موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: مَدْرَسةُ الإحياءِ والبَعْثِ، أو الاتِّجاهِ المحافِظِ، أو ما يُسمَّى الكِلاسيكيَّةِ القَديمةِ


سُمِّيَت تلك المَدْرَسةُ بالإحياءِ والبَعْثِ؛ لأنَّها أحيَتِ الشِّعْرَ العَرَبيَّ وبَعَثَتْه من جَديدٍ، وتُسَمَّى بالاتِّجاهِ المحافِظِ؛ لأنَّها حافَظَت على وَزنِ الشِّعْر وقافيَتِه، كما حافَظَت على مَبادِئِ الشِّعْرِ العَرَبيِّ القَديمِ، كما يُطلَقُ عليها المَدْرَسةُ الكِلاسيكيَّةُ؛ لأنَّها تُحافِظُ على السَّالِفِ بقَواعِدِه وصُوَرِه وأركانِه، بصَرفِ النَّظَرِ عن مَضمونِه.
ومن أهَمِّ مآثِرِ هذه المَدْرَسةِ:
- تعَدُّدِ الأغراضِ الشِّعْريَّةِ: حيث نَظَموا الشِّعْرَ على أغراضِ القُدَماءِ؛ مِن مَدحٍ ورِثاءٍ، وهِجاءٍ ووَصْفٍ، ونَحوِ ذلك، فطوَّروا من تلك الأغراضِ بما يتلاءَمُ مع حياتِهم وظُروفِ عَصْرِهم، وابتَكَروا أغراضًا أُخرى دعَت إليها ظُروفُ الحياةِ، كالشِّعْرِ الوَطَنيِّ والتأمُّليِّ، والشِّعْرِ المتعَلِّقِ بقَضِيَّةِ الخِلافةِ ومَوقِفِهم مِنَ الخِلافةِ العُثمانيَّةِ؛ حيث كان أكثَرُهم مُؤيِّدًا لها، كما تناوَلوا في شِعْرِهم القضايا الهامَّةَ الَّتي تَشغَلُ الأمَّةَ والمجتَمَعاتِ فيها، فكان شاعِرُ كُلِّ قُطرٍ يَحمِلُ أعباءَ أمَّتِه في نَشْرِ قَضاياها والدِّفاعِ عن حُقوقِها، كما اهتَمُّوا بمُستجَدَّاتِ العَصْرِ مِنَ الاختِراعاتِ الحَديثةِ، كقَولِ شوقي عن الطَّائِرةِ:
مَركَبٌ لَو سَلَفَ الدَّهرُ بِهِ
كانَ إحدى مُعجِزاتِ القُدَماءْ
نِصفُهُ طَيرٌ وَنِصفٌ بَشَرٌ
يا لَها إحدى أَعاجيبِ القَضاءْ
رائِعٌ مُرتَفِعًا أَو واقِعًا
أَنفُسَ الشُّجَعانِ قَبلَ الجُبَناءْ
مُسرَجٌ في كُلِّ حينٍ مُلجَمٌ
كامِلُ العُدَّةِ مَرموقُ الرُّواءْ
كَبِساطِ الرِّيحِ في القُدْرةِ أَو
هُدهُدِ السّيرةِ في صِدْقِ البَلاءْ
أَو كَحُوتٍ يَرتَمي المَوجُ بِهِ
سابِحٍ بَينَ ظُهورٍ وَخَفاءْ [813] ((ديوان أحمد شوقي)) (ص: 399).
- المحافَظةُ على المعاني القَديمةِ واستِحداثُ مَعانٍ أُخرى أمْلَتْها عليهم بيئتُهم وظُروفُ عَصْرِهم.
- التقَيُّدُ بالبُحورِ الشِّعْريَّةِ المَعروفةِ دونَ الخُروجِ عنها.
- الالتِزامُ بوَحْدةِ الوَزْنِ والقافيةِ في القَصيدةِ.
- الحِفاظُ على جَزالةِ اللُّغةِ وسُمُوِّ الأُسلوبِ، دونَ الوُصولِ إلى الإغرابِ والتَّعْقيدِ والكَلِماتِ الغَريبةِ، بَعيدًا عن الرَّكاكةِ في التَّعْبيرِ واستِخْدامِ الألفاظِ السُّوقيَّةِ المُبتَذَلةِ، إلَّا أنَّ بَعْضَ الكَلِماتِ جاءت غَريبةً على لُغةِ عَصْرِهم، كما اعتَمَدوا أحيانًا على الألفاظِ الموَلَّدةِ والمُعَرَّبةِ.
- ابتِكارُ أنماطٍ شِعْريَّةٍ جَديدةٍ ناتِجةٍ عن التَّأثُّرِ بالشِّعْرِ الغَربيِّ، مِثْلُ المَسْرَحيَّةِ الشِّعْريَّةِ الَّتي حاز قَصَبَ السَّبْقِ فيها أحمد شوقي، فكَتَب مَسْرَحيَّاتٍ مِثْلَ: مَجْنون لَيْلى، عَنْترة، علي بك الكَبير، قَمْبيز.
- اعتِمادُ الوَحْدةِ المَوضوعيَّةِ في القَصيدةِ، وإن جاءَت بَعْضُ القصائِدِ مَبدوءةً بالمقَدِّمةِ الغَزَليَّةِ أو الطَّلَليَّةِ مُجاراةً للقُدَماءِ، إلَّا أنَّها قليلةُ العَدَدِ.
- مُخاطَبةُ جَميعِ فِئاتِ الشَّعْبِ بالشِّعْرِ؛ حيثُ صاغ أحمد شوقي قِصَصًا مِنَ الشِّعْرِ صَغيرةً، على ألسِنَةِ الحَيَواناتِ [814] يُنظر: ((الأدب العربي الحديث)) لمسعود العطوي (ص: 77)، ((دراسات في الأدب العربي الحديث ومدارسه)) لمحمد عبد المنعم خفاجي (1/64). .
أبرَزُ شُعَراءِ المَدْرسةِ وشَيءٌ مِن شِعْرِهم:
من شُّعَراءِ هذه المدرسة المَشهورينَ ؛ الباروديُّ، أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وأحمد محَرَّم، وعلي الجارِم، ومعروف الرَّصافي، وغَيرُهم. غَيْرَ أنَّنا نَكْتفي بالتَّرجمةِ لِبَعْضِهم ممَّن أثَّروا في الشِّعْرِ العَرَبيِّ تأثيرًا كبيرًا.
1- الباروديُّ
هو: مِنَ الجَراكِسةِ، ينتَميانِ إلى المماليكِ الَّذين حَكَموا مِصْرَ فَتْرةً من الزَّمَنِ. وكان أبوه من أُمَراءِ المِدْفَعيَّةِ، ثمَّ جَعَلَه محمَّد علي مُديرًا لبَرْبَر ودنْقَلة، وظَلَّ بهما إلى أن تُوُفِّيَ، وابنُه في السَّابِعةِ مِن عُمُرِه، فكَفَلَه بَعْضُ أهلِه وقاموا خَيْرَ قيامٍ على تربيتِه، حتى إذا بلغ الثَّانيةَ عَشْرةَ ألحَقوه بالمَدْرَسةِ الحَرْبيَّةِ على غِرارِ لِدَاتِه مِن الأَوَّلَ كان قد غَيَّرَ نَهْجَ محمَّد علي في تطويرِ وبِناءِ جَيشٍ قَويٍّ، فعَطَّل عباسٌ ذلك، وأغلَقَ المدارِسَ، وخَلَفَه بَعْدَ ذلك سَعيد، فسار على نَهْجِه، خاصَّةً في تَعطيلِ الجَيشِ وتَسريحِه.
فلمَّا تخَرَّج الباروديُّ في ذلك الوَقْتِ لم يجِدْ عَمَلًا، ما هيَّأَ له تنميةَ مَواهِبِه في الشِّعْرِ العَرَبيِّ، فقَرَأَ كُتُبَ الأدَبِ العَرَبيِّ القديمِ، وحَفِظَ كَثيرًا من عُيونِ القَصائِدِ الجاهِليَّةِ، وسَعى في مُجاراتِها ومُعارَضَتِها جميعًا، بَدْءًا مِن فُحولِ الجاهِليَّةِ، كامْرِئِ القَيْسِ وزُهَيرٍ والنَّابِغةِ، وُصولًا إلى أبي العَلاءِ المَعَرِّي.
وقد دَفَع بالباروديِّ طُموحُه وعُلُوُّ هِمَّتِه إلى أن يُسافِرَ إلى الأَسَتانةِ بحثًا عن بِيئةٍ أُخرى غَيرِ بيئَتِه، فاشتَغَل هناك في وِزارةِ الخارِجيَّةِ، وأتقَنَ الفارِسيَّةَ والتُّرْكيَّةَ، كما دَرَس الأدَبَ الفارِسيَّ والتُّرْكيَّ، ونَظَم شَيئًا مِنَ الشِّعْرِ على اللُّغَتَينِ، وقد هيَّأَت له مَكْتَباتُ الأَسَتانةِ الجوَّ لِيَنهَلَ مِن دَواوينِ الشُّعَراءِ عامَّةً، والعَبَّاسيِّينَ خاصَّةً. ومع توَلِّي الخِدِيوي إسماعيلَ عاد الباروديُّ إلى مِصْرَ، وتدَرَّج في مَناصِبِها، حتى صار مُحافِظًا للقاهِرةِ، ثمَّ وَزيرًا للأوقافِ، ثمَّ وَزيرًا للحَربيَّةِ، ثم انضم إلى ثورة عرابي وبَعْدَ القَضاءِ على تلك الثَّوْرةِ  حُبسُ ونُفيَ إلى سَرَنْديبَ، وظلَّ بها سَبْعةَ عَشَرَ عامًا، نَظَم فيها أفضَلَ أشعارِه، الَّتي بثَّ فيها هُمومَه وشَكاواه، وعَرَض حالَه مِنَ الغُربةِ والأَسى، كما ألَّف فيها مُختاراتٍ مِنَ الشِّعْرِ العَرَبيِّ، فجمَعَ لثَلاثينَ شاعِرًا مُنتَخَباتٍ مِن قصائِدِهم ومَقْطوعاتِهم الشِّعْريَّةِ.
ثمَّ صَدَر العَفْوُ عنه في سَنةِ 1900م، فعاد إلى وَطَنِه، واتَّخَذ من بيتِه مُنتَدًى للأُدَباءِ والشُّعَراءِ، وتوُفِّي سنةَ 1904م [815] ينظر: ((الأعلام)) للزركلي (7/171)، ((الأدب لعربي المعاصر في مصر)) لشوقي ضيف (ص: 83) .
ومِن أرْوَعِ قَصائِدِه ما أنشَأَه في مَنْفاه بسَرَنْديبَ، مُبَيِّنًا لَوْعَتَه وشَوْقَه إلى وَطَنِه، ومتعَجِّبًا مِمَّا حلَّ به لمجَرَّدِ دِفاعِه عن وَطَنِه ودِينِه، سائِرًا على عادةِ القُدَماءِ في ذِكْرِ الغَزَلِ والنَّسيبِ، وتَوظيفِه في مَوضوعِه:
لِكُلِّ دَمْعٍ جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ سَبَبُ
وَكَيْفَ يَمْلِكُ دَمْعَ العَيْنِ مُكْتَئِبُ
لَوْلا مُكَابَدَةُ الأَشْوَاقِ ما دَمَعَتْ
عَيْنٌ وَلا بَاتَ قَلْبٌ فِي الحَشَا يَجِبُ
فَيَا أَخَا العَذْلِ لا تَعْجَلْ بِلائِمَةٍ
عَلَيَّ فَالحُبُّ سُلْطَانٌ لَهُ الغَلَبُ
لَوْ كَانَ لِلْمَرْءِ عَقْلٌ يَسْتَضيءُ بِهِ
فِي ظُلْمَةِ الشَّكِّ لَم تَعْلَقْ بِهِ النُّوَبُ
وَلَوْ تَبَيَّنَ ما في الغَيْبِ مِنْ حَدَثٍ
لَكانَ يَعْلَمُ مَا يَأْتِي وَيَجْتَنِبُ
لَكِنَّه غَرَضٌ لِلدَّهْرِ يَرْشُقُهُ
بِأَسْهُمٍ ما لَها رِيشٌ ولا عَقَبُ
فكَيفَ أَكْتُمُ أَشْوَاقِي وَبِي كَلَفٌ
تَكَادُ مِنْ مَسِّه الأحْشَاءُ تَنْشَعِبُ
أمْ كَيفَ أَسْلو ولي قَلْبٌ إذا الْتَهَبَتْ
بالأُفْقِ لَمْعَةُ بَرْقٍ كادَ يَلْتَهِبُ
أصبَحْتُ فِي الحُبِّ مَطْوِيًّا عَلى حُرَقٍ
يَكادُ أيسَرُها بِالرُّوحِ يَنْتَشِبُ
إذا تَنَفَّسْتُ فاضَتْ زَفْرَتي شَرَرًا
كما اسْتَنارَ وَراءَ القَدْحةِ اللَّهَبُ
لم يَبْقَ لي غَيْرَ نَفْسِي ما أجودُ بِه
وقد فَعَلْتُ فهل مِنْ رَحْمةٍ تَجِبُ
كأنَّ قَلْبي إذا هاجَ الغَرامُ بِه
بَيْنَ الحَشا طائِرٌ في الفَخِّ يَضْطَرِبُ
لا يَتْرُكُ الحُبُّ قَلْبي مِنْ لَواعِجِه
كأنَّما بَيْنَ قَلْبي والهَوى نَسَبُ
فلا تَلُمْني عَلى دَمْعٍ تَحَدَّرَ في
سَفْحِ العَقيقِ فلي في سَفْحِه أرَبُ
مَنازِلٌ كُلَّما لاحَتْ مَخايِلُها
فِي صَفْحةِ الفِكْرِ مِنِّي هاجَني طَرَبُ
لي عِنْدَ ساكِنِها عَهْدٌ شَقِيتُ بِه
والعَهْدُ ما لم يَصُنْه الوُدُّ مُنْقَضِبُ
وعادَ ظَنِّي عَليلًا بَعْدَ صِحَّتِه
والظَّنُّ يَبْعُدُ أحْيانًا ويَقْتَرِبُ
فيا سَراةَ الحِمَى ما بالُ نُصْرَتِكُم
ضاقَتْ عَلَيَّ وأنتم سادةٌ نُجُبُ
أضَعْتُموني وكانَتْ لي بكم ثِقةٌ
مَتى خَفَرْتُم ذِمامَ العَهْدِ يا عَرَبُ
أليسَ في الحَقِّ أنْ يَلْقَى النَّزيلُ بِكُم
أَمْنًا إذا خافَ أنْ يَنْتابَه العَطَبُ
فكَيفَ تَسْلُبُني قَلْبي بلا تِرَةٍ
فَتاةُ خِدْرٍ لها في الحَيِّ مُنْتَسَبُ
مَرَّتْ علينا تَهَادَى في صَواحِبِها
كالبَدْرِ في هَالةٍ حَفَّت بِه الشُّهُبُ
تَهتَزُّ مِنْ فَرْعِها الفَينانِ في سَرَقٍ
كسَمْهَرِيٍّ له مِنْ سَوْسَنٍ عَذَبُ
كَأَنَّ غُرَّتَها مِنْ تَحتِ طُرَّتِها
فَجْرٌ بجانِحةِ الظَّلْماءِ مُنْتَقِبُ
كانَتْ لنا آيةً في الحُسْنِ فاحْتَجَبَتْ
عَنَّا بِلَيْلِ النَّوَى والبَدْرُ يَحْتَجِبُ
فهل إلى نَظْرةٍ يَحْيا بها رَمَقٌ
ذَرِيعةٌ تَبْتَغيها النَّفْسُ أو سَبَبُ
أبِيتُ في غُرْبةٍ لا النَّفْسُ رَاضِيةٌ
بها ولا المُلْتَقى مِنْ شِيعَتي كَثَبُ
فلا رَفِيقٌ تَسُرُّ النَّفْسَ طَلْعَتُه
ولا صَديقٌ يَرَى ما بي فَيَكْتَئِبُ
ومِن عَجَائِبِ ما لاقَيْتُ مِنْ زَمَني
أنِّي مُنِيتُ بِخَطْبٍ أمْرُه عَجَبُ
لم أقْتَرِفْ زَلَّةً تَقْضِي عَلَيَّ بما
أصْبَحْتُ فيه فماذا الوَيْلُ والحَرَبُ
فهلْ دِفاعي عن دِيني وعن وَطَني
ذَنْبٌ أُدانُ به ظُلْمًا وأغْتَرِبُ
فلا يَظُنَّ بيَ الحُسَّادُ مَنْدَمَةً
فإنَّني صابِرٌ في اللهِ مُحْتَسِبُ
أثْرَيْتُ مَجْدًا فلم أعْبَأْ بما سَلَبَتْ
أَيْدِي الحَوادِثِ مِنِّي فهْوَ مُكْتَسَبُ
لا يَخْفِضُ البُؤْسُ نَفْسًا وهْيَ عالِيةٌ
ولا يُشِيدُ بذِكْرِ الخامِلِ النَّشَبُ
إنِّي امْرُؤٌ لا يَرُدُّ الخَوْفُ بادِرَتي
ولا يَحيفُ عَلى أخْلاقيَ الغَضَبُ
مَلَكْتُ حِلْمِي فلم أنْطِقْ بِمُنْدِيَةٍ
وَصُنْتُ عِرْضي فلم تَعْلَقْ به الرِّيَبُ
وما أُبالي ونَفْسي غَيْرُ خاطِئةٍ
إذا تَخَرَّصَ أقْوامٌ وإنْ كَذَبوا
ها إنَّها فِرْيةٌ قد كان باءَ بها
في ثَوْبِ يُوسُفَ مِنْ قَبْلي دَمٌ كَذِبُ
فإنْ يَكُنْ ساءَني دَهْرِي وغادَرَني
في غُرْبةٍ ليسَ لي فيها أخٌ حَدِبُ
فسَوفَ تَصْفو اللَّيالي بَعْدَ كُدْرَتِها
وكُلُّ دَوْرٍ إذا ما تَمَّ يَنْقَلِبُ [816] ((ديوان محمود سامي البارودي)) (ص: 72).
2- أحمد شوقي
هو: أحمد شوقي بنُ عليِّ بنِ أحمد شوقي، واسمُه مُرَكَّبٌ مِن اسمينِ؛ فاسمُه أحمد شوقي، واسمُ أبيه عليٌّ.
وُلِدَ فيه الدَّمُ العَرَبيُّ والكُرْديُّ والشَّرْكَسيُّ، وقد ذكَرَ أنَّ أباه يُرَدُّ أصلُه إلى الأكرادِ ثمَّ العَرَبِ. وكانت أمُّه يَجري فيها الدَّمُ التُّرْكي واليُونانيُّ؛ إذ كان أبوها تُركيًّا مِن بِطانةِ إبراهيمَ، ثمَّ صار بَعْدَه وَكيلًا للخاصَّةِ زَمانَ إسماعيلَ، أمَّا أمُّها فكانت يونانيَّةً مِن سَبْيِ إبراهيمَ في بِلادِ المُورةِ.
وقد نَشَأ شوقي في أُسرةٍ مُترَفةٍ غَنيَّةٍ حَجَبَتْه عن الاختِلاطِ بالشَّعْبِ وأن يحيا حياةَ عامَّةِ النَّاسِ، إلَّا أنَّ اختِلافَه إلى الكُتَّابِ، ثمَّ انتِقالَه إلى الابتِدائيَّةِ والثَّانويَّةِ كان بمثابةِ الفُرصةِ لذلك.
التَحَق شوقي بمَدرسةِ الحُقوقِ ودرَس القانونَ، ثمَّ أُنشئَ فيها قِسمٌ للتَّرجمةِ فالْتَحَق به، وتعرَّف هنالك على أستاذِه محمَّد البسيوني، الَّذي أُعجِبَ به وبشِعْرِه، وكان هو أيضًا يُجيدُ نَظْمَ الشِّعْرِ. ولَمَّا تخَرَّج شوقي عيَّنَه الخِدِيوي توفيق في القَصْرِ، ثمَّ أرسَلَه في بَعثةٍ إلى فَرَنسا لدِراسةِ الحُقوقِ، فأقام هنالك أربعةَ أعوامٍ، حَصَل فيها على الإجازةِ النِّهائِيَّةِ.
ولَمَّا قامت الحَربُ العالَميَّةُ الأُولى كان الخِدِيوي عَبَّاسٌ في تُركيا، فمنَعَه الإنجليزُ مِن دُخولِ مِصْرَ، ونصَّبوا بدَلًا منه السُّلطانَ حُسَين كامل، ونَفَوا شوقي كذلك إلى إسْبانيا، فمَكَث فيها إلى أنِ انتَهَت الحَرْبُ، وهنالك كَتَب أشعارَه الَّتي تُعَبِّرُ عن الحَنينِ، كقَصيدتِه السِّينيَّةِ الَّتي يُعارِضُ فيها سِينيَّةَ البُحْتُريِّ، ومَطلَعُها:
اختِلافُ النَّهارِ واللَّيلِ يُنْسي
اذْكُرا لِيَ الصِّبا وأَيَّامَ أُنْسي
وصِفا لي مُلاوةً مِن شَبابٍ
صُوِّرَت مِن تَصَوُّراتٍ ومَسِّ
عَصَفَت كَالصَّبا اللَّعوبِ ومَرَّت
سِنةً حُلوةً ولَذَّةَ خَلْسِ
وسَلا مِصرَ هل سَلا القَلبُ عنها
أو أسا جُرحَه الزَّمانُ المُؤَسِّي
كُلَّما مَرَّتِ اللَّيالي عليه
رَقَّ والعَهدُ في اللَّيالي تُقَسِّي
مُسْتَطارٌ إذا البَواخِرُ رَنَّت
أوَّلَ اللَّيلِ أو عَوَتْ بَعْدَ جَرْسِ
راهِبٌ في الضُّلوعِ لِلسُّفْنِ فَطْنٌ
كُلَّما ثُرْنَ شاعَهُنَّ بنَقْسِ
يا ابنةَ اليَمِّ ما أبوكِ بَخيلٌ
ما له مُولَعًا بِمَنعٍ وحَبسِ
أحَرامٌ عَلى بَلابِلِه الدَّوحُ
حَلالٌ لِلطَّيرِ مِن كُلِّ جِنْسِ
كُلُّ دارٍ أحَقُّ بالأَهْلِ إلَّا
في خَبيثٍ مِنَ المَذاهِبِ رِجْسِ
نَفَسِي مِرجَلٌ وقَلبي شِراعٌ
بِهِما في الدُّموعِ سِيري وأَرْسي
واجْعَلي وَجهَكِ الفَنارَ ومَجرا
كِ يَدَ الثَّغْرِ بَينَ رَملٍ ومَكْسِ
وَطَني لَو شُغِلتُ بِالخُلدِ عنه
نازَعَتْني إليه في الخُلْدِ نَفْسي
وهَفا بالفُؤادِ في سَلسَبيلٍ
ظَمَأٌ لِلسَّوادِ مِن عَينِ شَمسِ
شَهِدَ اللهُ لم يَغِبْ عن جُفوني
شَخْصُه ساعةً ولم يَخْلُ حِسِّي [817] ((ديوان أحمد شوقي)) (ص: 430).
وفي سَنةِ 1927م طُبع لأوَّلِ مرَّةٍ ديوانُه (الشَّوقيَّات)، وأُقيمَ له حَفْلٌ كبيرٌ حضره جَمعٌ كَبيرٌ من كافَّةِ الدُّوَلِ العَرَبيَّةِ، وفيها تُوِّج شوقي بلَقَبِ أميرِ الشُّعَراءِ، ووقف حافظ إبراهيم بنَفْسِه مُعْلِنًا ذلك، فقال مُبارِكًا مُهَنِّئًا:
أميرَ القَوافي قد أتَيتُ مُبايِعًا
وهَذي وُفودُ الشَّرْقِ قد بايَعَتْ معي
وقد بَرَع شوقي في جميعِ الفُنونِ والموضوعاتِ الَّتي تناوَلَها شِعْرُه، فكتب الشِّعْرَ الوَطَنيَّ، وكَتَب في الخِلافةِ العُثْمانيَّةِ، والشِّعْرِ التَّاريخيِّ، كما نَظَم الشِّعْرَ المَسْرَحيَّ، وألَّف الشِّعْرَ على لِسانِ الحَيَوانِ بلُغةٍ سَهلةٍ يَفهَمُها الأطفالُ، كما أَوْلى الشِّعْرَ الدِّينيَّ عنايةً خاصَّةً، فكَثُرَت المدائِحُ النَّبَويَّةُ، وغَيرِهما.
وقد أجمع الشُّعَراءُ والأُدَباءُ على شاعِريَّةِ شوقي ونُبوغِه، وأقرُّوا له بالفَضْلِ وإمارةِ الشِّعْرِ، إلَّا فِئةً قليلةً أنكَرَت ذلك، وعلى رأسِهم عَبَّاس العَقَّاد وجماعةُ الدِّيوانِ.
وكانت وفاتُه سَنةَ 1932م [818] ينظر: ((الأعلام)) للزركلي (1/136)، ((الأدب لعربي المعاصر في مصر)) لشوقي ضيف (ص: 110) .
ومِن شِعْرِه:
وُلِدَ الهُدى فالكائِناتُ ضِياءُ
وفَمُ الزَّمانِ تَبَسُّمٌ وثَناءُ [819] ((ديوان أحمد شوقي)) (ص: 41).
ومن شعره
ريمٌ عَلى القاعِ بَيْنَ البانِ والعَلَمِ
أَحَلَّ سَفْكَ دَمي في الأشْهُرِ الحُرُمِ
رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَدًا
يا ساكِنَ القاعِ أَدرِكْ ساكِنَ الأَجَمِ
لَمَّا رَنا حَدَّثَتْني النَّفْسُ قائِلَةً
يا وَيحَ جَنْبِكَ بالسَّهْمِ المُصيبِ رُمِي
جَحَدْتُها وَكَتَمْتُ السَّهمَ في كَبِدي
جُرْحُ الأحِبَّةِ عِندي غَيرُ ذي أَلَمِ
......
يا جاهِلينَ عَلى الهادي ودَعوَتِهِ
هَلْ تَجهَلونَ مَكانَ الصَّادِقِ العَلَمِ
لَقَّبْتُموهُ أَمينَ القَومِ في صِغَرٍ
وما الأمينُ عَلى قَولٍ بِمُتَّهَمِ
فاقَ البُدورَ وفاقَ الأنبِياءَ فكَم
بالخَلْقِ والخُلْقِ مِن حُسْنٍ وَمِن عِظَمِ
جاءَ النَّبِيُّونَ بالآياتِ فَانصَرَمَت
وجِئْتَنا بحَكيمٍ غَيرِ مُنصَرِمِ
آياتُهُ كُلَّما طالَ المَدى جُدُدٌ
يَزينُهُنَّ جَلالُ العِتْقِ والقِدَمِ
يَكادُ في لَفظَةٍ مِنهُ مُشَرَّفَةٍ
يُوصيكَ بالحَقِّ والتَّقْوى وبالرَّحِمِ
يا أفصَحَ النَّاطِقينَ الضَّادَ قاطِبَةً
حَديثُكَ الشَّهْدُ عِندَ الذَّائِقِ الفَهِمِ
حَلَّيْتَ مِن عَطَلٍ جيدَ البَيانِ بِهِ
في كُلِّ مُنتَثِرٍ في حُسنِ مُنتَظِمِ
بِكُلِّ قَولٍ كَريمٍ أنت قائِلُهُ
تُحْييِ القُلوبَ وَتُحْييِ مَيِّتَ الهِمَمِ
سَرَت بَشائِرُ بالهادي ومَولِدِهِ
في الشَّرقِ والغَربِ مَسرى النُّورِ في الظُّلَمِ
تَخَطَّفَت مُهَجَ الطَّاغينَ مِن عَرَبٍ
وطَيَّرَت أنفُسَ الباغينَ مِن عُجُمِ
ريعَت لها شُرَفُ الإيوانِ فانصَدَعَت
مِن صَدمةِ الحَقِّ لا مِن صَدمةِ القُدُمِ
أتَيتَ والنَّاسُ فَوضى لا تَمُرُّ بهِم
إلَّا عَلى صَنَمٍ قَد هامَ في صَنَمِ
والأرضُ مَملوءةٌ جَورًا مُسَخَّرَةٌ
لِكُلِّ طاغِيةٍ في الخَلقِ مُحتَكِمِ [820] ((ديوان أحمد شوقي)) (ص: 260). وفي القصيدة أبياتٌ فيها غلوٌّ في النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم  
3- حافظ إبراهيم
وُلِدَ محمَّد حافظ بنُ إبراهيمَ بنِ فهمي سنة 1287ه/ 1870م، لأبٍ مُهنْدِسٍ يَعمَلُ في ترميمِ وصيانةِ قناطِرِ النِّيلِ القديمةِ، مات والدُه، فانتقَلَت به أمُّه إلى القاهِرةِ قَبلَ أن تموتَ هي أيضًا، تاركةً ولَدَها لأخيها الَّذي تعَهَّد بتربيتِه وتَعليمِه.
الْتَحَق حافِظ بالكُتَّابِ لحِفْظِ القُرآنِ وتعَلُّمِ القِراءةِ والكِتابةِ، ثم الْتَحَق بالمدرسةِ الخِدِيويَّةِ، ثمَّ انتقل إلى طنطا مع خاله. وهناك التحق بمكتَبِ أحَدِ المحامينَ وعمل به، ثم عُيِّنَ في القِسْمِ الأدَبيِّ مِن دارِ الكُتُبِ المِصْريَّةِ، وتُوُفِّي حافظ سنة 1932م.
وقد نَبَغ حافِظ في الشِّعْرِ الاجتِماعيِّ والسِّياسيِّ، فكان مِرآةً لظُروفِ عَصْرِه ومُشكِلاتِه، يُناقِشُ في شِعْرِه أدَقَّ القَضايا وأبسَطَها، فتحَدَّث عن الطِّفْلِ وأهمِّيَّةِ رِعايتِه والاعتِناءِ به، كما تحَدَّث عن التَّربيةِ والتَّنْشِئةِ الصَّحيحةِ، كما لم يُغفِلِ الشِّعْرَ الدِّينيَّ، فأنشَدَ قَصيدةً طويلةً في عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ وفَضائِلِه [821] يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (6/ 76)، ((الأدب العربي المعاصر في مصر)) لشوقي ضيف (ص: 101). .
ومِن شِعْرِه:
قَصيدتُه في حادِثةِ دِنْشُواي، وقد استَعْمَلَ فيها الأُسلوبَ السَّاخِرَ:
أيُّها القائِمونَ بالأمرِ فينا
هلْ نَسِيتُم وَلاءَنا والوِدادا
خَفِّضوا جَيشَكُم وناموا هَنيئًا
وابتَغوا صَيدَكُم وجُوبوا البِلادا
وإذا أعوَزَتْكُمُ ذاتُ طَوقٍ
بَينَ تِلكَ الرُّبا فصِيدوا العِبادا
إنَّما نَحنُ والحَمامُ سَواءٌ
لمْ تُغادِرْ أطواقُنا الأجْيادا
لا تَظُنُّوا بنا العُقوقَ ولَكِن
أرشِدونا إذا ضَلَلْنا الرَّشادا
لا تُقِيدوا مِن أُمَّةٍ بقَتيلٍ
صادَتِ الشَّمسُ نَفسَهُ حينَ صادا
جاءَ جُهَّالُنا بأمرٍ وجِئتُم
ضِعفَ ضِعفَيهِ قَسوَةً واشتِدادا
أحسِنوا القَتْلَ إنْ ضَنِنْتُم بعَفْوٍ
أقِصاصًا أرَدتُمُ أم كِيادا
أحسِنوا القَتْلَ إنْ ضَنِنْتُم بعَفْوٍ
أنُفوسًا أصَبتُمُ أم جَمادا
لَيتَ شِعْري أتِلكَ مَحكَمَةُ التَّفتيشِ
عادَت أم عَهْدُ نَيْرونَ عادا
كَيفَ يَحلو مِنَ القَوِيِّ التَّشَفِّي
مِن ضَعيفٍ ألقى إلَيهِ القِيادا
إنَّها مُثلَةٌ تَشِفُّ عَن الغَيظِ
ولَسنا لغَيظِكُم أندادا
أكرِمونا بأرضِنا حَيثُ كُنتُم
إنَّما يُكرِمُ الجَوَادُ الجَوَادا
إنَّ عِشرينَ حَجَّةً بَعدَ خَمسٍ
عَلَّمَتْنا السُّكونَ مَهما تَمادى
أُمَّةُ النِّيلِ أكبَرَت أن تُعاديَ
مَن رَماها وَأشفَقَت أن تُعادَى
لَيسَ فيها إلَّا كَلامٌ وإلَّا
حَسرَةٌ بَعدَ حَسرةٍ تَتَهادى
أيُّها المُدَّعي العُمومِيُّ مَهلًا
بَعضَ هذا فقَد بَلَغْتَ المُرادا
قَد ضَمِنَّا لَكَ القَضاءَ بمِصْرَ
وضَمِنَّا لِنَجلِكَ الإسْعادا
فإذا ما جَلَسْتَ للحُكمِ فاذكُرْ
عَهْدَ مِصر فقَد شَفَيتَ الفُؤادا
لا جَرى النِّيلُ في نَواحيكِ يا مِصرُ
ولا جادَكِ الحَيَا حَيثُ جادا
أنتِ أنبَتِّ ذلِكَ النَّبْتَ يا مِصرُ
فأضحى عَلَيكِ شَوكًا قَتادا
أنتِ أنبَتِّ ناعِقًا قامَ بالأمسِ
فأدْمى القُلوبَ والأكْبادا
إيهِ يا مِدرَةَ القَضاءِ ويا مَن
سادَ في غَفلَةِ الزَّمانِ وشادا
أنتَ جَلَّادُنا فلا تَنسَ أنَّا
قَد لَبِسْنا عَلى يَدَيكَ الحِدادا [822] ((ديوان حافظ إبراهيم)) (ص: 334).
ومنه أيضًا قصيدتُه المشهورةُ (مِصْرُ تتحَدَّثُ عن نَفْسِها):
وَقَفَ الخَلْقُ يَنظُرونَ جَميعًا
كَيفَ أبْني قَواعِدَ المَجْدِ وَحْدي
وبُناةُ الأهرامِ في سالِفِ الدَّهرِ
كَفَوني الكَلامَ عِندَ التَّحَدِّي
أنا تاجُ العَلاءِ في مَفرِقِ الشَّرْقِ
ودُرَّاتُهُ فَرائِدُ عِقْدي
أيُّ شَيءٍ في الغَرْبِ قَد بَهَرَ النَّاسَ
جَمالًا ولَمْ يَكُنْ مِنهُ عِنْدي
فَتُرابي تِبْرٌ ونَهْري فُراتٌ
وسَمائي مَصقولَةٌ كالفِرِنْدِ
أينَما سِرْتَ جَدوَلٌ عِندَ كَرْمٍ
عِندَ زَهرٍ مُدَنَّرٍ عِندَ رَنْدِ
ورِجالي لَو أنصَفوهُم لَسادوا
مِن كُهولٍ مِلءِ العُيونِ وَمُرْدِ
لَو أصابوا لَهُم مَجالًا لَأبْدَوا
مُعجِزاتِ الذَّكاءِ في كُلِّ قَصْدِ
إنَّهُم كالظُّبا ألَحَّ عَلَيها
صَدَأُ الدَّهْرِ مِن ثَواءٍ وغِمْدِ
فإذا صَيقَلُ القَضاءِ جَلاها
كُنَّ كالمَوتِ ما لَهُ مِن مَرَدِّ
أنا إن قَدَّرَ الإلَهُ مَماتي
لا تَرى الشَّرْقَ يَرفَعُ الرَّأسَ بَعْدي
ما رَماني رامٍ وراحَ سَليمًا
مِن قَديمٍ عِنايةُ اللهِ جُنْدي
كَم بَغَت دَولَةٌ عَلَيَّ وَجارَت
ثُمَّ زالَت وَتِلكَ عُقْبى التَّعَدِّي
إنَّني حُرَّةٌ كَسَرتُ قُيودي
رَغمَ رُقْبى العِدا وقَطَّعتُ قِدّي
وتَماثَلْتُ للشِّفاءِ وقَد دانَيتُ
حَيْني وهَيَّا القَومُ لَحْدي
.... [823] ((ديوان حافظ إبراهيم)) (ص: 403).
4- محمَّدُ ابنُ عُثَيمِين
وُلِدَ محمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ عُثَيمين سَنةَ (1270ه -1854م)، في بَلدةِ السَّلميَّةِ، من أعمال الخرْج في جنوبَ الرِّياضِ، ونشأ يتيمًا بَينَ أخوالِه، تعلَّم مبادِئَ القراءةِ والكتابةِ في كتَّابِ القريةِ، وبعد أن حَفِظ القُرآنَ الكريمَ شرع في طَلَبِ العِلمِ، حتَّى تمكَّن من علمَيِ التَّوحيدِ والفِقهِ، ثمَّ سافر إلى سواحِلِ الخليجِ العَرَبيِّ (البحرينِ، وقَطَرَ، وعُمَانَ)، واتَّصل بأُمَراءِ تلك الأقطارِ ومدَحَهم، ولمَّا تولَّى المَلِكُ عبدُ العزيزِ على إقليمِ الأحساءِ جاءه ابنُ عُثَيمين مهنِّئًا بقصيدةٍ له، فأكرَمه وأجزَل له العطاءَ، وظلَّ ابنُ عُثَيمين بَعدَ ذلك على صِلةٍ وثيقةٍ بآلِ سُعودٍ، إلى أن تُوفِّيَ سَنةَ (1363ه - 1944م)، وكان قد بلغ ثلاثًا وتِسعينَ سَنةً  [824]يُنظَر: الأعلام للزركلي (6/ 245)، تسهيل السابلة لمريد معرفة الحنابلة (3/ 1818). .   
شِعْرُه:
تناوَلَ محمَّدُ بنُ عُثَيمين في شِعْرِه الدِّفاعَ عن السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ المطَهَّرةِ، والدَّعوةَ إلى العِلمِ، والحَثَّ على التَّعلُّمِ، كما رصَد الأحداثَ الدَّاخليَّةَ لبلادِه، ممتَدِحًا قادَتَها من آلِ سُعودٍ، جاعِلًا نصيبًا من شِعرِه لرِثاءِ العُلَماءِ والشُّيوخِ الذين تتلمَذَ على يديهم، وكذلك العُلَماءُ من أصدقائِه ومُعاصريه. وقد عدَّه الأُدَباءُ باعثًا للشِّعرِ العَرَبيِّ الفصيحِ في بلادِ نجد، ومُخَلِّصًا له من التصَنُّعِ والتكَلُّفِ، وشبَّهوه بالباروديِّ الذي أعاد للشِّعرِ رَونَقَه وجلالَه.
ومن أروَعِ شِعرِه قصيدتُه التي مدَح فيها المَلِكَ عبدَ العزيزِ آلَ سعودٍ عِندَ دُخولِه الأحساءَ، مُعارِضًا فيها قَولَ أبي تمَّامٍ:
السَّيفُ أصدَقُ أنباءً من الكُتُبِ
في حَدِّه الحَدُّ بَينَ الهَزْلِ واللَّعِبِ
فقال  [825]ملحق شعر ابن عثيمين في ديوان ابن مشرَّف (ص172- 174). : البسيط:
العِزُّ والمجدُ في الهِنديَّةِ القُضُبِ
لا في الرَّسائِلِ والتَّنميقِ للخُطَبِ
تقضي المَواضي فيَمضي حُكمُها أَمَمًا
إن خالجَ الشَّكُّ رأيَ الحاذِقِ الأرِبِ
وليس يبني العُلا إلَّا ندًى ووغًى
هما المعارِجُ للأَسْنى من الرُّتَبِ
ومُشمَعِلٌّ أخو عَزمٍ يُشَيِّعُه
قَلبٌ صَرومٌ إذا ما هَمَّ لم يَهَبِ
للهِ طَلَّابُ أوتارٍ أعَدَّ لها
سَيرًا حثيثًا بعَزمٍ غيرِ مُؤتَشِبِ
ذاك الإمامُ الذي كادتْ عزائِمُه
تسمو به فوقَ هامِ النَّسْرِ والقُطُبِ
عبدُ العزيزِ الذي ذلَّتْ لِسَطوتِه
شُوسُ الجَبابرِ مِن عُجْمٍ ومِن عَرَبِ
ليثُ اللُّيوثِ أخو الهَيجاءِ مِسْعَرُها
السَّيِّدُ المنجِبُ ابنُ السَّادةِ النُّجُبِ
قومٌ هُمُ زِينةُ الدُّنيا وبهجتُها
وهُمْ لها عَمَدٌ ممدودةُ الطُّنُبِ
لكنَّ شمسَ ملوكِ الأرضِ قاطبةً
عبدُ العزيزِ بلا مَيْنٍ ولا كَذِبِ
قادَ المَقانِبَ يكسو الجوَّ عَثيرُها
سماءَ مُرْتَكِمٍ مِن نَقْعٍ مُرْتَكِبِ
حتَّى إذا وردَتْ ماءَ الصَّراةِ وقد
صارت لواحِقَ أقرابٍ مِنَ السَّغَبِ
قال النِّزالُ لنا في الحَربِ شِنْشِنةٌ
نمشي إليها ولو جَثْيًا على الرُّكَبِ
فسارَ من نفسِه في جَحْفَلٍ حَرِدٍ
وسارَ مِن جيشِه في عَسكَرٍ لَجِبِ
حتى تسوَّرَ حيطانًا وأبنِيةً
لولا القَضاءُ لَمَا أُدرِكنَ بالسَّبَبِ
لكنَّها عَزمةٌ مِن فاتِكٍ بَطَلٍ
حمَى بها حَوزةَ الإسلامِ والحَسَبِ
فبيَّتَ القومَ صَرْعى خَمرِ نَومِهِمُ
وآخَرينَ سُكارَى بابنةِ العِنَبِ
في ليلةٍ شابَ قَبلَ الصُّبحِ مَفْرِقُها
لو كان تَعقِلُ لم تُملَكْ مِنَ الرُّعُبِ
ألقحَتْها في هَزيعِ اللَّيلِ فامتَخَضَتْ
قَبلَ الصَّباحِ فألقَتْ بَيضةَ الحُقُبِ
كانوا يَعَدُّونها نَحسًا مذمَّمةً
واللهُ قدَّرَها فرَّاجةَ الكُرَبِ
صبَّ الإلهُ عليهم سَوطَ مُنتَقِمٍ
مِن كفِّ محتَسِبٍ للهِ مُرتَقِبِ
في أوَّلِ اللَّيلِ في لَهوٍ وفي لَعِبٍ
وآخِرِ اللَّيلِ في وَيلٍ وفي حَرَبِ
اللهُ أكبرُ هذا الفَتحُ قد فُتِحَتْ
به من اللهِ أبوابٌ بلا حُجُبِ
فتحٌ تؤرِّجُ هذا الكَونَ نَفْحَتُهُ
ويُلبِسُ الأرضَ زِيَّ المارحِ الطَّرِبِ
فتحٌ به أضحتِ الأحْساءُ طاهِرةً
مِن رِجسِها وهْي فيما مَرَّ كالجُنُبِ
شكرًا بني هَجَرٍ للمُقْرِنيِّ فقَدْ
مِن قَبْلِه كُنتُمُ في هُوَّةِ العَطَبِ
قد كُنتمُ قبلَه نَهْبًا بمَضْيَعةٍ
ما بَينَ مُفتَرَسٍ منكم ومُستَلَبِ
رُومٌ تُحَكِّمُ فيكُم رأيَ ذي سَفَهٍ
إحكامَ مُعتَقِدِ التَّثْليثِ والصُّلُبِ
وللأعاريبِ في أموالِكم عَبَثٌ
يَمْرونَكم مَرْيَ ذاتِ الصِّفرِ في الحَلَبِ
وقبْلَكم جُنَّ نَجدٌ واستُطِيرَ به
فماذَهُ بشِفارِ البِيضِ واليَلَبِ
...
ويتَّضِحُ بجلاءٍ في تلك القصيدةِ اقتِباسُ الشَّاعِرِ من قصيدةِ أبي تمَّامٍ ومحاكاتُها في الألفاظِ والمعاني، ما يدلُّ على شاعِريَّتِه وتمكُّنِه من أدواتِه الشِّعريَّةِ التي يدورُ بها في فَلَكِ الاتِّجاهِ المحافِظِ الأصيلِ.
وقال في رثاءِ الشَّيخِ عبدِ اللهِ بنِ عَبدِ اللَّطيفِ آلِ الشَّيخِ  [826]ملحق شعر ابن عثيمين في ديوان ابن مشرف (ص185- 186). البسيط:
لمِثلِ ذا الخَطْبِ فلتَبْكِ العُيونُ دَمَا
فما يماثِلُهُ خَطْبٌ وإنْ عَظُمَا
كانت مَصائبُنا مِن قَبلِه جَلَلًا
فالآنَ جُبَّ سَنامُ المجدِ وانهدَما
سقى ثرًى حلَّه شَيخُ الهُدَى سُحُبٌ
مِن واسعِ العَفوِ يَهمي وَبْلَها دِيَما
شيخٌ مضَى طاهرَ الأخلاقِ متَّبِعًا
طريقةَ المُصطفى باللهِ مُعتَصِما
بحرٌ من العِلمِ قد فاضت جداوِلُه
لكِنَّه سائغٌ في ذَوقِ مَن طَعِما
تنشَقُّ أصدافُهُ في البَحثِ عن دُرَرٍ
تَهدِي إلى الحَقِّ مَفهومًا ومُلتَزَما
فكم قواعِدِ فِقهٍ قد أبانَ وكم
أشادَ رَسْمًا مِنَ العُليا قدِ انثَلَمَا
نعَى إلينا العُلا والبِرَّ مَصرَعُه
والعِلمَ والفضلَ والإحسانَ والكَرَما
هذي الخِصالُ التي كانت تُفَضِّلُه
على الرِّجالِ فأضحَى فيهِمُ عَلَما
فليت شِعريَ مَن للمُشكِلاتِ إذا
ما حلَّ منها عَويصٌ يُبهِمُ الفَهِما
وللعُلومِ التي تخفَى غوامِضُها
على الفُحولِ من الأحبارِ والعُلَما
مَنْ للأراملِ والأيتامِ إنْ كلَحَتْ
غُبْرُ السِّنينَ وأبدَتْ ناجِذًا خَذِما
لو كُنتُ أملِكُ إذْ حانت مَنيَّتُهُ
دفعتُها عنه ولكِنْ حُمَّ ما حُتِما
فقُلْ لمَنْ غرَّه في دَهْرِه مَهَلٌ
فظلَّ يَمْري بحالِ الصِّحَّةِ النِّعَما
لا تستَطِلْ غَفوةَ الأيَّامِ إنَّ لها
وشْكَ انتِباهٍ يُرِي موجودَها عَدَما
إنَّ الحياةَ وإنْ طال السُّرورُ بها
لا بدَّ يَلقَى الفتى مِن مَسِّها ألَما
فخُذْ لنُقْلتِكَ الآتي المصيرُ لها
زادًا فما أَلْحَقَ الباقي بمَن قَدَما
لا بدَّ من ساعةٍ يُبكَى عليكَ ولا
تدري بمن قد بكى أو شَقَّ أو لَطَما
أمَا ترى الشَّيخَ عبدَ اللهِ كيف مضى
وكان عِقْدًا نفيسًا يَفضُلُ القِيَما
عِشْنا به حِقْبةً في غِبطةٍ فأتى
عليه ما قد أتى عادًا أخَا إرِمَا
وقبْلَه اختَلَسَتْ سامًا وإخوتَهُ
أيدي المَنونِ وأفنَتْ بعدَهم أُمَمَا
لَهْفي عليه ولَهْفَ المسلمينَ معي
لو أنَّ لَهْفًا شفَى مِن لاهِفٍ سَدَما
ولَهْفَ مَدرسةٍ بالذِّكرِ يَعمُرُها
ومَسجدٍ كان فيه يَنْثُرُ الحِكَما
اللهُ أكبرُ كم باكٍ وباكيةٍ
وحائرٍ كاظمٍ للغيظِ قد وَجَما
وفَجْعةِ الدِّينِ والدُّنيا لمَصرعِهِ
وفَرحةِ النَّاسِ والإسلامِ لو سَلِما
لكنَّه مَوردٌ لا بدَّ واردُهُ
مَن يُعتَبَطْ شارِخًا أو مَن وهَى هَرِمَا
عَمْري لقد غرَّنا مِن دَهْرِنا خِدَعٌ
من حيثُ لا يعلمُ المخدوعُ أو عَلِما
يقودُنا نَحْوَها التَّسويفُ أو طَمَعٌ
في مُضمَحِلٍّ قليلٍ مُعْقِبٍ ندَما
والعُمْرُ والعَيشُ في الدُّنيا له مَثَلٌ
كالظِّلِّ أو من يرَى في نومِه حُلُما
كلٌّ يزولُ سريعًا لا ثباتَ له
فكُنْ لوقتِكَ يا مِسكينُ مُغتَنِما
ليس البُكاءُ وإن طال العَناءُ به
بمُرجِعٍ فائتًا أو مُطفئٍ ضَرَما
فاللهُ يُنزِلُهُ عَفوًا ويَرحَمُهُ
فإنَّه جَلَّ قدْرًا أرحَمُ الرُّحَما
ثمَّ الصَّلاةُ على من في مُصيبتِه
لنا العَزاءُ إذا ما حادِثٌ عَظُما
محمَّدٍ خيرِ مَبعوثٍ وشِيعتِه
وصَحْبِهِ ما أضاءَ البَرقُ مُبتسِما
5- هِلالُ بنُ بَدرٍ البُوسَعيديُّ العُمانيُّ:
   وُلِد هلالُ بنُ بَدرِ بنِ سَيفِ بنِ سُلَيمانَ البُوسعيديُّ في مَسْقَطٍ سنةَ (1314ه -1896م)، في أسرةٍ عَريقةٍ، وكان أبوه من قُوَّادِ السُّلطانِ فَيصَل بنِ تركي، عاش هِلالُ في عُمَانَ، وسافر إلى أوربَّا والِهندِ والبَحرينِ، وتلقَّى تعليمَه على يدِ عُلَماءِ مَسقَطٍ؛ حيث تعلَّم القرآنَ الكريمَ، وقرأ في أشعارِ العرَبِ، وأتقن العربيَّةَ وعُلومَها، قرَّبه السُّلطانُ سعيدُ بنُ تيمورٍ وأولاه المناصِبَ المهِمَّةَ، تُوفِّيَ هلالُ بنُ بدرٍ في شَهرِ رَمضانَ 1385ه – 1966م، وله بجانبِ ديوانِ شِعرِه مؤلَّفاتٌ أخرى؛ منها: «الأوليات»، و«تاريخ عُمَان»، و«المناهِج الدراسيَّة»، كما ألَّف كتابًا في «الإملاء».
شِعرُه:
امتاز شِعرُ البُوسَعيديِّ برقَّةِ الأُسلوبِ ولُطفِ المأخَذِ، مع فصاحةِ الألفاظِ وقوَّةِ التَّراكيبِ، ممتَزِجًا بخفَّةِ رُوحِه ودَماثةِ خُلُقِه، ما استحقَّ عليه أن يُلَقَّبَ بالشَّاعِرِ الظَّريفِ.
وقد قال عنه بعضُ مُعاصِريه: (رَغِب في الشِّعرِ وجعَلَه سَلْوتَه ومُستراحَه في أوقاتِ خَلْوتِه، حتَّى امتزج بأعشارِ قَلبِه، وانطبع في صحيفةِ ذاكرتِه، وما زال معدودًا من أُدَباءِ مَسقَطٍ في شِعرِه ذي الذَّوقِ الحُلوِ، والمتانةِ في الوَضعِ، السَّلِسِ الرَّائعِ، الذي يخلو من التَّعقيدِ في المعاني، وينأى عن المُخلِّ بالفصاحةِ، يُصَوِّرُ المعانيَ أحسَنَ تصويرٍ؛ ولذلك يُعَدُّ شِعرُه من الطِّرازِ الأوسَطِ إنْ لم يكُنْ من الأوَّلِ)  [827] ((ديوان هلال بن بدر البوسعيدي)) (ص: 35). .
وقد وظَّف البُوسَعيديُّ شِعرَه في خِدمةِ قضايا أُمَّتِه العَرَبيَّةِ والإسلاميَّةِ، فيمتَدِحُ دَولةَ الكُوَيتِ وقادتَها إزاءَ مَواقِفِهم مع الدُّوَلِ العَرَبيَّةِ والإسلاميَّةِ جميعًا، وخصَّ بالذِّكرِ وقوفَها إلى جانِبِ مِصرَ إبَّانَ العُدوانِ الثُّلاثيِّ عليها سَنةَ 1956م.
يقولُ في قصيدتِه: (حَيِّ الكُويتَ)  [828]((ديوان هلال بن بدر البوسعيدي)) (ص57- 58). البسيط:
حَيِّ الكُويتَ وأهلِيها وراعِيها
حَيِّ العُروبةَ في أسمَى مَعانيها
إنَّ المكارمَ أعلاها وأكمَلُها
ضَمَّ الكُويتُ عليها مِن نَواحيها
آلُ الصُّباحِ، وعبدُ اللهِ رأسُهُمُ
بُدورُ تِمٍّ تعالَتْ في مَجاريها
وأمَّةٌ لعِبَتْ في بَدْءِ نهضَتِها
دَورًا كريمًا لِقاصيها ودانيها
أكرِمْ بها أمَّةً قد طابَ عُنصرُها
بينَ العُروبةِ في عُليا بَواديها
قامَتْ وجَدَّتْ ولمَّا يَمْضِ مِن زَمَنٍ
حتَّى دَعاها لداعي الخَيرِ داعيها
فأسَّسَتْ وبنَتْ أعلى مدارسِها
للشَّرقِ واحتضنَتْ أبناءَهُ فيها
فمِن حِجازٍ إلى نَجْدٍ إلى يمَنٍ
إلى عُمانَ إلى أقصى صَحاريها
فأطعَمَتْ وكَسَتْ ما قالَ قائِلُها
إلَّا بأهلًا وسهلًا في نَواديها
إنَّ الكُوَيتَ إذا ازدانتْ بِثَروتِها
زادتْ مكارِمُها، طالَتْ أياديها
وإنْ هيَ اليومَ قد قالتْ أوِ افتخَرَتْ
فقَدْ تُعَبِّرُ عن أسمَى أمانيها
كم مِن أيادٍ لها مُدَّت بمَكرُمَةٍ
نحوَ العُروبةِ في أعلى رواسيها
وهذه مِصرُ لمَّا مسَّ جانِبَها
حَزُّ السِّلاحِ بأيْدٍ مِن أعاديها
قامتْ وثارتْ ولا جيشٌ يُؤازِرُها
لكنْ بأموالِها سارتْ تُواسيها
ومِصرُ في مَنْعةٍ مِن حَزمِ قادتِها
وجيشُها يومَ جَدَّ الجِدُّ حاميها
لكنَّ بالمالِ تعزيزًا لقُوَّتِها
وللكُوَيتِ رِسالاتٌ تُؤَدِّيها
هذي الكُوَيتُ وهذا سِرُّ نهضَتِها
وباني المجدِ والعَلياءِ بانيها
تلك المَفاخِرُ في شِعري أردِّدُها
وألسُنُ النَّاسِ والتَّاريخُ يَرويها
عاشَتْ معَ الدَّهرِ في عزٍّ وفي نِعَمٍ
واللهُ حارِسُها واللهُ راعيها
وفي قصيدةٍ أُخرى يستجمِعُ هِمَمَ الدُّوَلِ العربيَّةِ، وعلى رأسِها السُّعوديَّةُ ومِصرُ والعِراقُ؛ لتوحيدِ الصَّفِّ ورفعِ رايةِ الجِهادِ في فِلَسطينَ.
يقولُ في قصيدةِ (طالِبُ الحَقِّ)  [829]((ديوان هلال بن بدر)) (ص105- 106). البسيط:
أكثَرْتَ في القَولِ بل أكثَرْتَ في الخُطَبِ
أَقلِلْ فديتُكَ واعمَلْ يا أخا العَرَبِ
جرَّدْتَ سيفًا ولكنْ لا مَضاءَ لَهُ
كأنَّما السَّيفُ منسوبٌ إلى الخَشَبِ
بنِي العروبةِ هل طابَ المُقامُ لكم
وفي فِلَسْطينَ أشلاءٌ على لَهَبِ
مَن لِلْفتاةِ إذا ما هِيضَ جانِبُها
ومَن لشَيخٍ قعِيدٍ عندَها وصَبِي
يَستصرخونَ بِكُم هل مِن مُنقِذٍ لهُمُ
مِنَ الفظائعِ والتَّنكيلِ والوصَبِ
سَمِعتُ جَعجَعةً منكم فهل طَحنَتْ         
تلك الرَّحَى أم غَدَتْ في كفِّ مُضطَرِبِ
أثَرتُموها وقُلتُمْ سوفَ نَجعلُها
مُزدانةً بجُهودِ الفِعلِ والنَّسَبِ
وسِرتُمُ وبُنودُ النَّصرِ تقْدُمُكم
فكانَ فِعلُكُمُ أدْعَى إلى العَجَبِ
قدِ انثَنيتُمْ وقَدْ خارَتْ عزائِمُكم
وعَمَّ جمْعَكُمُ ضَربٌ مِنَ الشَّغَبِ
وكلَّما رُمتُمُ أمرًا تُثَبِّطُكم
عنِ المُضِيِّ بهِ آراءُ ذي أَرَبِ
أبعْدَما انتثَرَتْ أشلاؤكم وجرَتْ
دماءُ أبطالِكُمُ في المأزِقِ اللَّجِبِ
تُهادِنونَ ولم تَفْلُلْ مَضاربُكم
يا للرِّجالِ لأمرٍ غيرِ مرتقَبِ
شيخَ الملوكِ وُعُودٌ منكَ قد سبَقتْ
تَفْدي فِلَسْطينَ بالأرواحِ والنَّشَبِ
فأينَ أبطالُ نجدٍ أينَ ذادَتُها
وأينَ فُرسانُها مِن صَفوةِ العرَبِ
فاروقُ حقِّقْ رجاءَ العُرْبِ فيكَ وقُمْ
وانشُرْ كِنانةَ مِصرِ المجدِ في الكُتُبِ
وارفُقْ بجيشِكَ في أمنٍ على ثقةٍ
مِنَ الإلهِ وحطِّمْ أمَّةَ الكَذِبِ
فالعُرْبُ قومُكَ يا فاروقُ فابْنِ لَهُمْ
مجدًا يُحِلُّهُمُ في أرفَعِ الرُّتَبِ
واقصِدْ إلى الحقِّ إنَّ الحقَّ مغتصَبٌ
وطالِبُ الحقِّ عندَ اللهِ لَمْ يَخِبِ
واشدُدْ يَديكَ بحَبلٍ منه مُعتَصِمًا
وقُلْ لمِصرَ اقْدُمي في اللهِ واحتَسِبِي
للهِ أبطالُ مصرٍ ما أشدَّهُمُ
حزمًا وعزمًا وإقدامًا لدَى النُّوَبِ
قد جدَّدَ الحَربَ عنهم صَفحةٌ طُوِيتْ
مِنَ البُطولةِ في ماضٍ مِنَ الحِقَبِ
فتَى العِراقِ وراعيها وسيِّدَها
يا فيصلَ العُرْبِ يا بْنَ السَّادةِ النُّجُبِ
إنَّ العِراقَ وماضِيها وحاضِرَها
لا تَرتضي حَكَمًا إلَّا شَبا القُضُبِ
فما لَها رضِيَتْ في أمرِ أمَّتِها
وفي قضِيَّتِها أحكامَ ذي كَذِب
دَعْها تخوضُ غِمارَ الحربِ واصْغِ لها
فسوفَ تتلو نشيدَ الحَربِ في طَرَبِ
والمتتَبِّعُ لشِعرِ هِلالٍ البُوسَعيديِّ يرى فيه التمَسُّكَ بالوَحدةِ العُضويَّةِ، ووَحدةِ موضوعِ القصيدةِ، وإن كان يميلُ في بعضِ قصائِدِه إلى ذِكرِ المُقَدِّماتِ الطَّلَليَّةِ، وما فيها من الوقوفِ بالأطلالِ ومرابِعِ الأحبابِ ونحوِ ذلك، من بابِ محاكاةِ الأقدَمينَ والإشادةِ بأشعارِهم وبيانِ مَقدرتِه اللُّغَويَّةِ والشِّعريَّةِ على معارَضةِ فُحولِ الشُّعَراءِ الجاهِليِّينَ.
ففي قصيدتِه "تباريحُ الجَوى" التي كتبَها إلى السُّلطانِ السَّيِّد سعيد بن تيمور، يكتفي منه في الدَّلالةِ على الشَّوقِ إليه حينَ أقام بظَفارِ في رمضانَ 1354ه بتلك المقَدِّمةِ الطَّلَليَّةِ، يقولُ  [830]((ديوان هلال البوسعيدي)) (ص73). الطويل:
مَرابعَ أحبابي عَدَتْكِ المَخاوِفُ
وطافَ علَى مَغْناكِ بالأُنسِ طائِفُ
لئنْ بَعُدَتْ عنكِ الجُسومُ فإنَّما
هُنالِكَ قلبٌ عندَ ذِكراكِ واجِفُ
أأحبابَنا إنْ طالَ ليلُ فِراقِكم
فإنِّي على رُكنِ الصَّبابةِ عاكِفُ
أرتِّلُ آياتِ الغرامِ تعبُّدًا
لمِيعادِ يومِ الوَصلِ، والطَّرْفُ ذارِفُ
سقَى اللهُ قومًا أَمَّهُم مَن أُحِبُّهُ
مِنَ الغيثِ مِدرارُ السَّحائبِ واكِفُ
هنالِكَ أحبابي هنالِكَ رغبتي
هنالِكَ آمالي هناكَ العَواطِفُ
تَزِيدُ تَباريحُ الجَوى عِندَ ذِكرِهم
كأنِّي لأدواءِ الغَرامِ مُخالِفُ
إذا اعتجَرَتْ نفسي بآلامِ بُعدِهم
دَوَتْ بينَ طيَّاتِ الضُّلوعِ عواصِفُ
فيا عاذِلي حَسْبي جوًى وصبابةً
وحَسبُكَ في دينِ الهَوى ما تُقارِفُ
فهل يَنْقضي هذا البِعادُ وينجَلي
عنِ القَلبِ آلامٌ شِدادٌ عواسِفُ
إذا ما تصنَّعتُ السُّلُوَّ يكونُ لي
مَواقفُ في مَغْناهُمُ ومواقِفُ
مواقِفُ لو يدري العَذولُ بِكُنْهِها
لكفَّ ولكِنْ أينَ منِّي المساعِفُ
تُناشِدُني السُّلوانَ جَهلًا عَواذلي
أبَيْنَ فؤادي والسُّلُوِّ تآلُفُ
على أنَّ البُوسَعيديَّ أدخل في شِعرِه شَيئًا من التَّلوينِ والتَّجديدِ الشَّكليِّ الذي لم يعرِفْه الأدَبُ الكلاسيكيُّ؛ حيث نظَم التَّخميساتِ الشِّعريَّةَ، ومنها قولُه في قصيدتِه "سِيمَا الصَّلاحِ" التي خمَّس فيها أبياتِ الشَّاعِرِ حافِظ إبراهيم [831] ((ديوان هلال بن بدر البوسعيدي)) (ص: 81). :
سِيمَا الصَّلاحِ تَلوحُ منه دلائِلُ
والصَّالحونَ من الأنامِ قلائِلُ
مهلًا فدُونَ مُناكَ أمرٌ حائِلُ
والعِلمُ ما لم تكتَنِفْه شَمائِلُ
تُغْنيه كان مطيَّةَ الإخفاقِ
لا تَطلُبِ العِلمَ الجليلَ ومَجْدَه
إلَّا لتَجعَلَ مِن صلاحِك نَقْدَهُ
اقصُرْ فأمرُك قد تعدَّى حَدَّهُ
لا تحسَبَنَّ العِلمَ يَنفَعُ وَحدَهُ
ما لم يُتَوَّجْ ربُّه بخَلاقِ
وَيلٌ لمَن جَعَل العُلومَ وسائِلًا
ومَصائِدًا ومَقاصِدًا وغوائِلًا
أنا لا أبالي أن أُصَرِّحَ قائلًا
كم عالمٍ مَدَّ العُلومَ حبائِلًا
لوقيعةٍ وقطيعةٍ وفِراقِ

انظر أيضا: