موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: الخَطابةُ


مرَّتِ الخَطابةُ على اخْتِلافِ أنْواعِها بتَقلُّباتٍ كَثيرةٍ بَيْنَ النُّمُوِّ والازْدِهارِ وبَيْنَ الضَّعْفِ والانْحِطاطِ؛ فقدْ كانَ الخُلَفاءُ والأُمَراءُ العبَّاسيُّونَ الأوائِلُ عَرَبًا فُصَحاءَ، تَملَّكَتِ الفَصاحةُ في ألْسِنتِهم، وتَنَقَّلَتْ فِطرةُ الخَطابةِ بَدْءًا مِن جَدِّهم العبَّاسِ بنِ عبْدِ المُطَّلِبِ وابنِه الحَبْرِ عبْدِ اللهِ، انْتِهاءً بهم، فكانَ بَنو العبَّاسِ على جانِبٍ رَفيعٍ مِن قُوَّةِ البَيانِ وذَرابةِ اللِّسانِ وحُضورِ البَديهةِ ومَتانةِ الارْتِجالِ، وكأنَّ اللُّغةَ ببَلاغتِها ورَوْعتِها صُبَّتْ في أفْواهِ بَني العبَّاسِ صَبًّا؛ ولِهذا يقولُ داودُ بنُ عليٍّ -عَمُّ أبي العبَّاسِ السَّفَّاحِ وأبي جَعْفَرٍ المَنْصورِ-: (ألَا وإنَّا ‌لا ‌نَنطِقُ ‌بَطَرًا، ولا نَسكُتُ حَصَرًا، بل نَسكُتُ مُعتَبِرينَ، ونَنطِقُ مُرشِدينَ، ونحن بَعْدُ أُمَراءُ القَوْلِ، فينا وَشَجَتْ أعْراقُه، وعلينا عَطَفَتْ أغْصانُه، ولنا تَهدَّلَتْ ثَمَرتُه، فنَتَخيَّرُ مِنه ما احْلَولى وعَذُبَ، ونَطَّرِحُ مِنه ما امْلَولحَ وخَبُثَ، ومِن بَعدِ مَقامِنا هذا مَقامٌ، وبَعدَ أيَّامِنا أيَّامٌ، يُعرَفُ فيها فَضْلُ البَيانِ، وفَصْلُ الخِطابِ، واللهُ أفْضَلُ مُسْتعانٍ) [627] ((الصناعتين)) لأبي هلال العسكري (ص: 22). .
وقد ساعَدَ على نَهْضةِ الخَطابةِ اعْتِيادُ النَّاسِ على تَعْليمِ أبْنائِهم الخَطابةَ وفُنونَها، فهذا بِشْرُ بنُ المُعْتَمِرِ يَمُرُّ على إبْراهيمَ بنِ جَبَلةَ بنِ مَخْرَمةَ الخَطيبِ وهو يُعلِّمُ الصِّبْيانَ أُصولَ الكِتابةِ، فوَقَفَ بِشْرٌ فظَنَّ إبْراهيمُ أنَّه وَقَفَ ليَتَعلَّمَ مِنه، فقالَ بِشْرُ: اضْرِبوا عمَّا قالَ صَفْحًا، ثُمَّ دَفَعَ إليهم صَحيفةً مِن تَحْبيرِه وتَنْميقِه، وكانَ فيها: (خُذْ مِن نفْسِك ساعةَ نَشاطِك وفَراغَ بالِك وإجابتَها إيَّاك؛ فإنَّ قَليلَ تلك السَّاعةِ أكْرَمُ جَوْهرًا، وأشْرَفُ حَسَبًا، وأحْسَنُ في الاسْتِماعِ، وأحْلى في الصُّدورِ، وأسْلَمُ مِن فاحِشِ الخَطَأِ، وأجْلَبُ لكلِّ عَيْنٍ مِن لَفْظٍ شَريفٍ، ومَعنًى بَديعٍ، واعْلَمْ أنَّ ذلك أجْدى عليك ممَّا يُعْطيك يَوْمُك الأطْوَلُ بالكَدِّ والمُطاوَلةِ والمُجاهَدةِ، وبالتَّكلُّفِ والمُعاوَدةِ، ومَهْما أخْطَأَك لم يُخْطِئْك أن يكونَ مَقْبولًا قَصدًا، وخَفيفًا على اللِّسانِ سَهْلًا، وكما خَرَجَ مِن يَنْبوعِه ونَجَمَ مِن مَعْدِنِه، وإيَّاك والتَّوعُّرَ؛ فإنَّ التَّوعُّرَ يُسْلِمُك إلى التَّعْقيدِ، والتَّعْقيدُ هو الَّذي يَسْتهلِكُ مَعانيَك، ويَشينُ ألْفاظَك.
ومَن أرادَ مَعنًى كَريمًا فلْيَلتَمِسْ له لَفْظًا كَريمًا؛ فإنَّ حَقَّ المَعنى الشَّريفِ اللَّفظُ الشَّريفُ، ومِن حَقِّهما أن تَصونَهما عمَّا يُفسِدُهما ويُهَجِّنُهما، وعمَّا تَعودُ مِن أجْلِه إلى أن تكونَ أسْوَأَ حالًا مِنك قَبْلَ أن تَلتَمِسَ إظْهارَهما، وتَرهَنَ نفْسَك بمُلابَستِهما وقَضاءِ حَقِّهما، فكُنْ في ثَلاثةِ مَنازِلَ: فأوَّلُ ذلك أن يكونَ لَفْظُك رَشيقًا عَذْبًا، أو فَخْمًا سَهْلًا، ويكونَ مَعْناك ظاهِرًا مَكْشوفًا، وقَريبًا مَعْروفًا، إمَّا عنْدَ الخاصَّةِ إن كنْتَ للخاصَّةِ قَصَدْتَ، وإمَّا عِنْدَ العامَّةِ إن كنْتَ للعامَّةِ أرَدْتَ، والمَعنى ليس يَشرُفُ بأن يكونَ مِن مَعاني الخاصَّةِ، وكذلك ليس يَتَّضِعُ بأن يكونَ مِن مَعاني العامَّةِ، وإنَّما مَدارُ الشَّرَفِ على الصَّوابِ وإحْرازِ المَنْفعةِ معَ مُوافَقةِ الحالِ، وما يَجِبُ لكلِّ مَقامٍ مِن المَقالِ، وكذلك اللَّفْظُ العامِّيُّ والخاصِّيُّ، فإن أمْكَنَك أن تَبلُغَ مِن بَيانِ لِسانِك، وبَلاغةِ لَفْظِك، ولُطْفِ مَداخِلِك، وقُدْرتِك في نفْسِك أن تُفهِمَ العامَّةَ مَعانيَ الخاصَّةِ، وتَكْسوَها الألْفاظَ المُتَوسِّطةَ الَّتي لا تَلْطُفُ عن الدَّهْماءِ، ولا تَجْفو عن الأكْفاءِ، فأنت البَليغُ التَّامُّ).
فقالَ له إبْراهيمُ بنُ جَبَلةَ: جُعِلْتُ فِداك، أنا أحْوَجُ إلى تَعلُّمي هذا الكَلامَ مِن هؤلاء الغِلْمةِ [628] ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 129)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/ 147). .
مَوْضوعاتُ الخَطابةِ في العَصْرِ العبَّاسيِّ:
الخَطابةُ السِّياسيَّةُ:
كانتِ الثَّوْرةُ الَّتي أحْدَثَها بَنو العبَّاسِ حَدَثًا كَبيرًا، هَزَّ المَشاعِرَ، وأثارَ الخَواطِرَ، وأهاجَ النُّفوسَ، وقَلَبَ الأوْضاعَ، خاصَّةً معَ اسْتِباحةِ الدِّماءِ وانْتِشارِ القَتْلِ في تلك المَرْحلةِ، على ما اسْتَقرَّ في اعْتِقاداتِ المُسلِمينَ مِن حُرْمةِ الخُروجِ على الحاكِمِ المُسلِمِ، فكيف بالخُروجِ عليه وقَتْلِه وقَطْعِ دابِرِه هو ومَن يَنْتسِبُ إليه مِن الأُمَوِيِّينَ، ومَن شايَعَهم مِن مَواليهم.
وقد لَعِبَتِ الخُطبةُ السِّياسيَّةُ الدَّوْرَ الرَّئيسَ في اسْتِمالةِ نُفوسِ النَّاسِ إلى الدَّعْوةِ العبَّاسيَّةِ الجَديدةِ، خاصَّةً حينَ اتَّكأتْ على ذِكْرِ الفُسوقِ والفُجورِ والتَّرَفِ الَّذي أدْمَنَه أكْثَرُ الخُلَفاءِ الأُمَوِيِّينَ، وما أصابوا مِن ظُلْمِ النَّاسِ وانْتِقاصِهم حُقوقَهم، فَضْلًا عن تَحْميسِ النَّاسِ للانْضِمامِ لتلك الدَّعْوةِ، ورَفْعِ رايةِ العبَّاسيِّينِ، وإشْهارِ السَّيْفِ في وَجْهِ الأُمَوِيِّينَ.
لِهذا كانَ سِلاحُ العبَّاسيِّينَ الفَعَّالُ هو اسْتِعمالَ الدُّعاةِ، حيثُ انْتَشَرَ دُعاةُ الدَّعْوةِ العبَّاسيَّةِ في أواخِرِ الدَّوْلةِ الأُمَوِيَّةِ، وقد كانَ الدُّعاةُ يَستَميلونَ مَن يَظُنُّونَ فيهم البُغْضَ للأُمَوِيِّينَ، فكانوا يَخطُبونَ في النَّاسِ يُحرِّضونَهم على الأُمَوِيِّينَ، ويَذكُرونَ الحَقَّ الشَّرْعيَّ لآلِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الهاشِميِّينَ في الخِلافةِ، وأنَّ بَني أُمَيَّةَ سَلَبوهم ذلك الحَقَّ حينَ ناصَبَ مُعاوِيةُ عليًّا وبَنيه العَداءَ حتَّى سُلِّمَتْ إليه الخِلافةُ.
وقد حَرَصَ العبَّاسيُّونَ على اخْتِيارِ الدُّعاةِ ببَراعةٍ، ولا أدَلَّ على هذا مِن أنَّ أبا سَلَمةَ الخَلَّالَ وأبا مُسلِمٍ الخُراسانيَّ -داعِيَينِ عبَّاسيَّينِ- قد قامَتْ على أيْديهما راياتُ العبَّاسيِّينَ في خُراسانَ وما حَوْلَها، حتَّى إنَّ الدُّعْوةَ هنالِك اسْتَحالَتْ مِن السِّريَّةِ إلى الجَهْرِ، وانْتَشَرَ هنالِك المُسَوِّدةُ الَّذين يَرتَدونَ السَّوادَ، وهو شِعارُ الدَّوْلةِ العبَّاسيَّةِ، وحارَبوا الأُمَوِيِّينَ هنالِك وانْتَصروا عليهم وظَفِروا بهم قَبْلَ أن تَقومَ للعبَّاسيِّينَ في الشَّامِ والعِراقِ قائِمةٌ.
كما اهْتَمَّ الخُلَفاءُ العبَّاسيِّونَ الأوائِلُ بالخَطابةِ اهْتِمامًا بالِغًا؛ حيثُ كانوا يَبُثُّونَ الخُطَباءَ في كلِّ مَكانٍ، يُعْلِنونَ بالحُجَّةِ السَّاطِعةِ حَقَّهم في خِلافةِ المُسلِمينَ وإمامةِ النَّاسِ بَعدَ سيِّدِ المُرْسَلينَ، كما كانوا يَخطُبونَ في النَّاسِ في المَواسِمِ والأعْيادِ بأنْفُسِهم، ممَّا يُظهِرُ للنَّاسِ هُداهم وتَقْواهم وأنَّهم على نَهْجِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ الأوائِلِ، حتَّى إنَّ الرَّشيدَ أرادَ أن يُقَوِّيَ مَركَزَ وَلِيِّ عَهْدِه في حُكْمِ البِلادِ مِن بَعدِه، فعَهِدَ إلى مُعلِّمِه الأصْمَعيِّ أن يَكتُبَ خُطْبةً مِن الخُطَبِ فيَجعَلَ وَلَدَه الأمينَ يَحفَظُها ليُصلِّيَ بالنَّاسِ الجُمُعةَ، ففَعَلَ وأُعجِبَ الرَّشيدُ بذلك.
إلَّا أنَّ الحالَ لم يَلبَثْ أن تَغيَّرَ وانْقَلبَ؛ حيثُ وَليَ الخِلافةَ بَعدَ ذلك مَن لا قُدْرةَ له على إنْشاءِ جُمْلةٍ أدَبيَّةٍ بَليغةٍ، وذلك لأعْجَميَّةِ أكْثَرِهم، وانْصِرافِهم عن الخُطَبِ والفَصاحةِ، حتَّى وَكَّلَ الخُلَفاءُ والأُمَراءُ مَن يَنوبُ عنهم في الصَّلاةِ والخُطبةِ، ولم يَعُدِ الخُلَفاءُ يَخطُبونَ في الأعْيادِ، بلْ لمَّا صلَّى المُطيعُ للهِ صَلاةَ عيدِ الفِطْرِ وَقَفَ على المِنبَرِ ولم يَعرِفْ ما يَقولُه، وصلَّى المُعْتَضِدُ مِن قَبْلِه في عيدِ الأضْحى ولم يَخطُبْ، وكانَ آخِرُ خَليفةٍ خَطَبَ في النَّاسِ على المِنبَرِ هو الرَّاضيَ (312ه - 329ه).
كما اسْتَغنَوا بَعدَ ذلك عن الخَطابةِ السِّياسيَّةِ؛ إذ اسْتَقرَّتْ دَوْلةُ العبَّاسيِّينَ بَعدَ ذلك، ولم يَكُنِ الخُلَفاءُ في حاجةٍ إليها، اللَّهُمَّ إلَّا ما كانَ في الفِتْنةِ بَيْنَ الأمينِ والمَأمونِ، حيثُ اعْتَمَدَ الطَّرَفانِ على الخَطابةِ في اسْتِمالةِ النَّاسِ إليهما.
ولم يَعُدْ للخَطابةِ مَجالٌ في الجُيوشِ والكَتائِبِ بَعدَ ذلك، كما اسْتَغْنَوا بالكِتابةِ عن الخَطابةِ في كَثيرٍ مِن المَواقِفِ الَّتي اقْتَضَتْها الخَطابةُ، فضَعُفَتِ الخَطابةُ السِّياسيَّةُ بَعدَ ذلك جدًّا [629] يُنظر: ((الأدب العربي وتاريخه في العَصْرين الأموي والعباسي)) لمُحمَّد عبد المنعم خفاجي (2/ 284). .
ومِنها خُطبةُ أبي العبَّاسِ السَّفَّاحِ عنْدَما تَولَّى الخِلافةَ:
(الحَمْدُ للهِ الَّذي اصْطَفى الإسلامَ لنفْسِه تَكرِمةً، وشَرَّفَه وعَظَّمَه، واخْتارَه لنا وأيَّدَه بنا، وجَعَلَنا أهْلَه وكَهْفَه وحِصْنَه، والقُوَّامَ به، والذَّابِّينَ عنه، والنَّاصِرينَ له، وألْزَمَنا كَلِمةَ التَّقْوى، وجَعَلَنا أحَقَّ بها وأهْلَها، وخَصَّنا برَحِمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقَرابتِه، وأنْشَأَنا مِن آبائِه، وأنْبَتَنا مِن شَجَرتِه، واشْتَقَّنا مِن نَبْعتِه.
جَعَلَه مِن أنْفُسِنا، عَزيزًا عليه ما عَنِتْنا، حَريصًا علينا، بالمُؤْمِنينَ رَؤوفًا رَحيمًا، ووَضَعَنا مِن الإسلامِ وأهْلِه بالمَوضِعِ الرَّفيعِ، وأنْزَلَ بذلك على أهْلِ الإسلامِ كِتابًا يُتْلى عليهم، فقالَ عزَّ مِن قائِلٍ فيما أنْزَلَ مِن مُحكَمِ القُرآنِ: إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ أَفَاء الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى عليهم حَقَّنا ومَودَّتَنا، وأجْزَلَ مِن الفَيءِ والغَنيمةِ نَصيبَنا، تَكْرِمةً لنا، وفَضْلًا علينا، واللهُ ذو الفَضْلِ العَظيمِ.
وزَعَمَتِ السَّبَئيَّةُ الضُّلَّالُ أنَّ غيْرَنا أحَقُّ بالرِّياسةِ والخِلافةِ مِنَّا، فشاهَتْ وُجوهُهم! بِمَ ولِمَ أيُّها النَّاسُ؟! وبنا هَدى اللهُ النَّاسَ بَعدَ ضَلالتِهم، وبَصَّرَهم بَعدَ جَهالتِهم! وأنْقَذَهم بَعدَ هَلكتِهم، وأظْهَرَ بنا الحَقَّ، وأدْحَضَ بنا الباطِلَ، وأصْلَحَ بنا مِنهم ما كانَ فاسِدًا، ورَفَعَ بنا الخَسيسةَ، وأتَمَّ بنا النَّقيصةَ، وجَمَعَ الفُرقةَ، حتَّى عادَ النَّاسُ بَعدَ العَداوةِ أهْلَ تَعاطُفٍ وبِرٍّ، ومُواساةٍ في دينِهم ودُنْياهم، إخْوانًا على سُرُرٍ مُتَقابِلينَ في آخِرتِهم، فَتَحَ اللهُ ذلك مِنَّةً ومِنْحةً لمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
فلمَّا قَبَضَه اللهُ إليه قامَ بذلك الأمْرِ مِن بَعدِه أصْحابُه، وأمْرُهم شورى بيْنَهم، فحَوَوا مَواريثَ الأمَمِ، فعَدَلوا فيها، ووَضَعوها مَواضِعَها، أعْطَوها أهْلَها، وخَرَجوا خِماصًا مِنها، ثُمَّ وَثَبَ بَنو حَرْبٍ ومَرْوانَ فابْتَزُّوها وتَداوَلوها بيْنَهم، فجاروا فيها، واسْتَأثَروا بها، وظَلَموا أهْلَها، فأمْلى اللهُ لهم حينًا حتَّى آسَفوه، فلمَّا آسَفوه انْتَقَمَ مِنهم بأيْدينا، ورَدَّ علينا حَقَّنا، وتَدارَكَ بنا أمَّتَنا، ووَليَ نَصْرَنا والقِيامَ بأمْرِنا، لِيَمُنَّ بنا على الَّذين اسْتُضْعِفوا في الأرْضِ، وخَتَمَ بنا كما افْتَتَحَ بنا، وإنِّي لأرْجو ألَّا يَأتيَكم الجَورُ مِن حيثُ أتاكم الخَيْرُ، ولا الفَسادُ مِن حيثُ جاءَكم الصَّلاحُ، وما تَوْفيقُنا -أهْلَ البَيْتِ- إلَّا باللهِ.
يا أهْلَ الكوفةِ، أنتم مَحَلُّ مَحبَّتِنا، ومَنزِلُ مَودَّتِنا، أنتم الَّذين لم تَتَغيَّروا عن ذلك، ولم يَثْنِكم عن ذلك تَحامُلُ أهْلِ الجَوْرِ عليكم، حتَّى أدْرَكْتم زَمانَنا، وأتاكم اللهُ بدَوْلتِنا، فأنتم أسْعَدُ النَّاسِ بنا، وأكْرَمُهم علينا، وقد زِدْتُكم في أُعْطياتِكم مِئةَ دِرْهَمٍ، فاسْتَعِدُّوا، فأنا السَّفَّاحُ المُبيحُ، والثَّائِرُ المُبيرُ) [630] ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (22/ 39)، ((جمهرة خطب العرب)) لأحمد زكي صفوت (3/8). .
ومِنها أيضًا خُطْبةُ أبي جَعْفَرٍ المَنْصورِ حينَ قَتَلَ أبا مُسلِمٍ الخُراسانيَّ داعيةَ العبَّاسيِّينَ الَّذي نَشَرَ دَعْوتَهم في خُراسانَ كلِّها، قالَ أبو جَعْفَرٍ: (أيُّها النَّاسُ: لا تَخْرُجوا مِن أُنْسِ الطَّاعةِ إلى وَحْشةِ المَعْصيةِ، ولا تُسِرُّوا غِشَّ الأئِمةِ؛ فإنَّه لم يُسِرَّ أحَدٌ قَطُّ مَنكَرةً إلَّا ظَهَرَتْ في آثارِ يَدِه، وفَلَتاتِ لِسانِه، وصَفَحاتِ وَجْهِه، وأبْداها اللهُ لإمامِه، بإعْزازِ دينِه، وإعْلاءِ حَقِّه، إنَّا لن نَبخَسَكم حُقوقَكم، ولن نَبخَسَ الدِّينَ حَقَّه عليكم، إنَّه مَن نازَعَنا عُروةَ هذا القَميصِ أجْزَرْناه خَبيءَ هذا الغِمْدِ، وإنَّ أبا مُسلِمٍ بايَعَنا وبايَعَ النَّاسَ لنا، على أنَّه مَن نَكَثَ بنا فقدْ أباحَ دَمَه، ثُمَّ نَكَثَ بنا، فحَكَمْنا عليه لأنْفُسِنا حُكمَه على غيْرِه لنا، ولم تَمنَعْنا رِعايةُ الحَقِّ له مِن إقامةِ الحَقِّ عليه) [631] ((تاريخ الطبري)) (8/ 94)، ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (3/31). .
ومِنها أيضًا خُطْبةُ داودَ بنِ عليٍّ -عَمِّ الخُلَفاءِ- حينَ تَولَّى إمارةَ الحُجَّاجِ في مَوسِمِ الحَجِّ الأوَّلِ للعبَّاسيِّينَ، وقدْ كانَ أنْطَقَ النَّاسِ وأجْوَدَهم ارْتِجالًا واقْتِضابًا للقَوْلِ، فخَطَبَ قائِلًا: (شُكرًا شُكرًا، إنَّا واللهِ ما خَرَجْنا لنَحِفرَ فيكم نَهْرًا، ولا لنَبنيَ فيكم قَصْرًا، أَظَنَّ عَدُوُّ اللهِ أن لن نَقدِرَ عليه أن روخِيَ له مِن خِطامِه، حتَّى عَثَرَ في فَضْلِ زِمامِه؟! فالآنَ حيثُ أخَذَ القَوْسَ باريها، وعادَتِ النَّبْلُ إلى النَّزْعةِ، ورَجَعَ المُلْكُ في نِصابِه في أهْلِ بَيْتِ النُّبوَّةِ والرَّحْمةِ، واللهِ لقد كنَّا نَتَوجَّعُ لكم ونحن في فُرُشِنا، أمِنَ الأسْوَدُ والأحْمَرُ، لكم ذِمَّةُ اللهِ، لكم ذِمَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لكم ذِمَّةُ العبَّاسِ، لا ورَبِّ هذه البِنْيةِ -وأَوْمَأَ بيدِه إلى الكَعْبةِ- لا نُهيِّجُ مِنكم أحَدًا) [632] ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (1/ 269)، ((الكامل في اللُّغة والأدب)) للمبرد (4/ 92). .
الخُطَبُ الدِّينيَّةُ:
ازْدَهَرتِ الخَطابةُ الدِّينيَّةُ في العَصْرِ العبَّاسيِّ ازْدِهارًا كَبيرًا، ساعَدَها على ذلك تَدْوينُ السُّنَنِ والأحاديثِ، فسَهَّلَ على الخُطَباءِ مَعْرفةَ الأحاديثِ والآثارِ وحِفْظَها والاسْتِشْهادَ بها. وقدْ هيَّأَ لتلك الخَطابةِ رَغْبةُ الخُلَفاءِ العبَّاسيِّينَ في نَشْرِ الوَعْظِ الدِّينيِّ وتَذْكيرِ النَّاسِ برَبِّهم؛ لكي يَظهَروا بمَظهَرِ الإمامةِ الدِّينيَّةِ والزَّعامةِ الرُّوحيَّةِ، وإعْزازِ الدِّينِ والغَيْرةِ على الإسلامِ؛ لأنَّ هذا المَظهَرَ هو الَّذي تَأسَّسَ به مُلْكُهم، وقامَت عليه دَوْلتُهم.
وقدْ كانَ الخُلَفاءُ الأوائِلُ حَريصينَ على أن يَدخُلَ عليهم الوُعَّاظُ، لا يَحجُبونَ أبْوابَهم عنهم، وقد ذَكَرَتْ كُتُبُ الأدَبِ كَثيرًا مِن مَواعِظِ الوُعَّاظِ لهارونَ الرَّشيدِ وأبي جَعْفَرٍ المَنْصورِ وغيْرِهما، كما اشْتَهرَ عن بعضِ الخُلَفاءِ ذلك النَّوْعُ مِن الخَطابةِ، فكانَ الرَّشيدُ والمَهْديُّ والمَأمونُ وغيْرُهم يَعِظونَ النَّاسَ ويَخطُبونَ فيهم كلَّ جُمُعةٍ.
وقد ألْهَبَ الخَطابةَ الدِّينيَّةَ كذلك في ذلك العَصْرِ ما انْتَشَرَ بَيْنَ النَّاسِ مِن فِتْنةِ خَلْقِ القُرآنِ الَّتي أوْرى زِنادَها المُعْتزلةُ، وثَبَتَ فيها الإمامُ أحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ وثُلَّةٌ مِن العُلَماءِ، ولا رَيْبَ أنَّه كانَ للخَطابةِ دَوْرٌ مُزدَوِجٌ في الفَريقَينِ؛ فكلُّ فَريقٍ يَدْعو إلى مَذهَبِه ويُدافِعُ عنه، ويُؤيِّدُه بالأدَلَّةِ والبَراهينِ.
ومِن الخُطَبِ الدِّينيَّةِ:
خُطبةُ الخَليفةِ المَهْديِّ: (الحَمْدُ للهِ الَّذي ارْتَضى الحَمْدَ لنَفْسِه، ورَضيَ به مِن خَلْقِه، أحْمَدُه على آلائِه، وأمَجِّدُه لبَلائِه، وأسْتَعينُه وأؤْمِنُ به، وأتَوَكَّلُ عليه تَوَكُّلَ راضٍ بقَضائِه، وصابِرٍ لبَلائِه، وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وَحْدَه لا شَريكَ له، وأنَّ مُحمَّدًا عبْدُه المُصْطَفى، ونَبيُّه المُجْتَبى، ورَسولُه إلى خَلْقِه، وأمينُه على وَحْيِه، أرْسَلَه بَعدَ انْقِطاعِ الرَّجاءِ، وطُموسِ العِلمِ، واقْتِرابٍ مِن السَّاعةِ، إلى أمَّةٍ جاهِليَّةٍ، مُخْتلِفةٍ أُمِّيَّةٍ، أهْلِ عَداوةٍ وتَضاغُنٍ، وفُرْقةٍ وتَبايُنٍ، قد اسْتَهْوَتْهم شَياطينُهم، وغَلَبَ عليهم قُرَناؤُهم، فاسْتَشْعَروا الرَّدى، وسَلَكوا العَمى، يُبشِّرُ مَن أطاعَه بالجنَّةِ وكَريمِ ثَوابِها، ويُنذِرُ مَن عَصاه بالنَّارِ وأليمِ عِقابِها لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أوصيكم عِبادَ اللهِ بتَقْوى اللهِ؛ فإنَّ الاقْتِصارَ عليها سَلامةٌ، والتَّرْكَ لها نَدامةٌ، وأحُثُّكم على إجْلالِ عَظَمتِه، وتَوْقيرِ كِبْريائِه وقُدْرتِه، والانْتِهاءِ إلى ما يُقرِّبُ مِن رَحمتِه ويُنجِّي مِن سَخَطِه، ويُنالُ به ما لديه، مِن كَريمِ الثَّوابِ، وجَزيلِ المآبِ، فاجْتَنِبوا ما خَوَّفَكم اللهُ مِن شَديدِ العِقابِ، وأليمِ العَذابِ، ووَعيدِ الحِسابِ، يَوْمَ تُوقَفونَ بَيْنَ يَدَيِ الجَبَّارِ، وتُعرَضونَ فيه على النَّارِ: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: 105] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34 - 37] يومَ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة: 123] يومَ لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ [لقمان: 33] ، فإنَّ الدُّنْيا دارُ غُرورٍ، وبَلاءٍ وشُرورٍ، واضْمِحْلالٍ وزَوالٍ، وتَقلُّبٍ وانْتِقالٍ، قد أفْنَتْ مَن كانَ قبْلَكم، وهي عائِدةٌ عليكم وعلى مَن بَعْدَكم، مَن رَكَنَ إليها صَرَعَتْه، ومَن وَثِقَ بها خانَته، ومَن أمَّلَها كَذَبَتْه، ومَن رَجاها خَذَلَتْه، عِزُّها ذُلٌّ، وغِناها فَقْرٌ، والسَّعيدُ مَن تَرَكَها، والشَّقيُّ فيها مَن آثَرَها، والمَغْبونُ فيها مَن باعَ حَظَّه مِن دارِ آخِرتِه بها ...) [633] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/ 188)، ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (3/ 55). .
وخُطْبةُ هارونَ الرَّشيدِ:
‌(عِبادَ ‌اللهِ: ‌إنَّكم ‌لم ‌تُخلَقوا ‌عَبَثًا، ‌ولن ‌تُتْرَكوا ‌سُدًى، حَصِّنُوا إيمانَكم بالأمانةِ، ودينَكم بالوَرَعِ، وصَلاتَكم بالزَّكاةِ؛ فقدْ جاءَ في الخَبَرِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: «لا إيمانَ لمَن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمَن لا عَهْدَ له، ولا صَلاةَ لمَن لا زَكاةَ له» [634] أخرجه أحمد (13637) ، إنَّكم سَفْرٌ مُجْتازونَ، وأنتم عن قَريبٍ تَنْتقِلونَ مِن دارِ فَناءٍ إلى دارِ بَقاءٍ؛ فسارِعوا إلى المَغْفرةِ بالتَّوْبةِ، وإلى الرَّحْمةِ بالتَّقْوى، وإلى الهُدى بالأمانةِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى ذِكْرُه أوْجَبَ رَحمتَه للمُتَّقينَ، ومَغْفرتَه للتَّائِبينَ، وهُداه للمُنيبينَ؛ قالَ اللهُ عزَّ وجَلَّ وقَوْلُه الحَقُّ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [الأعراف: 156] ، وقالَ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] .
وإيَّاكم والأمانيَّ؛ فقدْ غَرَّتْ وأوْرَدَتْ وأبْقَتْ كَثيرًا حتَّى أكْذَبَتْهم مُناياهم، فتَناوَشوا التَّوْبةَ مِن مَكانٍ بَعيدٍ، وحيل بيْنَهم وبَيْنَ ما يَشْتهونَ، فأخْبَرَكم رَبُّكم عن المَثُلاتِ فيهم، وصَرَّفَ الآياتِ، وضَرَبَ الأمْثالَ، فرَغَّبَ بالوَعْدِ وقَدَّمَ إليكم الوَعيدَ، وقد رَأيْتُم وَقائِعَه بالقُرونِ الخَوالي جيلًا فجيلًا، وعَهِدْتُم الآباءَ والأبْناءَ والأحِبَّةَ والعَشائِرَ باخْتِطافِ المَوْتِ إيَّاهم مِن بُيوتِكم، ومِن بَيْنِ أظْهُرِكم، لا تَدفَعونَ عنهم، ولا تَحولونَ دونَهم، فزالَتْ عنهم الدُّنْيا، وانْقَطَعتْ بهم الأسْبابُ، فأسْلَمَتْهم إلى أعْمالِهم عندَ المَوقِفِ والحِسابِ والعِقابِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] .
إنَّ أحْسَنَ الحَديثِ وأبْلَغَ المَوْعظةِ كِتابُ اللهِ؛ يقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204] ، أعوذُ باللهِ مِن الشَّيْطانِ الرَّجيمِ، إنَّه هو السَّميعُ العَليمُ، بِسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4] ، آمُرُكم بما أمَرَكم اللهُ به، وأنْهاكم عمَّا نَهاكم عنه، وأسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولكم) [635] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/191)، ((جمهرة خطب العرب)) لأحمد زكي صفوت (3/84). .
وإذا كانت الخَطابةُ الدِّينيَّةُ قد ضَعُفَتْ عندَ الخُلَفاءِ والأُمَراءِ لمَّا تَرَكَها أكْثَرُهم، فإنَّها قد اسْتَعَرَتْ وأيْنَعَتْ في بيئةِ الوُعَّاظِ والنُّسَّاكِ الَّذين كانت تَزخَرُ بهم مَساجِدُ البَصْرةِ والكوفةِ وبَغْدادَ وسائِرِ المَساجِدِ، كما انْتَشَرَ المُحدِّثونَ والمُتَكلِّمونَ والزُّهادُ والفُقَهاءُ في بِلادِ الحَرَمَينِ وسائِرِ أقْطارِ الدَّوْلةِ الإسلاميَّةِ، بلْ كانَ كَثيرٌ مِنهم يَذهَبونَ إلى قُصورِ الخُلَفاءِ فيَعِظونَهم، فهذا صالِحُ بنُ عبْدِ الجَليلِ النَّاسِكُ المُفَوَّهُ، كانَ يَدخُلُ على المَهْديِّ فيَعِظُه حتَّى يُبكيَه، فدَخَلَ عليه يَوْمًا وقالَ: (إنَّا لمَّا سَهُلَ علينا ما تَوَعَّرَ على غيْرِنا مِن الوُصولِ إليك قُمْنا مَقامَ الأداءِ عنهم وعن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بإظْهارِ ما في أعْناقِنا مِن فَريضةِ الأمْرِ والنَّهْيِ، عندَ انْقِطاعِ عُذْرِ الكِتْمانِ في التَّقيَّةِ، ولا سيَّما حينَ اتَّسَمْتَ بمِيسَمِ التَّواضُعِ، ووَعَدْتَ اللهَ وحَمَلةَ كِتابِه إيثارَ الحَقِّ على ما سِواه.
فجَمَعَنا وإيَّاك مَشهَدٌ مِن مَشاهِدِ التَّمْحيصِ، ليَتِمَّ مُؤدِّينا على مَوْعودِ الأداءِ عنهم، وقابِلُنا على مَوْعودِ القَبولِ، أو يَرُدُّنا تَمْحيصُ اللهِ إيَّانا في اخْتِلافِ السِّرِّ والعَلانيةِ، ويُحلِّينا تَحْليةَ الكاذِبينَ، فقْد كانَ أصْحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولونَ: مَن حَجَبَ اللهُ عنه العِلمَ عَذَّبَه به على الجَهْلِ، وأشَدُّ مِنه عَذابًا مَن أقْبَلَ إليه العِلمُ وأدْبَرَ عنه، ومَن أهْدى اللهُ إليه عِلمًا فلم يَعمَلْ به، فقدْ رَغِبَ عن هَديَّةِ اللهِ وقَصَّرَ بها، فاقْبَلْ ما أهْدى اللهُ إليك مِن ألْسِنتِنا قَبولَ تَحْقيقٍ وعَمَلٍ، لا قَبولَ سُمْعةٍ ورِياءٍ؛ فإنَّه لا يَعدَمُك مِنَّا إعْلامٌ لِما تَجهَلُ أو مُواطأةٌ على ما تَعلَمُ أو تَذْكيرٌ مِن غَفْلةٍ، فقدْ وَطَّنَ اللهُ عزَّ وجَلَّ نبيَّه عليه السَّلامُ على نُزولِها تَعْزيةً عمَّا فاتَ، وتَحْصينًا مِن التَّمادي، ودَلالةً على المَخرَجِ، فقالَ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200] ، فأطْلِعِ اللهَ على قَلْبِك بما يُنَوِّرُه مِن إيثارِ الحَقِّ ومُنابَذةِ الأهواءِ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ) [636] ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (2/ 231)، ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (3/ 79). .
وكانَ ابنُ السَّمَّاكِ واعِظًا يَدخُلُ على الرَّشيدِ فيَعِظُه حتَّى يَبكيَ، وكانَ الرَّشيدُ يُحِبُّ ذلك مِنه، فقالَ له الرَّشيدُ يَوْمًا: عِظْني، فقالَ: (اتَّقِ اللهَ وَحْدَه لا شَريكَ له، واعْلَمْ أنَّك واقِفٌ غدًا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّك، ثُمَّ مَصْروفٌ إلى إحدى مَنْزلتَينِ لا ثالِثةَ لهما: جنَّةٍ أو نارٍ، فبَكى هارونُ حتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيتُه، فأقْبَلَ الفَضْلُ على ابنِ السَّمَّاكِ، فقالَ: سُبْحانَ اللهِ! وهلْ يَتَخالَجُ أحَدًا شَكٌّ في أنَّ أميرَ المُؤْمِنينَ مَصْروفٌ إلى الجنَّةِ إن شاءَ اللهُ؛ لقِيامِه بحَقِّ اللهِ، وعَدْلِه في عِبادِه، وفَضْلِه؟! فلم يَحْفِلْ بذلك ابنُ السَّمَّاكِ مِن قَوْلِه، ولم يَلْتَفِتْ إليه، وأقْبَلَ على أميرِ المُؤْمِنينَ، فقالَ: يا أميرَ المُؤْمِنينَ إنَّ هذا -يَعْني الفَضْلَ بنَ الرَّبيعِ- ليس واللهِ معَك ولا عِنْدَك في ذلك اليَوْمِ، فاتَّقِ اللهَ وانْظُرْ لنفْسِك. فبَكى هارونُ حتَّى أشْفَقْنا عليه، وأفْحَمَ الفَضْلَ بنَ الرَّبيعِ، فلم يَنطِقْ بحَرْفٍ [637] ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (3/ 100)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (3/ 454). .
خُطَبُ المَحافِلِ والوُفودِ:
كانَ لاسْتِحواذِ الفُرْسِ على نِصابِ الأمورِ في بِلادِ المُسلِمينَ أثَرُه في ضَعْفِ ذلك النَّوْعِ مِن الخَطابةِ؛ إذ أجْرى الفُرْسُ أمورَ بَلاطِ الخِلافةِ وشُؤونَ القَصْرِ على النَّحْوِ الفارِسيِّ، فصارَ الخَليفةُ مَعْزولًا عن الرَّعيَّةِ، لا يَدخُلُ أحَدٌ مِنهم عليه إلَّا بإذْنِ هؤلاء الأعاجِمِ، فلم يَعْبَؤوا بالأدَبِ والأُدَباءِ، فكانَ لا يَدخُلُ أحَدٌ مِنهم على الخَليفةِ أصْلًا، خاصَّةً في عُصورِ الضَّعْفِ في العَصْرِ العبَّاسيِّ الثَّاني وما يَليه، واقْتَصَرَتْ خَطابةُ المَحافِلِ والوُفودِ على إشْهارِ الخَطيبِ بَيْعةً لخَليفةٍ، أو الدُّخولِ على خَليفةٍ لتَعْزيتِه بمَوْتِ الخَليفةِ السَّابِقِ وتَهْنئتِه بالخِلافةِ [638] ينظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (3/451). .
ومِثالُ ذلك خُطْبةُ ابنِ عُتْبةَ أمامَ المَهْديِّ يُهنِّئُه بالخِلافةِ ويُعزِّيه في أبيه المَنْصورِ:
قالَ: (آجَرَ اللهُ ‌أميرَ ‌المُؤْمِنينَ ‌على ‌أميرِ ‌المُؤْمِنينَ ‌قَبْلَه، وبارَكَ لأميرِ المُؤْمِنينَ فيما خَلَّفَه له أميرُ المُؤْمِنينَ بَعْدَه، فلا مُصيبةَ أعْظَمُ مِن فَقْدِ أميرِ المُؤْمِنينَ، ولا عُقْبى أفْضَلُ مِن وِراثةِ مَقامِ أميرِ المُؤْمِنينَ، فاقْبَلْ يا أميرَ المُؤْمِنينَ مِن اللهِ أفْضَلَ العَطيَّةِ، واحْتَسِبْ عندَه أعْظَمَ الرَّزيَّةِ) [639] ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (2/134)، ((جمهرة خطب العرب)) لأحمد زكي صفوت (3/82). .
وخُطْبةُ يوسُفَ بنِ القاسِمِ بنِ صَبيحٍ الكاتِبِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّشيدِ حينَ جَلَسَ بَيْنَ القُوَّادِ والأُمَراءِ والوُزَراءِ لأخْذِ البَيْعةِ له، وهو يَسْتَهِلُّها على هذا النَّمَطِ بَعدَ حَمْدِ اللهِ والصَّلاةِ على رَسولِه:
«إنَّ اللهَ بمَنِّه ولُطْفِه مَنَّ عليكم مَعاشِرَ أهْلِ بَيْتِ نَبيِّه، بَيْتِ الخِلافةِ ومَعْدِنِ الرِّسالةِ، وإيَّاكم أهْلَ الطَّاعةِ مِن أنْصارِ الدَّوْلةِ وأعْوانِ الدَّعْوةِ- مِن نِعَمِه الَّتي لا تُحْصى بالعَدَدِ، ولا تَنْقَضي مَدى الأبَدِ، وأياديه التَّامَّةِ أن جَمَعَ أُلْفتَكم، وأعْلى أمْرَكم، وشَدَّ عَضُدَكم، وأوْهَنَ عَدُوَّكم، وأظْهَرَ كَلِمةَ الحَقِّ وكنْتُم أَولى بها وأهْلَها، فأعَزَّكم اللهُ وكانَ اللهُ قَويًّا عَزيزًا، فكنْتُم أنْصارَ دينِ اللهِ المُرْتَضى، والذَّابِّينَ بسَيْفِه المُنْتَضى عن أهْلِ بَيْتِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبكم اسْتَنْقَذَهم مِن أيْدي الظَّلَمةِ، أئِمَّةِ الجَوْرِ، والنَّاقِضينَ عَهْدَ اللهِ، والسَّافِكينَ الدَّمَ الحَرامَ، والآكِلينَ الفَيءَ والمُسْتأثِرينَ به، فاذْكُروا ما أعْطاكم اللهُ مِن هذه النِّعْمةِ، واحْذَروا أن تُغيِّروا فيُغيِّرَ بكم، وإنَّ اللهَ -جَلَّ وعَزَّ- اسْتَأثَرَ بخَليفتِه موسى الهادي الإمامِ، فقَبَضَه إليه، ووَلَّى بَعْدَه رَشيدًا مَرْضيًّا أميرَ المُؤْمِنينَ، بكم رَؤوفًا رَحيمًا، مِن مُحسِنِكم قَبولًا، وعلى مُسيئِكم بالعَفْوِ عَطوفًا، وهو -أمْتَعَه اللهُ بالنِّعْمةِ، وحَفِظَ له ما اسْتَرْعاه إيَّاه مِن أمْرِ الأمَّةِ، وتَولَّاه بما تَوَلَّى به أوْلياءَه وأهْلَ طاعتِه- يَعِدُكم مِن نفْسِه الرَّأفةَ بكم، والرَّحْمةَ لكم، وقَسْمَ أعْطياتِكم فيكم عِنْدَ اسْتِحقاقِكم، ويَبْذُلُ لكم مِن الجائِزةِ ممَّا أفاءَ اللهُ على الخُلَفاءِ، ممَّا في بُيوتِ المالِ ما يَنوبُ عن رِزْقِ كذا وكذا شَهْرًا، غيْرَ مُقَاضٍ لكم بذلك فيما تَسْتقبِلونَ مِن أعْطياتِكم، وحامِلًا باقيَ ذلك للدَّفْعِ عن حَريمِكم، وما لعلَّه أن يَحدُثَ في النَّواحي والأقْطارِ مِن العُصاةِ المارِقينَ إلى بُيوتِ الأمْوالِ، حتَّى تَعودَ الأمْوالُ إلى جِمامِها وكَثْرتِها، والحالِ الَّتي كانت عليها؛ فاحْمَدوا اللهَ وجَدِّدُوا شُكرًا يُوجِبْ لكم المَزيدَ مِن إحْسانِه إليكم، بما جَدَّدَ لكم مِن رأيِ أميرِ المُؤْمِنينَ، وتَفضَّلَ به عليكم، وأيَّدَه اللهُ بطاعتِه، وارْغَبوا إلى اللهِ له في البَقاءِ، ولكم به في إدامةِ النَّعْماءِ، لعلَّكم تُرْحَمونَ، وأعْطوا صَفْقةَ أيمانِكم، وقوموا إلى بَيْعتِكم، حاطَكم اللهُ وحاطَ عليكم، وأصْلَحَ بكم وعلى أيْديكم، وتَولَّاكم وِلايةَ عِبادِه الصَّالِحينَ» [640] ((تاريخ الطبري)) (8/231)، ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (3/ 82). .
خَصائِصُ الخَطابةِ في العَصْرِ العبَّاسيِّ:
تَميَّزَتِ الخَطابةُ في العَصْرِ العبَّاسيِّ بعِدَّةِ خَصائِصَ على المُسْتوى المَعْنويِّ واللَّفْظيِّ:
الخَصائِصُ المَعْنويَّةُ:
1- اصْطَبَغَتِ الخَطابةُ في هذا الوَقْتِ بالصِّبْغةِ الدِّينيَّةِ.
2- أكْثَرَ الخُطَباءُ مِن الاقْتِباسِ مِن القُرآنِ الكَريمِ والسُّنَّةِ النَّبويَّةِ.
3- أكْثَروا مِن الاسْتِشْهادِ بالشِّعْرِ وأمْثالِ العَربِ.
4- كَثْرةُ أسلوبِ الحِجاجِ والمُناقَشاتِ العَقْليَّةِ المُعْتمِدةِ على الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ والبَراهينِ العَقْليَّةِ.
5- الاعْتِمادُ على مَعاني الوَعْدِ والوَعيدِ والتَّهْديدِ والتَّسْفيهِ، والامْتِنانِ بالنِّعْمةِ، والشُّكْرِ على كَريمِ الهِمَّةِ وجَليلِ المَودَّةِ.
6- لم تكنِ الخَطابةُ مَقصورةً على العَربِ كما كانت في العَصْرِ الأُمَوِيِّ، بلْ ظَهَرَتْ على ألْسِنةِ المَوالي كما ظَهَرَتْ على ألْسِنةِ العَربِ.
الخَصائِصُ اللَّفْظيَّةُ:
1- اتَّسَمَتِ الخَطابةُ في هذا الوَقْتِ بالسُّهولةِ ووُضوحِ مُفْرداتِها وسَلامةِ تَراكيبِها معَ بَقاءِ جَزالةِ الأسلوبِ وقُوَّةِ الأداةِ.
2- التَّأثُّرُ بمَظاهِرِ الحَضارةِ الَّتي عاشوها، فجاءَتْ ألْفاظُهم دَمِثةً واضِحةً، وأساليبُهم رَقيقةً، ومعانيهم مُبْتكَرةً مَوْفورةً.
3- الإكْثارُ مِن السَّجْعِ والجِناسِ كَثيرًا [641] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي في العَصْر العباسي)) للسباعي بيومي (ص: 102)، ((الأدب العربي وتاريخه في العَصْر الأموي والعباسي)) لمُحمَّد عبد المنعم خفاجي (2/ 289). .

انظر أيضا: