موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: الخَطابةُ


حازَتِ الخَطابةُ في الأنْدَلُسِ مَنزِلةً عَظيمةً لا تُضاهيها مَنزِلةٌ؛ فهي أسْمى الفُنونِ النَّثْريَّةِ لدى العَربِ، ولم يَزَلِ العَربُ الَّذين وَفَدوا إلى الأنْدَلُسِ يَعْتَزُّونَ بعَربيَّتِهم، ويَفخَرونَ بمآثِرِهم وخاصَّةِ عُلومِهم وفُنونِهم، فَضْلًا عن تَأكُّدِ الحاجةِ إلى الخَطابةِ بمُخْتلِفِ أنْواعِها وصُوَرِها؛ فطَبيعةُ الفَتْحِ الإسلاميِّ تَقْتَضي الخُطَباءَ الَّذين يُثيرونَ الحَماسةَ في الجُنْدِ، ويَبْعَثونَ الشَّجاعةَ في قُلوبِهم، ويُذَكِّرونَهم بمَوْعودِ اللهِ وما أعَدَّه للمُجاهِدينَ في سَبيلِ اللهِ، على أنَّ ذلك النَّوْعَ مِن الخَطابةِ لم يَتَوقَّفْ بمُجَرَّدِ أن اسْتَتبَّ الأمْرُ للمُسلِمينَ في بِلادِ الأنْدَلُسِ؛ إذ سُرْعانَ ما اقْتَضَتِ الفِتَنُ والحُروبُ الدَّاخليَّةُ بَيْنَ الطَّوائِفِ ومُلوكِ الدُّوَيلاتِ الصَّغيرةِ، والنِّزاعاتُ القَبَليَّةُ بَيْنَ القَحْطانيِّينَ والعَدْنانيِّينَ-وُجودَ الخَطابةِ الَّتي تُثيرُ حَماسةَ المُحارِبينَ، وتُؤَلِّبُ حَفيظتَهم الجاهِليَّةَ المُتوارَثةَ مِن الاعْتِدادِ بالأنْسابِ والفَخْرِ بالآباءِ والأجْدادِ.
ومِن ناحِيةٍ أخرى تَطَلَّبَتِ الدَّعْوةُ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ في تلك البِلادِ الَّتي لا تَعلَمُ عن الإسْلامِ شيئًا إيضاحَ حَقيقةِ ذلك الدِّينِ ومَبادِئِه الَّتي يَدْعو إليها، فَضْلًا عن بَيانِ ما يُحِلُّ ويُحرِّمُ على أتْباعِه مِن الأفْعالِ والأقْوالِ والاعْتِقاداتِ، ولا شَكَّ أنَّ الخُطْبةَ كانت أقْدَرَ الأُمورِ في بَيانِ ذلك وإجْلائِه [778] ينظر: ((أشكال الخطاب النثري)) لحسين الهنداوي (ص: 41). .
أنْواعُ الخُطَبِ وصُوَرُها:
1- الخُطَبُ السِّياسيَّةُ:
سَيْطَرَ هذا النَّوْعُ مِن الخُطَبِ على سائِرِ أشْكالِ الخُطَبِ وصُوَرِها؛ إذ اكْتَظَّتِ الأنْدَلُسُ بالفُتوحِ والغَزَواتِ إلى أن اكْتَمَلَ فَتْحُها واسْتَتَبَّ أمْرُها، ثُمَّ بَدَأَتْ تَموجُ فيها الفِتَنُ والاضْطِراباتُ والنِّزاعاتُ السِّياسيَّةُ والقَبَليَّةُ والدِّينيَّةُ، فَضْلًا عن تَربُّصِ العَدُوِّ الكافِرِ ببِلادِ الأنْدَلُسِ وسَعْيِه للفَتْكِ بها، بلْ حُروبِه الضَّروسِ الَّتي صَيَّرَها على مَمالِكِ الأنْدَلُسِ ودُوَيلاتِها حينَ نَخَرَ فيها الضَّعْفُ، واسْتَحالَ أمْرُها مِن الهُجومِ والفَتْكِ إلى الدِّفاعِ والصَّدِّ. وفي كلِّ تلك الأمورِ قامَ الخُطَباءُ يَبُثُّونَ الحَماسةَ ويُشْعِلونَ فَتيلَ الجِهادِ في أفْئِدةِ المُجاهِدينَ.
وأقْدَمُ ما وَصَلَ إلينا مِن تلك الخُطَبِ: خُطْبةُ القائِدِ البَرْبَريِّ طارِقِ بنِ زِيادٍ قُبَيْلَ إحدى المَعارِكِ عندَ فَتْحِ الأنْدَلُسِ، وذلك عنْدَما عَلِمَ لُذَرِيقُ مَلِكُ القوطِ بأمْرِ الطَّارِقِ، فخَرَجَ إليه بجَيْشٍ عَظيمٍ، خافَ الطَّارِقُ أن يَسْتحوِذَ الرُّعْبُ على قُلوبِ المُجاهِدينَ، فخَطَبَ فيهم، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه ثُمَّ قالَ: (أيُّها النَّاسُ: أين المَفَرُّ؟ البَحْرُ مِن وَرائِكم والعَدُوُّ مِن أمامِكم، وليس لكم واللهِ إلَّا الصِّدْقُ والصَّبْرُ، واعْلَموا أنَّكم في هذه الجَزيرةِ أضْيَعُ مِن الأيْتامِ في مَأدُبةِ اللِّئامِ، وقدِ اسْتَقْبَلَكم عَدُوُّكم بجَيْشِه، وأسْلِحتُه وأقْواتُه مَوْفورةُ، وأنتم لا وَزَرَ لكم إلَّا سُيوفُكم، ولا أقْواتَ إلا ما تَسْتَخْلِصونَه مِن أيْدي عَدُوِّكم، وإن امْتَدَّتْ بكم الأيَّامُ على افْتِقارِكم، ولم تُنْجِزوا لكم أمْرًا ذَهَبَ ريحُكم، وتَعَوَّضَتِ القُلوبُ مِن رُعْبِها عنكم الجُرأةَ عليكم؛ فادْفَعوا عن أنْفُسِكم خِذلانَ هذه العاقِبةِ مِن أمْرِكم بمُناجَزةِ هذا الطَّاغيةِ، فقدْ ألْقَتْ به إليكم مَدينتُه الحَصينةُ، وإنَّ انْتِهازَ الفُرْصةِ فيه لمُمْكِنٌ إن سَمَحْتُم لأنْفُسِكم بالمَوْتِ.
وإنِّي لم أحَذِّرْكم أمْرًا أنا عنه بنَجْوةٍ، ولا حَمَلْتُكم على خُطَّةٍ أرْخَصُ مَتاعٍ فيها النُّفوسُ إلَّا وأنا أبْدَأُ بنَفْسي، واعْلَموا أنَّكم إن صَبَرْتُم على الأشَقِّ قَليلًا اسْتَمْتَعْتُم بالأرفَهِ الألَذِّ طَويلًا، فلا تَرْغَبوا بأنْفُسِكم عن نَفْسي؛ فما حَظُّكم فيه بأوْفَرَ مِن حَظِّي، وقدْ بَلَغَكم ما أنْشَأَتْ هذه الجَزيرةُ مِن الحُورِ الحِسانِ، مِن بَناتِ اليونانِ، الرَّافِلاتِ في الدُّرِّ والمَرْجانِ، والحُلَلِ المَنْسوجةِ بالعِقْيانِ، المَقْصوراتِ في قُصورِ المُلوكِ ذَوي التِّيجانِ، وقد انْتَخَبَكم الوَليدُ بنُ عبْدِ المَلِكِ أميرُ المُؤْمِنينَ مِن الأبْطالِ عُرْبانًا، ورَضِيَكم لمُلوكِ هذه الجَزيرةِ أصْهارًا وأخْتانًا، ثِقَةً مِنه بارْتِياحِكم للطِّعانِ، واسْتَماحَكم بمُجالَدةِ الأبْطالِ والفُرْسانِ، ليكونَ مَغْنَمُها خالِصًا لكم مِن دونِه ومِن دونِ المُؤْمِنينَ سِواكم، واللهُ تعالى وَليُّ إنْجادِكم على ما يكونُ لكم ذِكْرًا في الدَّارَينِ.
واعْلَموا أنِّي أوَّلُ مُجيبٍ إلى ما دَعَوْتُكم إليه، وأنِّي عنْدَ مُلْتقى الجَمْعَينِ حامِلٌ بنَفْسي على طاغِيةِ القَوْمِ (لذريق) فقاتِلُه إن شاءَ اللهُ تعالى، فاحْمِلوا معي، فإن هَلَكْتُ بَعْدَه فقدْ كُفيتُم أمْرَه ولم يُعْوِزْكم بَطَلٌ عاقِلٌ تُسْنِدونَ أمورَكم إليه، وإن هَلَكْتُ قَبْلَ وُصولي إليه فاخْلُفوني في عَزيمتي هذه، واحْمِلوا بأنْفُسِكم عليه، واكْتَفوا لهم مِن فَتْحِ هذه الجَزيرةِ بقَتْلِه؛ فإنَّهم بَعْدَه يُخْذَلونَ) [779] ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) للمقري التلمساني (1/ 240). .
وقدْ ذَكَرَ المُؤَرِّخونَ أنَّ عبْدَ الرَّحْمنِ النَّاصِرَ قد بَلَغَ مِن عِزَّةِ المُلْكِ ورِفعةِ السُّلْطانِ بالأنْدَلُسِ أن كانت مُلوكُ أوْروبَّا تُرسِلُ إليه الوُفودَ تَطلُبُ مُهادَنتَه، وتُرسِلُ إليه أنْفَسَ الذَّخائِرِ والهَدايا، حتَّى إنَّ قُسْطَنْطينَ بنَ ليون صاحِبَ القُسْطَنْطينيَةِ أرسَلَ إليه وَفْدًا سَنَةَ 338ه يَطلُبُ مُوادَعتَه ومُصالَحتَه، فسُرَّ النَّاصِرُ بذلك، وأمَرَ بأن يُقامَ لذلك احْتِفالٌ عَظيمٌ، تَقومُ بَيْنَ يَديه الخُطَباءُ والشُّعَراءُ، فقامَ الخَطيبُ الواعِظُ مُنذِرُ بنُ سَعيدٍ البَلُّوطيُّ، فقالَ: (أمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللهِ والثَّناءِ عليه والتَّعْدادِ لآلائِه والشُّكْرِ لنَعْمائِه، والصَّلاةِ على مُحمَّدٍ صَفيِّه وخاتَمِ أنْبيائِه: ‌فإنَّ ‌لكلِّ ‌حادِثةٍ ‌مَقامًا، ولكلِّ مَقامٍ مَقالًا، وليس بَعْدَ الحَقِّ إلَّا الضَّلالُ، وإنِّي قُمْتُ مِن مَقامٍ كَريمٍ، بَيْنَ يَدَي مَلِكٍ عَظيمٍ، فأَصْغوا إليَّ مَعشَرَ المَلأِ بأسْماعِكم، ومُنُّوا عليَّ بأفْئِدتِكم.
إنَّ مِن الحَقِّ أن يُقالَ للمُحَقِّ: صَدَقْتَ، وللمُبطِلِ: كَذَبْتَ، وإنَّ الجَليلَ تعالى في سَمائِه، تَقدَّسَ بصِفاتِه وأسْمائِه، أمَرَ كَليمَه موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعلى نَبيِّنا وعلى جَميعِ أنْبِيائِه أن يُذَكِّرَ قَوْمَه بأيَّامِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ عنْدَهم، وفيه وفي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُسوةٌ حَسَنةٌ، وإنِّي أُذَكِّرُكم بأيَّامِ اللهِ عنْدَكم، وتَلافيه لكم بخِلافةِ أميرِ المُؤْمِنينَ الَّتي لَمَّتْ شَعَثَكم، وأمَّنَتْ سِرْبَكم، ورَفَعَتْ قُوَّتَكم، بَعْدَ أن كنْتُم قَليلًا فكَثَّرَكم، ومُسْتَضْعَفينَ فقَوَّاكم، ومُسْتَذَلِّينَ فنَصَرَكم، وَلَّاه اللهُ رِعايتَكم، وأسْنَدَ إليه أمانتَكم، أيَّامَ ضَرَبَتِ الفِتْنةُ سُرادِقَها على الآفاق، وأحاطَتْ بكم شُعَلُ النِّفاق، حتَّى صِرْتُم في مِثلِ حَدقةِ البَعير، مِن ضيقِ الحالِ ونَكَدِ العَيْشِ والتَّقْتير، فاسْتَبْدَلْتُم بخِلافتِه مِن الشِّدَّةِ الرَّخاء، وانْتَقَلْتُم بيُمْنِ سِياستِه إلى تَمْهيدِ كَنَفِ العافِيةِ بَعْدَ اسْتِيلاءِ البَلاء.
أَنْشُدُكم باللهِ مَعاشِرَ المَلأِ: ألمْ تكنِ الدِّماءُ مَسْفوكةً فحَقَنَها، والسُّبُلُ مَخوفةً فأمَّنَها، والأمْوالُ مُنْتَهَبةً فأحْرَزَها وحَصَّنَها؟ ألمْ تكنِ البِلادُ خَرابًا فعَمَّرَها، وثُغورُ المُسلِمينَ مُهْتَضَمةً فحَماها ونَصرها؟ فاذْكُروا آلاءَ اللهِ عليكم بخِلافتِه وتَلافيه، جَمَعَ كَلِمتَكم بَعْدَ افْتِراقِها بإمامتِه، حتَّى أذْهَبَ اللهُ عنكم غَيْظَكم، وشَفى صُدورَكم، وصِرْتُم يَدًا على عَدُوِّكم بَعْدَ أن كانَ بأسُكم بيْنَكم، فأنشُدُكم اللهَ: ألم تكنْ خِلافتُه قُفْلَ الفِتْنةِ بَعْدَ انْطلاقِها مِن عِقالِها؟ ألمْ يَتَلافَ صَلاحَ الأمورِ بنفْسِه بَعْدَ اضْطِرابِ أحْوالِها ولم يَكِلْ ذلك إلى القُوَّادِ والأجْنادِ حتَّى باشَرَه بالقُوَّةِ والمُهجةِ والأوْلادِ؟ واعْتَزَلَ النِّسْوانَ، وهَجَرَ الأوْطانَ، ورَفَضَ الدَّعةَ وهي مَحْبوبةٌ، وتَرَكَ الرُّكونَ إلى الرَّاحةِ وهي مَطْلوبةٌ، بطَوِيَّةٍ صَحيحةٍ وعَزيمةٍ صَريحةٍ، وبَصيرةٍ نافِذةٍ ثاقِبةٍ، وريحٍ هابَّةٍ غالِبةٍ، ونُصْرةٍ مِن اللهِ واقِعةٍ واجِبةٍ، وسُلْطانٍ قاهِرٍ، وجِدٍّ ظاهِرٍ، وسَيْفٍ مَنْصورٍ، تحتَ عَدْلٍ مَشْهورٍ، مُتَحمِّلًا للنَّصَبِ، مُسْتقِلًّا لِما نالَه في جانِبِ اللهِ مِن التَّعَبِ، حتَّى لانَت الأحْوالُ بَعْدَ شِدَّتِها، وانْكَسَرَتْ شَوْكةُ الفِتْنةِ عنْدَ حِدَّتِها، ولم يَبْقَ لها غارِبٌ إلَّا جَبَّه، ولا نَجَمَ لأهْلِها قَرْنٌ إلَّا جَدَّه، فأصْبَحْتُم بنِعْمةِ اللهِ إخْوانًا، وبِلَمِّ أميرِ المُؤْمِنينَ لشَعَثِكم على أعْدائِه أعْوانًا .... أقولُ قَوْلي هذا وأخْتَتِمُ بالحَمْدِ للهِ رَبِّ العالَمينَ، وأسْتَغْفِرُ اللهَ الغَفورَ الرَّحيمَ؛ فإنَّه خَيْرُ الغافِرينَ)  [780] ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) للمقري التلمساني (1/ 369)، ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (3/ 169). .
2- الخُطَبُ الدِّينيَّةُ:
لم يَخْلُ عَصْرٌ مِن العُصورِ الإسلاميَّةِ مِن الخُطَبِ الدِّينيَّةِ؛ فهي أصْلُ كُلِّ الخُطَبِ، ولولا بَيانُ الشَّريعةِ والأمْرُ بنَشْرِ الدِّينِ لَما كان للمُسلِمينَ حاجةٌ إلى رَفْعِ السَّيْفِ ونَشْرِ الدِّينِ وإقامةِ الخِلافةِ، ولا تَرتَّبَ على ذلك وُجودُ سائِرِ الخُطَبِ السِّياسيَّةِ والاجْتِماعيَّةِ.
وبطَبيعةِ الحالِ اسْتَلْزَمَ نَشْرُ الدِّينِ في بِلادِ الأنْدَلُسِ الخَطابةَ والمَواعِظَ الدِّينيَّةَ، الَّتي تَأمُرُ بالمَعْروفِ وتَنْهى عن المُنْكَرِ، ولم تكُنْ تلك الخُطَبُ تَقْتصِرُ على الجُمُعاتِ والأعْيادِ والمَواسِمِ؛ بلْ كانت قُصورُ الخِلافةِ ومَجالِسُ النَّاسِ في الشَّوارِعِ والأسْواقِ مُنْتَدًى للخُطَبِ والمَواعِظِ، فكلَّما سَنَحَتِ الفُرْصةُ لإمامٍ انْتَهَزَها لتَبْصيرِ النَّاسِ بأمْرِ دينِهم.
ومِن ذلك: خُطْبةُ ابنِ الجَنَّانِ، ومِنها قَوْلُه:
(أَصيخوا أسْماعَكم لمَواعِظِ الأيَّام، واعْتَبِروا بأحاديثِها اعْتِبارَ أُولي النُّهَى والأحْلام، وأَحْضِروا لفَهْمِ مَوادِّها أوْعى القُلوبِ وأصَحَّ الأفْهام، وانْظُروا آثارَها بأعْيُنِ المُسْتَيقِظينَ ولا تَنْظُروا بأعْيُنِ النُّوَّام، ولا تَخْدَعَنَّكم هذه الدُّنْيا الدَّنيَّةُ بتَهاوِيلِ الأباطيلِ وأضْغاثِ الأحْلام، ولا تُنْسِيَنَّكم خُدَعُها المُموَّهةُ وخَيالاتُها المُمثَّلةُ ما خَلا مِن مَقالاتِها في الأنام، فهي دارُ انْتِيابِ النَّوائِبِ، ومُصابِ المَصائِبِ، وحُدوثِ الحَوادِثِ وإلْمامِ الآلام؛ دارٌ صَفْوُها أكْدار، وسِلْمُها حَرْبٌ تُدار، وأمْنُها خَوْفٌ وحِذار، ونَظْمُها تَفَرُّقٌ وانْتِشار، واتِّصالُها انْقِطاعٌ وانْصِرام، ووُجودُها فَناءٌ وانْعِدام، وبِناؤُها تَضَعْضُعٌ وانْهِدام، يُنادي كلَّ يَوْمٍ بناديها مُنادي الحِمام، فلا قَرارَ بهذه الغَرَّارةِ ولا مُقام، ولا بَقاءَ لساكِنيها ولا دَوام.
فبِئْسَتِ الدَّارُ دارًا لا تُدارى، ولا تُقيلُ لعاثِرِها عِثارًا، ولا تَقبَلُ لمُعْتذِرٍ اعْتِذارًا، ولا تَقي مِن جَوْرِها حَليفًا ولا جارًا، وليس لها مِن عَهْدٍ ولا ذِمام، كم فَتَكَتْ بقَوْمٍ غافِلينَ عنها نِيام، كم نازَلَتْ بنَوازِلِها مِن قِبابٍ وخِيام، كم بَدَّلَتْ مِن سَلامةٍ بداءٍ ومِن صِحَّةٍ بسَقام، كم رَمَتْ أغْراضَ القُلوبِ بمُصْمياتِ السِّهام، كم جَرَّدَتْ في البَرايا للمَنايا مِن حُسام، كم بَدَّدَتْ بأكُفِّ النَّائِباتِ النَّاهِباتِ مِن عَطايا جِسام، كم أبادَتْ طَوارِقُ حَوادِثِها مِن شَيْخٍ وكَهْلٍ وغُلام!
لا تُبْقي على أحَد، ولا تَرْثي لوالِدٍ ولا وَلَد، ولا تُخلِّدُ سُرورًا في خَلَد، ولا يَمتَدُّ فيها لآمِلٍ أمَد، بينا يقالُ: قد وَجَد، إذ قيلَ: قد فَقَد، بُعْدًا لها قد طُبِعَتْ على نَكَدٍ وكَمَد! فالفَرَحُ فيها تَرَح، والحَبْرةُ عِبْرة، والضَّحِكُ والابْتِسامُ بُكاءٌ وأدْمُعٌ سِجام، تُفرِّقُ الأحِبَّةَ بَعْدَ اجْتِماعِهم، وتُسكِنُ الوَحْشةَ مُؤْنِسَ رِباعِهم، وتُبيحُ بالحِمامِ حِمى الأعَزَّةِ فلا سَبيلَ إلى امْتِناعِهم، وتَسْتَحِثُّ رَكائِبَ الخَلائِقِ على اخْتِلافِ أنْواعِهم إلى مَصيرِهم إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ وارْتِجاعِهم، فيَسيرونَ طَوْعَ الزِّمام، ويُلْقونَ مَقادةَ التَّذلُّلِ والاسْتِسْلام، حتَّى يَلْجَؤوا بالرَّغام، ويَنْزلوا بُطونَ الرِّجام، ويَحُلُّوا الوَهْدَ بَعْدَ المَقامِ السَّام، فلا ناجٍ مِن خَطْبِها العَظيمِ ولا سَليم، يَتَساوى في حُكْمِ المَنيَّةِ الأغَرُّ والبَهيم، والأعَزُّ والمضيم.
ولو أنَّه يَنْجو مِن ذلك مَجْدٌ صَميم، وجِدٌّ كَريم، وحَظٌّ عَظيم، ومَضاءٌ عَزيم، ومَزيَّةٌ وتَقْديم، وحَديثٌ في الفَضْلِ وقَديم، وشَرَفٌ لسَمْكِ السَّمواتِ مُسام، وعَلا على ساقِ العَرْشِ المَجيدِ ذو ارْتِسام، لنَجا حَبيبُ المَلِكِ العَلَّام، وسَيِّدُ السَّاداتِ الأعْلام، وصَفوةُ الصَّفْوةِ الكِرام، وخاتِمُ الأنْبِياءِ ولَبِنةُ التَّمام، وصَباحُ الهُدى ومِصْباحُ الظَّلام، والأبْيَضُ المُسْتَسْقى به غَيْثُ الغَمام، ثِمالُ الأرامِلِ وعِصْمةُ الأيْتام، عليه أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلام، لكنْ معَ قَدْرِه الجَليلِ وفَضْلِه الجَليِّ، أقْدَمَ المَوْتُ على جانِبِه العَليِّ، وتَقدَّمَ مَلَكُ المَوْتِ لقَبْضِ رُوحِه القُدْسيِّ، وتَغيَّبَ في الثَّرى جَمالُ ذلك الوَجْهِ البَهيِّ، وتَغَيَّضَ ماءُ السَّماءِ والنَّدى، لملِكِ السَّماحةِ النَّبويَّةِ والنَّدى، وأُصيبَ المُسلِمونَ -وأَعْظِمْ بها مُصيبةً!- بنَبيِّهم العَربيِّ الهاشِميِّ القُرَشيِّ، فيا له ولِلإسلامِ مِن مُصابٍ أسْلَمَنا للحُزْنِ أيَّ إسلام! وأسالَ مِياهَ الدُّموعِ عن احْتِراقٍ للضُّلوعِ واضْطِرام، وأرانا أنَّ الأسى في رَزيَّةٍ لخَيْرِ البَريَّةِ واجِبٌ، وأنَّ التَّأسيَ حَرام.
وهلْ يَسوغُ الصَّبْرُ الجَميل في فَقيدٍ بكَتْهُ المَلائِكةِ وجِبْريل، وكَثُرَ له في السَّمواتِ السَّبْعِ النَّحيبُ والعَويل؟ انْقَطَعَ به عن الأرْضِ الوَحْيُ الحَكيمُ والتَّنْزيل، وعَظُمَتِ الرَّزيَّةُ به أن يُؤدِّيَ حَقيقتَها الوَصْفُ والتَّمْثيل، غَداةَ أقْفَرَ مِنه الرَّبْعُ المُحيل، وأوْحَشَ مِن أنْسِه السَّفْحُ والنَّخيل، وكانَ مِن تلك الرُّوحِ الطَّاهِرةِ الوَداعُ والرَّحيل، وقامَتِ البَتولُ تَندُبُ أباها بقَلْبٍ قَريحٍ وجَفْنٍ دام، وتَنادَتِ الأُمَّةُ: ماتَ الرَّسولُ، ففي كلِّ بَيْتٍ بُكاءٌ وانْتِحابٌ ونَوْحٌ والْتِزام، وحارَتِ الألْبابُ والعُقولُ، فلا صَبْرَ هنالك؛ لقد زَلَّتْ عن الصَّبْرِ الأقْدام) [781] ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) للتلمساني (7/428). .
على أنَّه قد تَفَنَّنَ أهْلُ الأنْدَلُسِ في الخَطابةِ، فكانَ أحْمَدُ بنُ الحَسَنِ الزَّيَّاتُ يأتي بالأمورِ العَجيبِة في خُطْبتِه، مِنها أنَّه أتى بخُطْبةٍ كامِلةٍ ليس فيها حَرْفُ الألِفِ، مِنها: (حَمِدْتُ ربِّي مِن كَريمٍ مَحْمود، وشَكَرْتُه عَزَّ مِن عَظيمٍ مَعْبود، ونَزَّهْتُه عن جَهْلِ كلِّ مُلْحِدٍ كَفور، وقَدَّسْتُه عن قَوْلِ كلِّ مُفسِدٍ غَرور، كَبيرٌ لو تَقَوَّمَ في فَهْمٍ لَحُدَّ، قَديرٌ لو تَصَوَّرَ في رَسْمٍ لَحُدَّ، لو عَرَتْه فِكرةُ تَصوُّرٍ لَتَصَوَّرَ، ولو حَدَّتْه فِكْرةٌ لَتَقَدَّرَ، لو فُهِمَتْ له كَيفيَّةٌ لبَطَلَ قِدَمُه، ولو عُلِمَتْ له كَيفيَّةٌ لحَصَلَ عَدَمُه، ولو حُصِرَ في ظَرْفٍ لقُطِعَ بتَجسُّمِه، ولو قَهَرَه وَصْفٌ لصُدِعَ بتَقسُّمِه، ولو فُرِضَ له شَبَحٌ لَرَهِقَه كَيْفٌ.
عَظيمٌ مِن غيْرِ تَرْكيبِ قُطْر، عَليمٌ مِن غيْرِ تَرْتيبِ فِكْر، مَوْجودٌ مِن غيْرِ شيءٍ يُمْسِكُه، مَعْبودٌ مِن غيْرِ وَهْمٍ يُدرِكُه، كَريمٌ مِن غيْرِ عِوَضٍ يَلْحَقُه، حَكيمٌ مِن غيْرِ عَرَضٍ يَلحَقُه، قَوِيٌّ مِن غيْرِ سَبَبٍ يَجمَعُه، عليٌّ مِن غيْرِ سَبَبٍ يَرفَعُه، لو وُجِدَ له جِنْسٌ لعُورِضَ في قَيُّوميَّتِه، لو ثَبَتَ له حِسٌّ لنُوزِعَ في ديَمُومِيَّتِه ...) [782] ((الإحاطة في أخبار غرناطة)) للسان الدين ابن الخطيب (1/ 147)، ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (3/ 217). .
وخَطَبَ القاضي عِياضٌ خُطْبةً ضَمَّن فيها أسْماءَ سُوَرِ القُرآنِ على نَحْوٍ ابْتَدَعَه، فقالَ: (الحَمْدُ للهِ الَّذي افْتَتَحَ بالحَمْدِ كَلامَه، وبَيَّنَ في سورةِ البَقَرةِ أحْكامَه، ومَدَّ في آلِ عِمْرانَ والنِّساءِ مائِدةَ الأنْعامِ لِيُتِمَّ إنْعامَه، وجَعَلَ في الأعْرافِ أنْفالَ تَوْبة يونُس والر كُتابٌ أحْكِمَتْ آياتُه، بمُجاوَرةِ يوسُفَ الصِّدِّيقِ في دارِ الكَرامةِ، وسَبَّحَ الرَّعْدُ بحَمْدِه، وجَعَلَ النَّارَ بَرْدًا وسَلامًا على إبْراهيمَ؛ ليُؤْمِنَ أهْلُ الحِجْرِ أنَّه إذا أتى أمْرُ اللهِ سُبْحانَه فلا كَهْفَ ولا مَلجَأَ إلَّا إليه، ولا يُظْلَمُونَ قُلَامَةً، وجَعَلَ في حُروفِ كهيعص سِرًّا مَكْنونًا ...) [783] ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) للتلمساني (7/ 333)، ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (3/ 219). .
وقدْ لَعِبَتِ المَواعِظُ كذلك دَوْرًا بَليغًا في تَبْصيرِ النَّاسِ بعُيوبِهم، وتَصْحيحِ نَظْرتِهم للحَياةِ، وبَيانِ أنَّهم وُجِدوا في الدُّنيا للامْتِحانِ والابْتِلاءِ، دَخَلَ ابنُ أبي رَنْدقةَ الطُّرْطُوشيُّ على الأفْضَلِ ابنِ أميرِ الجُيوشِ فوَعَظَه وقالَ: (إنَّ الأمْرَ الَّذي أصْبَحْتَ فيه مِن المِلْكِ، إنَّما صارَ إليك بمَوْتِ مَن كانَ قَبْلَك، وهو خارِجٌ عن يَدِك بمِثلِ ما صارَ إليك؛ فاتَّقِ اللهَ فيما خَوَّلَك مِن هذه الأمَّةِ؛ فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ سائِلُك عن النَّقيرِ والقِطْميرِ والفَتيلِ، واعْلَمْ أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ آتى سُلَيْمانَ بنَ داودَ مُلكَ الدُّنْيا بحَذافيرِها، فسَخَّرَ له الإنْسَ والجِنَّ والشَّياطينَ والطَّيْرَ والوُحوشَ والبَهائِمَ، وسَخَّرَ له الرِّيحَ تَجْري بأمْرِه رُخاءً حيثُ أصابَ، ورَفَعَ عنه حِسابَ ذلك أجْمَعَ، فقالَ عَزَّ مِن قائِلٍ: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص: 39] ، فما عَدَّ ذلك نِعْمةً كما عَدَدْتُموها، ولا حَسَبَها كَرامةً كما حَسَبْتُموها، بل خافَ أن يكونَ اسْتِدراجًا مِن اللهِ عَزَّ وجَلَّ فقالَ: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل: 40] ، فافْتَحِ البابَ، وسَهِّلِ الحِجابَ، وانْصُرِ المَظْلومَ) [784] ((المستطرف في كل فن مستطرف)) لشهاب الدين الأبشيهي (ص: 91)، ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) للمقري التلمساني (2/ 87). .

انظر أيضا: