موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّالثُ: الرِّثاءُ


لمَّا كانَ الرِّثاءُ تَعْبيرًا عن الصِّلةِ المُتَرابِطةِ بَيْنَ الأحْياءِ والأمْواتِ، فإنَّ الشَّاعِرَ حينَ يَرْثي حَبيبًا له، فإنَّه لا يُعبِّرُ فقط عن مَحاسِنِ ذلك الحَبيبِ، وإنَّما يُخَفِّفُ عن نفْسِه ما يَنْتابُها مِن حُزْنٍ لفِراقِ هذا العَزيزِ؛ فإنَّ الأبَ حينَ يَبْكي ابنَه فإنَّه يَتَحدَّثُ عن صِفاتِه الجَميلةِ، فيَشْفي قَلْبَه ممَّا حَلَّ به مِن السُّقْمِ نَتيجةَ الفِراقِ، فهو إذَنْ عِلاجٌ للحَيِّ، وتَخْليدٌ لمَحاسِنِ المَيِّتِ، وتَعْبيرٌ عن التَّعاطُفِ الإنْسانيِّ والتَراحُمِ بَيْنَ النَّاسِ.
على أنَّ الأنْدَلُسَ لم يَكُنْ ما أصابَها مِن الحُزْنِ والجَزَعِ كما أصابَ غيْرَها مِن بِلادِ الإسْلامِ، بلْ كانَ الأمْرُ أعْظَمَ فيها؛ فقدْ كَثُرَتْ فيها الغَزَواتُ والمَعارِكُ، وما يَنتِجُ عنها مِن الشُّهَداءِ والجَرْحى، ثُمَّ لمَّا بَدَأَتْ مَمالِكُها تَتَساقَطُ واحِدةً تِلْوَ الأخرى لم يكنِ الكاثوليكُ يَتْركونَ أحَدًا مِن المُسلِمينَ ولا مَعلَمًا مِن مَعالِمِ الدِّينِ كالمَساجِدِ وآثارِ الحَضارةِ إلَّا أزالوه، حتَّى سُمِّيَتِ الأنْدَلُسُ بالبَلَدِ الغَريبِ؛ غَريبٍ عن بِلادِ المُسلِمينَ في المَشرِقِ، وغَريبٍ في اخْتِلافِ طَبَقاتِ أبْنائِه، وغَريبٍ لفَداحةِ ما أصابَه ممَّا لم يُصِبْ سائِرَ البُلْدانِ والأوْطانِ [711] يُنظر: ((محاضرات في الفنون الأدبية بالأندلس)) لشعبان مرسي (ص: 65). .
وقد جاءَ الرِّثاءُ في الشِّعْرِ الأنْدَلُسيِّ على ضَرْبَينِ:
أوَّلًا: رِثاءُ الأشْخاصِ
ومِنه رِثاءُ ابنِ زَيْدونَ لأبي الحَزْمِ بنِ جَهْوَرٍ:
‌أبا ‌الحَزْمِ ‌قد ‌ذابَتْ عليك مِن الأسى
قُلوبٌ ومِنها الصَّبْرُ لو ساعَدَ الصَّبْرُ
دَعِ الدَّهْرَ يَفجَعْ بالذَّخائِرِ أهْلَه
فما لنَفيسٍ إذ طَواك الرَّدى قَدْرُ
مَساعيك حَلْيٌ للزَّمانِ مُرَصَّعٌ
وذِكْرُك في أرْدانِ أيَّامِها عِطْرُ
أمامَك مِن حِفْظِ الإلهِ صَنيعةٌ
وحَوْلَك مِن آلائِه عَسْكَرٌ مَجْرُ
وما بك مِن فَقْرٍ إلى نَصْرِ ناصِرٍ
كَفَتْك مِن اللهِ الكَلاءةُ والنَّصْرُ [712] ((ديوان ابن زيدون)) (ص: 197).
ومِنه قَوْلُ أبي عبْدِ اللهِ اللَّوْشيِّ يَرْثي أبا الوَليدِ، إسْماعيلَ بنَ فَرَجٍ سُلْطانَ غَرْناطةَ:
‌كادَتْ ‌نُجومُ ‌الأفْقِ ‌تَسقُطُ في الثَّرى
لمَّا شَكَتْ شَمْسُ العَلاءِ أُفولا
لا صَمْتَ إلَّا وهْو نارٌ في الحَشا
لا نُطْقَ إلَّا ما يَعودُ عَويلا
أسْكَنْتَنا يا خَطْبَ مِصْرَ مُصابَنا
وأسَلْتَ فيه مِن المَدامِعِ نِيلا
ورَمَيْتَ أنْفُسَنا بسَهْمٍ واحِدٍ
فهَزَمْتَ للصَّبْرِ الجَميلِ قَبيلا
لا مَرْحَبًا بالعَيْشِ إذ جاوَرْتَنا
وأقَمْتَ فينا ثاوِيًا ونَزيلا
ضاقَتْ صُدورُ الخَلْقِ عن أنْفاسِهم
إذ ضَمَّ بَطْنُ الأرْضِ إسْماعيلا [713] ينظر: ((الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شُعَراء المائة الثامنة)) للسان الدين الخطيب (ص:177).
ومِنه رِثاءُ الأبِ ابنَه، كما فَعَلَ ابنُ عبْدِ رَبِّه في رِثاءِ وَلَدِه:
بَلِيَتْ عِظامُك والأسى يَتَجدَّدُ
والصَّبْرُ يَنفَدُ والبُكا لا يَنفَدُ
يا غائِبًا لا يُرْتَجى لإيابِه
ولِقائِه دونَ القِيامةِ مَوعِدُ
ما كانَ أحْسَنَ مَلحَدًا ضُمِّنْتَه
لو كانَ ضَمَّ أباك ثَمَّ المَلحَدُ
باليأسِ أسْلو عنك لا بتَجَلُّدي
هَيْهاتَ أين مِن الحَزينِ تَجلُّدُ [714] يُنظر: ((يتيمة الدهر)) لأبي منصور الثعالبي (2/ 88)، ((مجاني الأدب في حدائق العرب)) لرزق الله شيخو (2/ 45).
ثانيًا: رِثاءُ المُدُنِ والمَمالِكِ الزَّائِلةِ
رأى الشُّعَراءُ مَمالِكَهم ودُوَلَهم تَتَساقَطُ أمامَ العَدُوِّ الغاشِمِ، ومُدُنَهم وهي تَخرَبُ ممَّا كانَ قد عَمَّرَها مِن المَساجِدِ ومَعالِمِ الإسْلامِ، وقد أُسْقِطَ في أيْدي المُسلِمينَ غَداةَ ذلك، فلم يَسْتَطيعوا إلَّا أن يَرْثوا تلك المُدُنَ ويَبْكوا على هذه الحَضاراتِ، وشِعْرُهم في هذا المَوْضوعِ مِن أصْدَقِ أشْعارِهم، إن لم يكنْ أصْدَقَها وأكْثَرَها حَرارةَ وَجْدٍ وأسى نَفْسٍ، وقد تَميَّزَ شِعْرُهم في ذلك بصِدْقِ العاطِفةِ وحُضورِ الوِجدانِ وصِحَّةِ الفِكْرةِ، فغَلَبَتْ على أبْياتِهم وقَصائِدِهم آثارُ الهَزيمةِ والحُزْنِ والجَوى.
ومِن أعْظَمِ ذلك مَرْثيَّةُ أبي البَقاءِ الرَّنْديِّ في سُقوطِ غَرْناطةَ، وهي مِن عُيونِ الشِّعْرِ:
‌لكلِّ ‌شيءٍ ‌إذا ‌ما ‌تَمَّ نُقْصانُ
فلا يُغَرَّ بطِيبِ العَيْشِ إنْسانُ
هي الأمورُ كما شاهَدْتُها دُوَلٌ
مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ ساءَتْه أزْمانُ
دَهى الجَزيرةَ أمْرٌ لا عَزاءَ له
هَوى لهُ أُحُدٌ وانْهَدَّ ثَهْلانُ
أصابَها العَيْنُ في الإسْلامِ فارْتَزأَتْ
حتَّى خَلَتْ مِنه أقْطارٌ وبُلْدانُ
فاسألْ بَلَنْسِيَة ما شأنُ مُرْسِيَة
وأينَ شاطِبةٌ أمْ أينَ جَيَّانُ؟
وأين قُرْطبةٌ دارُ العُلومِ فكم
مِن عالِمٍ قد سَما فيها له شانُ؟
وأين حِمْصُ وما تَحْويهِ مِن نُزَهٍ
ونَهْرُها العَذْبُ فَيَّاضٌ ومَلْآنُ؟
قَواعِدٌ كُنَّ أرْكانَ البِلادِ فما
عَسى البَقاءُ إذا لم تَبْقَ أرْكانُ
تَبْكي الحَنيفيَّةُ البَيْضاءُ مِن أسَفٍ
كما بَكى لفِراقِ الإلْفِ هَيْمانُ
على دِيارٍ مِن الإسْلامِ خالِيةٍ
قد أُسْلِمَتْ ولها بالكُفْرِ عُمْرانُ
حيثُ المَساجِدُ قد صارَتْ كَنائِسَ ما
فيهنَّ إلَّا نَواقيسٌ وصُلْبانُ
حتَّى المَحاريبُ تَبْكي وهْي جامِدةٌ
حتَّى المَنابِرُ تَرْثي وهْي عيدانُ [715] يُنظر: ((نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب)) للمقري (4/ 487)، ((مجاني الأدب في حدائق العرب)) لرزق الله شيخو (5/ 245).
ومِنه قَوْلُ ابنِ شُهَيدٍ في رِثاءِ قُرْطبةَ:
ما في الطُّلولِ مِن الأحبَّةِ مُخبِرُ
فمَنِ الَّذي عن حالِها نَسْتَخْبِرُ؟
جارَ الزَّمانُ عليهمُ فتَفَرَّقوا
في كلِّ ناحِيةٍ وبادَ الأكْثَرُ
جَرَتِ الخُطوبُ على مَحَلِّ دِيارِهم
وعليهمُ فتَغيَّرَتْ وتَغَيَّروا
فلِمِثلِ قُرْطبةٍ يَقِلُّ بُكاءُ مَن
يَبْكي بعَيْنٍ دَمْعُها مُتَفجِّرُ
دارٌ أقالَ اللهُ عَثْرةَ أهْلِها
فتَبَرْبَروا وتَغرَّبوا وتَمَصَّروا
يا جَنَّةً عَصَفَتْ بها وبأهْلِها
ريحُ النَّوى فتَدَمَّرَتْ وتَدَمَّروا
آسى عليكِ مِن المَماتِ وحُقَّ لي
إذ لم نَزَلْ بك في حَياتِك نَفخَرُ
أسَفي على دارٍ عَهِدْتُ رُبوعَها
وظِباؤُها بفِنائِها تَتَبَخْتَرُ
حُزْني على سَرَواتِها ورُواتِها
وثِقاتِها وحُماتِها يَتَكرَّرُ
نَفْسي على آلائِها وصَفائِها
وبَهائِها وسَنائِها تَتَحسَّرُ
كَبِدي على عُلَمائِها حُلَمائِها
أُدَبائِها ظُرَفائِها تَتَفطَّرُ [716] ((ديوان ابن شهيد الأندلسي)) (ص: 109).

انظر أيضا: