موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: النَّثْرُ في الأنْدَلُسِ


سَبَقَ أن ذَكَرْنا في بابِ الشِّعْرِ أنَّ الأنْدَلُسَ تَأثَّرَتْ تَأثُّرًا كَبيرًا بالآدابِ المَشرِقيَّةِ، وأنَّ أدَباءَها ومُفَكِّريها قد نَظَروا إلى المَشارِقةِ نَظْرةَ المُقلِّدِ المُحاكي المُتَأثِّرِ، حتَّى صارَ الأمْرُ كما قالَ ابنُ بَسَّامٍ: "إنَّ أهْلَ هذا الأُفُق أبَوْا إلَّا مُتابَعةَ أهْلِ الشَّرْق، يَرجِعونَ إلى أخْبارِهم المُعْتادة رُجوعَ الحَديثِ إلى ‌قَتادة؛ حتَّى لو نَعَقَ بتلك الآفاقِ غُراب، أو طَنَّ بأقْصى الشَّامِ والعِراقِ ذُباب، لجَثَوا على هذا صَنَمًا، وتَلَوا ذلك كِتابًا مُحْكَمًا" [773] ((الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة)) لابن بسام (1/12). .
بلْ إنَّ شُعَراءَ الأنْدَلُسِ وكُتَّابَها وخُطَباءَها في العَصْرِ الأوَّلِ لم يكونوا إلَّا مَشارِقةً وَفَدوا إليها؛ إمَّا فاتِحينَ لها معَ الوُفودِ، وإمَّا مُهاجِرينَ إليها غَداةَ رأَوا تَشْجيعَ الحُكَّامِ والأُمَراءِ للحَرَكةِ العِلميَّةِ في الأنْدَلُسِ، وقدْ عَقَدَ شِهابُ الدِّينِ المَقَّرِيُّ التِّلِمْسانيُّ في كِتابِه "نَفْح الطِّيبِ" فُصولًا ذَكَرَ فيها الوافِدينَ على الأنْدَلُسِ مِن المَشارِقةِ، والعائِدينَ إليها مِن أهْلِها بَعْدَ مُكوثِهم بالمَشرِقِ للاسْتِفادةِ والتَّعلُّمِ [774] يُنظر: ((نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب)) للمقري التلمساني (3/ 5). .
بلْ إنَّ الأُمَراءَ والخُلَفاءَ الأنْدَلُسيِّينَ كانوا يُسْنِدونَ الكِتابةَ إلى المَشارِقةِ مِنهم، كما فَعَلَ عبْدُ الرَّحْمنِ بنُ مُعاوِيةَ الدَّاخِلُ حينَ أسْنَدَ الكِتابةَ إلى أُمَيَّةَ بنِ أبي حَوْثرةَ، وأسْنَدَها ابنُه هِشامٌ إلى مُحمَّدِ بنِ أُمَيَّةَ بنِ أبي حَوْثرةَ.
ولِهذا لم يكنْ غَريبًا أن يُصرِّحَ الدُّكْتورُ شوقي ضيف بخالِصِ تَبَعيَّةِ الأنْدَلُسِ للمَشرِقِ أدَبيًّا [775] يُنظر: ((الفن ومذاهبه في الشِّعْر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 412). .
وقدِ اسْتَمرَّ الأنْدَلُسيُّونَ على حالتِهم تلك، حتَّى في عُصورِ ازْدِهارِ الأدَبِ عنْدَهم، لم يَزالوا يَنْظُرونَ إلى المَشرِقِ نَظْرةَ الطَّالِبِ إلى مُعلِّمِه؛ يقولُ ابنُ خَلْدونَ: (وسَمِعْنا مِن شُيوخِنا في مَجالِسِ التَّعْليمِ أنَّ أُصولَ هذا الفَنِّ وأرْكانَه أرْبَعةُ دَواوينَ، وهي: أدَبُ الكاتِبِ لابنِ قُتَيْبةَ، وكِتابُ الكامِلِ للمُبَرِّدِ، وكِتابُ البَيانِ والتَّبْيينِ للجاحِظِ، وكِتابُ النَّوادِرِ لأبي عليٍّ القالي البَغْداديِّ، وما سِوى هذه الأرْبَعةِ فتَبَعٌ لها وفُروعٌ عنها) [776] ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 763). .
ولِهذا فإنَّ النَّثْرَ الأنْدَلُسيَّ لم يَتَخلَّ يَوْمًا عن الاقْتِداءِ بالنَّثْرِ المَشرِقيِّ؛ حتَّى عندَما ازْدَهَرَ الأدَبُ الأنْدَلُسيُّ تَأثَّرَ الأدَباءُ والكُتَّابُ بالكُتُبِ المَشرِقيَّةِ، فألَّفوا كُتُبَهم على مِنْوالَها، فوَضَعَ ابنُ عبْدِ رَبِّه "العِقْدَ الفَريدَ" على غِرارِ "عُيونِ الأخْبارِ لابنِ قُتَيْبةَ؛ ولِهذا يقولُ الصَّاحِبُ بنُ عَبَّادٍ حينَ رآه: (هذه بِضاعتُنا رُدَّتْ إلينا)، ‌ويُصاغُ ‌كِتابُ "الحَدائِقِ" لأبي فَرَجٍ الجَيَّانيِّ على شَكْلِ كِتابِ "الزَّهرةِ" للأصْبَهانيِّ"، ويَحْتذي ابنُ بَسَّامٍ في كِتابِه "الذَّخيرة" بكِتابِ "اليَتيمةِ" للثَّعالِبيِّ [777] يُنظر: ((الفن ومذاهبه في الشِّعْر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 415). .

انظر أيضا: