موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الأوَّلُ: نَشْأَةُ الشِّعْرِ الأنْدَلُسيِّ وتَطوُّرُه


لم يكنْ أكْثَرُ الفاتِحينَ مِن العَربِ، وإنَّما كانَ أكْثَرُهم مِن البَرْبَرِ المَغاربةِ، إلَّا أنَّ عَدَدَ العَربِ في الجَيْشِ حينَئذٍ لم يكنْ قَليلًا، فَضْلًا عن الَّذين وَفَدوا معَ الأُمَراءِ الَّذين قَدِموا مِن إفريقيةَ لتَولِّي الأنْدَلُسِ، إضافةً إلى الأُمَوِيِّينَ الَّذين انْتَقلوا إلى الأنْدَلُسِ في أثْناءِ الخِلافةِ العبَّاسيَّةِ بسَبَبِ اضْطِهادِ العبَّاسيِّينَ لهم، معَ تَرْحيبِ عبْدِ الرَّحْمنِ الدَّاخِلِ بهم في الأنْدَلُسِ.
وقد حَمَلَ هؤلاء العَربُ مَسْؤوليَّةَ نَشْرِ العِلمِ والثَّقافةِ العَربيَّةِ؛ فانْتَقلَ العُلَماءُ المَشارِقةُ إليها يُعَلِّمونَ النَّاسَ، كما انْتَقلَ إليها كَثيرٌ مِن الكُتُبِ اللُّغويَّةِ والشَّرْعيَّةِ والأدَبيَّةِ؛ أوَّلُها كُتُبُ الأصْمَعيِّ والكِسائيِّ والفَرَّاءِ وابنِ الأعْرابيِّ، وبعضُ كُتُبِ ابنِ قُتَيْبةَ وأبي عُبَيْدٍ القاسِمِ بنِ سَلَّامٍ، وكِتابا الفَرْشِ والمِثالِ في العَروضِ للخَليلِ، وإصْلاحُ المَنطِقِ لابنِ السِّكِّيتِ.
أمَّا في الشِّعْرِ فقدِ انْتَقلَ بعضُ المَشارِقةِ بكُتُبِ الشِّعْرِ والرِّوايةِ، كمُحمَّدِ بنِ عبْدِ اللهِ الغازي، الَّذي جَلَبَ الأشْعارَ المَشْروحةَ كلَّها، وفي المُقابِلِ هاجَرَ بعضُ الأنْدَلُسيِّينَ إلى المَشرِقِ لأخْذِ ذلك العِلمِ، كعبَّاسِ بنِ ناصِحٍ الَّذي هاجَرَ ليَرويَ أشْعارَ أبي نُواسٍ، وكذلك عُثْمانُ بنُ المُثنَّى النَّحْويُّ، ومُؤْمِنُ بنُ سَعيدٍ اللَّذَانِ الْتَقيا بأبي تَمَّامٍ وأخَذا عنه، وأجازَهما في الرِّوايةِ عنه. وقدْ كانَ عبْدُ الرَّحْمنِ الدَّاخِلُ مُهتَمًّا بأشعارِ أبي تَمَّامٍ جدًّا، ما حَدا بالعُلَماءِ لأن يَنْقُلوا أخْبارَه وأشْعارَه إليه، يَتَقرَّبونَ بها إليه ويَلْتَمِسونَ مِنه العَطاءَ، وقدْ كانَ طَبيعيًّا أن يوجَدَ مُتَعصِّبٌ للبُحْتُريِّ على حِسابِ أبي تَمَّامٍ، يَهتَمُّ بنَقْلِ أشْعارِه ورِوايتِها [688] ينظر: ((تاريخ الأدب الأندلسي)) لإحسان عباس (ص: 25). .
وقدِ اسْتَشْرى حُبُّ الشِّعْرِ ورِوايتُه في النَّاسِ، فاهْتَمُّوا به وانْصَرفوا إليه، وألِفَ النَّاسُ ذلك الشِّعْرَ الَّذي نُقِلَ إليهم مِن المَشرِقِ، وجَعَلوه ميزانًا ومِقْياسًا للجَوْدةِ، وأصْبَحَ الشُّعَراءُ يومَئذٍ يُقلِّدونَ النَّموذجَ المَشرِقيَّ الَّذي وَصَلَ إليهم، ويَدورونَ حَوْلَه كأنَّه كَعْبةُ الفَنِّ ومِحْرابُ الشِّعْرِ، فكانَ شِعْرُ المَشرِقِ مِعْيارًا للجَوْدةِ، مَن وافَقَه وجَرى على مِنْوالِه فهو المُجيدُ، ومَن خَرَجَ عنه قِيدَ أُنْمُلةٍ عابوا شِعْرَه، وساعَدَهم على ذلك أيضًا اهْتِمامُ النُّقَّادِ به، وعِنايتُهم به في مَجالِسِ الأدَبِ، وساعَدَ على ذلك أيضًا أنَّ الخُلَفاءَ الأُمَوِيِّينَ كانوا عَرَبًا في الأصْلِ، فأرادوا أن يُحافِظوا على مَوْروثِ آبائِهم وفُنونِ قَوْمِهم، يَسْتَحِثُّونَ الشُّعَراءَ والأدَباءَ في الحِفاظِ على مَوْروثِهم العَربيِّ الأدَبيِّ، وتَجْري في عُروقِهم العادةُ العَربيَّةُ مِن حُبِّ الشِّعْرِ والتَّفَنُّنِ فيه والجَرْيِ على أصولِه وفُنونِه المَألوفةِ لدى العَربِ، وكانوا -كعادةِ الأُمَراءِ والمُلوكِ العَربِ- يَعقِدونَ مَجالِسَ السَّماعِ والمُنافَسةِ، فيَسْتَجيدونَ ما وافَقَ أصولَ الشِّعْرِ والعَربيَّةِ وقَواعِدَهما، ويَرفُضونَ كلَّ لَوْنٍ مِن ألْوانِ الشِّعْرِ الخارِجِ عن المَألوفِ.
ولم يَنْتَهِ ذلك الأمْرُ بسُقوطِ الخِلافةِ الأُمَوِيَّةِ في الأنْدَلُسِ، بلِ اسْتَمرَّ ذلك أيضًا في عَهْدِ الطَّوائِفِ والمَمالِكِ المُسْتقلَّةِ؛ حيثُ كانَ كلُّ مَلِكٍ يَسْعى إلى أن تكونَ له الحُظوةُ في كلِّ شيءٍ، حتَّى في الشِّعْرِ، فأغْدَقوا على الشُّعَراءِ العَطايا، وحاكَموهم إلى النَّموذجِ الفَريدِ مِن الشِّعْرِ، وهو الشِّعْرُ العَربيُّ المَشْرِقيُّ القَديمُ، فكانتِ المُنافَسةُ بَيْنَ شُعَراءِ المَمْلكةِ الواحِدةِ؛ أيُّهم يَنالُ شِعْرُه الحُظوةَ فيكونُ شاعِرَ البَلاطِ، وبَيْنَ المَمالِكِ كلِّها؛ أيُّها يَعْلو شاعِرُها على شُعَراءِ غيْرِها [689] ينظر: ((الفن ومذاهبه في الشِّعْر العربي)) لشوقي ضيف (ص:432). .
واسْتَمرَّتْ هذه الحَرَكةُ الدَّافِعةُ في العَصْرَينِ التَّاليَينِ: المُرابِطينَ، والمُوَحِّدينَ؛ إذ اسْتَطاعَتِ الأنْدَلُسُ أن تَظفَرَ بطائِفةٍ مِن الشُّعَراءِ المُجيدينَ، وكانَ كلُّ شاعِرٍ يُريدُ أن يَصرِفَ إليه الأنْظارَ، وأن يَبُزَّ أقْرانَه، ويَفوقَ خِلَّانَه، فعَمِلَ كلُّ شاعِرٍ على تَنْقيحِ شِعْرِه وتَجْويدِه وإثْرائِه بالمَعاني الجَديدةِ والأخْيِلةِ الخِصْبةِ والألْفاظِ الدَّقيقةِ، فكانَ هناك وقتَئذٍ مُنافَسةٌ شِعْريَّةٌ بَيْنَ الشُّعَراءِ أنْفُسِهم، وبَيْنَ الطَّوائِفِ والبُلْدانِ، فأثْرى ذلك التَّنافُسُ الأدَبَ بوَجْهٍ عامٍّ، والشِّعْرَ بوَجْهٍ خاصٍّ، فشاعَ الشِّعْرُ بَيْنَ أهْلِ الأنْدَلُسِ وأصْبَحَ صَنْعةً يُمارِسُها القاصي والدَّاني، والعالِمُ والجاهِلُ، والنَّابِهُ والغافِلُ، والسَّادةُ والسُّوقةُ.
ويَصِفُ ياقوتٌ الحَمَويُّ في كِتابِه (مُعجَم البُلْدانِ) حالَ بعضِ المُدُنِ الأنْدَلُسيَّةِ بقَوْلِه: (بَلَغَني أنَّه ليس بالأنْدَلُسِ بَعْدَ إشْبيليَة مِثلُها، وبَيْنَها وبَيْنَ شَنْتَرينَ خَمْسةُ أيَّامٍ، وسَمِعْتُ ممَّن لا أُحْصي أنَّه قال: قَلَّ أن تَرى مِن أهْلِها مَن لا يقولُ شِعْرًا ولا يُعاني الأدَبَ، ولو مَرَرْتَ بالفَلَّاحِ خَلْفَ فَدَّانِه وسألْتَه عن الشِّعْرِ قَرَضَ مِن ساعتِه ما اقْتَرَحْتَ عليه، وأيَّ مَعنى طَلَبْتَ مِنه!) [690] ينظر: ((معجم البلدان)) لياقوت الحموي (3/357). .
لكنْ معَ مُرورِ الوَقْتِ وتَغايُرِ الأحْوالِ، والمُنافَسةِ الدَّائرةِ بَيْنَ المَشارِقةِ والأنْدَلُسيِّينَ، اسْتَطاعَ الأنْدَلُسيُّونَ أن يُطوِّروا في شِعْرِهم، وأن يُجَدِّدوا مِن فَنِّهم، فابْتَكروا مَوْضوعاتٍ لم يُسْبَقوا إليها، وأضافوا مَعانيَ جَديدةً، وابْتَدعوا في اسْتِعمالِ الخَيالاتِ المُركَّبةِ، ثُمَّ جَدَّدوا بَعْدَ ذلك في الأوْزانِ الشِّعْريَّةِ والقَوافي، حتَّى وَصَلَ بهم الأمْرُ إلى اخْتِراعِ صُوَرٍ جَديدةٍ مِن النَّظْمِ الأدَبيِّ، مِثلُ المُوَشَّحاتِ والأزْجالِ.

انظر أيضا: