موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ السَّادِسُ: المُتَنبِّي


هو أبو الطَّيِّبِ، أحْمَدُ بنُ الحُسَينِ بنِ الحَسَنِ بنِ عبْدِ الصَّمَدِ، الجُعْفيُّ، المَعْروفُ بالمُتَنبِّي. وُلِدَ في الكوفةِ في مَحَلَّةٍ يُقالُ لها كِنْدةُ، سَنَةَ 303ه.
طَلَبَ العِلمَ صَغيرًا، فأخَذَ الأدَبَ واللُّغةَ والشِّعْرَ والنَّحْوَ، وكانت له حافِظةٌ قَويَّةٌ، حتَّى إنَّه حَفِظَ كِتابًا للأصْمَعيِّ في ثَلاثينَ وَرَقةً في بِضْعِ دَقائِقَ.
وقد تَمكَّنَ مِن اللُّغةِ تَمَكُّنًا غَريبًا، وانْصاعَتْ له في شِعْرِه، فلم يكُنْ في دَهْرِه مَن يُنازِعُه في ذلك، وقد قالَ له أبو عليٍّ الفارِسيُّ يَوْمًا: كم مِن أوْزانِ الجُموعِ على وَزْنِ فِعْلى؟ فقالَ على الفَوْرِ: حِجْلى وظِرْبى، يقولُ أبو عليٍّ الفارِسيُّ: فمَكَثْتُ ثَلاثَ لَيالٍ أبْحَثُ في الكُتُبِ عن وَزْنٍ ثالِثٍ لتلك الأوْزانِ فلم أجِدْ!
وسَبَبُ تَلْقيبِه بالمُتَنبِّي هو أنَّه أقامَ في كَلْبٍ، فادَّعى أنَّه عَلَوِيٌّ، ثُمَّ ادَّعى النُّبوَّةَ، فخَرَجَ إليه الأميرُ لُؤْلُؤٌ، أميرُ حِمْصَ مِن قِبَلِ الإخْشيديِّينَ، فقاتَلَه وفَرَّقَ عنه أصْحابَه، وأسَرَه، ولم يُطلِقْ سَراحَه حتَّى أخَذَ عليه ألَّا يَعودَ إلى ذلك أبدًا.
ثُمَّ تَنقَّلَ المُتَنبِّي على الأُمَراءِ والمُلوكِ يَمدَحُهم، فأجْزَلوا له العَطاءَ، حتَّى سارَ إلى سَيْفِ الدَّوْلةِ الحَمْدانيِّ في حَلَبَ، فلَزِمَه وأقامَ معَه، وأكْثَرُ أشْعارِه في مَدْحِ سَيْفِ الدَّوْلةِ ووَصْفِ مَعارِكِه وغَزَواتِه، حتَّى حَدَثَتْ بيْنَه وبَيْنَ ابنِ خالَوَيهِ خُصومةٌ، وكانَ ابنُ خالَوَيهِ مُؤَدِّبَ أوْلادِ سَيْفِ الدَّوْلةِ، فضَرَبَه ابنُ خالَوَيهِ بمِفْتاحٍ على رأسِه، فسالَ مِنه الدَّمُ، فخَرَجَ مِن حَلَبَ مُغاضِبًا، وفي هذا المَوقِفِ أنْشَدَ قَصيدتَه في عِتابِ سَيْفِ الدَّوْلةِ الحَمْدانيِّ في رائِعتِه:
وا حَرَّ قَلْباهُ مِمَّن قَلْبُهُ شَبِمُ
ومَن بجِسْمي وحالي عِنْدَهُ سَقَمُ
ومِن حَلَبَ تَوجَّهَ إلى مِصْرَ، حيثُ كافورٌ الإخْشيديُّ، فمَدَحَه بقَصائِدَ عِدَّةٍ؛ مِنها:
كَفى بكَ داءً أن تَرى المَوْتَ شافِيا
وحَسْبُ المَنايا أن يكُنَّ أمانيا
تَمَنَّيْتَها لمَّا تَمَنَّيْتَ أن تَرى
صَديقًا فأعيا أو عَدُوًّا مُداجيا
إذا كنْتَ تَرْضى أن تَعيشَ بذِلَّةٍ
فلا تَستعِدَّنَّ الحُسامَ اليَمانيا
ولا تَسْتطيلَنَّ الرِّماحَ لغارةٍ
ولا تَسْتَجيدَنَّ العِتاقَ المَذاكيا
فما يَنفَعُ الأُسْدَ الحَياءُ مِن الطَّوى
ولا تُتَّقى حتَّى تكونَ ضَواريا
إذا الجودُ لم يُرزَقْ خَلاصًا مِن الأذى
فلا الحَمْدُ مَكْسوبًا ولا المالُ باقيا
ولِلنَّفْسِ أخْلاقٌ تَدُلُّ على الفَتى
أكانَ سَخاءً ما أتى أم تَساخيا
تُجاذِبُ فُرْسانَ الصَّباحِ أعِنَّةً
كأنَّ على الأعْناقِ مِنها أفاعيا
بعَزْمٍ يَسيرُ الجِسْمُ في السَّرْجِ راكِبًا
بهِ ويَسيرُ القَلْبُ في الجِسْمِ ماشيا
قَواصدَ كافورٍ تَوارِكَ غيْرِهِ
ومَن قَصَدَ البَحْرَ اسْتَقلَّ السَّواقيا
فجاءَتْ بنا إنْسانَ عَيْنِ زَمانِهِ
وخَلَّتْ بَياضًا خَلْفَها ومَآقيا
نَجوزُ عليها المُحْسِنينَ إلى الَّذي
نَرى عِنْدَهم إحْسانَه والأياديا
فَتًى ما سَرَيْنا في ظُهورِ جُدودِنا
إلى عَصْرِه إلَّا نُرَجِّي التَّلاقيا
تَرَفَّعَ عن عُونِ المَكارمِ قَدْرُهُ
فما يَفعَلُ الفعْلاتِ إلَّا عَذاريا
يُبيدُ عَداواتِ البُغاةِ بلُطْفِهِ
فإن لم تَبِدْ مِنهم أبادَ الأعاديا
أبا المِسْكِ ذا الوَجْهُ الَّذي كنْتُ تائِقًا
إليه وذا الوَقْتُ الَّذي كنْتُ راجيا
لَقيتُ المَرورى والشَّناخيبَ دونَه
وجُبْتُ هَجيرًا يَترُكُ الماءَ صاديا
أبا كلِّ طِيبٍ لا أبا المِسْكِ وَحْدَه
وكُلِّ سَحابٍ لا أخُصُّ الغَواديا
يُدِلُّ بمَعنًى واحِدٍ كُلُّ فاخِرٍ
وقد جَمَعَ الرَّحْمنُ فيك المَعانيا
إذا كَسَبَ النَّاسُ المَعاليَ بالنَّدى
فإنَّك تُعْطي في نَداك المَعاليا [618] ((ديوان المتنبي)) (1/439).
وقدْ أمَّلَه كافورٌ أن يُولِّيَه شيئًا مِن الولاياتِ، فلمَّا أحَسَّ المُتَنبِّي بالمُماطَلةِ غادَرَ عنه وهَجاه، وتَوَجَّهَ إلى ابنِ العَميدِ، فمَدَحَه ووَصَلَه بثَلاثينَ ألفَ دينارٍ، ثُمَّ أمَرَه أن يَتَّجِهَ إلى عَضُدِ الدَّولةِ بنِ بُوَيهٍ الدَّيْلميِّ، فذَهَبَ إليه فمَدَحَه فأعْطاه مِثلَها، ثُمَّ رَجَعَ المُتَنبِّي إلى الكوفةِ يُريدُ أن يَجلِبَ أهْلَه ليَعيشَ معَ عَضُدِ الدَّوْلةِ، وكانَ فاتِكُ بنُ أبي الجَهْلِ الأسَديُّ قد كَمَنَ له؛ لأنَّ المُتَنبِّيَ كانَ قد هَجا ضَبَّةَ الأسَديَّ ابنَ أخْتِ فاتِكٍ، فقاتَلَه ومعَه أصْحابُه وغِلْمانُه، فلمَّا أحَسَّ بالهَزيمةِ أراد الفِرارَ، فقالَ له غُلامُه: يا سَيِّدي، أتُريدُ أن تَفِرَّ وأنت القائِلُ:
الخَيْلُ واللَّيلُ والبَيْداءُ تَعْرِفُني
والحَرْبُ والضَّرْبُ والقِرطاسُ والقَلَمُ
فرَجَعَ وقاتَلَ حتَّى قُتِلَ؛ ولِهذا يقالُ: إنَّ هذا البَيْتَ قَتَلَ صاحِبَه [619] يُنظر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (71/ 76)، ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (1/ 120). .
وقد اشْتَهرَ المُتَنبِّي بالكِبْرِ والفَخْرِ؛ ولِهذا تَجِدُ في شِعْرِه تلك النَّبْرةَ المُتَعاليةَ دائِمًا، على أنَّ أفْضَلَ شِعْرِه ما كانَ فيه مُتَفاخِرًا، كقَوْلِه:
لا بقَوْمي شَرُفتُ بل شَرُفوا بي
وبنَفْسي فَخَرْتُ لا بجُدودي
وبهم فَخْرُ كلِّ مَن نَطَقَ الضَّا
دَ وعَوْذُ الجاني وغَوثُ الطَّريدِ
إن أكنْ مُعجَبًا فعُجْبُ عَجيبٍ
لم يَجِدْ فوقَ نفْسِهِ مِن مَزيدِ
أنا تِرْبُ النَّدى ورَبُّ القَوافي
وسِمامُ العِدى وغَيْظُ الحَسودِ
أنا في أمَّةٍ تَدارَكَها اللهُ
غَريبٌ كصالِحٍ في ثَمودِ [620] ((ديوان المتنبي)) (1/15).
ومِنه أيضًا قَولُه في سَيْفِ الدَّوْلةِ:
يا أخْتَ مُعْتنِقِ الفَوارِسِ في الوَغى
لَأخوكِ ثَمَّ أرَقُّ مِنك وأرْحَمُ
يرَنْو إليك معَ العَفافِ وعِنْدَهُ
أنَّ المَجوسَ تُصيبُ فيما تَحكُمُ
راعَتْكِ رائِعةُ البَياضِ بعارِضي
ولوَ انَّها الأُولى لراعَ الأسْحَمُ
لو كانَ يُمكِنُني سَفَرْتُ عن الصِّبا
فالشَّيْبُ مِن قبْلِ الأوانِ تَلَثُّمُ
ولقد رأيْتُ الحادِثاتِ فلا أرى
يَقَقًا يُمِيتُ ولا سَوادًا يَعصِمُ
والهَمُّ يَخْترِمُ الجَسيمَ نَحافةً
ويُشيبُ ناصيةَ الصَّبيِّ ويُهرِمُ
ذو العَقْلِ يَشْقى في النَّعيمِ بعَقْلِهِ
وأخو الجَهالةِ في الشَّقاوةِ يَنعَمُ
والنَّاسُ قد نَبَذوا الحِفاظَ فمُطلَقٌ
يَنْسى الَّذي يولى وعافٍ يَندَمُ
لا يَخْدَعَنَّك مِن عَدُوٍّ دَمْعُهُ
وارْحَمْ شَبابَك مِن عَدُوٍّ تَرحَمُ
لا يَسلَمُ الشَّرَفُ الرَّفيعُ مِن الأذى
حتَّى يُراقَ على جَوانِبِهِ الدَّمُ
يُؤْذي القَليلُ مِن اللَّئامِ بطَبْعِهِ
مَن لا يَقِلُّ كما يَقِلُّ ويَلْؤُمُ
والظُّلْمُ في خُلُقِ النُّفوسِ فإن تَجِدْ
ذا عِفَّةٍ فلعِلَّةٍ لا يَظلِمُ [621] ((ديوان المتنبي)) (1/218).

انظر أيضا: