موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ السَّابِعُ: الهِجاءُ


عَرَفَتِ الأنْدَلُسُ شِعْرَ الهِجاءِ كما عَرَفَه المَشرِقُ الإسْلاميُّ، غيْرَ أنَّ ما وَصَلَ إلينا مِن شِعْرِهم فيه قَليلٌ جدًّا مُقارَنةً بهِجاءِ المَشْرِقيِّينَ، أو بسائِرِ مَوْضوعاتِ الشِّعْرِ عنْدَ الأنْدَلُسيِّينَ، وقد ساعَدَ على ذلك أنَّ دَواعيَ الهِجاءِ مِن العَصَبيَّاتِ القَبَليَّةِ والأحْزابِ السِّياسيَّةِ، وظاهِرةَ الشُّعوبيَّةِ لم تكنْ عنْدَ الأنْدَلُسيِّينَ مِثلَما كانَتْ عليه عنْدَ المَشارِقةِ، فَضْلًا عن قِلَّةِ ما وَصَلَنا مِن شِعْرِ الأنْدَلُسِ عُمومًا وضَياعِ أكْثَرِه.
وأكْبَرُ الظَّنِّ أنَّه لو وَصَلَ إلينا كَثيرٌ مِمَّا فَقَدْناه مِن شِعْرِ الأنْدَلُسِ لوَجَدْنا كَثيرًا مِنه يَدورُ حَوْلَ الهِجاءِ، خاصَّةً هِجاءَ مُلوكِ الطَّوائِفِ الَّذين خَضَعوا لمُلوكِ إسْبانيا ودَفَعوا لهم الجِزْيةَ.
ومِن هذا النَّوْعِ مِن الشِّعْرِ قَوْلُ خَلَفِ بنِ فَرَجٍ الألْبيريِّ المَشْهورِ بالسُّمَيْسِرِ:
نادِ المُلوكَ وقُلْ لهم
ماذا الَّذي أحْدَثْتُمُ
أسْلَمْتُمُ الإسْلامَ في
أسْرِ العِدا وقَعَدْتُمُ
وَجَبَ القِيامُ عليكمُ
إذ بالنَّصارى قُمْتُمُ
لا تُنْكِروا شَقَّ العَصا
فعَصا النَّبيِّ شَقَقْتُمُ [724] ((تاريخ الأدب الأندلسي (عصر الطوائف والمرابطين))) لشوقي ضيف (ص: 142).
وقدِ انْتَشَرَ أيضًا الهِجاءُ الشَّخْصيُّ، مِثلُ هِجاءِ عبْدِ اللهِ بنِ الشَّمِرِ للقاضي يُخامِرَ، وكانَ يُخامِرُ قاضيًا فيه حُمْقٌ وبَلادةٌ، فأرادَ ابنُ الشَّمِرِ أن يَفضَحَه بَيْنَ النَّاسِ، فذَهَبَ إليه في مَجلِسِ قَضائِه، فأتى برُقْعةٍ مِن الرِّقاعِ الَّتي تُكتَبُ فيها أسْماءُ المُتَخاصِمينَ وكَتَبَ فيها: يوُنسُ بنُ متَّى والمَسيحُ بنُ مَريمَ، فأمَرَ القاضي مَن يُنادي أسْماءَ المُتَخاصِمينَ أن يُناديَ الأسْماءَ الَّتي في هذه الرُّقْعةِ، فهَتَفَ الهاتِفُ: يونُسُ بنُ متَّى والمَسيحُ بنُ مَريَمَ! واتَّصَلَ الهاتِفُ بخارِجِ المَجلِسِ ولا مُجيبَ، إلى أن صاحَ ابنُ الشَّمِرِ: إنَّ نُزولَهما مِن أشْراطِ السَّاعةِ، ثُمَّ تَناوَلَ الرُّقْعةَ فكَتَبَ فيها:
يُخامِرُ ‌ما ‌تَنفَكُّ تَأتي بفَضْحةٍ
دَعَوْتَ ابنَ مَتَّى والمَسيحَ بنَ مَرْيَما
فَثَوَّبَ فينا ثُمَّ ناداك صائِحٌ:
فإنَّهما لمَّا على الأرْضِ يُعْلَما
قَفاكَ قَفا جَحْشٍ ووَجْهُكَ مُظلِمٌ
وعَقْلُك ما يَسْوى مِن البَعْرِ دِرْهَما
فلا عِشْتَ مَوْدودًا ولا رُحْتَ سالِمًا
ولا مِتَّ مَفْقودًا ولا مِتَّ مُسلِما [725] ينظر: ((المقتبس من انباء الأندلس)) لابن حيان القرطبي (ص: 202).
ومِن ذلك أيضًا هِجاءُ أبي بَكْرٍ مُحمَّدِ بنِ سَهْلٍ اليَكِّيِّ لشَخْصٍ ما:
أَعِدِ الوُضوءَ إذا نَطَقْتَ بهِ
مُتَذَكِّرًا مِن قَبْلِ أن تَنْسى
واحْفَظْ ثِيابَك إن مَرَرْتَ بهِ
فالظِّلُّ مِنهُ يُنَجِّسُ الشَّمْسا [726] ينظر: ((المغرب في حلى المغرب)) لعلي بن موسى المغربي (2/267).
وقدْ جَرى بعضُهم على مِنْوالِ الحُطَيْئةِ، فهَجا نفْسَه؛ فمِن ذلك قَوْلُ ابنِ حَزْمونَ:
تَأمَّلْتُ في المِرآةِ وَجْهي فخِلْتُه
كوَجْهِ عَجوزٍ قد أشارَتْ إلى اللَّهْوِ
إذا شِئْتَ أن تَهْجو تَأمَّلْ خَليقتي
فإنَّ بها ما قد أرَدْتَ مِن الهَجْوِ
كأنَّ على الإزَرارِ مِنِّيَ عَوْرةً
تُنادي الوَرى غُضُّوا ولا تَنْظُروا نَحْوي
فلو كنْتُ مِمَّا تُنبِتُ الأرْضُ لم أكنْ
مِن الرَّائِقِ الباهي ولا الطَّيِّبِ الحُلْوِ [727] يُنظر: ((المغرب في حلى المغرب)) لابن سعيد المغربي (2/ 214)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (8/ 237).

انظر أيضا: