَ شِعْرُهم بَسيطًا سَهْلًا في ألفاظِه وتراكيبِه، مُتحَلِّلًا مِنَ البَلاغةِ العَرَبيَّةِ، كما أنَّهم جَعَلوا الشِّعْرَ يَنْبُعُ مِن ذاتِ الإنسانِ، يُعَبِّرُ به عمَّا بداخِلِه.
وقد أعلَنَ الشَّاعِرُ المِصْريُّ الدُّكتور أحمَد زكي أبو شادي عن تأسيسِ تلك المَدْرَسةِ الشِّعْريَّةِ سَنةَ 1351ه / 1932م، وجعَلَ لها مجَلَّةً تابِعةً لها، تُنشَرُ فيها أعمالُ شُعَرائِها دونَ التَّفْرقةِ بَيْنَ المذاهِبِ الشِّعْريَّةِ المُختَلِفةِ؛ فنَشَرت المجَلَّةُ لأحمد شوقي وأحمَد مُحَرَّم، كما نشَرَت لأبي القاسِمِ الشَّابِّي، إلَّا أنَّ العِبرةَ ألَّا يَكونَ الشِّعْرُ كِلاسيكيًّا قدَيمًا؛ ولهذا لم تَنشُرْ أشعارَ علي محمود طه قَبَل عامِ (1918م)، ولا ديوانَ (أنداءِ الفَجْرِ) لأحمد زكي أبي شادي.
وقد انعَقَدت الجَلْسةُ الأُولى لتلك الجَماعةِ في دارِ أميرِ الشُّعَراءِ أحمد شوقي، واتَّفَقوا على أنْ يترَأَّسَ تلك المَدْرَسةَ، وقد افتَتَح شوقي ذلك بقَوْلِه:
أبولُّو مَرحَبًا بِكِ يا أبولُّو
فَإنَّكِ مِن عُكاظِ الشِّعْرِ ظِلُّ
عُكاظُ وأنتِ لِلبُلَغاءِ سُوقٌ
عَلى جَنَباتِها رَحَلوا وحَلُّوا
ويَنْبوعٌ مِنَ الإنشادِ صافٍ
صَدى المُتَأدِّبينَ بِه يُقَلُّ
ومِضمارٌ يَسوقُ إلى القَوافي
سَوابِقُها إذا الشُّعَراءُ قَلُّوا
يَقولُ الشِّعرَ قائِلُهُم رَصينًا
ويُحسِنُ حينَ يُكثِرُ أو يُقِلُّ
ولَولا المُحسِنونَ بِكُلِّ أرضٍ
لَما سادَ الشُّعوبُ ولا استَقَلُّوا
عَسى تَأتينَنا بِمُعَلَّقاتٍ
نَروحُ عَلى القَديمِ بها نُدِلُّ
لَعَلَّ مَواهِبًا خَفِيَت وضاعَت
تُذاعُ عَلى يَدَيكِ وتُستَغَلُّ
صَحائِفُكِ المُدَبَّجةُ الحَواشي
رُبى الوَردِ المُفَتَّحِ أو أجَلُّ
رَياحينُ الرِّياضِ يُمَلُّ مِنها
ورَيحانُ القَرائِحِ لا يُمَلُّ
يُمَهِّدُ عَبقَرِيُّ الشِّعرِ فيها
لِكُلِّ ذَخيرةٍ فيها مَحَلُّ
ولَيسَ الحَقُّ بالمَنقوصِ فيها
ولا الأعراضُ فيها تُستَحَلُّ
ولَيسَت بالمَجالِ لنَقْدِ باغٍ
وراءَ يَراعِهِ حَسَدٌ وغِلُّ [846] يُنظر: ((ديوان أحمد شوقي)) (ص: 849).
لكن وافته المنِيَّةُ بَعْدَ ذلك الاجتِماعِ بأيَّامٍ، فاجتمع الشُّعَراءُ مِن جَديدٍ في مَقَرِّ رابطةِ الأدَبِ بالقاهِرةِ، واستقرُّوا على اختيارِ خَليل مُطران رئيسًا لهم.
واتَّفَقوا على أغراضِ وأُسُسِ هذه المَدْرَسةِ. وهي على النَّحْوِ الآتي:
- السُّمُوُّ بالشِّعْرِ العَرَبيِّ وتَوجيهُ جُهودِ الشُّعَراءِ تَوجيهًا شَريفًا.
- مُناصَرةُ النَّهْضةِ الفَنِّيَّةِ في عالَمِ الأدَبِ.
- تَرقيةُ مُستوى الشُّعَراءِ مادِّيًّا ومَعنَويًّا والدِّفاعُ عن كرامَتِهم.
خَصائِصُ هذا المَذهَبِ المَعْنويَّةُ:
- الاعتِمادُ على شِعْرِ الغَزَلِ والإكثارُ منه؛ فإنَّهم ادَّعَوا أنَّ الغَزَلَ وأشعارَ الحُبِّ تُنقِذُ مِن هُمومِ الحَياةِ.
- التَّأمُّلُ في الطَّبيعةِ والإكثارُ مِن وَصْفِها.
- الإكثارُ مِن شِعرِ الحَنينِ إلى الوَطَنِ وتذَكُّرُ الماضي.
- الإكثارُ مِنَ الشَّكْوى والتَّألُّمِ وإظهارُ الحُزنِ والأسى في شِعْرِهم.
- الإغراقُ في التَّأمُّلِ الذَّاتيِّ والوِجْدانيِّ، والنَّظَرُ في كُلِّ ما حَولَهم نَظْرةً فاحِصةً مُدَقِّقةً، تَستبينُ المزايا والعُيوبَ، وتَستَنطِقُ الجَماداتِ والحَيَواناتِ.
- تَصويرُ بُؤسِ المجتَمَعِ وأهلِه، وبَيانُ مَظاهِرِ الفَقْرِ ومَعاناةِ الفَلاحِ في الرِّيفِ، ووَصْفُ أوجاعِه، وتَصويرُ بُؤسِ الشَّاعِرِ نَفْسِه.
- عَدَمُ الاعتناءِ بقَضايا عَصْرِهم، بل وَقَفوا تِجاهَها سَلبيِّينَ.
إلَّا أنَّهم لم يَسْتَطيعوا أن يتناسَوا الشِّعْرَ السِّياسيَّ والوَطَنيَّ أو يَغْفُلوا عنه، فمَدَح علي محمود طه المَلِكَ عبدَ العَزيزِ، كما أنشَدَ الشَّابِّي قَصيدتَه المشهورةَ:
إذا الشَّعْبُ يومًا أرادَ الحياةَ
فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القَدَرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجَلي
ولا بُدَّ للقَيدِ أن يَنْكَسِرْ
ومَن لم يُعانِقْهُ شَوْقُ الحَياةِ
تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ
....
إذا مَا طَمَحْتُ إلى غايةٍ
رَكِبتُ المُنى ونَسيتُ الحَذَرْ
ولم أتجنَّبْ وُعورَ الشِّعابِ
ولا كُبَّةَ اللَّهَبِ المُستَعِرْ
ومَن لا يحِبُّ صُعودَ الجِبالِ
يَعِشْ أبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَرْ
وقالتْ ليَ الأرضُ لَمَّا سألْتُ
أيا أمُّ هل تَكرَهينَ البَشَرْ
أُبارِكُ في النَّاسِ أهلَ الطُّموحِ
ومَن يَسْتَلِذُّ رُكوبَ الخَطَرْ
وألعَنُ مَنْ لا يماشي الزَّمانَ
ويَقنَعُ بالعَيشِ عَيشِ الحَجَرْ
هو الكَونُ حَيٌّ يحِبُّ الحَياةَ
ويحتَقِرُ الميْتَ مهما كَبُرْ
فلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيورِ
ولا النَّحْلُ يَلثِمُ مَيْتَ الزَّهَرْ
ولولا أُمومَةُ قَلْبي الرَّؤومُ
لَمَا ضمَّتِ الميْتَ تِلْكَ الحُفَرْ [847] ((ديوان أبي القاسم الشابي)) (ص: 70).
الخصائِصُ الفَنِّيَّةُ لِمَدْرَسةِ أبولُّو:
1. الحُرِّيَّةُ التَّعْبيريَّةُ: حَيثُ لم يجعَلوا قواعِدَ اللُّغةِ عائِقًا أمامَ نَظْمِهم للشِّعْرِ، فاستَخدَموا الألفاظَ المولَّدةَ والمحْدَثةَ والدَّخيلةَ، كما خالَفوا كثيرًا قواعِدَ النَّحْوِ والصَّرفِ.
2. استِعمالُ اللُّغةِ استِعمالًا جديدًا في دَلالاتِ الألفاظِ والصُّوَرِ بما تدُلُّ عليه مِن إيحاءٍ (كالعِطْرِ القَمَريِّ - الأريجِ النَّاعِمِ- الشَّفَقِ الباكي - أغاني الكُوخِ - الأنفاسِ المحتَرِقةِ - وراءَ الغَمامِ - شاطِئِ الأعرافِ).
3. التَّوسُّعُ في المجازاتِ والابتِكارُ في الصُّوَرِ: فظَهَر عِندَهم ما يُسَمَّى بتراسُلِ الحواسِّ، وهو أن يُجعَلَ المسموعُ مَلموسًا، والمَلموسُ مَرئيًّا، والمرئيُّ مَسموعًا، وهكذا.
4. تجسيمُ المَعْنَويَّاتِ: وهو تصويرُ الشَّيءِ المَعْنويِّ الَّذي لا يُلمَسُ بالشَّيءِ المادِّيِّ الملموسِ والمُشاهَدِ، وهي صورةٌ حيَّةٌ مَنَحَت الحِسَّ والحياةَ والتَّجْسيمَ لكثيرٍ مِن المعاني التَّجْريديَّةِ.
5. التَّشْخيصُ: وهو مَنْحُ الحياةِ للشَّيءِ الجامِدِ أو الحيوانِ، فيُصبِحُ مُكَلَّفًا مخاطَبًا، له شُعورٌ وإحساسٌ.
6. التَّجديدُ في المضمونِ الشِّعْريِّ في قُوَّةِ الانفِعالِ في الصُّوَرِ وتوظيفِ الألفاظِ.
7. التَّعاطُفُ مع الأشياءِ والامتِزاجُ بها، فيُجعَلُ الشَّيءُ يُفَكِّرُ ويُحِسُّ نيابةً عنه.
8. الإكثارُ مِنَ الألفاظِ المتَّصِلةِ بالرُّوحانيَّةِ، كالألفاظِ المقَدَّسةِ والرَّهبانيَّةِ والزُّهدِ.
9. استِخدامُ القَوافي الموسيقيَّةِ الهامِسةِ، البَعيدةِ عن الجَفافِ والوُعورةِ.
10. التَّعبيرُ بالصُّورةِ: حَيثُ غَلَب عليهم بيانُ المعاني وإيضاحُها بالتَّصويرِ أكثَرَ مِن تَقريرِها.
11. المَيلُ إلى الألفاظِ الرَّشيقةِ ذاتِ الخِفَّةِ على اللِّسانِ وحُسنِ الوَقْعِ على الآذانِ، وذاتِ الإمكانيَّاتِ الدَّلاليَّةِ.
التَّجديدُ في شَكْلِ الشِّعْرِ:
جدَّدت تلك المَدْرَسةُ في بناءِ الشِّعْرِ وبُحورِه على النَّحْوِ التَّالي:
1. الاعتِمادُ على الجانِبِ المَقْطعيِّ، فيَجعَلونَ القَصيدةَ ذاتَ مَقاطِعَ، كُلُّ مَقطَعٍ منها متَكَوِّنٌ مِن عِدَّةِ أبياتٍ مُتَّفِقةٍ في الوَزنِ والقافيةِ، وكُلُّ مَقطَعٍ يَختَلِفُ عن الَّذي يَليه في الوَزنِ والقافيةِ أو في أحَدِهما.
2. الاعتِمادُ على البُحورِ الموسيقيَّةِ المُتدَفِّقةِ، لا القَوِيَّةِ الصَّاخِبةِ؛ حيثُ يَميلونَ إلى الخَفيفِ والرَّمَلِ والهَزَجِ والبُحورِ ذاتِ التَّفْعيلةِ الواحِدةِ، وكذلك البُحوُر المجزوءةُ والمَنهوكةُ.
3. قَصْرُ بَعضِ الأوزانِ في القَصيدةِ الواحِدةِ، ورُبَّما تأتي أبياتٌ يُختَمُ بها هذه المقطوعاتُ تكونُ قَصيرةً كشَطْرٍ مِن بَيتٍ أو تفعيلةٍ واحِدةٍ.
4. الإكثارُ مِنَ الشِّعْرِ المُرْسَلِ [848] ينظر: ((الأدب العربي الحديث)) لمسعد العطوي (ص: 91)، ((دراسات في الأدب العربي الحديث ومدارسه)) لمحمد عبد المنعم خفاجي (2/55)، ((تطور الأدب الحديث في مصر)) لأحمد هيكل (ص: 297). .
تعريفٌ بأبرَزِ شُعَراءِ أبولُّو:
انضمَّ كَثيرٌ من الشُّعَراءِ العَرَبِ لتلك المَدْرَسةِ بَعدَ أن ذاعَ صِيتُها، خاصَّةً وأنَّها لا تُفَرِّقُ بَيْنَ مَدرَسةٍ وأُخرى، ولا تُشعِلُ الصِّراعَ بَيْنَها وبَيْنَ سائِرِ المناهِجِ والمذاهِبِ، فكان مِن أبرَزِ شُعَرائِها: علي محمود طه، إبراهيم ناجي، أبو القاسم الشَّابِّي، حسن كامل الصَّيْرَفي، مصطفى السَّحَرْتي، صالح جَودَت ...وغيرهم.
ولكِنَّنا نكتفي بذِكْرِ أبرَزِ مَن أثَّروا فيها، مِثْلُ: 
1- خليل مُطران
وُلِدَ خليل بنُ عَبده بنِ يوسُفَ بنِ مُطران سنة 1289ه/ 1872م، لأُسرةٍ عَرَبيَّةٍ نَصرانيَّةٍ بلُبنانَ، وأمُّه "مَلكة الصَّبَّاغ" فِلَسْطِينيَّةُ الأصلِ، رَحَل بها أبوها إلى لُبنانَ، وقد كانت "ملكة" شاعِرةً حَصيفةً، وَرِثَ عنها خليل مَوهِبَتَه الشِّعْريَّةَ.
تخَرَّج في الكُلِّيَّةِ الشَّرقيَّةِ بزَحْلةَ، ثمَّ درس في المَدْرَسةِ البَطْرَيركِيَّةِ الكاثوليكيَّةِ ببَيروتَ، فتعَلَّمَ فيها الفَرَنْسِيَّةَ ومَهَر فيها، كما تلقَّى العَرَبيَّةَ على يَدِ الأديبِ الشَّهيرِ: "إبراهيم اليازجي"، الَّذي دان له بالفَضْلِ في حبِّه للأدَبِ، وقد رَثاه في ديوانِه بقَصيدةٍ، افتَتَحَها بقَولِه:
رَبَّ البَيانِ وسَيِّدَ القَلَمِ
وفَّيْتَ قِسْطَك للعُلا فنَمِ [849] ((ديوان خليل مطران)) (1/290).
أرسله أهلُه إلى فَرَنسا، فتعَلَّم في باريسَ الآدابَ الفَرَنْسيَّةَ، وخاف بَعْدَها مِنَ الرُّجوعِ إلى وَطْنِه فآثَرَ الهِجْرةَ إلى مِصْرَ.
عَمِلَ في مِصرَ أوَّلَ الأمرِ في جَريدةِ الأهرامِ، ثمَّ أنشأ لنَفْسِه مجَلَّةً مُستَقِلَّةً، وهي "المجَلَّةُ المِصْريَّةُ"، إلَّا أنَّه لم يَلْقَ منها النَّجاحَ المنشودَ، فآثَرَ العَمَلَ بالتِّجارةِ، غَيْرَ أنَّه خَسِرَ كثيرًا مِن أموالِه، ثمَّ عمل في الجَمعيَّةِ الزِّراعيَّةِ الخِدِيويَّةِ.
وشِعْرُ خليل مُطْران يجري فيه تيارانِ؛ قديمٌ وحديثٌ، شَرْقيٌّ وغَربيٌّ، كما جرى في شِعْرِ شوقي كذلك نتيجةَ سَفَرِه واطِّلاعِه على الأدَبِ الفَرَنسيِّ، إلَّا أنَّ خليل مُطران لم يتمَسَّكْ بالقَديمِ تمسُّكَ شوقي، بل اكتفى بأن يَبنيَ قَصيدةً على أُسلوبٍ لُغويٍّ صَحيحٍ، بمُفرداتٍ لُغَويَّةٍ مُستَقيمةِ المعنى، أي: يأخُذُ مِنَ القُدَماءِ المادَّةَ وَحْدَها؛ ولهذا قال في مُقَدِّمةِ دِيوانِه: (فشَرَعْتُ أنظِمُه لِتَرضيةِ نَفْسي حيث أتخَلَّى، أو لتربيةِ قَومي عند وُقوعِ الحوادِثِ الجَلَّى، مُتابِعًا عَرَبَ الجاهِليَّةِ في مُجاراةِ الضَّميرِ على هواه، ومُراعاةِ الوِجْدانِ على مُشْتَهاه، مُوافِقًا زماني فيما يَقتَضيه من الجُرأةِ على الألفاظِ والتَّراكيبِ، لا أخشى استِخدامَها أحيانًا على غَيرِ المألوفِ مِن الاستِعاراتِ والمطروقِ مِن الأساليبِ. ذلك مع الاحتِفاظِ جُهْدي بأصولِ اللُّغةِ، وعَدَمِ التَّفريطِ في شَيءٍ منها إلَّا ما فاتني عِلْمُه. ولم أكُنْ مُبتَكِرًا فيما صنَعْتُ؛ فقد فَعَل فُصَحاءُ العَرَبِ قَبْلي ما لا يُقاسُ إليه فِعْلي؛ فإنَّهم توَسَّعوا في مذاهِبِ البَيانِ توَسُّعَ الرُّشْدِ والحَزْمِ، وجارَيتُهم في تصريفِ الكَلامِ على ما اقتَضاه هذا العَهْدُ مِن أساليبِ النَّظْمِ) [850] ((ديوان خليل مطران)) (1/8). .
ولهذا اختَلَف الأُدَباءُ في تقييمِ شِعْرِ خَليل مُطران ونِسْبَتِه إلى مَدْرَسةٍ شِعْريَّةٍ؛ فذَهَب بعضُهم إلى أنَّه مِن شُعَراءِ مَدرَسةِ الإحياءِ والبَعْثِ، وأنَّه جدَّد فيها شيئًا كما جدَّد شوقي، ومنهم من ذَهَب إلى أنَّه نَسيجُ وَحْدِه، وعلى خُطاه سارت مَدرَسةُ أبولُّو، كما استفادت منه قَبْلَها مَدرسةُ الدِّيوانِ.
تُوُفِّيَ خليل مُطْران سنة 1368ه / 1949م بَعدَ أن تَرَك تُراثًا أدبيًّا ضَخمًا، من القصائد والقصص وما ترجَمَه مِن مَسرَحيَّاتٍ [851] يُنظر: ((الأدب العربي المعاصر في مصر)) لشوقي ضيف (ص: 121). .
له قصيدةٌ غزليَّةٌ طويلة ومن أبياتها
ثاوٍ عَلَى صَخْرٍ أصَمَّ ولَيْتَ لي
قَلْبًا كهَذي الصَّخْرةِ الصَّمَّاءِ
يَنْتابُها مَوْجٌ كمَوْجِ مَكَارِهي
ويَفُتُّها كالسُّقْمِ في أعْضائي
والبَحْرُ خَفَّاقُ الجَوانِبِ ضائِقٌ
كَمَدًا كصَدْري سَاعةَ الإمْساءِ
تَغْشَى البَريَّةَ كُدْرةٌ وكأنَّها
صَعِدَتْ إلى عَيْنَيَّ مِنْ أحْشائي
والأُفْقُ مُعْتَكِرٌ قَريحٌ جَفْنُهُ
يُغْضي عَلى الغَمَراتِ والأقْذاءِ
يا لَلْغُروبِ وما به مِنْ عِبْرةٍ
للمُسْتَهامِ وعِبْرةٍ لِلرَّائي [852] ((ديوان خليل مطران)) (1/144).
2- أحمد زكي أبو شادي
وُلِدَ أحمد زكي بن محمَّد أبي شادي سَنةَ 1309ه / 1892م، لأُسرةٍ مُفَوَّهةٍ؛ فأبوه خَطيبٌ بارِعٌ ومُحامٍ شَرعيٌّ، وأمُّه أمينة نجيب شاعِرةٌ، وأخوها مُصطفى نجيب شاعِرٌ كذلك، فساعَدَه هذا الجَوُّ على تَنميةِ المَلَكةِ الأدبِيَّةِ الَّتي حَظِيَ بها.
أُعجِبَ أحمد زكي بشِعْرِ خليل مُطْران كَثيرًا، كما كان مُهتَمًّا بمشاكِلِ الشِّعْرِ العَرَبيِّ في المادَّةِ والمَضمونِ، كما تَرْجَمَ بَعْضَ الأشعارِ الغَربيَّةِ، ونَشَر طائِفةً مِن شِعْرِه ونَثْرِه وهو ابنُ السَّادِسةَ عَشْرةَ مِن عُمُرِه بعُنوانِ: "قَطْرةٌ مِن يَراع في الأدَبِ والاجتِماع".
أرسلَه أهلُه إلى إنجِلْترا لدِراسةِ الطِّبِّ، وقد بَرَع في مجالِه وحَصَل على جائِزةِ "وب" في عِلمِ الجَراثيمِ، وظلَّ مُشتَغِلًا بهذا العِلْمِ سَبْعَ سَنَواتٍ، كما اهتمَّ كَثيرًا بالنَّحْلِ وممالِكِ النَّحْلِ.
ولم يُنْسِه الطِّبُّ ولا "النَّحْل" الأدَبَ العَرَبيَّ؛ إذ ظَلَّ هنالك يَدرُسُ الأدَبَ العَرَبيَّ والغَرْبيَّ، وخاصَّةً النَّزْعةَ الرُّومانسيَّةَ الَّتي وَضَعَت أشعارُ مُطران فيه بُذورَها، كما عَكَف على أشعارِ الوِجْدانِ الفَرديِّ لدى الإنجليزِ، كما كان يُرسِلُ المقالاتِ والأشعارَ إلى الصُّحُفِ المِصْريَّةِ، فأنشَأَ جَمْعيَّةَ آدابِ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ، غَيْرَ أنَّ الشُّرطةَ هناك ضيَّقَت عليه، فآثَرَ العَودةَ إلى مِصْرَ.
ولَمَّا نزَلَ مِصْرَ أنشأ فيها الجَمْعيَّةَ الشِّعْريَّةَ "أبولُّو"، وأنشأ مجَلَّةً باسمِها تُنشَرُ فيها أعمالُ شُعَرائِها، وبَعْدَ فَترةٍ انفَضَّت جماعةُ أبولُّو وحُجبت مجَلَّتُها، واضطَربت الأحوالُ بالشَّاعِرِ فاضطَّر إلى السَّفَرِ إلى أمريكا، وهناك استمرَّ على عَهْدِه بالأدَبِ العَرَبيِّ، وأنشأ المجلَّاتِ والجَمعيَّاتِ، واستكْمَل أشعارَه ودواوينَه، ثم فاجأه الموتُ في سَنةِ 1955م، وكان قد أعدَّ أربعةَ دَواوينَ للنَّشْرِ [853] يُنظر: ((الأدب العربي المعاصر في مصر)) لشوقي ضيف (ص: 145)، ((الأدب العربي الحديث)) لمسعد العطوي (ص: 116). .
4- أبو القاسِمِ الشَّابِّي
وُلِدَ أبو القاسِمِ بنِ مُحمَّدِ بنِ أبي القاسِمِ الشَّابِّي سَنةَ 1324هـ / 1906م في قريةِ الشَّابِّيَّة من ضواحي تَوْزَرَ عاصِمةِ الواحاتِ التُّونسيَّةِ في الجنوبِ، تعلَّم العربيَّةَ في المعهَدِ الزَّيتونيِّ بتُونُسَ، وتفتَّحت قريحتُه الشِّعريَّةُ في سِنِّ الثَّانيةَ عَشرةَ، وتخرَّج في مدرسةِ الحُقوقِ التُّونسيَّةِ. عُرِف بمسانَدةِ حرَكاتِ التَّجديدِ، وعَمِل على مناصَرةِ حَرَكاتِ تحريرِ المرأةِ. أصيبَ أبو القاسِمِ بمَرَضِ تضخُّمِ القَلبِ، وعانى منه سَنَواتٍ إلى أن مات سَنةَ 1353هـ / 1934م، عن ثمانٍ وعِشرينَ سَنةً. له بجانِبِ ديوانِه: كتابُ «الخيالُ الشِّعريُّ عندَ العَرَبِ»، «آثارُ الشَّابِّي»، و«مُذَكِّراتٌ»، و«قِصَّةُ الهِجرةِ النَّبَويَّةِ»، و«الأدَبُ العَرَبيُّ في العَصرِ الحاضِرِ»، و«شُعَراءُ المغرِبِ، و«صَفَحاتٌ داميةٌ»  [854]ينظر: ((الأعلام)) للزركلي (5/ 185)، ((ديوان أبي القاسم الشابي)) (ص5- 8). .
شِعْرُه:
شِعرُ أبي القاسِمِ الشَّابِّي صورةٌ مُطابِقةٌ لحياتِه وأحلامِه، وقد ذكَرَ في شِعرِه إحساسَه بالمَسؤوليَّةِ التي أُلقِيت على عاتِقِه بَعدَ وفاةِ والِدِه، وأنَّ هذه المسؤوليَّةَ قد جعلَتْه يتعايَشُ مع الواقِعِ من أجلِ أمِّه وإخوتِه الصِّغارِ؛ لذلك سمَّى قصيدتَه التي ذكَرَ فيها ذلك (قُيودَ الأحلامِ)  [855]القصيدة في ديوانه (ص145- 146). ، يقولُ فيها: الكامل:
وأوَدُّ أنْ أحْيا بفِكرةِ شاعرٍ
فأرَى الوُجودَ يَضِيقُ عن أحْلامي
إلَّا إذا قطَّعتُ أسْبابي معَ الدُّنْيا
وعِشتُ لوَحدَتي وظَلامي
في الغابِ في الجَبَلِ البعيدِ عنِ الورَى
حيثُ الطَّبيعةُ والجَمالُ السَّامي
وأعيشُ عِيشةَ زاهدٍ مُتنسِّكٍ
ما إنْ تُدَنِّسُهُ الحياةُ بِذامِ
هَجَرَ الجماعةَ للجبالِ تَورُّعًا
عنها وعنْ بَطشِ الحياةِ الدَّامي
تَمشي حَوالَيْهِ الحياةُ كأنَّها الحُلمُ
 الجميلُ خَفيفةَ الأقدامِ
وتخِرُّ أمواجُ الزَّمانِ بهَيْبَةٍ
قُدْسِيَّةٍ في يَمِّها المُترامي
فأعِيشُ في غابي حَياةً كلُّها
للفَنِّ للأحلامِ للإلهامِ
لكنَّني لا أسْتطيعُ فإنَّ لي
أُمًّا يَصُدُّ حَنانُها أوْهامي
وصِغارَ إخوانٍ يرَونَ سَلامَهم
في الكائناتِ مُعلَّقًا بِسَلامي
فقَدوا الأبَ الحاني فكُنتُ لِضَعفِهم
كَهفًا يَصُدُّ غَوائلَ الأيَّامِ
ويَقِيهمُ وَهجَ الحياةِ ولَفْحَها
ويَذودُ عنهم شِرَّةَ الآلامِ
فأنا المُكبَّلُ في سَلاسِلَ حيَّةٍ
ضَحَّيتُ مِن رأفي بِها أحْلامي
وأنا الذي سَكَنَ المدينةَ مُكْرَهًا
ومشَى إلى الآتِي بقَلبٍ دامِ
يُصغِي إلى الدُّنيا السَّخيفةِ راغمًا
ويَعيشُ مِثلَ النَّاسِ بالأوهامِ
وأنا الذي يَحيا بأرضٍ قَفْرةٍ
مَدْحُوَّةٍ للشَّكِّ والآلامِ
هَجَمَتْ بيَ الدُّنيا على أهوالِها
وخِضَمِّها الرَّحبِ العميقِ الطَّامي
مِن غيرِ إنذارٍ فأحمِلُ عُدَّتي
وأخُوضُهُ كالسَّابحِ العوَّامِ
فتَحطَّمَتْ نَفْسي على شُطآنِهِ
وتأجَّجَتْ في جَوِّهِ آلامي
الوَيلُ في الدُّنيا التي في شَرعِها
فأسُ الطَّعامِ كرِيشةِ الرَّسَّامِ

انظر أيضا: